حلب في العصر الإسلامي
حلب في عصر اسلامي
-
حلب
حلب في العصر الإسلامي
دخل المسلمون حلب سلماً من باب أنطاكية سنة ١٦هـ/٦٣٧م؛ والقلعة سنة ١٧هـ/٦٣٨م في العصر الراشدي، وقد اختار بعض السكان الإسلام في حين بقي بعضهم الآخر على ديانته مسيحياً أو يهودياً. وكانت حلب في حينها بلدة صغيرة تابعة لقنسرين (قرية العيس اليوم) التي كانت تضارع أنطاكية عظمة واتساعاً. وفي بداية الفترة العباسية عُهد إلى صالح بن علي بن عباس ولاية حلب وقنسرين وحمص (١٣٧-١٥٢هـ/٧٥٥- 769م).
سيطر أحمد بن طولون على حلب سنة 264هـ/878م، ثم الإخشيديون، فالحمدانيون. وأصبحت حلب خلال حكم سيف الدولة الحمداني علي بن عبد الله بن حمدان (333 - 357هـ/944 - 967م) عاصمة دولة تمتد من حمص جنوباً حتى أنطاكية وجوانب جبال طوروس وجزء من أعالي ما بين النهرين، وتتبع اسمياً الخليفة العباسي. وقد تميّز عهد سيف الدولة بالجهاد ضد البيزنطيين وبالازدهار العمراني والثقافي، اجتمع في قصره لفيف من الأدباء والعلماء والشعراء كالمتنبي والفارابي، ودُوِّن قسم كبير من الآداب الكلاسيكية في عهده.
سيطر الفاطميون على حلب سنة 406هـ/1015م، ثم حكمها المرداسيون (414 - 472هـ/1023 - 1079م)، ونعمت المدينة بالازدهار الاقتصادي في تلك الفترة.
تسلّم السلطان السلجوقي ملكشاه حلب سنة 479هـ/1086م من دون قتال، وعيّن قسيم الدولة آقسنقر حاكماً لها. وحكم الأراتقة بين ٥١١-٥٢٢هـ/١١١٧-١١٢٨م. ووصل أمير الموصل الأتابك عماد الدين زنكي حلب سنة ٥٢٢هـ/١١٢٨م بعد دعوة من سكانها، وأصبح بذلك جزء كبير من سورية تحت سيطرته، وأخذ على عاتقه الوقوف أمام الغزو الصليبي. وخلفه ابنه نور الدين محمود بن زنكي (٥٤١-٥٦٩هـ/١١٤٦-١١٧٤م) الذي أصبحت حلب في أيامه عاصمة لدولة كبيرة ومزدهرة، وحصناً للمقاومة، ونقطة انطلاق ضد الصليبيين الذين وصلوا إلى المنطقة سنة ٤٩١هـ/١٠٩٧م، وتعرضت حلب لهجومهم عدة مرات دون أن تحتل. وحدث زلزال كبير سنة ٥٥٢هـ/١١٥٧م خرّب المدينة، وهلك فيه (١٠٠٠٠) نسمة. خلف نور الدين ابنه الملك الصالح إسماعيل، وبعد وفاته تسلم زمام الحكم عماد الدين زنكي بن مودود الذي نزل عنه إلى صلاح الدين الأيوبي مقابل سنجار، فدخلها صلاح الدين سِلماً سنة ٥٧٩هـ/١١٨٣م، وتوطدت بذلك سلطته على مصر والشام والجزيرة واليمن وديار بكر والحجاز. خلِف صلاح الدين على حلب ابنه الملك الظاهر غازي الذي اتخذ لقب سلطان بعد وفاة والده سنة ٥٨٩هـ/١١٩٣م. وفي سنة ٦٠٤هـ/١٢٠٧م حصل البنادقة على امتياز تجاري. خَلِف الظاهر غازي ابنه الملك العزيز محمد سنة ٦١٣هـ/١٢١٦م، وكان صغيراً، فقام بإدارة المملكة شهاب الدين طغرل بن عبد الله، وأقر في عهده سنة ٦٢٢هـ/١٢٢٥م امتياز البنادقة التجاري. ثم خلفه ابنه الملك الناصر يوسف الثاني سنة ٦٣٤هـ/١٢٣٦م- بوصاية جدته الملكة ضيفة خاتون- الذي قُتل على يد هولاكو سنة ٦٥٨هـ/١٢٦٠م؛ وبه انقضت الدولة الأيوبية، وتعرضت حلب حينها للخراب الشامل.
بلغت الفترة السلجوقية والأيوبية أوج مراحل التطور الثقافي والعمراني والاقتصادي، وتركت في المدينة آثاراً لا تمحى. وقد شجع السلاجقة والأيوبيون العلم وبناء المدارس والخانقاهات والرُّبُط.
مخطط المدينة في أواخر العصر الأيوبي |
كان المماليك مقاتلين أشداء دحروا جيوش هولاكو في عين جالوت سنة ٦٥٨هـ/١٢٦٠م، وأنهوا احتلال الصليبيين، وبسطوا سلطانهم على كامل بلاد الشام. إن موقع حلب أقصى الشمال جعل منها مركزاً مهماً للبعثات العسكرية، وعاصمة إدارية لمقاطعة كبيرة ازدهرت فيها التجارة، وأصبحت سوقاً مهمة للحرير والبهارات الهندية والقطن السوري؛ تفوقت على القاهرة أم البلاد في تلك الفترة، وأنشئت فيها قنصلية للبندقية سنة ٨٢٥هـ/١٤٢٢م، وتعرضت حلب لهجوم تيمورلنك سنة ٨٠٣هـ/١٤٠٠م، خربت من جرائه المدينة، وعادت إلى ترميم ما تهدم فيها.
مخطط المدينة أواخر العصر المملوكي |
انهزم الجيش المملوكي أمام الجيش العثماني المزود بالأسلحة الحديثة والمدافع في معركة مرج دابق (٥٠كم) شمال حلب سنة ٩٢٢هـ/١٥١٦م، فخضعت حلب لحكم الدولة العثمانية.
وفي الفترة العثمانية كان السلطان يعين والياً عثمانياً على ولاية حلب التي كانت مساحتها ربع مساحة سورية اليوم، وتضم أجزاء ضُمَّت لاحقاً إلى الدولة العثمانية مثل الرُّها وكلّس وعنتاب. وبقيت حلب خلال قرن السوق الرئيسة لكل بلدان الشرق، وظلت طويلاً المدينة الثالثة في الامبراطورية العثمانية بعد إسطنبول والقاهرة.
مدينة حلب في منتصف القرن 13هـ/19م |
وقّع الباب العالي معاهدة الامتيازات مع فرنسا سنة ٩٤٢هـ/١٥٣٥م ومع إنكلترا سنة ٩٨٨هـ/١٥٨٠م، يمنح بموجبها الأوربيون الحماية وتخفيض الرسوم الجمركية. وأُسّست أول قنصلية فرنسية في حلب سنة ٩٧٠هـ/١٥٦٢م؛ وبريطانية سنة ٩٩١هـ/١٥٨٣م، وهولندية سنة ١٠١٦هـ/١٦٠٧م، وأصبحت حلب واحدة من أكثر المدن الدولية شهرة؛ كما كانت ممراً لقوافل الحجاج المسلمين القادمين من المناطق الأوربية والأناضول والبلاد الشرقية عموماً.
أصبحت الأراضي العثمانية محل أطماع الدول الغربية الكبرى بعد انهزام الجيوش العثمانية أمام النمسا وفارس وروسيا في نهاية القرن ١٢هـ/١٨م. واحتل إبراهيم باشا المصري سورية ١٢٤٧-١٢٥٦هـ/١٨٣١-١٨٤٠م، وتأثرت حلب بظهور الطاعون والهزات الأرضية وقيام الثورات في النصف الأول من القرن ١٣هـ/١٩م.
انتهت الحرب العالمية الأولى سنة ١٣٣٧هـ/١٩١٨م، وأُعلن استقلال سورية سنة ١٣٣٨هـ/١٩١٩م، ثم هاجم الفرنسيون سورية في سنة ١٣٣٩هـ/١٩٢٠م، ووضعت البلاد تحت الانتداب الفرنسي.
ظلت القلعة حتى نهاية الفترة السلجوقية تشكل جزءاً من أسوار المدينة الشرقية. وفي العصر الأيوبي أصبحت القلعة داخل الأسوار بعدما وسّع الظاهر غازي أسوار المدينة شرقاً، وظهرت الضواحي خارج الأسوار، وهي: بانقوسا في الشرق، والرمادة وحارة الحوارنة والرابية وجورة جفال في الجنوب، والحاضر السليماني (الكلاسة) في الزاوية الجنوبية الغربية، وضاحية خارج باب أنطاكية غرباً؛ ثلاث منها (بانقوسا، الرمادة، الحاضر السليماني) اشتملت على مسجد جامع، وكان في أكثرها مدرسة أو أكثر.
وفي الفترة المملوكية اندثرت الضواحي الأيوبية الجنوبية إثر الهجوم المغولي، واتسعت الضواحي الشرقية على نحو كبير، وحصلت نهضة عمرانية، وتم ترميم الأسوار بمساعدة السكان. وبعد هجوم تيمورلنك أعيد بناء السور الشرقي الخارجي، وتُرِك السور الداخلي متهدماً، فضمت بذلك الضواحي خارج الأسوار إلى رقعة المدينة، وأصبحت المناطق المتهدمة بين القلعة ودار العدل ساحة اجتماعات للجند، وسوقاً لبيع الخيل ومستلزماتها، وورشات لصناعة الأسهم والقسي، وأسواقاً موسمية وأسبوعية. وكان التطور الكبير في المنطقة شمال باب النصر وفي حي الجديدة خارج الأسوار في الزاوية الشمالية الغربية حيث استقر المسيحيون.
وفي الفترة العثمانية توسعت ضاحية بانقوسا في أواخر القرن١١هـ/١٧م باتجاه الشمال الشرقي، وضمت ميداناً وبيوتاً جميلة عديدة وجوامع ومساجد وكنائس وأسواقاً وخانات ومقاهي. واتصل بها من الشمال أحياء مسيحية كالهزازة والجديدة التي توسعت في نهاية القرن ١٢هـ/١٨م وغطت مساحة نحو ٦٠ هكتاراً. واستوطن تركمان وأكراد وعرب الجنوب باتجاه باب النيرب. وامتدت حارة القرباط خارج باب النيرب، والكلاسة في الجنوب الغربي. وفي الغرب أنشئت المذابح والمدابغ وضاحية المشارقة والوراقة، وخانات عديدة على مقربة من باب أنطاكية. وفي سنة ١٢٣٨هـ/١٨٢٢م حدث زلزال كبير ذهب ضحيته ٢٠٠٠٠ نسمة، ودمّر أجزاءً كبيرة من المدينة.
بدأ التأثر بالعمارة الأوربية في أواخر العصر العثماني، وظهر مركز جديد ضم فنادق ومقاهي ونوادي ليلية وأماكن لإصلاح السيارات في منطقة بستان كل آب، وفتحت بعض الشوارع كشارع طلعة البنوك، وأُنشئت دار البلدية، وحي العزيزية سنة ١٢٨٥هـ/١٨٦٨م وفق الشوارع المستقيمة والمتعامدة التي قد يصل عرضها إلى ١٥م، وحي النيال سنة ١٢٩٥هـ/١٨٧٨م، وحي الجميلية (السليمية) سنة ١٢٩٦هـ/١٨٧٩م، والحميدية سنة ١٣٠٥هـ/١٨٨٧م، والسليمانية سنة ١٣١٣هـ/١٨٩٥م. وبدئ بتنفيذ جادة الخندق سنة ١٣٠٩هـ/١٨٩١م خارج الأسوار، وكانت تمتد بين باب الحديد ومزار السهروردي. كما أنشئت المقاهي والمطاعم الصغيرة وأماكن لبيع الوجبات السريعة. وبدأت الأبنية الطابقية تظهر بعد إنشاء الخط الحديدي (قطار الشرق السريع) الذي يصل حلب بأوربا، وعمل الألماني يونغ Yung أول مخطط تنظيمي للمدينة سنة 1317هـ/1899م ضم توسع المدينة في الأحياء الجديدة.
مخطط مدينة حلب سنة 1912م |
الأسوار والأبراج والأبواب:
جدّد ملوك بني أمية وبني العباس أبراجاً عديدة في أسوار مدينة حلب؛ لقربها من الحدود البيزنطية، وبسبب تعرضها الدائم للهجوم. وقد تمكن نقفور في عهد سيف الدولة الحمداني من احتلال حلب ونهبها وإحراقها؛ فرمم سيف الدولة الأسوار. وفي العصر السلجوقي رمّم نور الدين الأسوار، وأقام أمامها فصيلاً شكل سوراً ثانياً قصيراً أمام السور الكبير، يمتد من الرأس الغربي لقلعة الشريف إلى باب أنطاكية؛ ومن باب الجنان إلى باب الأربعين؛ ومن الباب الصغير إلى باب العراق شرقاً. ثم اهتم الأيوبيون بأعمال التحصين، واستعملوا الأعمدة الأفقية في جدران الأبراج ومنحدرات القلاع، وسقاطات السوائل المحرقة، ومرامي السهام والشرافات أعلى الأسيجة. وبنى الظاهر غازي سوراً يمتد من باب الجنان إلى برج الثعابين، وحفر الخنادق، وزاد في ارتفاع الفصيل الذي بناه نور الدين ليصبح على ارتفاع السور خلفه، وبنى أبراجاً بين باب الجنان وباب النصر. وبدأ بتوسيع المدينة داخل الأسوار، فعمَّق خندق الروم الشرقي الذي حفره البيزنطيون عند حصارهم حلب سنة ٣٥١هـ/٩٦٢م، وبنى عليه سوراً جديداً عليه أبراج دفاعية وثلاثة أبواب.
ظلت حلب منيعة إلى أن هاجمها هولاكو سنة ٦٥٨ه/١٢٥٩م، فخربها، وخرّب أسوارها وأبوابها تخريباً كبيراً. واهتم الأمير كمشبغا الحموي سنة ٦٩٣هـ/١٢٩٣م بعمارتها، ثم خربها تيمورلنك سنة ٨٠٣هـ/١٤٠٠م، فأعاد سلاطين المماليك عمارتها حتى آخر ملوكهم السلطان قانصوه الغوري؛ وعلى الأسوار نقوش تحمل أسماءهم.
والأبواب الباقية هي:
- باب النصر: شمالي المدينة القديمة، كان يعرف بباب اليهود، أعاد بناءه الظاهر غازي سنة ٦١٠هـ/١٢١٣م. كان يضم أربعة أبواب متتالية وبرجين عظيمين، وهُدم جزء منه سنة ١٣٠٣هـ/١٨٨٥م لتوسيع جادة الخندق.
- باب الفرج: غربي المدينة القديمة، أنشأه الملك الظاهر غازي، وجدده الملك الأشرف قايتباي سنة ٨٩٣هـ/١٤٨٧م، وهُدم سنة ١٣٢٢هـ/١٩٠٤م لتعريض الشارع، وبقي برج إلى جواره حُجِبت واجهته الغربية ببناء طابقي، وبقي جزء من واجهته الشمالية شرقي المكتبة الوطنية وعليه رنكان كتابيان.
- باب الجنان (العتمة): أنشئ زمن السلطان قانصوه الغوري سنة 920هـ/1514م، وهُدم سنة 1310هـ/1892م لتوسيع الطريق المار بجانبه، وبقي منه برج واحد.
- باب أنطاكية: غربي حلب، وهو باب قديم أعيد بناؤه عدة مرات، وخربه نقفور سنة ٣٥١هـ/٩٦٢م، ورمّمه سيف الدولة. ثم هدمه الملك الناصر صلاح الدين يوسف الثاني، وأعاد بناءه سنة ٦٤٣هـ/١٢٤٥م، ثم جُدد في عهد السلطان برقوق سنة ٧٩٢هـ/١٣٨٩م؛ وأيام دقماق الناصري سنة ٨٠٤هـ/١٤٠١م.
- باب قنسرين: جنوبي حلب، يعتقد أنه من بناء سيف الدولة. جدده الملك صلاح الدين يوسف الثاني سنة ٦٥٤هـ/١٢٥٦م وجعله على درجة كبيرة من التحصين؛ ويتألف من أربعة أبواب. هُدم في هجوم هولاكو، ورمَّمه الملك المؤيد شيخ سنة ٨١٨هـ/١٤١٥م؛ ثم قانصوه الغوري سنة ٩٠٧هـ/١٥٠١م.
باب قنسرين |
- باب المقام (نفيس، أو دمشق): جنوبي حلب، بدأ ببنائه الظاهر غازي، وتم في عهد الملك العزيز محمد. وهو مستقيم دون أبواب حلب جميعها. تهدم في هجوم التتار والمغول، فبُدئ بتجديده في عهد الملك الأشرف برسباي؛ وكَمُل في أيام السلطان قايتباي سنة 898هـ/1492م.
- باب الحديد (القناة): شمال شرقي حلب، أنشأه الظاهر غازي، وكان يعرف بباب القناة لعبور قناة حيلان منه. جدّده السلطان قانصوه الغوري سنة 915هـ/1509م. وكان بين البابين الأخيرين باب النيرب وباب الأحمر (دثرا).
القلعة:
كان سعد الدولة بن سيف الدولة أول من سكن القلعة من الملوك والأمراء، وأصبح ذلك عادة لمن جاء بعده. وجدد فيها أبراجاً، وأتقن سورها سنة 367هـ/977م. وتذكر أقدم كتابة عربية فيها (465هـ/1072م) محمود بن نصر بن صالح بن مرداس. وفي الفترة السلجوقية أنشئت فيها عدة مبانٍ، أهم ما بقي منها المقام الأسفل (563 - 575هـ/1167 - 1179م) وحمام نور الدين. وفي الفترة الأيوبية كانت أعمال الظاهر غازي هي أكثر إعجازاً في فن التحصين العسكري في العصور الوسطى. فقد زاد في حفر الخندق ورصف سطح المنحدر بالحجارة. وبنى لها مدخلاً على شكل باشورة (تنكسر ٥ مرات) مزوداً بثلاثة أبواب وعلى طرفيه برجان وأمامه جسر يمتد فوق ٨ دعامات حجرية تحمل أقواساً مدببة، وفوق سطح الجسر درج يمتد إلى البرج المتقدم الأول المؤدي إلى البلد، وبنى مستودعات للماء والغلات (الساطورة). والمسجد الكبير (المقام الأعلى ٦١٠هـ/١٢١٣م)... وما تزال أجزاء من القصر والحمام الأيوبيين باقية إلى اليوم. للقصر باب جميل تعلوه المقرنصات، وتتوسطه كتابة أضيفت في العصر المملوكي. وله باحة جميلة رصفت أرضيتها بالمرمر المشقف المتعدد الألوان وتتوسطها بركة. وفي الشمال إيوان يتصدره سلسبيل.
مدخل قلعة حلب |
وفي الفترة المملوكية شيد البرجان الشمالي والجنوبي على سفح القلعة. وبدأ الأمير جكم نائب القلعة أيام الملك الناصر فرج بن برقوق (٨٠٩هـ/١٤٠٦م) ببناء قاعة العرش فوق برجي المدخل الأيوبي، وأكملها السلطان مؤيد شيخ. هبط سقفها، فأعاد بناءه السلطان قانصوه الغوري على شكل ٩ قباب سنة ٩١٦هـ/١٥١٠م. وانهارت في زلزال سنة ١٢٣٨هـ/١٨٢٢م، واستعيض منها في ستينيات القرن العشرين سقف إسمنتي كُسِي بالخشب.
الثكنات العسكرية:
ثكنة هنانو في الشميصاتية، بناها إبراهيم باشا المصري سنة ١٢٤٨هـ/١٨٣٢م فوق مرتفع. وثكنة داخل القلعة أنشئت- بحسب النقائش الموجودة فوق أبوابها- أيام السلطان عبد المجيد الأول (١٢٦١- ١٢٦٧هـ/١٨٤٤- ١٨٥٠م)، وثكنة طارق (الرباط العسكري) على قمة جبل البختي، بدئ بتأسيسها سنة ١٣٣٠هـ/١٩١١م.
الجوامع:
عندما دخل المسلمون حلب سلماً من باب أنطاكية؛ رمى الجنود أتراسهم هناك، حيث بُني أول جامع في المدينة، وهو جامع الأتراس، الذي اتخذ فيما بعد أسماء مختلفة كالتوتة [ر] والغضائري والمدرسة الشعيبية.
بني الجامع الأموي [ر] الكبير شرقي الكاتدرائية العظمى في عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك وأخيه سليمان (٩٧هـ/٧١٥م)؛ عندما ازداد عدد المسلمين بنسبة كبيرة. وأصبح الجامع المركز الرئيس للسلطات السياسية والقضاء والتعليم.. وأحيط بمختلف الأبنية العامة، وكان مشابهاً لجامع دمشق في المخطط والزخرفة والرخام والفسيفساء، ولم يبقَ منها شيء؛ إلا أن الجامع حافظ تقريباً على مسقطه الأفقي الأصلي، له أربعة أبواب وصحن ذو ثلاثة أروقة وقبلية مستطيلة.
الجامع الأموي الكبير |
أحرق نقفور فوكاس الجامع، فرممه سيف الدولة الحمداني سنة ٣٥١هـ/٩٦٢م، وبنى قرعويه غلام سيف الدولة (٣٥٤هـ/٩٦٥م) حوض وضوء وسط صحن الجامع. وبُنيت المئذنة في عهد السلطان السلجوقي ملك شاه ونائبه قراسنقر.
الجامع الأموي الكبير - الواجهة القبلية |
أُحرِق الجامع سنة ٥٦٤هـ/١١٦٨م وأعاد بناءه نور الدين محمود بن زنكي، ووسعه من الطرف الشرقي، وبنى الرواق غربي الصحن. وعمل للجامع منبراً ومحراباً من خشب الأبنوس.
أحرق الجامع صاحب سيس الأرمني مع دخول هولاكو سنة ٦٥٨هـ/١٢٩٥م، فأعاد بناءه الظاهر بيبرس، ثم أحرق السيسيون الجامع ثانية سنة ٦٧٩هـ/١٢٨٠م، فأعاد بناءه نائب حلب قراسنقر الجوكندار في عهد السلطان قلاوون، وبُني المحراب الكبير، وأنشأ المنبر الخشبي (أو رمم منبر نور الدين).
وفي عهد السلطان العثماني مراد خان (١٠٣٢-١٠٤٩هـ/١٦٢٢-١٦٣٩م) جدد حائط القبلية الشمالي. كما جدد الرواقان الشمالي والغربي والبابان الخارجيان الشرقي والجنوبي، ووضعت في الباحة مزولة نحاسية دائرية سنة ١٣٠٠هـ/١٨٨٢م. وأضيف السبيل في الرواق الغربي في فترة الانتداب الفرنسي.
كان يُدرَّس في هذا الجامع الفقه الإسلامي على المذاهب الأربعة، وبه المحدثون وأرباب الفتاوى.
يذكر ابن شداد (ت٦٨٤هـ/١٢٨٥م) ٩٢١ مسجداً في حلب؛ منها ٢٠٨ داخل الأسوار توزعت في الأسواق والمناطق السكنية وقرب الأبواب والحمامات، بقي منها ٦ مساجد من العصر السلجوقي وما قبل، و٤ مساجد من العصر الأيوبي. منها جامع الصالحين من الفترة السلجوقية (٤٩٩هـ/١١٠٥م)، حيث يضم محراب القبلية صخرة ناتئة يعتقد أن سيدنا إبراهيم الخليل “ جلس عليها مستقبلاً حلب حين فارقها. تمّ تجديده في العصر العثماني سنة 1144هـ/1731م. وضمَّ الرواق أثراً لقدم يُعتقد أنها لسيدنا إبراهيم؛ ومحراباً مزخرفاً (505هـ/1111 - 1112م)، وثمة نص فوق مدخل القبلية بالخط الكوفي الجميل (499هـ/1105م). ومن العصر السلجوقي جامع الطرسوسي في محلة باب قنسرين، أنشأه محمد بن عبد الصمد الطرسوسي (ت549هـ/1154م). ومسجد الإسكافي (جامع حمود 542هـ/1147م). ويعود جامع الدباغة العتيقة [ر] إلى الفترة السلجوقية. ومن المساجد الجامعة الأيوبية جامع البختي خارج الأسوار (645هـ/1247م) الذي هُدم في فتنة تيمورلنك وأعيد بناؤه سنة 1311هـ/1893م.
جامع الصالحين |
ومن العصر المملوكي 43 مسجداً، بُني بعضها على أنقاض مساجد قديمة. وبنيت الجوامع الضخمة قرب القلعة كجامع ألطونبغا (718هـ/1318م)، وهو ثاني مسجد جامع داخل الأسوار، وجامع أقبغا الأطروشي (801هـ/1398م)، وله مئذنة بشرفتين، وهي الوحيدة في مدينة حلب، وجامع الموازيني أنشأه تغري بردي سنة 797هـ/1395م، وله محراب من الفسيفساء. وجامع الرومي أنشأه نائب حلب منكلي بغا سنة 769هـ/1358م، وجامع باب الأحمر أنشأه أوغلبك سنة 885هـ/1480م، ومئذنته فريدة، وجامع المهمندار ذو المئذنة الجميلة، وجامع بحسيتا [ر] سنة 751هـ/1350م، له مئذنة مثمنة تضم زخارف حجرية وأشرطة كتابية.
جامع الأطروش |
جامع أوغلبك |
جامع المهمندار |
كانت القبلية في المساجد المملوكية مستطيلة مقسمة ثلاثة أقسام أو أكثر- يسقف القسم أمام المحراب قبة، ويسقف الأطراف قبوات مهدية أو متقاطعة؛ وهو مستمد من تصميم القبلية في مدارس العصر الأيوبي - أو كما في المساجد التقليدية تضم أعمدة أو ركائز تصطف موازية لجدار القبلة تقسّم القبلية إلى أروقة. وكانت المآذن متنوعة، عالية - مثمنة أو دائرية- مزخرفة. وزخرفت الواجهات الخارجية، وبنيت النوافذ - ضمن تجاويف تعلوها المقرنصات- بنظام الأبلق تعلوها المزررات المتعددة الألوان، وهناك عمودان صغيران مضفوران على الطرفين. واستمرت بوابات المداخل الفخمة، وظهرت الزخرفة بأغصان النباتات المتشابكة والنقوش الهندسية والنجمية مع كتابات رائعة بالخط الكوفي أو النسخي، والرنوك المملوكية التي ترمز إلى الوظائف والمناصب التي شغلها صاحب المبنى.
وهناك 69 مسجداً وجامعاً من العصر العثماني ما تزال باقية. بُني بعضها على الطراز العثماني يعلوها مئذنة مستديرة أو مضلعة رشيقة تنتهي برأس مدبب مكسوّ بالرصاص. وتقوم إلى جانبها قبة نصف كروية كبيرة مكسوّة بصفائح الرصاص، تغطي كامل مساحة بيت الصلاة المربع الشكل الذي يتقدمه رواق ذو أعمدة مقرنصة، وتغطيه قباب صغيرة. كجامع المدرسة الخسروية (951هـ/1544م)، وجامع المدرسة العادلية (963هـ/1555م)، وجامع المدرسة العثمانية (1143هـ/1730م). إضافة إلى مساجد كثيرة بنيت على نسق العمارة التقليدية المحلية.
جامع المدرسة الخسروية |
مدخل جامع المدرسة العادلية |
كانت الزخرفة في الفترة العثمانية مماثلة لتلك التي انتشرت في الفترة المملوكية، وظهر اهتمام ببلاطات القاشاني فوق النوافذ في الخسروية [ر] والعادلية [ر] والبهرامية [ر]، وتحت شرفة المئذنة في الخسروية. كما ظهر الاهتمام بالمحاريب وبمداخل القبليات في الجوامع الكبرى.
المدارس:
أحصى ابن شداد ٤٤ مدرسة في حلب، توقف التدريس في أغلبها مع اجتياح هولاكو للمدينة. كانت هذه المدارس بمنزلة جامعات مزودة بالأوقاف لتوفير نفقاتها. منها ١٣ مدرسة من العصر السلجوقي، بنيت داخل الأسوار في القطاع الجنوبي الغربي من المدينة. بقي منها: المدرسة الحلوية (٥٤٣هـ/١١٤٨م)، وتضم جدران بوابة المدخل أول نص بالخط النسخي؛ والمقدمية (٥٤٥هـ/١١٥٠م)؛ والأسدية الجوانية (٥٦٤هـ/١١٦٨م)؛ والمدرسة الشعيبية (جامع الأتراس ٥٤٥هـ/١١٥٠م)، يضم إفريز الواجهة الخارجية زخارف نباتية ونصاً بالخط الكوفي المورق.
محراب المدرسة الحلوية الخشبي |
وفي الفترة الأيوبية بنيت ١٩ مدرسة خارج الأسوار، و١٤ مدرسة داخلها. وقد بنى الظاهر غازي المدرسة الظاهرية البرانية سنة ٦١٠هـ/١٢١٣م. وبدأ ببناء المدرسة الظاهرية الجوانية (السلطانية)، وتمت سنة ٦٢٠هـ/١٢٢٣م في عهد الملك العزيز محمد. وبنى الأتابك الهندي شاذبخت سنة ٥٨٩هـ/١١٩٣م المدرسة الشاذبختية [ر]، التي تضم أول محراب ببلاطات رخامية ملونة ومتشابكة؛ وأول بوابة مدخل مقرنصة. وبنت الملكة ضيفة خاتون سنة ٦٣٣هـ/١٢٣٥م مدرسة الفردوس، وبنى مؤرخ حلب كمال الدين بن العديم [ر] (٦٣٩-٦٤٩هـ/١٢٤١-١٢٥١م) المدرسة الكمالية العديمية (الطرنطائية)؛ وبُنيت المدرسة الشرفية سنة ٦٤٠هـ/١٢٤١م، وتتميز بقبتها المقرنصة.
محراب المدرسة الظاهرية الجوانية (السلطانية) |
مدخل مدرسة الفردوس |
تتألف مدارس العصر الأيوبي غالباً من باحة يحدّها من الجنوب قبلية مستطيلة مقسّمة ثلاثة أقسام: يسقف القسم الأوسط أمام المحراب قبة، وتسقف الطرفين قبوة مهدية، وعلى طرفي القبلية غرفتان؛ إحداهما أو كلتاهما مدفن. وعلى طرفي الباحة الشرقي والغربي غرف الطلاب المجاورين في طابق واحد أو طابقين، ويقع الإيوان في الطرف الشمالي من الباحة غالباً. وبنيت المدارس بالحجارة الضخمة المنحوتة جيداً، واقتصرت الزخرفة على المحاريب المزخرفة بألواح الرخام الملون المتشابك، كمحراب مدرسة الفردوس والسلطانية [ر]، والتي تُعدّ من أجمل محاريب العالم الإسلامي. كما زخرفت بوابات المداخل بالمقرنصات والنصوص الكتابية والنقوش الهندسية. ورصفت الأرضيات بالألواح الرخامية باللونين الأبيض والأسود بأشكال هندسية. وتميز العصر الأيوبي بالأعمال الخشبية الرائعة، منها محراب الإيوان في المدرسة الحلوية.
بُني في العصر المملوكي ٢٤ مدرسة، وسادت مدارس الجوامع، منها: المدرسة الناصرية (جامع الحيات [ر] ٧٢٧هـ/١٣٢٦م)، والصلاحية [ر] (٧٣٧هـ/١٣٣٦م)، والسفاحية [ر] (٨٢١- ٨٢٣هـ/١٤١٨-١٤٢٠م) والتي تتميز بواجهة المدخل وبمئذنة مثمنة مزخرفة، والمدرسة الصاحبية [ر] (جامع الفستق ٧٥٦هـ/١٣٦٢م)، وتضم أول قبلية مربعة مسقوفة بقبة واحدة بحلب.
المدرسة السفاحية |
وفي العصر العثماني المبكر والمزدهر (٩٢٢-١٢٦٣هـ/١٥١٦-١٨٤٦م) بنيت مدارس إسلامية تقليدية ضمن مجمعات كبيرة كالمدرسة الخسروية (٩٥١هـ/١٥٤٤م)، والعثمانية (١١٤٣هـ/١٧٣٠م)، والأحمدية[ر] (١١٦٥هـ/١٧٥١م)، والشعبانية [ر] (١٠٨٥هـ/١٦٧٤م). وأنشئت مدارس صغيرة كالكواكبية (١١٦٧هـ/١٧٥٣م) والسيافية [ر] (١٢٥٠هـ/١٨٣٤م) والهاشمية (١٣٠٨هـ/١٨٩٠م). وبُنيت المدرسة الإسماعيلية [ر] في فترة حكم إبراهيم باشا المصري (١٢٥٥هـ/١٨٣٩م).
المدرسة العثمانية |
وفي العصر العثماني المتأخر (١٢٦٣هـ/١٨٤٦م) أنشئت مدارس حكومية على الطراز الأوربي لتدريس العلوم الحديثة والعسكرية والصناعية، منها: المكتب الرشدي العسكري (١٣١٧هـ/١٨٩٩م)، والمكتب الإعدادي الملكي (١٣١٠هـ/١٨٩٢م)، ودار المعلمين [ر]، والتطبيقات الابتدائية. كما أنشئت مدارس تابعة للإرساليات التبشيرية كمدرسة الشيباني (١٢٧٦هـ/١٨٥٩م)، والمدرسة اليسوعية (١٣٠٠هـ/١٨٨٢م) وهي تضم كنيسة، وهناك مدارس وطنية أنشئت ضمن بيوت سكنية للمسلمين وللطوائف المسيحية واليهودية.
المكتب الرشدي العسكري _ العصر العثماني المتأخر |
دار المعلمين _ العصر العثماني المتأخر |
مدرسة الشيباني |
كنيسة المدرسة اليسوعية |
المشاهـد:
بنيت المشاهد فوق آثار الأنبياء أو آلهم أو أصحابهم. وهي غالباً تشبه الجوامع أو المدارس. ومن المشاهد الباقية في مدينة حلب:
مشهد المحسن: يقع غربي حلب على سفح جبل جوشن، وهو من آثار سيف الدولة. عُرف بمشهد الدِّكّة؛ لوجود دكّة كان يجلس عليها سيف الدولة. وهو المحسن ابن الحسين حفيد رسول الله ﷺ، وله ضريح يعلوه تابوت خشبي يضم نقوشاً وزخارف تعود إلى الفترة الأيوبية. وتحمل واجهات المبنى نقوشاً كثيرة تدل على تجديده من قبل نور الدين بن زنكي، والملك الظاهر غازي، وابنه الملك العزيز محمد، وحفيده الملك الناصر صلاح الدين يوسف الثاني، والسلطان عبد الحميد الثاني.
مدخل مشهد المحسن |
ومشهد الحسين [ر]: يقع على جبل الجوشن. بدئ ببنائه سنة 572هـ/1176م أيام الملك الصالح إسماعيل، وسّعه الظاهر غازي سنة ٥٨٥هـ/١١٨٩م، ورممه الظاهر بيبرس سنة ٦٦٠هـ/١٢٦١م بعدما خرّبه المغول. حُوِّل إلى مستودع للبارود خلال الحرب العالمية الأولى، فانفجر، وتخرب، ورممته مديرية الآثار سنة ١٣٨٧هـ/١٩٦٧م.
ومشهد الأنصاري [ر]: يقع جنوبي جبل الجوشن، أُسس في العصر السلجوقي سنة ٥٦٦هـ/١١٧٠م، وفيه قبر الصحابي سعد بن عبد الله الأنصاري. وقد دُثر، وجُدد سنة ٦٢٢هـ/١٢٢٥م. دمّره المغول، فأعاد بناءه الأمير قصروه سنة ٨٣٣هـ/١٤٢٩م، ووسّعه. وجدّده الأمير جاني بك المؤيدي سنة ٨٦٨هـ/١٤٦٣م. ثم رمم في العصر العثماني سنة ١١٦٨هـ/١٧٥٤م، وجُدّد بناء المشهد سنة ١٣٠٣هـ/١٨٨٥م.
دور المتصوفة:
بدأ التصوف يأخذ شكلاً مؤسسياً في مدينة حلب بدءاً من العصر السلجوقي، حين بُنيت الخانقاه الأولى، وهي خانقاه البلاط (جامع أصلان دادا ٥٠٩هـ/١١١٥م). ثم بُنيت ١٢ خانقاه، منها خانقاه أنشأها مجد الدين أبو بكر محمد بن الداية (ت٥٦٥هـ/١١٦٩م) ضمن جامع الصالحين. وبنيت في العصر الأيوبي ١٦ داراً، منها خانقاه الفرافرة (الرباط الناصري، خانقاه باب الأربعين). وانتشر التصوف في الفترة المملوكية، وبنيت ٣٩ داراً (زاوية وخانقاه، وتكية)، منها تكية النسيمي، وفيها ضريح عماد الدين النسيمي (ت٨٢٠هـ/١٤١٧م)، وزاوية الشيخ يبرق (٨٧١هـ/١٤٦٦م). وانتشر التصوف في الفترة العثمانية على نحو كبير، وتعدّدت طرقه (القادرية، الرفاعية، الخلوتية، المولوية..)، وبنيت ٥ تكايا وزوايا كبرى، هي: الخسروية (سبق ذكرها)، والمولوية (٩٣٧هـ/١٥٣٠م)، والوفائية (أواخر القرن ١٠هـ/١٦م)، والرفاعية (١٠٤٤هـ/١٦٣٤م)، والصيادية (١٢٩٥هـ/١٨٧٨م). وبُني ١١ داراً صغرى و٤ دور ضمن المساجد؛ كالزاوية الهلالية (١١٤٧هـ/١٧٣٤م)، وتضم القبلية فيها (٤٠) خلوة خشبية للاعتكاف، وزاوية أصلان داده (١٠٨٢هـ/١٦٧٢م). هذا عدا الزوايا الملحقة بالمساجد والمدارس والبيوت السكنية.
زاوية الشيخ يبرق (البراقية) |
تشابهت دور المتصوفة والمدارس المعاصرة لها من حيث التصميم والزخرفة، وامتاز العصر العثماني بظهور الميدان الذي تجري فيه حفلات السماع.
صحن التكية الصيادية |
التكية الوفائية |
المدافن والترب:
أنشئت المدافن والترب في الفترة الأيوبية ملحقة بالمدارس وبالخانقاهات والربط، كمدفن الظاهر غازي في المدرسة السلطانية، ومدفن المدرسة الأنصارية. كما أنشئت مدافن مستقلة أغلبها دُثر. وما تزال مدافن مستقلة عديدة موجودة إلى اليوم، منها من الفترة المملوكية: مدفن أوغلبك (٨٨١ هـ/١٤٧٦م) يتألف من غرفة مربعة تسقفها قبة. ومدفن خاير بك (٩٢٠هـ/١٥١٤م)، وتربة أزدمر (ت ٨٩٩هـ/١٤٩٣م) وزوجته سورباي (ت: ٨٩٣هـ/١٤٨٧م). وتربة أنشأها مصرباي الأشرفي نائب القلعة (٩٠١هـ/١٤٩٥م). ومن الفترة العثمانية تربة كوهر ملكشاه أنشأها محمد باشا دوقاكين (٩٥٩هـ/١٥٥١م). وتربة أنشأها أحمد باشا موتياب (١٠٠٤هـ/١٥٩٥م).
تربة المدرسة الأنصارية |
تربة موتياب |
الكنائس:
تتجمع الكنائس الأولى للطوائف المسيحية الأربع التي كانت في حلب قبل أن تجري كثلكة بعضهم بتأثير البعثات التبشيرية الأوربية في القرنين ١١و١٢هـ/١٧ و١٨م غربي الضاحية الشمالية، وفي محلة الصليبة اليوم:
- كنيسة الأربعين شهيداً للأرمن الغريغوريين: يعتقد أن بناءها يعود إلى القرن ٥هـ/١١م، وسّعت بين سنتي ٩٠٥-٩٠٧هـ/١٤٩٩-١٥٠١م من الجهة الغربية. ثم وسّعت سنة ١٠٢٥هـ/١٦١٦م، وبُنيت الكنيسة ذات الهياكل الثلاثة والأيقونستاس (حاجز يفصل صحن الكنيسة عن الهيكل تعلق عليه الأيقونات) من خشب الأبنوس المزخرف، وهو يضم لوحات فنية جميلة وقديمة رسمت بأيدي فنانين حلبيين من المدرسة الحلبية التي أسسها يوسف المصور والخوري نعمة الله. وتضم الكنيسة مكتبة غنية بالكتب والمخطوطات النادرة المزدانة بالمنمنمات.
برج كنيسة الأربعين شهيداً |
- كنيسة الروم الأرثوذكس (كنيسة السيدة العذراء): يعتقد أنها أقيمت على أنقاض كنيسة تعود إلى القرن ٩هـ/١٥م، جددت ووسعت سنة ١٢٦٨هـ/١٨٥١م، وتضم مكتبة غنية بالمخطوطات والكتب وتعد من أجمل الكنائس الحلبية وأكثرها نقوشاً وزخارف حجرية وخشبية ونحاسية.
- كنيسة السريان الأرثوذكس تم بناؤها قبل نهاية القرن ٩هـ/١٥م.
وتفضي ساحة فرحات إلى ثلاث كنائس كاثوليكية، هي:
- كنيسة الروم الكاثوليك (١٢٦٠هـ/١٨٤٩م) باسم السيدة العذرا: تضم أيقونة للسيدة العذراء من رسم حنانيا المصور من القرن ١٢هـ/١٨م. أجمل ما في الكنيسة الأيقونستاس، أنشئ سنة ١٢٧٩هـ/١٨٦٢م بعد الحريق الذي شب في الكنيسة، وهو رخامي أبيض منقوش بالفسيفساء الحلبية الملونة والمطعّمة بالصدف الأبيض.
- كنيسة الموارنة: بُنيت سنة ١٢٩٠هـ/١٨٧٣م على نمط كنيسة مريم العظمى في روما. وهي من أفخم الكنائس في حلب، جُدِّدت قبتها سنة ١٣٣٣هـ/١٩١٤م، وجعلت من الإسمنت المسلح. نقلت خزانة الكتب والمخطوطات منها إلى مبنى المطرانية في العزيزية.
الكنيسة المارونية |
- كنيسة الأرمن الكاثوليك: فتح لها باب آخر على شارع التلل.
بُنيت الكنائس الحلبية على نظام البازيليك، وفوق الأروقة الجانبية غالباً علّية لجلوس النساء (سابقاً). إن واجهات الكنائس عادية، وإن غنى الكنيسة من الداخل واضح على حامل الأيقونات وعلى المذبح نفسه.
الأبنية الاقتصادية (التجارية والصناعية)
الأسواق:
نشأت الأسواق (المدينة) حول الشارع المستقيم الواصل بين باب أنطاكية والقلعة وحول الجامع الأموي الكبير، وأصبحت مركزاً للمدينة ومكاناً لتجمع الفعاليات التجارية. فيها تجار مسلمون ومسيحيون ويهود. وتباع فيها جميع المواد، أحرقها نقفور فوكاس أيام سيف الدولة، وعادت للازدهار والتوسع خلال الفترة السلجوقية والأيوبية. ثم دُمّرت مع هجوم هولاكو. وعادت للازدهار ثانية في العصر المملوكي، وقام الولاة والأمراء ببناء مجمعات وقفية من الأسواق والخانات. وأنشئت مبانٍ كثيرة للمهن والحرف. ثم دُمرت الأسواق في محنة تيمورلنك، وعادت للازدهار في الفترة المملوكية الثانية.
وشهدت في منتصف القرن ٩هـ/١٥م ازدهاراً اقتصادياً عظيماً عندما دخلت حلب في شبكة التجارة العالمية، وأصبحت على طريق التجارة الدولية بالحرير. وتوسعت الأسواق في الفترة العثمانية، وتضاعفت مساحتها، واشتملت على ٥٦ سوقاً منفصلة و٥٣ خاناً؛ إضافة إلى الطرقات المتداخلة والمتشابكة المكتظة بالحوانيت والمشاغل والمساجد والحمامات والخانات. وقد أسهمت أبنية الوقف في حركة البناء على نحو كبير خاصة في القرن ١٠هـ/١٦م، كان أغلبها بجوار الأسواق المركزية. منها وقف خسرو باشا، وهو أقدم وقف عثماني في حلب (٩٤٤-٩٥٤هـ/١٥٣٧-١٥٤٧م) خططه المعمار سنان، يضم جامعاً ومدرسة وتكية، كانت تغطي أوقافها المناطق المجاورة من الجهات الأربع، وتضم دكاكين وقيسريات وخانات .. كلها دثرت، ولم يبقَ منها سوى خان الشونة. ووقف إبراهيم خان زادة محمد (٩٨٢هـ/١٥٧٤م) حول خان الجمرك الكبير، يضم ٣٤٤ مخزناً وسبيلين ومسجداً صغيراً في باحة الخان. ووقف دوقة كين زادة محمد باشا (٩٦٣هـ/١٥٥٥م)، ويضم جامع العادلية. ووقف بهرم باشا (٩٩١هـ/١٥٨٣م)، ويضم جامعاً كبيراً وسوقين وحوانيت وقيسارية. وهناك خارج الأسواق وقف أبشير باشا (١٠٦٤هـ/١٦٥٣م) في حي الجديدة، يضم جامعاً صغيراً وكُتّاباً، ويلحق به أسواق وخانات وقيسريات وسبلان وطواحين ومقهى.
يقدر طول أسواق المدينة بخمسة كيلومترات، جُدّدت في فترات متباينة، وهي أسواق متخصصة: سوق العطارين، وسوق الحبال، وسوق القطن، وسوق بالستان (الحراج) للسجاد والبسط، وسوق الصرماياتية (الأحذية)، وسوق لصياغة الذهب والفضة والأحجار الكريمة، وهي من الصناعات القديمة المهمة في حلب، وما تزال.
وهناك لصناعة الحديد سوقها الخاصة في باب الحديد (في قبو النجارين)، ما يزال موجوداً، وتستعمل فيه الطرق القديمة: الكوز والمطرقة والسندان، وتنتج المسامير الكبيرة وأدوات الزراعة... وكان لصناعة النحاس سوقها الخاصة ضمن أسواق المدينة قرب خان النحاسين، نقل إلى خارجها قرب باب النصر.
إن معظم الأسواق مغطاة بقبوات مهدية فيها فتحات سقفية لجلب النور والهواء، وسقفت أجزاء منها بقباب قرميدية لها مناور. ورصفت الشوارع بالأحجار البازلتية، وجُعل على كلا طرفيها مجرى لتصريف مياه الأمطار.
الخانات:
ليس ثمة إشارات تدل على وجود خانات داخل الأسوار قبل العصر المملوكي؛ في حين تذكر بعض المصادر خانات كثيرة عند أبواب المدينة. وجدت الخانات داخل المدن لتصريف أمور التجارة في حين اتخذت الخانات الواقعة في الضواحي وعلى أطراف المدينة وبالقرب من أبوابها لتفريغ البضائع أو لتعبئتها. ويتألف الخان غالباً من باحة يتوسطها أحياناً مسجد، وتحيط بها غرف تتقدمها أروقة على طابقين؛ يخصص الطابق الأرضي لعرض البضائع ولمكاتب التجار والشركات، والطابق العلوي للمبيت. بلغ عدد الخانات في منتصف القرن ١٢هـ/١٨م ٦٨ خاناً، وفي نهاية القرن ١٣هـ/١٩م أُحصي ١٥ خاناً ضمن الأسواق. يسكن في قاعات الطابق الأول من الخانات الكبرى عدد من التجار الغربيين وعائلاتهم وقناصلهم.
من أهم خانات الفترة المملوكية خان القاضي (٨٥٤هـ/١٤٥٠م)، وهو أقدم خان مازال قائماً، وخان الصابون (أزدمر) (ت:٨٩٩هـ/١٤٩٣م)، وتُعدّ واجهته الخارجية أجمل واجهات الخانات المملوكية، وخان خاير بك (٩٢٠هـ/١٥١٤م)، وخان أبرك (٩١٦هـ/١٥١٠م) (القصابية: للمشتغلين بصناعة القصب الذهبي والفضي)، وأوج خان شمال باب النصر، بقي منه مدخله. وهناك من الفترة العثمانية: خان الوزير (١٠٩٣هـ/ ١٦٨٢م) أنشأه والي حلب قره مصطفى باشا، ثم صار وزيراً؛ فسمي بخان الوزير. هدمت الغرف شمالي الباحة، واقتطع جزء من الخان عند فتح الشارع الواصل بين الجامع الكبير والقلعة سنة ١٣٧١هـ/١٩٥١م، وأعيد بناء غرف عوضاً منها. ويتميز الخان بواجهتي الجزء الغربي الخارجية والداخلية. وخان الجمرك (٩٨٢هـ/١٥٧٤م). وفي أواخر العصر العثماني ظهرت الفنادق الحديثة العديدة، من أهمها فندق بارون سنة ١٣٢٩هـ/١٩١١م.
مدخل خان الصابون |
خان الوزير - واجهة خارجية |
القيسريات:
تشبه القيسريات الخانات إلا أنها أكثر تواضعاً. وقد كانت - وما زالت - مقراً لكثير من الصناعات التقليدية كالنسيج والصباغة والدباغة والخياطة. ويسكن بعضها مجموعة من العائلات الفقيرة.
اشتهرت مدينة حلب منذ بداية العصور الإسلامية بصناعة المنسوجات الحريرية والقطنية والأطلس. وأصبحت في القرن١٠هـ/١٦م أحد أهم مراكز صناعة النسيج في الدولة العثمانية. ويُقدّر عدد المشتغلين فيها سنة ١٠٦٥هـ/١٦٥٤م بالآلاف. وتُصدّر منتوجاتها إلى العراق والعجم والأفغان والهند والأناضول. تُحضّر الخيوط، وتُصبغ، ثم تُوزّع على الصُّنّاع؛ لتُنسج في قيسرياتهم أو بيوتهم. وكان في مدينة حلب ١٥٠٠٠ نول يحاك عليها مختلف أنواع المنسوجات، ويعمل عليها ٦٠٠٠٠ عامل، أصبح عددها سنة ١٢٧٤هـ/١٨٥٨م ٢٨٠٠ نول. وعلى الرغم من أن التقارير القنصلية في منتصف القرن ١٣هـ/١٩م تشير إلى تدني عدد الأنوال بسبب اكتساح الأقمشة البريطانية الأسواق؛ تشير مراجع أخرى إلى أن صناعة النسيج في حلب ظلت مزدهرة؛ مما دعا إلى تسميتها بمانشستر الشرق. وكان في حلب سنة ١٣٤٠هـ/١٩٢١م ١٢٤ مصنعاً للخام، و٢٤٧ مصنعاً للمنسوجات الغزلية، و١٥٩ مصنعاً للمنسوجات الحريرية، و١١٧ مصنعاً للأغباني. وكان في محلة قسطل الحرامي قيسريات عديدة للنسيج، وفي المرعشلي قيسارية فيها ٥٥ نولاً، وفي حارة البساتنة عدة مصانع، وفي حارة محب ٣ قيسريات، وفي خراب خان قيساريتان: في إحداهما ٣١ نولاً، وفي الثانية ٩ أنوال. وأكبر هذه القيسربات قيسرية الملقي في حي باب النصر.
كانت الصباغة من أهم الصناعات في مدينة حلب؛ ودرب الصباغين من العصر الأيوبي. وكان دَخْل البلد من صبغ الحرير أيام الملك الناصر يوسف الثاني ٨٠ ألفاً. قامت المصابغ في القرن ١١هـ/١٧م في بانقوسا، ثم خارج باب النصر. وكانت دكاكين الصباغة متعددة وممتدة من سوق أقيول الفوقاني شمالاً حتى سوق الصغير جنوباً، ومن جامع البهرمية حتى باب أنطاكية. وهناك مصابغ متفرقة في بعض الأحياء الأخرى. وكان القماش العجمي والكلزي والحموي سنة ١٠٩٨هـ/١٦٨٦م يُصبغ في حلب، ويصدر إلى كتالونيا وسواحل إسبانيا، وكان القماش الهندي سنة ١١٢٩هـ/١٧١٦م يُصبغ في حلب. وكان هناك سنة ١٢٥٦هـ/١٨٤٠م ١٠٠ مصبغة ومطبعة قماش عمل فيها قرابة ١٥٠٠ عامل. وكان هناك نحو سنة ١٣١٦هـ/١٨٩٨م ١٠٠ مصبغة بالنيل، و٣٠ مصبغة ملونة. أصبح في سنة ١٣٤٠هـ/١٩٢١م ٢٧ مصبغة بالنيل و٥٦ مصبغة للغزل والحرير.
دخلت حرفة الطبع على الأقمشة من جنوب شرقي آسيا. تنقش الأشكال على الخشب بعد رسمها، ثم تطبع بها الأقمشة بالألوان. ويتم طبع المناديل في الكرخانة (المعمل)، وتُصدّر إلى جزيرة العرب وأرمينيا وجبال الأكراد. وكان في مدينة حلب نحو ٥٠ كرخانة. ويقع سوق المناديل شرقي الجامع الكبير.
كما كان في حلب قرابة ٣٠ طاحونة منتشرة على طول مجرى النهر، ونحو ٨٠ مداراً (مطحنة تديرها الدابة) مبعثرة في أنحاء المدينة لصناعة النشاء، أو لتقشير القمح لصنع البرغل. وأُنشِئت سنة ١٣٢٥هـ/١٩٠٧م مطحنتان بخاريتان تنتجان الطحين والجليد.
قامت حرفة الدباغة لتوفر الجلود من الثروة الحيوانية. وكان دخْل مدينة حلب أيام الملك الناصر يوسف الثاني ١٥٠٠٠٠ درهم من المدبغة. وكانت الدباغة داخل الأسوار، ثم نُقلت سنة ٩٨٢هـ/١٥٨٤م إلى غربي باب أنطاكية على نهر قويق، فدعيت المنطقة داخل الأسوار بالدباغة العتيقة. وكانت الجلود والخيوط والمواد اللاصقة من إنتاج محلي، ويجتمع العمال في قيسريات المدينة أو أحياء أخرى.
تعود صناعة الزجاج، وطلاء الأواني الزجاجية بالميناء وتمويهها بالذهب، إلى الفترة السلجوقية في حي الزجاجين (في الجلوم الكبرى). وازدهرت في العصرين السلجوقي والأيوبي في القرن ٦هـ/١٢م بسبب الاستقرار والانتعاش الاقتصادي. ووصلت إلى درجة رفيعة من التقدم في عهد الظاهر غازي وسلالته. وكان يصدر منها إلى العراق، ويُتباهى بها في قصور الخلفاء، وكانت تصنع فيها القنينات والقماقم والصحاف والقناديل. والقمقم (بركة ادينهال) المحفوظ بمتحف فيكتوريا وألبرت بلندن يرجع إلى صناعة حلب في منتصف القرن٧هـ/١٣م.
تراجعت هذه الصناعة إثر هجوم هولاكو سنة ٦٥٨هـ/١٢٦٠م ورحيل الصناع إلى دمشق والساحل ومصر وسمرقند.
إن صابون حلب المصنوع من زيت الزيتون والغار كان وما يزال ذا شهرة عالمية، ويُصدر إلى الدول العربية والأجنبية. وكانت المصابن قرب باب قنسرين، ثم انتقلت إلى حي المصابن، وكان في حلب سنة ١٣٤٣هـ/١٩٢٥م ١٥ مصبنة. وتتألف المصبنة من باحة حولها مبنى من طابقين: خُصّص الطابق الأرضي لتحضير الصابون وغليه ضمن قاعات تضم أحواضاً كبيرة مجهزة بخلاط (كهربائي حالياً)، وينقل الصابون بعد نضجه (بالمضخات حالياً) إلى الطابق الأول، حيث يصب، ويجفف، ثم يقطع. ومن المصابن الباقية:
مصبنة الزنابيلي في ترب الغربا، أنشئت ضمن خان مملوكي سنة ٩١٦هـ/١٥١٠م حُوِّل إلى مصبنة سنة ١٢٥٥هـ/١٨٣٩م. وداخل باب النصر مصبنتان: الأولى للزنابيلي سنة ١٢٤٠هـ/١٨٢٤م، وهي من أوقاف المدرسة العثمانية تجاه بابها الغربي. والأخرى تجاه بابها الشمالي المسدود.
بلغ عدد الحِرَف في حلب سنة ١٢٢٧هـ/١٨١٢م ١٢٠٠٠ حرفة، أهمها المنسوجات الحريرية الموشاة بالذهب، والعديد من المنسوجات القطنية والكتان والصوف والسجاد والصياغة والخشب والدباغة والصباغة والحبال ومعاصر للزيتون والصابون.. بيد أن انهيار الدولة العثمانية جلب لهذه الصناعات خسارات فادحة، فقد أغلقت أسواق التصريف التي كانت متاحة في الأناضول والبلقان ومصر والعراق بسبب الحواجز الجمركية.
البيوت السكنية:
تقوم الأحياء السكنية في مدينة حلب القديمة حول مركزها (المدينة). وكان السكان أحياناً خليطاً مسلمين ومسيحيين، عرباً وأرمن، ويسود الترابط والتفاهم الحياة في الحي. والمنزل عقار مسور فيه باحة توفر الدخول إلى الغرف والاتصال مع الطبيعة (الهواء والشمس والنبات والظل والماء). ويتميز ببساطته من الخارج وغناه من الداخل، حيث زُخرفت الأرضيات والسقوف والجدران بشتى أنواع الزخارف في بيوت الطبقة الغنية، والتي غالباً تضم ثلاثة أقسام: قسم السلاملك (الاستقبال) وقسم الحرملك (للأسرة) وقسم الخدم. ويُلفى الإيوان دائماً في البيوت الكبيرة حتى المتواضعة منها، وينفتح شمالاً على الباحة. وقد يُبنى إيوان آخر شتوي موجهاً إلى الجنوب كما في بيت جنبلاط [ر]. ولا تكون القاعة على شكل حرف T مقلوبة إلا في البيوت الفخمة التي بنيت بين القرنين 10 - 12هـ/16 - 18م، وهي مؤلفة من عتبة كبيرة تسقفها غالباً قبة، وتتوسطها بركة ماء. وعلى أطرافها الثلاثة أواوين مرتفعة. قد تُكسى جدرانها بالخشب المدهون بالعجمي كبيت وكيل الذي نُقلت خشبياته إلى ألمانيا، وبيت دهّان داخل باب قنسرين (١٣١٦هـ/١٨٩٨م). ولا يُلفى الحمام إلا في البيوت الميسورة كبيت غزالة.
قصر جنبلاط - الإيوان الجنوبي |
من البيوت الحلبية التقليدية بيت أجقباش [ر] (متحف التقاليد الشعبية)، وبيت بليط (١١٧٠هـ/١٧٥٦م)، وبيت باسيل [ر] (القرن ١٢هـ/١٨م) في حي الجديدة. وبيت قطرغاسي (١٢٤١هـ/١٨٢٥م) في حي الفرافرة. وزخرف بيتا أسعد الجابري (١٣٢١هـ/١٩٠٣م) ومامو (١٢٥٤هـ/١٨٣٨م) بأسلوب متأثر بالزخارف الأوربية.
بيت أجقباش |
بيت قطرغاسي |
بيت مامو |
بُني في أواخر العصر العثماني العديد من المنازل في الأحياء الجديدة (العزيزية والجميلية..) ذات واجهات جميلة مطلة على الشارع ومتأثرة بعمارة عصر النهضة والباروك في أوربا، وقصور السفراء في القرن١٢هـ/١٨م في إسطنبول. يتحلق المنزل حول فراغ مركزي هو الصالون. من هذه الدور قصر الولاة (ثانوية معاوية)، أنشأته بلدية حلب سنة ١٣١١هـ/١٨٩٣-١٨٩٤م سكناً للولاة. واشترته الإدارة العسكرية سنة ١٣٣٤هـ/١٩١٥م، ونزلت عنه إلى دائرة المعارف. وفي حي العزيزية بيت الخوري (١٢٨٦هـ/١٨٦٩م)، وبيت غزالة (المشفى الإيطالي ١٣١٥هـ/١٨٩٧م)، ودار أسود (مشفى قسيس ١٣٣٥هـ/١٩١٦م).
قصر الولاة (ثانوية معاوية) |
بيت غزالة (المشفى الإيطالي) |
السبلان والقساطل:
رمم الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك قناة حيلان، وأوصل الماء إلى الجامع الأموي الكبير. وأوصلها نور الدين محمود بن زنكي إلى باب أنطاكية. ثم أصلح الظاهر غازي القناة، وأنشأ ٦٥ قسطلاً خدّمت كامل أحياء المدينة. وكان هناك سنة ١٣٤٣هـ/١٩٢٥م ٢٥٨ سبيلاً وقسطلاً في المدينة تعود إلى فترات زمنية مختلفة، وأنشئت قرب المساجد والمدارس وفي الشوارع الرئيسية والأسواق.. واختلفت زخارفها من فترة زمنية إلى أخرى قد تحمل اسم المنشئ وتاريخ البناء. منها قسطل أمام المدرسة الإسماعيلية، يُعتقد أنه قسطل الظاهر غازي الذي ذكرته المراجع عند باب الأربعين، وقد رُمم لاحقاً. وفي الفترة المملوكية أوصل الأمير أرغون الكاملي مياه الساجور إلى حلب سنة ٧٣٣هـ/١٣٣٣م. وبُنيت القساطل والسبلان غالباً بواجهات على شكل إيوان تتقدمه قوس كبيرة، وتضم نقوشاً مختلفة ورنوكاً، منها: قسطل الحرامي قرب جامع برد بك، وسبيل أزدمر، وسبيل اليشبكية أنشأه يشبك بن عبد الله، وجُدّد سنة ١٢٤٠هـ/١٨٢٤م.
ومن الفترة العثمانية سبيل البيك (١٢٤٣هـ/١٨٢٧م)، وسبيل الجزماتي (١١٨٦هـ/١٧٧٢م)، وسبيل الجلبي (١١٦٦هـ/١٧٥٢م)، وسبيل الجالق قديم جُدّد سنة ١٢٣٨هـ/١٨٢٢م، وزخرف بأسلوب العصر العثماني المتأخر.
سبيل البيك |
تُزوّد السبلان والقساطل بالماء من قناة حيلان، أو من صهريج، أو من بئر، أو من فائض قسطل.. يتكون السبيل من غرفة صغيرة في وسطها خزان، وتنفتح على الخارج بنافذة كبيرة ( قد تصل إلى أربع نوافذ في الجهات الأربع) مزودة بقضبان حديدية، وتعلوها قوس كبيرة مدببة.
البيمارستانات (دور الشفاء) والمستشفيات:
البيمارستانات (دور المرضى) هي مستشفيات جامعية تقوم بمداواة المرضى وتعليم الطب في جميع الاختصاصات. تحوّلت مع الأيام إلى مأوى للمجانين. وهي تشبه في عمارتها المدارس، ولكنها دون قِبْلية.
من البيمارستانات الباقية في مدينة حلب:
- البيمارستان النوري [ر]: أنشأه نور الدين محمود بن زنكي (٥٤١-٥٦٩هـ/١١٤٦–١١٧٣م)، سُمي بالبيمارستان العتيق بعد بناء البيمارستان الأرغوني. ويتميز ببوابة مدخل وباب يعودان إلى العصر السلجوقي. أنشئت قاعة صيفية للنساء مع إيوان في العصر الأيوبي. وبني الإيوان الثاني، وأحدثت النافذة قرب مدخله سنة ٨٤٠هـ/١٤٣٦م.
- البيمارستان الأرغوني (دار الشفاء): أنشأه الأمير سيف الدين أرغون الكاملي سنة ٧٥٥هـ/١٣٥٤م، ويضم ثلاثة أجنحة للمرضى وعيادة خارجية وصيدلية. من تلامذته ابن سلوم الحلبي.
البيمارستان الأرغوني |
- المستشفى الحميدي (الغرباء أو الوطني): أنشأه السلطان عبد الحميد خان الثاني سنة ١٣١٥هـ/١٨٩٧م، ويضم ٣٢ غرفة، وفيه غرف للمعاينة والانتظار والممرضين والعمليات.
مشفى الغرباء (الوطني) |
- مستشفى القديس لويس (١٣٢٥هـ/١٩٠٧م).
بُنيت المخافر في الفترة العثمانية في مداخل المدينة القديمة؛ كمخفر باب الحديد (1000هـ/1591م). ومخفر باب النصر. وفي الأحياء السكنية كمخفر قسطل الحرامي (1300هـ/1882م) ومخفر العزيزية (1316هـ/1898م).
مخفر العزيزية |
وبُني في أواخر العصر العثماني العديد من الأبنية الحكومية والعامة، أهمها:
برج الساعة في ساحة باب الفرج (1316هـ/1898م) فوق بقايا قسطل السلطان سليمان القانوني. ومصرف زراعي (1328هـ/ 1910م)، ومحطة بغداد للسكك الحديدية (1328هـ/1910م)، ومبنى لدائرة المعارف (1329هـ/1911م).
برج الساعة وسط ساحة باب الفرج |
المصرف الزراعي- منظر خارجي |
محطة بغداد - المدخل |
ونُظِّم متنزه السبيل (1314هـ/1896م) الذي يضم بئراً مزودة بدولاب هوائي، وحديقة المنشية (1318هـ/1900م). وبوشر بإنشاء دار الحكومة (السراي الجديدة) تجاه باب القلعة سنة 1335هـ/1916م، وانتهت في فترة الانتداب الفرنسي.
الحمامات:
أحصى ابن شداد في العصر الأيوبي ٦٨ حماماً داخل الأسوار، و٧٠ حماماً خارجها، و٢٥ حماماً في البساتين المحيطة بالمدينة و٣١ حماماً خاصاً، أي ما مجموعه ١٩٤ حماماً. منها حمام السلطان الذي بناه الظاهر غازي أمام القلعة. وكان هناك في العصر المملوكي في القرن٩هـ/١٥م ٣٤ حماماً ضمن الأسوار و١١ حماماً خارجها؛ ممّا يشير إلى تناقص عدد سكان المدينة في هذه الفترة. ومن هذه الحمامات: حمام الصالحية الذي أنشأه أزدمر بن عبد الله الجركسي نحو سنة ٨٩٠هـ/١٤٨٥م، ورُمم في العصر العثماني سنة ١١٢٢هـ/١٧١٠م، وحمام أنشأه النائب يلبغا الناصري (ت:٧٩٣هـ/١٣٩٠م)، تخرب مع هجوم تيمورلنك سنة ٨٠٣هـ/١٤٠٠م، واستُعمل في أوائل القرن ١٤هـ/٢٠ م لصناعة السجاد فسمي حمام اللبابيدية. رممته مديرية الآثار سنة ١٣٨٠هـ/١٩٦٠م، واستثمر لمصلحة وزارة السياحة سنة ١٤٠٦هـ/١٩٨٥م. وحمام باب الأحمر أنشأه الأمير أوغلبك. ومن حمامات الفترة العثمانية حمام مصطفى باشا، وهو الآن مقسم إلى قسمين أحدهما مستودع، والآخر مكتب. وحمام بهرم، وهو وقف البهرمية.
حمام يلبغا الناصري |
مدخل حمام بهرم |
مطاهر عامة (كنيف):
هناك مطهرة في سوق الصاغة يعود بناؤها إلى القرن 6هـ/12م، وجدّدها سنة 758هـ/1357م نائب حلب الأمير طاز في عهد السلطان المملوكي قلاوون، لها مدخل غني بالزخارف والمقرنصات. ومطهرة غرب الجامع الكبير (القرن7هـ/13م) جُدّدت سنة 1003هـ/1594م.
المقاهي:
ظهرت في نهاية القرن ١٠هـ/١٦م بعد انتشار شرب القهوة بين الرجال والشبان. وظهرت مقاهٍ عديدة تروى فيها الحكايات، وتُقرَأ فيها الأشعار، وتُنشد فيها الأغاني. وقد تحول عدد كبير منها إلى دكاكين. وأول هذه المقاهي مقهى أبشير باشا، أوقفه والي حلب مصطفى باشا بن عبد المنان سنة ١٠٦٢هـ/١٦٥٢م، وهو من أكبر المقاهي. وثانيها المقهى الجديد (١١٦٦هـ/١٧٥٣م) من أوقاف المدرسة الأحمدية. ومنها مقهى بليط الذي يقع في الطابق الأول من خان قورت بك، بُني في نهاية القرن ١٣هـ/١٩م، ومقهى أصلان دده؛ وهو جزء من المدرسة الجرديكية التي بناها الأمير عز الدين جرديك النوري سنة ٥٥١هـ/١١٥٧م، وقد خربت، وأقيم فيها المقهى سنة ١٢٨٧هـ/١٨٧٠-١٨٧١م.
واجهة مقهى أبشير باشا |
لمياء جاسر
- التصنيف : آثار إسلامية - المجلد : المجلد الخامس مشاركة :