ثمودية (نقوش-)
ثموديه (نقوش)
-
رفعت هزيم
خلّف العربُ القدماء في الفترة الممتدّة من القرن الثامن ق.م حتى مطلع العصر الجاهليّ نقوشاً تمثّل اللغة العربية قبل ظهور الإسلام، وهي مكتوبةٌ بخطّ المُسند أو بأشكالٍ مأخوذةٍ منه، فأمّا ما كتبه عربُ جنوبي الجزيرة العربية منها فتُسمّى لغته «العربية الجنوبية»؛ أيْ ما يسمّيه المستشرقون Old South Arabic، وأمّا ما كتبه عربُ الشمال فهو النقوش العربية الشمالية North Arabian Inscriptions، وتُسمّى لغتها – وهي أقرب إلى الفصحى- «العربية الشمالية الباكرة» Early North Arabic، وتضمّ أربع لهجات : اللحيانية والصفوية والثمودية والأحسائية.
واتفق الباحثون في القرن التاسع عشر على تسمية النقوش الثمودية Thamudic Inscriptions كذلك، لورود لفظ ث م دtmd اسماً لقبيلةٍ في بعض تلك النقوش المكتشفة في مواقع على مقربةٍ من تبوك وحائل وتيماء. وقد ذُكرتْ «ثمود» مراراً في القرآن الكريم في سياق الحديث عن الأقوام التي أُهلكتْ، ومنها لوط وعاد ومدين كقوله تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَاد-وثَمُودُ وَقَوْمُ لُوْطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ (سورة ص ١٢-١٣)، وورد ذكرها في الشعر الجاهلي ، كقول لبيد:
ولقد بلت إرمٌ و عادٌ كيده
ولقد بلته بعد ذاك ثمودُ
كما ذُكرت بالصيغة نفسها – أيْ ث م د tmd – في النقوش السبئية و الصفوية. وكانت ta-mu-di إحدى القبائل التي روى الملك الآشوري شروكين [ر]الثاني (٧٢١-٧٠٥ ق.م) أنها خضعت له عام ٧١٥ ق.م، وذكر بلينيوس[ر] الأكبر Plinius (٢٣-٧٩ م) أنّ الجيش الرومانيّ كان يضمّ فرساناً ثموديين مواطنهم في Domata «دومة الجندل» – في الجوف- و Hegra «الحِجْر» (أيْ مدائن صالح) حيث تنتشر هذه النقوش التي يمتدّ زمن كتابتها من القرن السادس ق.م إلى القرن الرابع الميلادي. وورد في «قائمة الوظائف» الرومانيّة أنّ الجيش الروماني الذي كان يقيم في مصر وفي فلسطين في القرن الخامس الميلادي كان يضمّ فرساناً ثموديين.
نقوش ثمودية مصحوبة برسم ثور |
كان داوتي Ch .Doughty أول من نسخ نقوشاً ثموديّةً في أثناء رحلته التي شملت تيماء وجبل حسما ومدائن صالح و ديدان (العلا) في شمالي الجزيرة العربية عامي ١٨٧٦/١٨٧٧ م، ونشر ما نسخه – وهو زهاء ١٣٠ نقشاً- مع نقوش أخرى آراميّة ونبطيّة عام ١٨٨٤م. وتلاه أويتنغ J. Euting وهوبرch. Huber اللذان نسخا في رحلتين إلى مدائن صالح والعلا وتيماء بين عامي ١٨٨١-١٨٨٤ م زهاء ٩٠٠ نقش بلغاتٍ مختلفة، كما نسخ أويتنغ بعض النقوش الثموديّة من شبه جزيرة سيناء عام ١٨٨٩ م. ثم نسخ جاسان J. A. Jaussen و سافيناك -- R. Savignac وهما من الآباء الدومينيكان- ٦٧٠ نقشاً في ثلاث رحلات إلى شمالي الجزيرة في الأعوام ١٩٠٧ و١٩٠٩ و١٩١٠ م، ونشرا تلك النقوش في كتاب من مجلّدين. ثم جالَ فيلبي St.J.B. Philby في طول الجزيرة وعرضها في أربع رحلات – إحداها مع ريكمانز G. Ryckmans - بين عامي ١٩٥٠ و١٩٥٣ م وتمكّن من نسخ ١٠٠٠٠ نقش عام ١٩٥٦م.
أما في الأردن فكانت حصيلة المسح الذي أجراه هاردنغ G.L. Harding عام ١٩٤٧ م في «وادي رَم» ٥٤٢ نقشاً نشرها عام ١٩٥٢م، وتمكّنت كنغ G.King من نسخ نحو١٧٠٠ م نقشاً عامي ١٩٨٦/١٩٨٧ م من «وادي جُدَيد» جنوبي معان.
ويُلاحظ أنّ معظم النقوش الثموديّة – التي يتجاوز ما نُشر منها خمسة عشر ألفاً - ينتشر في المناطق الممتدّة من حائل شرقاً إلى تبوك غرباً ثم في جنوبي الأردن حتى معان، كما عُثر على بعضها في مصر وفي شمالي الأردن وفي جنوبي فلسطين. وتقع التلالُ التي كُتبتْ النقوشُ على صخورها – غالباً- قرب ينابيع المياه أو أماكن التخييم أو قرب الأماكن السكنيّة.
وتطابق الألفباء الثمودية نظيرتها في العربية الفصحى من حيث عدد حروفها، ولكن اتجاه الكتابة غير محدّد، فيكون من اليمين إلى اليسار أو بالعكس، وإذا كان النقش مؤلّفاً من بضعة أسطر فكتابته بأسلوب خطّ المحراث Boustrophedon الذي تجري فيه الأسطرُ من أحد الاتجاهين إلى الاتجاه الآخر على التوالي حتى ينتهي النقش، كما أنّ بعض النقوش مكتوب بشكلٍ عمودي؛ أي من الأعلى إلى الأسفل.
وقد أسهم عددٌ من الباحثين في قراءة الخط الثمودي الذي تُكتب حروفه الصوامت consonants منفصلة غير متصلة ومن دون فواصل بين الكلمات، وكان وينيت F. Winnett الأوفر حظاً بفضل أسلوبه في البحث، وهو دراسة أشكال الحروف دراسة منتظمة وربطها بعادات كاتبيها، فانتهى في كتابه المنشور عام ١٩٣٧ م إلى تصنيفها في خمس مجموعات، ولكلٍ منها فروع، فغدا بذلك تفسير كثيرٍ من النقوش ممكناً لأوّل مرّة. ولكنّ بعض الباحثين انتقدوا هذا التصنيف؛ لأنّ بعض النقوش يحوي خصائص من مجموعتين، ولذا يصعب إدراجه في إحدى المجموعات الخمس، ثم أعاد وينيت تصنيف النقوش في أربع مجموعات بحسب مواضع اكتشافها، فصارت تسمياتها هكذا : المجموعة A = التيمائيّ ، B = النجديّ ، C+D = الحجازيّ ، E = التبوكيّ.
لا ترد الأصوات المركّبة في الكتابة، فالألفاظ «بَيْت» و «يَوم» و «تَيْم» تُكتب هكذا: «ب ت» و «ي م» و «ت م»، ولا تُكتب الحركةُ الطويلة في نهاية الكلمة أو في وسطها، فصيغُ الضمير المنفصل «أنا» وحرف الجر «إلى» واسم الإله «ذو الشّرى» واسم الإلهة «مناة» هي «ء ن» و»ء ل» و «د ش ر» و «م ن ت» ، وتُدغم النون الساكنة في الحرف الذي يليها، نحو « أ ت = أنتَ» و «أ ث ت= أنثى»، وأداة التعريف فيها هي الهاء مع دلالتها على الإشارة، نحو: «هـ ج م ل = الجَمَل /هذا الجمل»، فإذا تبعها أسماء الآلهة فهي للنداء ، نحو: «هـ ل ت = أيتها اللات ! « و «هـ د ش ر = يا ذا الشَّرى!». ولا يكاد معجمها اللغوي يختلف عما تعرفه الفصحى، فالضمائر المنفصلة فيها هي «أنا وأنت»، والمتصلة هي الياء للمتكلم والكاف للمخاطب والهاء للغائب، وحروف الجرّ هي الباء واللام و»ءل = إلى» و «ف = في»، وحروف العطف هي الواو والفاء، ومن أسماء الحيوانات: الجمل والناقة «ن ق ت « والفرس «ف ر س» والوعل «و ع ل «، ومن أفعال الإخبار: قتلَ و: رعى وحلبَ و: خ ط ط = كتبَ /رسمَ، ومن أفعال الطلب التالية لأسماء الآلهة: هَبْ و: ساعدْ و:انتقمْ.
بناء النقوش ومضمونها:
ومعظم النقوش قصير فقير المحتوى، فإذا أُضيف إلى أسلوب كتابتها اختلافُ الباحثين في قراءة بعض الحروف فسيجد المرء أنها أكثر صعوبةً في القراءة والتفسير من أخواتها اللحيانية والصفوية والأحسائية على الرغم من اتفاق اللهجات الأربع في طريقة الكتابة. وأغلب النقوش من الضرب التذكاريّ ، نحو: ل ي د ع ب ن و هـ ب و ت ش و ق لء ب هـ =( لِـ يدع بن وهب وتشوّق لأبيه)، وبعضها ابتهال إلى الآلهة، نحو: هـ د ث ن هـ ص ت ك بء ل و ع م ء ل =( أيها الإله دثن ! أنصتْ - أيْ استمعْ واستجبْ - لفلان وفلان).
وتتفق مع نظائرها الصفويّة في استهلال أكثرها باللام التي تقابل لام المِلْكيّة والاختصاص في الفصحى، نحو: لفلان الجملُ و: لفلان الفرس و: لفلان الناقة. ولكن بعض النقوش النجديّة تستهلّ بـ ن م، في حين تستهل بعض النقوش التيمائية بـ ل م، وأرجح المذاهب في تفسيرهما مذهب وينيت الذي جعلهما مترادفين، وهما – عنده– بمعنى اللام التي ترد في كلتا المجموعتين أيضاً.
وتختلف الثمودية عن الصفوية في عدم الاهتمام بالأنساب، فأكثرها لا يتضمن سوى اسم صاحب النقش متبوعاً أحياناً باسم أبيه؛ مما يشير إلى أنّ كاتبي النقوش الصفوية كانوا أقرب إلى البداوة، في حين كان بعض كاتبي النقوش الثموديّة مستقرّين في أماكن قريبة من مواقع النقوش، ويؤكد ذلك أنّ الحديث يكثر في الصفويّة عن الرعي، وهذا نادر في الثموديّة.
وأكثر أسماء الآلهة شيوعاً في هذه النقوش: ل ت /ء ل ت = اللات ، و: ل هـ /ء ل هـ = الإله/الله)، و: رض/رض و/ رض ء =(رُضى/ رُضاء : في كتاب «الأصنام» لابن الكلبي(، و : ذو الشَّرى، و: مناة ، و: ش م س = شمس ، و: ص ل م = صلم، وترد مستغاثاً بها، أو في أسماء الأعلام المُركّبة.
وتُعدّ أسماء الأعلام – أشخاصاً وقبائل - أكثر الألفاظ وروداً في النقوش، وهي ضربان، أحدهما: الأسماء المفردة، ومعظمها مألوف – من حيث البناء والدلالة - في العربية ، نحو : زيد وأوس وإياس ومعن وعوذ وغوث وأسد وكلب وصخر. والضرب الآخر: الأسماء المركّبة تركيباً إضافياً، ويكون المضاف إليه غالباً من أسماء الآلهة، نحو: أس ل هـ = أوس الله و: أ س م ن ت = أوس مناة و: أ م ت ل ت = أمة اللات و: ت م ل هـ = تيم الله و: زد ل هـ = زيد الله و: س ع د ل هـ = سعد الله و: ع ب د ل هـ = عبد الله و: ع ب د م ن ت = عبد مناة و: و هـ ب ل هـ = وهب الله . وبعض هذه الأسماء لا تعرفه الفصحى، نحو: هـ ن ء ل هـ، و: ج ر م ش م س ، و: ق ن ص ل م (هانئ الله، جرم شمس، قن صلم).
ويصاحب النقوش أحياناً رسوم الحيوانات كالجمال والخيول والوعول والبقر الوحشي والنعام للدلالة على ملكيتها أو صيدها أو لغرض التسلية فحسب.
مراجع للاستزادة: - محمود الروسان، القبائل الثموديّة والصفويّة (الرياض ١٩٩٢م). - F. W. Winnett : Studies in Thamudic ( Toronto 1982). |
- المجلد : المجلد الرابع مشاركة :