دفن (طرق وشعاير) في عصور تاريخيه
-



 الدفن في العصور التاريخية

الدفن في بلاد الرافدين

الدفن في منطقة جنوبيّ بلاد الشام

الدفن في سورية

 

تنوعت طقوس الدفن وطرائقه، وأنواع المدافن، والممارسات الدينية التي كانت ترافق الأموات خلال العصور التاريخية، وهو ما يظهر تطور الحياة الاقتصادية والاجتماعية والدينية لسكان المشرق القديم.اعتقد سكان بلاد الرافدين أن الإنسان كائن مركّب من جسد وروح، وتنفصل الروح عن الجسد بالموت (غِدِمGidim بالسومرية، وإطيم etemmu بالأكادية). وآمن الكنعانيون أن نَفْس (نبش/نفشا) Naphsa الإنسان تخرج من أنفه مثل نسمة الهواء، واعتقدوا لاحقاً أنها تسكن شاهدة القبر في حين تذهب الروح إلى العالم السفلي. فيما اعتقد سكان مصر القدماء أن وجود الروح وخلودها يتوقف على سلامة الجسد واحتفاظه بشكله الطبيعي ما أمكن، ومن هنا كانت عناية المصريين بأجساد موتاهم عن طريق التحنيط. وقد احترم سكان المشرق القديم الأموات، وأسكنوهم في قبور قريبة منهم، واعتنوا بهم وحرصوا على القيام بكل ما اعتقدوه ضرورياً من أجلهم؛ بما في ذلك المراسم الشعائرية والجنائزية التي كانت تختلف بحسب المكانة الاجتماعية للميت، حيث تطول وتصبح أكثر فخامة إذا انتمى إلى الطبقة العليا من المجتمع، أو تقصر وتكون أكثر بساطة إذا كان من الطبقات الدنيا. وتقسم هذه الشعائر إلى نوعين من حيث مواعيدها: الأول ما كان يقام بعد حدوث الوفاة مباشرة، وتتضمن المراثي والحداد والولائم، والثاني ما كان يؤدى بعد الوفاة، ويستمر لأجل طويل ويقام دوريّاً كل شهر أو كل سنة. ودائماً ما تخلل هذه الشعائر تقديم القرابين والأضاحي التي كانت ترافق الأموات إلى قبورهم مع بعض الأثاث الجنائزي، أو توزع على الناس بعد الانتهاء من عملية الدفن. ويتوجب على الأقارب الأحياء مواصلة إقامة بعض الولائم الجنائزية التي تقدم فيها كل أنواع الأطعمة والأشربة- وتدعى كيسبو Kispu- التي تشارك فيها روح الميت Metu. وإذا ما تخلفوا عن القيام بها؛ فإن هذه الروح تشقى في مهجعها بالعالم السفلي، فتخرج منه؛ لتهيم في الفضاء جالبة الأذى والشر للأحياء من الأقارب.

أما مواضع الدفن فأقدمها الدفن تحت أرضيات البيوت، وتحت القصور، وفي مقابر مخصصة للأموات، وفي مقابر خارج المدن، والأضرحة المستقلة. وتعددت أشكال المدافن من الحفر البسيطة، والقبور المشيدة باللبن أو الحجارة إلى المدافن الصندوقية أو المقببة أو البئرية، إلى التوابيت الحجرية والفخارية. وكثيراً ما كانت تقام بعض الأبنية الطقسية على الأضرحة لها وظيفة المعابد.

يكاد لا يخلو موقع أثري من وجود عشرات المدافن، وقد تعددت أشكالها والمادة التي كانت تبنى منها، والأثاث الذي كان يرافقها بحسب كل زمان ومكان. وارتبط شكلها وحجمها ومحتوياتها بالمكانة الاجتماعية للميت، ففي حين كان الفقراء يدفنون موتاهم في قبور عادية ومعهم القليل من المتاع؛ كانت قبور علية القوم تبنى بأزهى الأشكال، وتكتظ باللقى المؤلفة من مواد وأوانٍ يحتاج إليها الميت في العالم السفلي، ومقتنيات شخصية كان يملكها في حياته، ومنها: الحلي، والجواهر الثمينة، والأسلحة، والعربات وحيوانات الجر، وربما الحراس والخدم الشخصيون. أما وضعيات الدفن واتجاه الجثة والرأس فلا يوجد نظام ثابت لها، وتختلف من موقع لآخر وفي الموقع نفسه من قبر لآخر في بعض الأحيان، ولكن الأكثر شيوعاً هي وضعية الجنين، ثم الاستلقاء على الظهر.

ولعل أكثر الأبنية الدفنية شهرة هي الأهرامات في مصر، والتي كانت مخصصة لدفن الملوك في توابيت تحمل أحياناً بعض النقوش والزخارف، من بينها شكل الإنسان ووجهه ورموز إلهية بهدف حماية الجسد من التعفن. كما وجدت في مصر مدافن ملكية على شكل بناء مؤلف من عدة حجرات، ومن أشهرها مدفن توت عنخ أمون الذي اكتشف سنة ١٩٢٢م وكان يعجّ بالأثاث الجنائزي الثمين؛ إذ وُضعت مومياء الملك ضمن توابيت ذهبية، وُضِعت بدورها ضمن تابوت حجري منحوت على شكل تمثال الملك الشاب، وُضِع بدوره ضمن توابيت أكبر من الخشب المطعم بالذهب وعليها الكثير من الزخارف. وتميزت المدافن المصرية القديمة بالرسوم الجدارية التي تصور مشاهد من الحياة العامة والإنجازات والانتصارات الحربية التي حققها الملوك.

- الدفن في بلاد الرافدين

تُعدّ مدافن أور [ر] من أكثر مدافن بلاد الرافدين شهرة، ويبدأ تاريخها من عصر العُبيد إلى العصر الأكادي ثم عصر سلالة أور الثالثة. فقد عثر في المدينة على نحو ١٨٥٠ قبراً من النوع البسيط تخص عامة الشعب، وعلى ١٦ مقبرة ملكية يعود تاريخها إلى حدود ٣٤٠٠-٢٥٠٠ق.م، وهي مشيدة من اللِّبن، وثمّة بئر في كل مدفن علاوة على دهليز وغرف دفن مسقوفة بالآجر. وأقيمت أبنية طقسية فوق غرف الملوك، كما جرى لثلاثة من ملوك سلالة أور الثالثة. وضمت المدافن- علاوة على الملوك- أشخاصاً من أفراد بلاطهم وحاشيتهم وخدمهم قدَّموا أنفسهم طوعاً أضاحي بشرية لسادتهم الراحلين بعد أن تجرعوا بعض المخدر والسم. ولم يكن هؤلاء من العبيد الذين أُجبِروا على الموت، بل من الأتباع ذوي المكانة في القصر، وقد جاؤوا بكامل لباسهم الرسمي إلى المقبرة لتأدية طقس طوعي من شأنه- في اعتقادهم- أن يعبُر بهم إلى العالم الآخر، ومن خدمة إله على الأرض إلى خدمة الإله نفسه في عالم ثانٍ. إن كلَّ الدلائل تشير إلى أن هؤلاء المتطوعين قد وصلوا أحياء إلى المقبرة.

مدافن أور

ومن أكثر المدافن تميزاً المدفن (٧٨٩) الذي خُصِّصَ للملك «ميشكالام دوغ»، ويتألف من جزأين: الأول غرفة دفن الملك، وفيها ثلاثة هياكل عظمية، والثاني المساحة الموجودة خارجها، وفيها ما يقرب من ٦٢ جثة من بينها ستة جنود وتسع نساء وموسيقيون. وقد كان هؤلاء بكامل أناقتهم وزينتهم ويحملون الأدوات الحربية أو الموسيقية لحظة الدفن، وتقدمتهم عربتان ربط إلى كل منهما ثلاثة ثيران أو حمير، وجلس بداخلها الحوذيون وأمسك السائس بأزمة الحيوانات.

وتميز أيضاً المدفن (٨٠٠) المجاور لقبر الملك ميشكالام دوغ، ويشابهه في الشكل والحجم، وهو مخصص لزوجته الملكة «شبعاد» أو «بو- آبي»، التي دفن معها ٢٥ شخصاً؛ إذ وُجِد في غرفة الضريح ثلاثة هياكل، وفي الجزء الخارجي جثث عدد من النسوة مرتبة في صفين يحوي كل صف ست نساء، وفي آخر الصفين قيثارة مطعّمة بالأصداف ومزينة برأس ثور من اللازورد والذهب وبالقرب منها هيكل امرأة امتدت يداها على أوتار القيثارة؛ مما يدل على أنها ماتت وهي تعزف. كما وُضِعت مع الملكة أدوات مائدتها وزينتها الذهبية الدقيقة الصنع والمرصعة بالأحجار الكريمة.أما القبر (١٢٣٧) الذي لم يُعرف اسم صاحبه؛ فقد عثر فيه على ٧٤ جثة، ستّ منها لجنود، و٦٨ لنساء بثيابهن البهية ومزودات بكمية كبيرة من الحلي، من بينهن أربع عازفات مع قيثاراتهن.

أور - قيثارة من المقبرة الملكية

وقد ارتبط بمدافن أور بناء مؤقت مخصص لممارسة طقوس الدفن، تحول لاحقاً إلى معبد له علاقة بالأموات.

ومن المدافن التي تميزت بغناها بالمرفقات الجنائزية ثلاثة قبور ملكية تعود إلى العصر الآشوري الحديث، كُشِف عنها بين عامي ١٩٩٠ و١٩٩٢م في نينوى، والتي يعود أحدها إلى أميرة اسمها موليسو موكانيشات، حيث تجاوزت الهدايا الدفينة بروعتها الكنوز السابقة، فبلغ وزن الذهب والفضة والأحجار الكريمة ٢٣كغ، ويبدو أن هذه الأميرة كانت سيدة قصر الملك آشور- ناصر بال الثاني الذي شيد القصر، وسيدة قصر ابنه من بعده شلمانصر الثالث، ويبدو أن الكثير من هذه الجواهر جاءت من سورية.

ويشار إلى أن شواهد القبور عرفت منذ العصر البابلي القديم على شكل مخروط نقش عليه نص مسماري يحمل دلالة على موضع القبر، وهناك شاهدة أسطوانية من العصر الآشوري الحديث تحمل كتابة تعرف بقبر ملك آشور «شمش– ابني». علاوة على شاهدتين تخصان «أدد- جبي»؛ أم الملك نبونائيد، عثر عليهما في حران [ر].

- الدفن في منطقة جنوبيّ بلاد الشام

تنوعت المدافن في الأردن وفلسطين، ومعظمها مشابه للمدافن التي وجدت في سورية، ومن أهم أشكالها في الألف الثالث ق.م: المدافن البئرية shaft tomb، وتُلفى في المناطق ذات التربة الكلسية، وتتمثل بتجويف عمودي مقطوع في الصخر يزيد عمقه على المترين وقد يصل إلـى 4م، ويتسع في الأسفل، ويتفرع منه تجويف آخر أو أكثر. واحتوى المدفن عشرات الهياكل لرجال ونساء وأطفال، ومعهم الكثير من المرفقات الجنائزية. وهناك المدافن الكهفية والمقببة، وهي مستديرة في الأسفل وضيقة في الأعلى، ولها مدخل يسبقه باحة صغيرة مسوّرة ومرصوفة بالحجارة. وهناك المدافن المبنية على شكل غرفة channel house مستطيلة أو دائرية الشكل تصل أبعادها إلى 550×780سم، جدرانها مبنية من اللِّبن على طبقة من الحجارة، معظمها مرصوف بالحصى. ومع نهاية الألف الثالث ق.م. انتشرت قبور التومولوس tumulus التي تبنى فوق سطح الأرض على شكل صندوقي، وتوضع عليها أكوام من الحجارة، كما عرفت مدافن الدولمن dolmens، وكذلك القبور العادية، والجرار الفخارية التي استخدمت لدفن الأطفال كما في موقع طبقة فحل [ر].

وادي الملوك في طيبة - الأقصر بمصر ويظهر قبر توت غنخ آمون

تابوت توت غنخ آمون في أثناء فتحه من قبل كارتر

وقد وجدت بعض هذه المدافن في الكثير من المواقع، منها: أريحا [ر] وبيسان، وتل الفارعة والمتسلم والعميري [ر]، ومدافن حول العاصمة عمّان، ومنها المدينة الرياضية، لكن موقع باب الذراع [ر] هو الأهم في منطقة المشرق العربي القديم كلها لاحتوائه على مقبرة أبعادها 5000×1000م كُشف فيها عن نحو 20 ألف مدفن متنوع الأشكال ضم نحو نصف مليون شخص ونحو ثلاثة ملايين إناء فخاري، واستمر استخدام هذه المقبرة لفترة تزيد على الألف سنة من دون انقطاع من أواخر الألف الرابع حتى أواخر الألف الثالث ق.م.

ظل الكثير من أشكال هذه المدافن يُستخدم خلال العصر البرونزي الوسيط، كما عرفت المدافن ذات الحجرات chambers والمدافن الصندوقية cists التي تحفر في الأرض، وأهم مواقعها: مجدو [ر].

وفي العصر البرونزي المتأخر استمر الناس في استخدام المدافن الكهفية الطبيعية والمحفورة، وبنوا مدافن من اللِّبن على شكل غرفة فوق الأرض، كما في طبقة فحل، وقويلبة، وتل السعيدية الذي عثر فيه على أكثر من خمسمئة مدفن مختلفة الأشكال، أهمها الدفن داخل الجرار الفخارية للأطفال والبالغين (باستخدام جرتين كبيرتين). وعثر في مطار عمّان على منشأة فيها رماد وبقايا عظام بشرية محروقة؛ مما دفع إلى الاعتقاد أنه قد يكون مذبحاً لتقديم الأضاحي البشرية، أو لحرق جثث الأموات ثم دفن بقاياها.

وعرفت أيضاً خلال هذا العصر الطريقة المصرية في الدفن باستخدام التوابيت الفخارية التي تحمل أغطيتها وجوهاً بشرية anthropoid coffins، ربما تمثل صورة الميت، ومن أمثلتها التوابيت التي وجدت في لخيش [ر] (تل الدوير)، ويعود تاريخها إلى القرن الثالث عشر ق.م. وعلى إحداها كتابات هيروغليفية. وقد استمر استخدام هذا النوع من الدفن أيضاً خلال عصر الحديد في الأردن؛ إذ عُثر سنة ١٩٦٦م على مدفن يحوي عدداً من هذه التوابيت تراوح طولها بين ١٧٥-٢١٠سم، ولكل تابوت أربع أيادٍ على كل جهة تستخدم لحمله وتحريكه، وله فتحة عليها غطاء مزخرف بوجه آدمي. وعثر على توابيت مشابهة في دير البلح وتل الفارعة وبيسان وجبل القصور في الأردن.

- الدفن في سورية

أظهرت المدافن المكتشفة في المواقع السورية- والعائدة إلى العصور التاريخية- تنوعاً واستمرارية في طرق الدفن وأشكال المدافن والمرفقات والأضاحي وكل الطقوس الدفنية. ويُعدُّ المُجمّعُ الجنائزي في تل أم المرا [ر]- شرقي حلب- من أهم المدافن الأثرية السورية خلال العصر البرونزي المبكر(٢٥٠٠-٢٣٠٠ق.م)، تبلغ أبعاده ١٥٠×١٥٠م، ويتضمن العديد من المدافن التي وضعت في مكان بارز وسط التل؛ ممّا قد يشير إلى عبادة تقديس الأسلاف. وقد بني معظمها من الحجارة، وبنيت الأجزاء العليا أحياناً من اللِّبن. ومن أهم المدافن المدفن (رقم ١) المؤلف من ثلاث طبقات من الهياكل؛ في الأعلى هناك امرأتان شابتان (١٥-٢٠سنة)، وكل واحدة منهما معها طفل رضيع عند الركبة، وترافقهما تجهيزات من ذهب وفضة ولازورد. وفي الوسط يُلفى هيكلان لذكرين بالغين؛ ومعهما بعض المواد المصنعة من الفضة والبرونز، ومنها خنجر ورأس رمح من البرونز. وفي الطبقة السفلى هناك هيكل لشخص بالغ، مصحوب بكأس ودبابيس فضية. كما تميز المدفن (رقم ٤)، الذي تألف من طبقتين: في السفلى ثلاثة هياكل عظمية لبالغين، من بينها أنثى دُفنت بشكل ثانوي مع جواهرها المصنوعة من الذهب والفضة والعاج؛ إضافة إلى أثاث مُطعّم بقشر بيض النعام، ولُقىً أخرى، أهمها زوج من العيون الحجرية. واحتوت الطبقة العليا على ثلاثة هياكل لذكر بالغ ولولد وامرأة، ترافقهم بعض اللقى؛ أهمها سبع أوانٍ، علاوة على مجموعة من خرز اللازورد والعقيق الأحمر والذهب، ووجدت أيضاً أربعة أختام أسطوانية صغيرة من الصلصال. والمثير في هذا المجمع الجنائزي دفن بعض أنواع الحيوانات الخيلية التي كانت تستخدم في الركوب وجر العربات.

مدفن في تل أم المرا من العصر البرونزي القديم

مدفن آخر في تل أم المرا من العصر البرونزي القديم

وفي تل البنات [ر] عثر على مدفن عائلي (رقم ٧)، يعود تاريخه إلى العصر البرونزي المبكر (٢٥٠٠-٢٤٥٠ق.م)، وأعيد استخدامه بين (٢٤٥٠-٢٣٠٠ق.م)، ويتكون من خمس حجرات تتصل ببعضها عبر الممرات، وهي مشيدة بالحجر الكلسي القاسي، وطليت أرضياتها بالقار، وسُقِف بتسعة ألواح حجرية كبيرة (أبعاد كل منها ٣×٢م)، وقد ملئت الفواصل فيما بينها بالقار، وتضمنت الحجرة (F) بقايا تابوت خشبي يحوي عظاماً بشرية مغطاة بخرز لازوردية وذهبية يقارنها بعض الباحثين بمحتويات كنز شليمان H. Schliemann المكتشف في طروادة. وفي جدران كل حجرة عدة كوى وضعت فيها أوانٍ فخارية، وعثر فيها على بيضة نعام عليها رسم على شكل إناء، وهناك سدادة جرة مطعمة باللازورد وعرق اللؤلؤ. كما عثر في حجر الدفن على سدادتي جرار من اللازورد المطعم بأزهارها ذهبية صغيرة، ودبابيس برونزية، وآثار أثاث خشبي يحوي مسامير برونزية، ومجموعة من الأزرار الذهبية، وعدد من الأواني الفخارية التي يطلق عليها اسم (القارورة السورية)، ولوح طاولة من الرخام وكسر من تمثال.

واستمرت خلال هذا العصر (البرونز المبكر) العادة المعروفة منذ عصر حلف [ر] والمتمثلة بالدفن ضمن الجرار الفخارية؛ ولاسيما للأطفال. وقد عثر عليها في تل «أبو حفور» [ر] و«أبو حجيرة» [ر] وتل نص تل [ر] وتل شعير[ر] التي عثر فيها على قبور لأطفال دُفنوا داخل الجرار في باحة المنازل، في حين كانت مقبرة الكبار خارج الموقع. وفي تل رد شقرا [ر] وجدت قبور لكبار ولأطفال في غرف مبنية من اللِّبن أو الحجر وقبور لأطفال في جرار. أما في تل محمد دياب [ر] فقد عثر على مدافن في الجرار، وعلى شكل حفر بسيطة وغرف مقببة مبنية من اللِّبن، وغالبيتها للأطفال، وقد تموضع الكثير منها تحت أرضيات البيوت.

أما قبور تل خنيديج [ر] فهي من النوع الصندوقي المحفور داخل الأرض cists، وهناك قبور عادية لأطفال تحت أرضيات البيوت. فيما وجد في تل شاغر بازار [ر] عدة أنواع من القبور: البئرية، والمقببة، والسطحية، تموضع بعضها في ساحات مفتوحة، أو تحت أرضيات الغرف. وقد ظلت هذه الأنواع معروفة في الموقع خلال الألف الثاني ق.م؛ إذ عثر تحت أرضية المعبد على مقبرة غنية بمرفقاتها.

١- الدفن في العصر البرونزي الوسيط والمتأخر

استخدم سكان المشرق العربي القديم -خلال هذا العصر- أشكالاً مختلفة من المدافن، وكانت طقوس الدفن تدل على وجود انسجام كبير ساد في كل منطقة شرقي المتوسط بما فيها قبرص والأناضول.

ففي إيبلا عثر على ثلاثة مدافن بئرية قرب القصر الملكي، الأول: قبر الأميرة؛ وهو لشابة تحيط بها الجواهر، والثاني: قبر سيد الماعز؛ لوجود تماثيل صغيرة لها شكل رؤوس الماعز فيه، ثم قبر الخزانات. حفرت هذه المدافن في الأرض الصخرية، وقد تعرضت للنهب إلا أنه وجد فيها العديد من القطع النادرة أكثرها ذات أصل سوري محلي، وبعضها مستورد؛ ولا سيما من مصر التي وجد منها صولجانان يتألفان من دبوس حجري وقبضة عظمية يحيط بقبضتيهما خاتمان من الفضة والذهب نقش على واحد منهما صور لحيوانات واقفة.

وفي «حينة» [ر] بريف دمشق، عُثر على مدفنين بئريين جماعيين يعود تاريخهما إلى بداية القرن ١٨ق.م. في كل منهما عشرات الهياكل العظمية والكثير من المرفقات الجنائزية؛ من بينها مئات القطع الفخارية المصقولة والملونة وبعض اللقى المعدنية كالمشابك والفؤوس وبعض أنواع الحلي.

مخطط مدفن تل المشرفة - قطنة

وفي تل عربيد [ر] عُثر على قبور موزعة بين البيوت، وهي ذات أشكال متنوعة، بعضها مقبب، وبعضها بئري تضمنت الكثير من اللقى المتنوعة، كما دُفنت معها بقايا حيوانية؛ ومن ضمنها الأحصنة.

وعُثر على مدافن بئرية أيضاً في العديد من المواقع، من أهمها السلنكحية [ر] والأنصاري [ر] وتل أحمر [ر] وتل مرديخ وحينة وتل تويني، وغيرها.

وفي جنوبي سورية وُجِدت مدافن ميغاليتية بُنيت فوق الأرض على شكل صندوق توضع فوقه كومة من الحجارة، وكثيراً ما أحيط الضريح بعدد من الجدران الدائرية التي وصل عددها إلى خمسة جدران؛ كما في رجم الهري في الجولان، الذي بلغ قطر جداره الخارجي نحو ١٤٥م، وغالباً ما كان أصحاب هذا النموذج من المدافن من الجماعات الرعوية المتجولة، وقد انتشر في منطقة واسعة من دمشق حتى شرقي الأردن. كما عُرفت المدافن الصندوقية، وهي نموذج متطور عن الدولمن؛ لكنها بنيت داخل الأرض من حجارة كبيرة، كما في يبرود وهي مدافن جماعية ظلت مستخدمة حتى العصر البرونزي المتأخر.وفي ألالاخ [ر] كانت معظم القبور المكتشفة فيها تقع خارج المدينة وبعيدة عن المنازل، وأظهرت قبور الطبقة (٨)- العائدة إلى أواخر القرن ١٨ق.م- اتباع عادات دفن بسيطة؛ فقد دُفِن الأموات بملابسهم الخاصة بالحياة اليومية، ووُضعت الجثة على الجانب والأيدي على الصدر أو أمام الوجه. وكانت المرفقات قليلة العدد وبسيطة. ولاحقاً استُخدمت في الموقع الجرار الفخارية لدفن الأطفال الصغار، ووُضعت إلى جانب القبور. وظهرت في الطبقة (٥) التي يعود تاريخها إلى القرن ١٥ق.م- إلى جانب حالات الدفن العادية- طريقة حرق الجثث ودفن رمادها، وهي عادة تنسب إلى الحثِّيين سكان الأناضول.

مدفن تل المشرفة - قطنة

مدخل مدفن تل المشرفة - قطنة

استمر استخدام الجرار للدفن في تل طابان [ر]، فعُثر على جرتين تحت أرضية غرفة نقش عليهما بالمسمارية ضمّتا هيكلين لامرأة وطفل يعودان إلى العصر الآشوري الوسيط. ووجدت في الموقع أيضاً المدافن المقببة التي بنيت من اللِّبن المشوي، من بينها مدفن ملكي مكوَّن من عدة غرف ضم الكثير من اللقى والجواهر.

وفي أوغاريت [ر] دفن السكان موتاهم في قبو البناء، ضمن مدفن عائلي جميل له بوابة ودرج أو ممر منحدر يؤدي إلى حجرة مستطيلة بنيت جدرانها من الحجارة، وفُتحت فيها بعض الكُوى والنوافذ، ودائما ما كانت ترافق الأموات بعض المرفقات الجنائزية. كما تشارك الأوغاريتيون مع البابليين والآشوريين في ممارسة إيصال الماء للميت؛ لأن روحه كانت بحاجة إلى شرب الماء في القبر. وفي تل بري [ر] عُثر على قبور من العصر الآشوري الوسيط (القرن ١٣ق.م) جرى الدفن في جرار فخارية كبيرة احتوت على الكثير من المرفقات، واحتوت إحداها على قطعة حجرية تبين أنها قبر رمزي للتذكر والتبجيل. كما عثر على قبر لامرأة بداخله قطعة حجرية تحمل كتابة هيروغليفية ولقى وحلي من الذهب والعاج وغيره.

ومن تل المشرفة [ر] جاء أغنى مدفن ملكي معروف حتى الآن في سورية، ويُعدّ أهمّها لتقديمه أدلة أثرية تتضمن بنية جنائزية ذات صلة بقصر ملكي، وتميزت بنوعية اللقى الجنائزية المرافقة وعددها الذي زاد على ثلاثة آلاف قطعة. يعود تاريخ المدفن إلى العصر البرونزي المتأخر (١٥٠٠-١٢٠٠ق.م)، وقد اكتُشف سنة ٢٠٠٢م أسفل القصر من جهته الشمالية على عمق ٧م، ويُنزَل إليه بدرج عريض يؤدي إلى مدخل يتقدمه من الجانبين تمثالان بازلتيان، يُمثّلُ كل واحد منهما ملكاً في وضعية الجلوس على العرش، وهو تقليد معروف منذ عصر السلالات الباكرة [ر]، كما في حالة تمثالي أميري لجش أنتمينا وجوديا. وشكل المدفن قبوي حُفِر قسم منه في الصخر، ويُدخَل مباشرة إلى الغرفة الرئيسية المصمّمة بشكل بسيط، أبعادها ٨×٦م، في زاويتها الجنوبية الشرقية تابوت حجري بازلتي بلا غطاء يضم بقايا الهياكل العظمية لملوك ذكور، معهم مرفقات جنائزية. ومن هذه الغرفة تُفضي ممرات في ثلاث واجهات إلى ثلاث غرف دفن صغيرة، تضم الأولى بقايا منصة خشبية مختلطة مع بقايا عظام حيوانات ومع مجموعة أوانٍ مرمرية، وتتضمن هذه الغرفة تجهيزات وليمة جنائزية مع سرير جنائزي. وتضم الثانية كمية كبيرة من العظام البشرية والحيوانية الملقاة على بقايا منصتين خشبيتين. أما الغرفة الأخيرة فتحتوي على مقعدين حجريين وتابوت بازلتي يضم هيكلين عظميين (على الأرجح لامرأة ورجل) والكثير من الأثاث الجنائزي المصنوع من مواد ذهبية وفضية وخزفية وغيرها، وأُلفِي على المقعد الحجري الموجود قبالة التابوت الحجري أجزاء من هيكل عظمي شبه كامل في وضعية ممدودة، وهو مطلي بمادة كان الهدف منها تسريع تحليل الجسد، وهذا الهيكل العظمي مختلط مع عقد مؤلف من ثلاثة خيوط ذهبية مزينة باللآلئ الذهبية وبالأحجار الكريمة وبقطع صغيرة (خواتم).

٢- الدفن في العصر الحديدي

تميز الألف الأول بانتشار عادة وضع الشواهد الحجرية على قبور الموتى، وهو ما قام به الآراميون الذين كانوا يعتقدون أن نفس (نفشا) الميت تسكن الشاهدة، في حين تذهب الروح إلى العالم السفلي. وقد حملت هذه الشواهد بعض التصاوير التي تمثل الولائم الجنائزية، والكتابات التي تُعرِّف بصاحب القبر، وتذكر أسماء الآلهة، وتهدد بغضبها على كل من يعتدي على القبر وعلى محتوياته. ومن أهم النقوش الآرامية المعروفة: نقش الكاهن شاجبار الذي اكتشف في النيرب قرب حلب (القرن السابع ق.م)، ونقشا فنمو بن قرل، وكلمو المكتشفان في زنجرلي.

كما وضع الآراميون تماثيل موتاهم على مدافنهم، وهو ما يدل على استمرار عبادة الأسلاف، وهذا ما كُشِف عنه في تل حلف [ر] الذي عثر فيه على تمثالي امرأتين بوضعية الجلوس وُضِعا فوق قبرين، علاوة على تمثال آخر لزوجين راحلين، كان موضوعاً في حجرة صغيرة خاصة بتقديس الأسلاف، تسمى حجرة العبادة.

وعرفت خلال العصر الآرامي عادة حرق الموتى، كما في حماة (الطبقتين E وF)، وفي تل حلف وغيرهما، وقد رأى فيها بعض الباحثين انعكاساً للتمازج الديموغرافي والأيديولوجي والثقافي بين الآراميين والحثيين. كما وجدت مدافن كهفية مؤلفة من عدة حجر حفرت داخل الأرض كما في تل المشرفة (قطنة). وكذلك هناك المدافن المبنية من الحجارة البازلتية على شكل غرفة لها سقف مخروطي يُوصَل إليها عبر مدخل يليه دهليز يزيد طوله على ١٠م، وتتضمن غرفة الدفن حنية، وفيها حوض كانت تُجمّعُ فيه الهياكل القديمة مع مرفقاتها الجنائزية، وقد عثر على اثنين منها في موقع نبع الصخر بمحافظة القنيطرة. وفي تل خنيديج عثر على حالات دفن ضمن الجرار، وضعت إحداها في أحد الجدران.

قطنة-آنية من المرمر والذهب- المدفن الملكي

قطنة - القبر الملكي

وتدل المدافن الفينيقية على اهتمام هؤلاء الشديد بموتاهم، فقد أقاموا مقابرهم في أماكن توحي المهابة، وغالباً على الشواطئ الصخرية المطلة على البحر. وكانوا يعملون على توفير نقل الماء للمتوفى. ومما يسترعي الانتباه اختلاف نماذج القبور؛ إذ كانت المقابر الكبيرة في جبيل وقرطاجة وأوتيكا وسردينيا وإيبيزا وطنجة ذات تصاميم مختلفة، من أشهرها المدافن المغزلية المرتفعة المنحوتة في الصخر والتي وجدت في عمريت، وهناك التوابيت الحجرية التي نقشوا عليها بعض التصاوير والزخارف والنصوص التي تعرِّف بالميت، كما في تابوت أحيرام ملك جبيل، وعرفوا التوابيت الفخارية أيضاً التي تحمل أغطيتها وجوهاً بشرية، واكتُشِف العديد منها في صيدا وفي طرطوس. هذا علاوة على طقس حرق الجثث ووضع رمادها في جرار فخارية، كما في صور [ر]، وقرطاجة [ر].

لكن الفينيقيين نادراً ما دفنوا مع موتاهم أشياء ذات قيمة كبيرة، والاستثناء الوحيد من ذلك هو تلك المرفقات الجنائزية التي وُجدت في التوابيت الحجرية لبعض ملوك جبيل والتي دُفِنَتْ مع شعاراتهم الملكية، ومن بينها حلي وممتلكات شخصية ثمينة وهدايا وغيرها.

محمود حمود

 


- التصنيف : العصور التاريخية - المجلد : المجلد السابع مشاركة :

بحث ضمن الموسوعة

من نحن ؟

الموسوعة إحدى المنارات التي يستهدي بها الطامحون إلى تثقيف العقل، والراغبون في الخروج من ظلمات الجهل الموسوعة وسيلة لا غنى عنها لاستقصاء المعارف وتحصيلها، ولاستجلاء غوامض المصطلحات ودقائق العلوم وحقائق المسميات وموسوعتنا العربية تضع بين يديك المادة العلمية الوافية معزَّزة بالخرائط والجداول والبيانات والمعادلات والأشكال والرسوم والصور الملونة التي تم تنضيدها وإخراجها وطبعها بأحدث الوسائل والأجهزة. تصدرها: هيئة عامة ذات طابع علمي وثقافي، ترتبط بوزير الثقافة تأسست عام 1981 ومركزها دمشق