الأندلس (الآثار الإسلامية في -)
اندلس (اثار اسلاميه في )
-
الأندلس (الآثار الإسلامية في -)
نجدة خماش
الآثار الإسلامية التي لا تزال باقية في الأندلس
أطلق العرب على شبه جزيرة إيبريا (إسبانيا) اسم الأندلس، والمغاربة هم أصحاب هذه التسمية ويعنون بها بلاد الفندال، وكانوا قد قدموا إلى المغرب منها، ومنهم أخذها العرب. وتطلق تسمية الأندلس اليوم على المنطقة الواقعة جنوبي إسبانيا، وتضم محافظة المرية (Almeria) وقادش (Cadiz) وقرطبة (Cordoba) وغرناطة (Grenada) وخلوه (Huelue) وجيان (Jaen).
دخل المسلمون القادمون من إفريقيا الشمالية إلى إسبانيا سنة 93هـ/711م، واستطاعوا في أقل من عامين أن يزيحوا حكامها من القوط الغربيين، وأضحت إسبانيا تابعة للدولة الأموية وخليفتها المقيم في دمشق، وعندما نجح عبد الرحمن ابن معاوية بن هشام بن عبد الملك في الهرب من اضطهاد العباسيين، وتأسيس إمارة في الأندلس سنة 138هـ/755م اتخذ قرطبة عاصمة له، وشهد القرن الثاني والثالث والرابع الهجري نمو سلطة الأمويين وازدهار مدينة قرطبة معاً، وفي سنة 317هـ /929م اتخذ عبد الرحمن الثالث (300-350هـ/912-960م) لقب خليفة؛ فقد ضعف الخلفاء العباسيون وفقدوا سلطتهم عندما سيطر القواد الأتراك على بغداد مركز الخلافة، كما اتخذ الفاطميون لقب الخلافة، وبذلك زالت الظروف التي جعلت جدَّه عبد الرحمن الداخل يمتنع عن اتخاذ هذا اللقب احتراماً لفكرة وحدة الخلافة.
استمرت الخلافة في قرطبة زهاء ثمانين عاماً كانت العصر الذهبي للأندلس الإسلامية، ثم بدأت تتداعى منذ سنة 399هـ/1009م، وعرفت الأندلس عهداً من الفوضى والاضطراب، وظهر عدد كبير من الملوك عرفوا بملوك الطوائف، فتقاسموا سلطة خلفاء قرطبة، واستغلّ ذلك مسيحيو شبه الجزيرة لإعادة الاستيلاء على إسبانيا.
ولإيقاف الكارثة قام الأمراء أو على الأقل أكثرهم قوة وهو ملك إشبيليا باستدعاء المرابطين لنصرتهم، فاستطاع هؤلاء إزالة الخطر المسيحي بانتصارهم في معركة الزلاقة المشهورة سنة 479هـ/1086م، ثم استولى يوسف بن تاشفين أمير المرابطين على حواضر ملوك الطوائف الواحدة تلو الأخرى عندما رأى مطامعهم وعدم تضامنهم في الوقوف في وجه الخطر الإسباني.
ظل حكم المرابطين مستقراً في الأندلس حتى سنة 537هـ/1143م، ثم اضطربت أمور دولتهم بظهور حركة الموحدين في المغرب الذين أجهزوا على حكم المرابطين باحتلال مراكش سنة 541هـ/1147م، ونجح أبو يعقوب يوسف الأول (558-580هـ/1163-1184م) ابن مؤسس الدولة عبد المؤمن بعد تسع سنوات من الجهاد من ضم الأندلس الإسلامية إلى الموحدين.
انتهت دولة الموحدين سنة 667هـ/1269م عندما قتل آخر سلطان موحدي، ولكن التفكك كان قد بدأ في نحو سنة620هـ/1223م عندما بدأ النصارى الإسبان عمليات توسعهم العظمى في إسبانيا "أراغوان" في الشرق، وقشتالة في الوسط والبرتغال في أقصى المغرب، وتجاه عجز الموحدين عن حماية الأندلسيين قام بالمهمة زعماء محليون كان أوسعهم نفوذاً ابن هود، وبعده ابن الأحمر فخلعوا سلطان الموحدين وحاربوهم. ومما زاد في تعقيد وضع الإسلام في الأندلس استغلال الإسبان هذا الوضع ليطووا الجزيرة طيّ السجل بحسب تعبير المؤرخين القدماء، وإذا كان ما احتلوه مهماً من حيث الكم إلا أنه كان أكثر أهمية من حيث الكيف، ذلك أن حواضر الإسلام الكبرى في الأندلس هي التي سقطت في هذه الفترة: قرطبة، إشبيليا، ڤالنسية، جيان، وكاد الإسلام ينتهي نهائياً من شبه الجزيرة لولا تشبث بقية باقية منهم بالشعاب الوعرة لسييرا نفادا أي سلسلة الجبال الثلجية في أقصى الجنوب حيث أقاموا فيها دولة بني الأحمر (أو بني نصر) في غرناطة (629-798هـ/ 1232-1492م).
نجح مؤسس الدولة محمد بن يوسف بن نصر أن يستقل بمنطقة غرناطة بإعلان ولائه وتبعيته للملك المسيحي المتقدم نحو الجنوب، وحافظت دولة بني نصر على بقائها قرابة قرنين ونصف مستندة إلى رغبة الدول القوية المحيطة بها بحفظ التوازن فيما بينها، وهذه القوى هي دولة قشتالة التي أضحت المسيطرة على القسم الأعظم من إسبانيا، ودولة أراغون صاحبة السيادة على شرقي إسبانيا وشمالها الشرقي، والدولة الثالثة هي دولة بني مرين التي خلفت الموحدين في المغرب الأقصى. وكانت دولة غرناطة تطلب عون دولة عندما تهاجمها دولة أخرى، وخاصة دولة بني مرين ودولة قشتالة، إذ إنّ احتلال القشتاليين لهذه الدولة يجعلهم متاخمين لبني مرين الذين يهددونهم ولهذا يهبون لنجدتها والعكس بالعكس، كما أنها حاولت أيضاً أن تعتمد على سياسة أخرى غير التوازن، وهي إقناع الدول المهددة لها بعدم وجود مصلحة لها في زوالها، فقد كانت تقدم لملك قشتالة الجزية بانتظام، وتقدّم الهدايا لنبلائه، كما حفظت لأراغون التجارية مصالحها وحمت الأساطيل الأراغونية على شواطئها، أما بنو مرين فكان إرضاؤهم صعباً، وما من مرة دخل جندهم الأندلس لمعونة إخوانهم في الدين إلا وحاولوا أن يضموا دولة بني نصر إليهم، لذا استعاض النصريون عن معونة المرينيين الحكومية بالجماعات التي يقودها أمراء مرينيون أخفقوا في الحصول على الحكم في بلدهم، فيأتون إلى غرناطة ليعملوا فيها جنداً ذوي امتيازات معينة أطلق عليهم اسم الغزاة وعلى قائدهم شيخ الغزاة.
لم تسر الأحوال العامة على وتيرة واحدة، بل تقلبت الأحوال بهذه الدولة الصغيرة بين صعود وهبوط، كما حدثت في القرن التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي ظروف معاكسة، لم تستطع هذه الدولة تحمل آثارها فسقطت في نهاية هذا القرن سنة 897هـ/1492م.
الآثار الإسلامية التي لا تزال باقية في الأندلس:
كانت حقبة الحكم العربي الإسلامي في الأندلس حقبة تطور حضاري مهم، فقد وصلت الحضارة العربية إلى تلك البلاد بخصائصها التي كانت قد بدأت تتبلور في بلاد الشام أيام الحكم الأموي، وكان عدد الشاميين الذين استوطنوا مدن الأندلس كبيراً؛ فقد أنزل الوالي أبو الخطار الحسام بن ضرار الكلبي سنة 125هـ مقاتلة جند دمشق في إلبيرة، وأهل الأردن في ريُّه، ومقاتلة جند فلسطين في شذونة، وأهل حمص في إشبيليا وأهل جند قنسرين في جيان، وقد حمل العرب والشاميون أسلوب معيشتهم وكيفوه تبعاً لشروط الحياة فيها، ونظمت المدن التي أقاموا فيها وفق الأسلوب الشرقي بشوارع ضيقة ذات محاور متكسرة درءاً للشمس وحماية للسكان، وازدهرت صناعة النسيج والخزف والجلود في قرطبة، وصناعة الأسلحة في طليطلة، وكانت غرناطة مركزاً لصناعة الذهب والفضة، واستعمل الذهب في التزيين والتنزيل فطليت أبواب المساجد والقصور وقطع الأثاث، وما تزال صناعة التنزيل بخيوط الذهب على القصدير والنحاس والرصاص قائمة حتى اليوم في طليطلة وغيرها من المدن الإسبانية.
ازدهرت الأندلس في عهد الأمويين (138-399هـ/755-1009م)، وأثر هذا الازدهار في جميع نواحي الحياة الثقافية والعمرانية والفنية، وتألقت قرطبة منذ أن اتخذها الأمير عبد الرحمن الداخل حاضرة له ولأبنائه من بعده، وبلغت في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر (300-350هـ) وابنه الخليفة الحكم المستنصر مستوىً من الرخاء لم تبلغه حاضرة أخرى من قبل. وقد وصفها مؤرخو العرب وجغرافيوهم أبدع وصف وأشادوا بعظمتها وتفوقها على سائر مدن الأندلس، ويذكر المقري نقلاً عن بعض المؤرخين أن دور قرطبة بلغت في عهد الحاجب المنصور 213077 داراً للعامة و6300 دار للأكابر والوزراء والكتاب والأجناد، إضافة إلى المساجد الكثيرة والحمامات والخانات والحوانيت. وكانت قرطبة في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي تنقسم إلى جانبين كبيرين، شرقي كان يعرف بالشرقية ومازال يطلق عليه حتى اليوم اسم Ajarquia، وجانب غربي، وهو التقسيم الروماني القديم نفسه، وكانت المدينة تشتمل على المسجد الجامع، والأسواق والقيسارية والفنادق والحمامات وقصر الإمارة، ولذلك كانت تعدّ مركزاً للحياة الدينية والاجتماعية والاقتصادية، ويذكر ابن بشكوال أنّ عدد أرباض قرطبة أو ضواحيها عند انتهائها من التوسع والعمارة بلغ واحداً وعشرين ربضاً، وأنّ هذه الأرباض جميعاً لم تكن محاطة بأسوار. فلما كانت أيام الفتنة التي تبعت سقوط الخلافة حُفِر حولها خندق يدور بها جميعاً، كما أقيم حولها سور مانع.
ويستنتج من نص أورده ابن سعيد المغربي أهمية الدروب ودورها الكبير في حماية السكان. ومازالت أسماء بعض شوارع قرطبة تذكر بالتسميات العربية القديمة، مثل شارع الزنيقة وشارع المونة Almona أي الصابون وشارع القيسرية Alcaiceria وشارع الخياطين Alfayates، كما أنّ بعض دروب قرطبة في الوقت الحاضر مازالت تحتفظ بأقواسها التي كانت تعلق فيها المصابيح.
ظلّت قرطبة في ازدهار حتى سقطت الخلافة الأموية سنة 399هـ/1009م، فتتابعت عليها المحن وانطفأت شعلة تفوقها، وتخلّت عن مكانتها السامية لمدينة إشبيليا، ومع أن المصائب توالت عليها استطاعت أن تحتفظ ببعض عظمتها وتفوقها في المجال الفني والصناعي والأدبي حتى احتلها فرناندو الثالث في 29 حزيران/يونيو 633هـ/1236م.
ففي المجال الفني بقي جامع قرطبة مركزاً للحج في الأندلس، يفد إليه المسلمون أيام الموحدين لزيارته والتبرك ببقعته والاحتفال فيه بليلة القدر، وليس أدل على ذلك من قول ابن صاحب الصلاة "…إني شخصت إلى حضرة قرطبة حرسها الله تعالى منشرح الصدر لحضور ليلة القدر".
إن جامع قرطبة الكبير الذي اشتهرت به حاضرة الأندلس يُعَدُّ من الوجهة الفنية أعظم أمثلة العمارة الإسلامية وأروعها، وليس المسجد الكبير في قرطبة أقل مكانة في تاريخ الفن الإسلامي من المسجد الكبير في دمشق، كما كان يعد من الوجهة العلمية أكبر جامعة إسلامية تدرّس فيها علوم الدين واللغة ويفد إليها طلاب مسلمون ومسيحيون على السواء للدرس والتحصيل، وكان يحتوي على مكتبة ضخمة تضم نحو 400.000 مخطوطة مجلدة بالجلد القرطبي المزخرف.
الحرم في جامع قرطبة |
إن مسجد قرطبة الذي ما يزال يثير الإعجاب حتى الآن ليس من إنشاء حاكم واحد، فقد استمرّ توسعه خلال أكثر من مئتي سنة، وتعاقب في الإشراف على عمارته أربعة حكام، وكان عبد الرحمن الداخل أول من أرسى أساسات العمارة الجديدة سنة 169هـ/785م، وكان المسجد يضم حرماً مسبوقاً بصحن، وكانت مئذنته تقوم على واجهته ويضم أحد عشر رواقاً متعامداً مع جدار القبلة على نسق الأروقة في الجامع الأقصى، وكان الرواق الأوسط أكثر عرضاً من غيره.
واجهة المحراب في جامع قرطبة |
وكانت الأقواس تستند إلى أعمدة مستعارة من أبنية قديمة، غير أن المعمار رغبة منه في تعلية سقف الحرم - من دون أن يعرض ثبات الدعائم للخطر- حَمَل التيجان المغطاة بوسادة بعضائد خفيفة تقوم بين أطراف الأقواس، ويوجد بين هذه العضائد طابق آخر من الأقواس يسند السقف.
بوابة الحكم الثاني في جامع قرطبة |
أصبح البناء الذي أقامه عبد الرحمن الأول غير كافٍ لحاجات الناس، فوسع عبد الرحمن الثاني سنة 234هـ/848م المسجد باتجاه القبلة، فأرجع جدار القبلة إلى أكثر من خمسة وعشرين متراً، وسايرت هذه الزيادة أسلوب المسجد الأول في البناء والزخرفة، ووسع الخليفة عبد الرحمن الناصر فناء الجامع وأقام له مئذنة ضخمة من الحجر سنة 340هـ/951م وبلغ ارتفاعها 23.5 متراً، وقد تهدّمت وكانت تعد من عجائب الدنيا، ولما كانت خلافة الحكم المستنصر (350-366هـ/961-976م) تضاعف عدد سكان قرطبة، ولم يعد المسجد الجامع يتسع لجموعهم الغفيرة، فاضطر الحكم إلى توسيع المسجد من جهة القبلة خمسين متراً، وأقام المعماريون الأندلسيون رواقاً مركزياً يحمل قبة في كل من نهايتيه، وكانت القبتان تحويان أقواساً متصالبة تجتاح المدى المعد للتغطية ومحددة مضلعاً مركزياً كانت تقوم عليه قلنسوة نصف كروية، وفي سنة 377هـ/987م قام الوزير ابن أبي عامر الملقب بالحاجب المنصور بتوسيع المسجد من ناحية الشرق بما يقارب الثلثين مضيفاً بذلك ثمانية أروقة، كما زاد من اتساع الصحن بعرض مماثل.
تختص عمارة المسجد في قرطبة بالتناظر المستقر، وبغياب أي عنصر مركزي يشد النظر، إضافة إلى الأقواس المركبة، وتناوب اللونين الأحمر والأصفر في الحجارة، مما يجعل البناء نموذجاً فريداً.
أما سقف المسجد وجدرانه فقد نقشت عليها آيات من القرآن الكريم، وزينت بزخارف مؤطرة أو بلوحات جدارية زخرفية من الفسيفساء أو من الزجاج المطلي بالميناء.
إن جامع قرطبة مازال باقياً إلى اليوم بهندسته وفنونه المعمارية التي لا تضاهى روعة، على الرغم من تحويله بعد احتلال الإسبان لقرطبة سنة 633هـ/1236م إلى كاتدرائية، وهُدِم جزء من إضافة عبد الرحمن الأوسط وإضافة المنصور سنة 930هـ/ 1523م وأقيم مكانهما كنيسة، وهي التي عبّر عنها شارلكان بقوله: "لو كنت علمت بما وصل إليه ذلك لما كنت سمحت بأن يمس البناء القديم، لأنّ مابنيتموه موجود في كل مكان، وما هدمتموه فريد في العالم أجمع".
وعلى الرغم من كثرة المنشآت العظيمة والقصور التي أسسها أمراء بني أمية وخلفاؤهم في قرطبة لم يبقَ إلا آثار قصور الزهراء التي نفض الأثريون الإسبان التراب عن أكفانها بعد أن ظلت قروناً طويلة مدفونة في جوف الأرض.
كانت الزهراء التي شيدها الخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر سنة 325هـ/936م ضاحية من ضواحي قرطبة تقع في الشمال الغربي منها، دام العمل في بنائها نحواً من أربعين عاماً، وتحدثت عنها كتب التاريخ ووصفت قصورها ومبانيها العامة وما وصلت إليه من رُقي وزخرف وجمال. وفي سنة 1328هـ/1910م أجرى فيلاسكيز بوسكو Velázquez Bosco أول حفائر علمية في خرائب الزهراء كشفت عن كميات هائلة من الخزف ذي البريق المعدني، وقطع كثيرة من الرخام، وأدّت إلى الاهتداء إلى قصر الحكم المستنصر، وتتابعت بعد ذلك الأبحاث الأثرية على أيدي كبار الأثريين، فكشفوا عن آثار قصر الخليفة الناصر سنة 1362هـ/ 1943م بعناصره الفنية المختلفة، وتمكنوا من قراءة اسمه منقوشاً على بعض التيجان، ومازالت الأبحاث الأثرية جارية وما زال العالم هرناندِث Hernandez يواصل ترميماته لقصر الناصر في أناة وصبر، فاستطاع أخيراً أن يكسو جدرانه بآلاف القطع الحجرية الزخرفية التي كانت مطمورة في جوف الأرض، ونجح في إعادة تنظيم هذا القصر بمثل الصورة التي كان عليها أيام الخلافة الأموية في الأندلس.
كانت أرضيات مجالس هذه القصور وقاعاتها مكسوة جميعاً بقراميد الآجر المرصعة بالأحجار البيضاء بحيث تكوِّن أشكالاً هندسية غاية في الروعة، وتكشف تيجان الأعمدة وطنوفها وقواعدها وبعض اللوحات عن فن رفيع في الحفر الغائر.
وقد وجه أمراء بني أمية اهتمامهم إلى تأسيس القناطر وجسور المياه، وأهم هذه القناطر الباقية قنطرة قرطبة التي تصل بين مدينة قرطبة وربضها شقندة، وجدها الفاتحون العرب عند الفتح الإسلامي لقرطبة مهدّمة، قد سقطت حناياها ولم يبقَ سوى دعائمها الراكبة في النهر، فجدد الوالي السمح بن مالك الخولاني بناءها بأحجار السور المتهدم سنة 101هـ/719م، ثم تعرّضت القنطرة لسيل جارف سنة 161هـ/777م فرممها الأمير هشام بن عبد الرحمن الداخل وتولّى بناءها بنفسه، ولكن القنطرة تعرَّضت سنة 182هـ و288هـ وسنة 334هـ لسيول جارفة، فأصلح الناصر ما تهدّم من القنطرة، وأمر الحاجب المنصور ببناء قنطرة أخرى على نهر قرطبة سنة 378هـ/988م لتخفيف الضغط عن قنطرة قرطبة، وفي سنة 1298هـ/1880م أعيد رصفها من جديد، ثم كسيت سنة 1912م بكسوة من الإسمنت غطت معالمها الأثرية.
كذلك اهتم الأمويون بتحصين مدن الأندلس اهتماماً كبيراً؛ فأقاموا الأسوار والحصون في سائر مدنها، وأول هذه المدن سور قرطبة الروماني، ولقد تهدّمت أجزاء من سورها عند الفتح العربي ولاسيما سورها القبلي والغربي، وظل السور الغربي من دون ترميم حتى قام بترميمه الأمير عبد الرحمن الداخل سنة 150هـ/767م، وظل سور قرطبة الروماني موضع رعاية الأمراء والخلفاء. ولمّا اتسعت مدينة قرطبة وتكونت أرباضها خارج المدينة لم تكن لهذه الأرباض أسوار، فلما اشتعلت نيران الفتنة أقيم لكل جانب منها خندق يدور بها سور مانع، وقد جُدّدت هذه الأسوار في عصر الموحدين، وأحيطت بأسوار أمامية مبالغة في تحصين المدينة، وبقيت أجزاء من هذا السور الموحدي قائمة حتى هذا الوقت ولاسيما في الجانب الغربي من المدينة، كما أسس عبد الرحمن الداخل حصن المدور بالقرب من قرطبة سنة 142هـ/759م الذي بقيت آثاره حتى الوقت الحاضر، كما أنشأ عبد الرحمن الناصر برجاً بقلعة طريف سنة 349هـ/960م، ومازالت هذه القلعة تحتفظ اليوم بمظهرها الخلافي القديم، وكذلك تبقى من عصر الحكم المستنصر حصن يقال له حصن البقر في الطريق الموصل بين قرطبة وفحص البلوط، وكذلك بنى قواد الحكم المستنصر حصن غرماج Gormaz سنة 354هـ/965م على نشز يبلغ ارتفاعه فوق مستوى وادي دويرة Duero نحو 130 متراً، ولقد قام جايا نونيو Gaya Nuño بدراسة هذا الحصن دراسة أثرية أشار فيها إلى أن المسلمين في الأندلس في القرن العاشر الميلادي قد وصلوا في فن العمارة الحربية إلى درجة من التقدم لا يمكن مقارنتها ببقية بلاد غربي أوربا.
أما الحمامات فلم يبقَ من الحمامات الكثيرة التي كانت تكتظ بها قرطبة سوى آثار حمامين، أحدهما يقع في شارع الحمام Calle del Baño والآخر في شارع لاس كوميدياس Las Comedias بجوار الجامع، وهذا الحمام الأخير ما يزال يحتفظ بقاعته الوسطى، وبها عقود مفلطحة وأخرى متجاوزة على شكل حدوة الفرس تحملها عشرة أعمدة تيجانها من نوع التيجان التي ظهرت في فترة الخلافة، ولهذا الحمام غرفة تعلوها قبوة كانت تتخللها مضاوٍ لإنفاذ الضوء، سُدَّت جميعها اليوم.
وفي طليطلة حمامان يغلب على الظن أنهما يرجعان إلى عصر الخلافة، وفيها مسجد صغير كان يدعى قديماً مسجد باب مردوم نسبة إلى باب مجاور له مازال قائماً ويعرف باسم الباب المردوم Bab al-Mardum، وعلى الرغم من صغر هذا المسجد يعدّ أهم مسجد بعد جامع قرطبة لاحتفاظه بقباب تسع قائمة على الأضلاع المتقاطعة، ويعلو واجهة الجامع نقش كتابي تاريخي من قطع آجرية بارزة في إفريز يقع بين صفين من الأسنّة البارزة من هذه المادة نفسها، ونصه: "بسم الله الرحمن الرحيم، أقام هذا المسجد أحمد بن حديدي من ماله ابتغاء ثواب الله، فتمَّ بعون الله على يد موسى بن علي البناء، فتمّ في المحرم سنة 390هـ".
مسجد طليطلة |
وأحمد بن حديدي هذا كان قاضي طليطلة في ذلك الوقت، وهو من أسرة معروفة في هذه المدينة.
وفي طليطلة قنطرة كانت تربط بين المدينة وربضها الواقع على الضفة المقابلة للمدينة على نهر تاجه، ويذكر الحميري أنه أقيمت في نهاية القنطرة ناعورة ارتفاعها في الجو تسعون ذراعاً، وهي تصعد الماء إلى أعلى القنطرة ويجري الماء على ظهرها فيدخل المدينة، وقد خربت القنطرة في أيام الأمير محمد إذ أمر بهدمها سنة 244هـ/858م حتى ينتقم من أهلها الثائرين، وظلت القنطرة مهدمة حتى أعاد بناءها خلف بن محمد العامري قائد طليطلة أيام المنصور بن أبي عامر سنة 387هـ/997م، ثم خربت بعد سقوط طليطلة في أيدي القشتاليين، ولم يبقَ منها سوى الكتف الكبيرة للجانب المقابل للمدينة، فرممت سنة 658هـ/1259م وظلت على حالتها إلى هذا اليوم، وفي تطيلة Tudela آثار المسجد الجامع، وهي آثار ضئيلة لا تعدو مساند وعقوداً مزدوجة على شكل حدوة الفرس، وتيجان مزودة بتوريقات غاية في الروعة والجمال، ولوحة من الحجر أشبه بعضادة باب تكسوها زخارف هندسية من خطوط معقوفة.
وفي سرقسطة - سيراكوز حالياً- قصر الجعفرية، وهو من أهم الآثار الباقية من عهود ملوك الطوائف، بناه أبو جعفر المقتدر أحد ملوك بني هود (438-471هـ/1046-1088م)، تحوّل في القرن 9هـ/15م إلى قصر لملوك قشتالة المسيحيين ثم إلى ثكنة حديثة، وقد جرى الكشف عنه مؤخراً وظهرت قاعته الكبيرة، والمسجد الملحق به، وكان على شكل مثمن من الداخل، مزين بالعقود الأندلسية، والنقوش الجصية، والكتابات الكوفية، وقد أعيد حديثاً بناء قبته اعتماداً على العناصر التي كانت منقولة إلى متاحف إسبانيا، وهي خشبية من النوع القائم على أساس العقود المتداخلة فوق رقبة من ست عشرة نافذة، والمحراب شبيه بمحراب جامع قرطبة.
قصر الجعفرية في سرقسطة |
وفي ملقا بقايا قصر من عهود ملوك بني حمود (431-446هـ/1039-1055م) وأجزاء من سور المدينة.
منظر لقصر الجعفرية من الداخل |
إشبيليا: إنّ إشبيليا التي انتقلت إليها المكانة السامية التي كانت لقرطبة بعد سقوط الخلافة سنة 399هـ كانت تعرف باسم حمص الأندلس حينما وُزِّعت موجة من مقاتلة أجناد الشام على الكور الأندلسية سنة 125هـ/742م، وكان نصيب إشبيليا منها جند حمص.
إنّ أقدم أثر في إشبيلية هو جامع ابن عَدَ بَّس، هذا المسجد لم يبقَ منه في الوقت الحاضر سوى جزء من الصحن، والجزء الأدنى من المئذنة، ومع ذلك فإن لهذه الآثار القليلة أهمية بالغة؛ إذ توقف الباحث في الآثار على جانب مهم من جوانب فن العمارة الأموية في عهد الإمارة، فقد أمر الأمير عبد الرحمن الأوسط قاضيه عمر بن عَدَبّس بتشييد هذا الجامع سنة 214هـ/829-830م، وقد سجل تاريخ الإنشاء في نقش كوفي على عمود من الرخام محفوظ اليوم بمتحف الآثار الأهلي بإشبيليا، ويتميز هذا الجامع من جامع عبد الرحمن الداخل في أنه لم يضف إليه إضافات، بل ظل يحتفظ بمساحته الأولى، وكان هذا الجامع يشبه جامع قرطبة في نظامه العام وفي عدد أروقته، فقد كان يشتمل على أحد عشر رواقاً عمودياً على جدار القبلة، وكان الرواق الأوسط أكثر هذه الأروقة اتساعاً وارتفاعاً، وكان طول جدار القبلة يراوح بين 48 و50م، وكانت مئذنة هذا الجامع تنتصب في منتصف الجدار الشمالي، وكانت مربعة من الخارج ومستديرة من الداخل، وأقيمت المئذنة من الأحجار التي تخلّفت من السور الروماني القديم، وكان صحن الجامع مفروشاً بأشجار البرتقال والنارنج، ولذلك فالصحن يعرف اليوم باسم Patio de los Naranjos. وقد أصيب جامع ابن عدبّس ببعض الأضرار في أثناء غارة النورمانديين على إشبيليا سنة 230هـ/844م، ثم أصيب سنة 472هـ/1076م بزلزال عنيف هدم الجزء الأعلى من المئذنة فجدد الملك المعتمد بن عباد من ملوك الطوائف بناءها في شهر واحد، وحينما سقطت إشبيليا سنة 484هـ/1091م في يد المرابطين لم يترك المرابطون فيها إلا آثاراً قليلة جداً لأنه لم يعرف عن المرابطين ميلهم إلى إشادة القصور الفخمة لاتصافهم بالتقشف، وكانوا يطلقون على مقر حكمهم اسم بيت الأمة، وقد عثر على أجزاء من بيت الأمة في إشبيليا في موضع قريب من القصر (الكازار). ولما سقطت إشبيليا في يد الموحدين عمد الأمير أبو يوسف يعقوب الموحدي إلى ترميم جامع ابن عَدَبَّس، وكان زلزال سنة 472هـ/1079م قد صدّع جدرانه الغربية فأقام سنة 592هـ/1195م ركائز قوية تسند جدرانه الغربية من الميل، وقد تحوّل جامع ابن عدَبَّس إلى كنيسة سان سلڤادور San Salvador عقب سقوط إشبيليا في يد فرناندو الثالث سنة 644هـ/ 1246م.
اهتم الموحدون بمدينة إشبيليا واتخذوها عاصمة لهم في الأندلس، وشيدوا فيها جامعاً كبيراً، بدأ بناؤه في عهد الأمير أبي يعقوب يوسف سنة 572هـ/1176م، وأتمه ابنه المنصور سنة 591هـ/1195م، ثم هدمه الإسبان فلم يبقَ منه سوى قطعة من الصحن بقناطرها ذات العقود الحدوية المدببة، وأبقوا على المئذنة التي يطلقون عليها اسم الجيرالدا Giralda لتكون صومعة للكنيسة التي أقاموها في المسجد. وهذه المئذنة مبنية بالآجر، وطول ضلعها 13.5م زُخرفت وجوهها على شاكلة مآذن الموحدين بالعقود المفصصة والخطوط المتشابكة تتخللها النوافذ التوءم؛ أي المزدوجة، والمئذنة ماتزال على وضعها الأصيل حتى اليوم باستثناء أعلاها.
وفي إشبيليا أقام الموحدون سنة 607هـ/1210م برجاً على ضفاف الوادي الكبير للدفاع عن إشبيليا، وهو من أضخم الأبراج المعروفة، إذ يبلغ قطره عشرة أمتار، أطلق عليه برج الذهب لأنه كان مكسواً بالخزف الذهبي الملون، وهو من الخارج مضلع الشكل يتكون من اثنتي عشرة ضلعاً، يعلوه برج مماثل أصغر منه، ثم قسم أسطواني أحدِث في القرن الثامن عشر الميلادي، وللبرج في داخله دَرَج لولبي ضمن شكل سداسي الأضلاع يؤدي إلى السطح، ويستمر داخل البرج الصغير، وقد فتحت في جدرانه التي يبلغ سمكها المترين نوافذ ومرامٍ للنبال.
غرناطة وقصر الحمراء: الحمراء صفة للقصبة التي أقيمت على هضبة مشرفة على مدينة غرناطة، لتكون مدينة ملكية لأمراء بني نصر أو بني الأحمر، وأحيطت المدينة بالأسوار والأبراج الحصينة، وأنشئت داخلها القصور، والبقعة غنية بالغابات والأحراج بحيث تمتزج مناظر الطبيعة الخلابة بالأشكال المعمارية فتعطيها مكانة خاصة وجاذبية لا تتمتع بها المواقع التاريخية الأخرى.
قصر الحمراء في غرناطة |
وتأتي أهمية الحمراء من كونها تضم واحداً من القصور القليلة التي بقيت سالمة حتى هذا اليوم، محافظة على وضعها الأصيل، فضلاً عن أنّ عمائر القصر تمثل فنون العمارة الإسلامية في أخريات أيامها، وقد بلغت الذروة في الرقي والذوق المرهف، والتعبير عن الترف والجمال الفني.
تمتد أسوار مدينة الحمراء من الغرب إلى الشرق بطول وسطي قدره (740متراً)، وعرض قدره (220متراً)، وقد زوّد السور بعدد من الأبواب أهمها باب الشريعة أو باب العدل الذي أنشأه السلطان يوسف أبو الحجاج، ويحمل تاريخ الإنشاء وهو سنة 749هـ/1348م، كما زوّد السور باثنين وعشرين برجاً مربع الشكل، تختلف الأبراج في أحجامها وارتفاعاتها، ومازال السور باقياً معظمه إلى اليوم.
قصر الحمراء - القصبة |
تعرّضت عمائر الحمراء للتخريب وزال أجزاء منها، بينها مدارس ومساجد وأسواق، كما شيّدت على أنقاضها بعد الاحتلال الإسباني عمائر إسبانية أهمها كنيسة سانتاماريا وقصر شارل الخامس في الجهة الجنوبية، وبعض الأجنحة السكنية في الجهة الشمالية. إنّ الأجنحة المتبقية من قصر الحمراء الأندلسي التي يجرى ترميمها وصيانتها في العصر الحديث هي التي تعج بالزوار القادمين من أنحاء العالم وتستحوذ على إعجابهم ودهشتهم، ويشعرون وهم يتأملون معالمها وكأنهم في قصر الأحلام.
جناح الأسود في قصر الحمراء |
تتألف مجموعة القصور والأجنحة المشار إليها من المَشور، ودار الذهب، وجناح البركة أو الريحان، وجناح الأسود إضافة إلى القصر الصيفي (جنة العريف)، فهي مجموعة من القصور في قصر واحد يتصل بعضها ببعض، ويمثل جناح الأسود في التعبير التركي العثماني (الحَرَملك) دار الحريم، وجناح الريحان (السلاملك)، والمَشور مقر الوزارة والدواوين، ويضم قاعة لجلوس السلطان وسماع الشكاوي.
جنة العريف في قصر الحمراء |
التخطيط عموماً لا يخرج عن تخطيط البيوت والقصور العربية الإسلامية التي تتألف من الفناء والأروقة، والقاعات الفخمة التي تمتد وراءها، ويتخلل ذلك البرك وقنوات المياه والنوافير التي كانت عنصراً ترفيهياً.
زخارف قبة في قصر الحمراء |
أما العناصر الزخرفية فإنها تضفي على المظهر العام للمبنى الكثير من الجمال الفني، وتتكون من عنصرين رئيسين أولها عنصر الفسيفساء الخزفية ذات الألوان الجذّابة، يتكون من قطعها لوحات ذات أشكال هندسية، كُسيت به على نحو خاص وزرات الجدران والأروقة والقاعات وأسفل العضائد والدعائم الجدارية بارتفاع مترين تقريباً. (والوزرة ما تكسى به الأقسام السفلية من الجدران تشبيهاً بالإزار الذي يستر به الإنسان نصفه الأسفل).
زخارف إسلامية على أحد جدران قصر الحمراء |
أما تغطية بقية الجدران والعقود ظاهراً وباطناً وعقود القناطر والشبابيك والأبواب والنوافذ فقد أكمل بالكسوة الجصية، ويشبه الجص الرخام بمظهره الصقيل ولونه العاجي، وتمثل النقوش الجصية مختلف المواضيع بينها الكتابات التي استخدم فيها الخط الكوفي أو النسخي، ومع الكتابات نقوش هندسية وخطوط متداخلة، تحدث فيما بينها حشوات وأشكال بالغة التعقيد، وقد استعمل الفنان قابلية الجص للنقش في التعبير عنها، واستعمل الجص أيضاً في تكوين المقرنصات التي تزين العقود والقباب وزوايا الانتقال، ولعل الفنان الغرناطي تأثر بالانتشار الواسع للمقرنصات في العمائر الشامية في العهدين الأيوبي والمملوكي
مراجع للاستزادة: - ابن الخطيب، الإحاطة في أخبار غرناطة، الجزء الأول (القاهرة 1901). - الشريف الادريسي، وصف المغرب والأندلس من كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق (نشره دوزي، ليدن 1866). - السيد عبد العزيز سالم، "المساجد والقصور في الأندلس"، سلسلة اقرأ، عدد 190، أكتوبر 1958. - جورج مارسية، العمارة الإسلامية في المغرب والأندلس (باريس 1954). - Ricardo Velázquez BOSCO, Medina Azzahra y Alamiriya (Madrid 1912). - Elie LAMBERT, Histoire de la grande mosquée e de Cordoue aux VIIIe et IX e siècles. Annales de l’Institut d’etudes Orientales de l’université d’Alger, Vol. 11, (Alger, 1936). |
- التصنيف : آثار إسلامية - المجلد : المجلد الثاني مشاركة :