جنديرس (تل)
Janderis (Tell-) - Janderis (Tell-)

 ¢ جنديرس

جنديرس (تل -)

الاسم القديم لتل جنديرس

 

يقع تل جنديرس Ganderis شمال-غربي سورية، ويتوسط هذا التل سهل العمق الذي يمثل معلماً جغرافياً أساسياً في هذا الجزء من سورية. ويمتد سهل العمق من الشمال- الشرقي إلى الجنوب- الغربي فيما بين جبل سمعان في الشرق وجبال الأمانوس في الغرب. ويبتدئ هذا السهل من شمال منطقة الحدود السورية- التركية وينتهي في الجنوب الغربي عند ساحل البحر المتوسط حيث مصب نهر العاصي. وفي وسط القسم الشمالي من السهل تمتد مرتفعات جبلية متفرعة من جبال طوروس لتشكل ما يعرف باسم جبل حلب، وتنتهي في منطقة الحمام على بعد 9كم إلى الجنوب الغربي من تل جنديرس.

يقوم التل الأثري في الطرف الجنوبي- الغربي من بلدة جنديرس الحالية، ويأخذ شكلاً شبه دائري. ويبلغ معدل طول قطر ما تبقى منه 450 م، وتبلغ مساحته نحو 14 هكتاراً. يقع التل في سهل يرتفع نحو 200م فوق مستوى سطح البحر، ويصل أعلى ارتفاع للتل، في الركن الشمالي – الشرقي إلى 31م فوق مستوى السهل المحيط به. ويليه في الارتفاع الركن الشمالي –الغربي الذي يصل ارتفاعه إلى 27,5 م. ويلاحظ وجود ثلاثة مواضع فقط يتدرج فيها ارتفاع التل مما يدل على وجود بوابات للمدينة فيها.

مشهد عام لتل جنديرس

دلت أعمال التحريات والتنقيبات الآثارية التي قامت بها بعثة المعهد الشرقي في شيكاغو oriental institute of the University of Chicago على أن سهل العمق شهد استيطاناً متواصلاً منذ العصر الحجري الحديث، وقدرت البعثة عدد المواقع الآثارية في سهل العمق بنحو 178 موقعاً فضلاً على مواقع سهل عفرين. وكانت تلك البعثة قد أنجزت أعمالها بإدارة كل من مكيوان C.W.McEwan وبريدوود R.J.Braidwood بين عامي 1933 و1937م، وشملت أعمالها التنقيب في المواقع الآثارية: تل جديدة وتل طعينات وتل جطل حيوك (ر) (Gatal Hüyük). وقد أدت الدراسات التي قامت بها البعثة للفخار والأدوات الحجرية التي اكتشفتها إلى وضع التقسيم المتبع حالياً للأدوار التأريخية في شمالي سورية وجنوبي بلاد الأناضول.

مخطط طبوغرافي

ونظراً لضخامة موقع جنديرس وأهميته قامت بعثة أثرية سورية- ألمانية مشتركة من عام 1992 حتى عام 2004م بالتنقيب في الركن الشرقي من التل، وبإدارة ديتريش زورنهاغن Dietrich Surenhagen من الجانب الألماني، وأنطوان سليمان ومحمد قدور، بالتعاقب من الجانب السوري. وبدءاً من عام 2006م تابعت بعثة وطنية التنقيب في الركن الغربي من التل بإدارة عمار عبد الرحمن.

 
 ختم من العصر الحديدي من تل جنديرس

أسفرت التنقيبات في الركن الشرقي عن وجود استيطان مهم يعود إلى العصر البرونزي الوسيط، فقد تم الكشف عن معبد يعود للعصر البرونزي الوسيط وهو مرصوف ببلاطات من القياسات الكبيرة، ويشاهد كذلك ثلاث قواعد بازلتية ضخمة لتحمل الأعمدة الخشبية في ساحة المعبد، كما أشار أنطوان سليمان إلى وجود قصر في الجهة الشرقية من التل.

 

لقى فخارية من الموقع

أما في الركن الغربي فقد بينت التحريات الأثرية وجود تسلسل أثري أوضح من الركن الشرقي لأنّه لم يتعرض إلى تخريب كبير جراء إشادة أساس للتحصينات الكبيرة في الطبقة الرومانية، وما تم تحديده حتى عام 2012 هو أربع طبقات أثرية تعود للعصر الكلاسيكي. كما أنه ومن خلال سبر في المنحدر الشمالي من التل، تم تحديد ثلاث طبقات أقدم من الكلاسيكي: الأولى تعود للعصر البرونزي القديم، والثانية للعصر البرونزي الوسيط، في حين ضمت الطبقة الثالثة استيطاناً كثيفاً يعود للعصر الحديدي II.

 

أثاث جنائزي

وتعود أقدم طبقات العصر الكلاسيكي للعصر السلوقي (القرن الثالث قبل الميلاد). أما الاستيطان اللاحق فيعود إلى الفترة البارثية- الرومانية الباكرة (القرن الأول قبل الميلاد)، وأما الاستيطان الثالث فيعود إلى العصر الروماني المتأخر (القرن الثالث الميلادي)، وعلى السطح هناك استيطان من العصر البيزنطي في بعض القطاعات (القرنين الرابع والخامس الميلاديين).

وأهم ما كشف عنه في الطبقة العائدة إلى العصر السلوقي مقبرة عائلية وبجانبها غرفة لإقامة الطقوس والشعائر الدينية، فقد تم الكشف عن خمسة قبور أحدها لطفل صغير، وثلاثة منها ليافعين والأخير لشخص كبير. وبعض هذه القبور كان مغطى بأمفورات شبيهة بقبور من مواقع معاصرة مثل جبل خالد[ر] ودورا أوروبوس[ر].

وقد عثر في الغرفة الملاصقة لهذه المقبرة على مذبح وقناة تنتهي في حفرة خصصت لرمي النفايات، وبجانب المذبح مجموعة من الأواني الفخارية المستخدمة في هذه الشعائر من كؤوس فخارية ذات قاعدة طويلة، ومساند لجرار كبيرة، وأهمها كأس كبيرة من البازلت بنقوش تزيينية، يرجح أنها مبخرة.

أما الطبقة العائدة للفترة البارثية- الرومانية فقد تميزت بعمارة فقيرة على العموم، وعثر فيها على عدة نماذج من الفارس البارثي، ويبدو أن هذه الفترة قد انتهت نهاية عنيفة ، فقد ظهرت طبقة حريق في بعض أنحاء الموقع، ويرجح أن تكون نتيجة النزاع مع البارثيين الذين استطاعوا الوصول في عام 38 ق.م إلى هذه المنطقة والانتصار على الرومان والاستقرار فيها لفترة.

 

منشأة من العصر الروماني

الطبقة التي تعود إلى العهد الروماني فقيرة من الناحية المعمارية، وتأخذ طابعاً سكنياً، وأبرز ما تم العثور عليه هو منشأة لتخمير عصير العنب للحصول على النبيذ. وتتألف هذه المنشأة من عدة أحواض من الطين تتصل مع بعضها بقنوات من الطين أيضاً، وهي مصممة بحيث تترسب الشوائب التي تبقى في العصير وفقاً لقنوات تنساب من جرن كبير عبر خطوط متعرجة من الطين، لتنتهي بحوضين عميقين أحدهما أقل عمقاً. وهناك جرة ملونة باللونين البني والأحمر وبجانبها قمع لصب الخمر، وقمع يأخذ شكل رأس الحصان مفتوح من الأعلى وله ثقب في أسفله، وعلى الأرجح هو لقياس نسبة التخمر.

 
 

فسيفساء أرضية حمام (القرن ٥ م)

أما في الطبقة الأولى المعاصرة للاستيطان البيزنطي من القرن السادس الميلادي، فأهم ما كشف بالقرب من الطبقة السطحية، بناء كبير تبين أنه على الأرجح حمام. ويضم عدة فراغات أرضياتها مفروشة بلوحات فسيفسائية، وأكمل هذه القطع الفسيفساء الجنوبية وأبعادها 2 × 3م. وهي ذات نمط هندسي ملون باللونين الأسود والأبيض، وقد أخذت أشكال مربعات يحيط بها ثلاثة أشرطة زخرفية من الحجر البازلتي الأسود علاوة على زخارف أخرى هندسية بداخل الإطار الداخلي. أما الفسيفساء الثانية والثالثة فهي غير كاملة ولكنها تحمل تصميماً مغايراً، فهي مصنوعة من لون واحد هو الأبيض ولكنها أظهرت زخارف من خلال طريقة تشكيل الأحجار الصغيرة لتعطي أشكالاً نباتية لورود. ويرتبط هذا البناء بقناة مرصوفة حجرية تمتد حتى طرف التل حيث تصرف المياه إلى خارج الموقع، وقد عثر في الركن الشرقي على بناء لحمام مشابه، ولكنه من دون قناة تصريف واضحة.

 

كسرة فخارية من العصر الروماني

ومن اللقى المهمة في تل جنديرس ختم أسطواني من حجر الستياتيت الأسود steatite مثقوب بشكل طولاني نقش عليه مشهد لرجل واقف وهو مشابه لشكل الإله بعل، ومما لا شك فيه أن هذا الختم يعود لعصور أقدم من العصور الكلاسيكية.كما عثر على جعران يحمل مشهداً لفهد وشجرة ولكن من دون كتابة وهو يعود لعصور قديمة أيضاً. ومن اللقى النادرة التي تم العثور عليها في سويات العصر الروماني قطعة كبيرة مصنعة من الرصاص.

 
فخار من العصر الروماني 

الاسم القديم لتل جنديرس

تتضح أهمية سهل العمق من خلال الموقع الجغرافي وقد عرف في العصور القديمة باسم أُنق unqi وله مصطلح سياسي هو خَتّينا Khattina. وقد ذكرت النصوص الملكية الآشورية من القرنين التاسع والثامن قبل الميلاد عاصمة مملكة سهل العمق باسم كينالوا (Kinalua) أو كيناليا (Kinalia)، أو كونولوا (Kunulua)، ووصفتها مرّةً بأنها عاصمة خَتّينا، ومرّة أخرى بأنها عاصمة أُنق unqi (سهل العمق). ويظهر اسم كينالوا في ثلاثة نصوص لملوك آشوريين أولهم آشور- ناصر بال الثاني (859-883 ق.م) حيث يصف في نص حولياته المنقوش على جدران معبد ننورتا في كلخ (نمرود) رحلة حملته إلى منطقة العمق وجبل لبنان، ويرد في النص أن الملك الآشوري عبر مع جيشه نهر الفرات في طريقه من بيت – أدين إلى كركميش ومن ثم يعبر نهر أبري Aprê (عفرين) إلى مدينة كونولوا، بعد مسيرة يوم واحد. والنصان الآخران فهما من عهد الملك الآشوري سنحاريب (681-704 ق.م)، وعهد الملك آشور بانيبال (668 - 627 ق.م).

أما عن اسم جنديرس القديم في الألف الثاني ق.م فمن المرجح أنه أُنِقا Uniqa ، فقد ذكر هذا الاسم في نصوص ألالاخ من الطبقة الرابعة والطبقة السابعة في 15 نصاً. وفي ذلك الوقت كانت ألالاخ هي العاصمة لسهل العمق، وعندما هجرت ألالاخ في الألف الأول أصبحت مدينة أُنِقا هي العاصمة، وغدا اسم المدينة كينالوا كما ذكر آنفاً، وحافظ سهل العمق بوجه عام على الاسم القديم له وهو أُنِق . ولذلك نرجح هنا ان يكون موقع مدينة أُنِقا، في الألف الثاني قبل الميلاد، هو موقع مدينة كينالوا نفسه في الألف الأول قبل الميلاد، أي تل جنديرس. اسم المدينة في الفترة الكلاسيكية، وكما هو وارد في النصوص والنقوش الهلنستية ومن ثم الرومانية، وكان جَنداروس، وهو أصل الاسم الحالي لبلدة جنديرس والتل نفسه.

 

كوب من الفخار الميغاري (العصر الروماني)

ويمكن استعراض تاريخ هذه المدينة خلال العصور الكلاسيكية من خلال مطابقة الدلائل الأثرية والنقوش الكتابية المكتشفة. ففي العصر السلوقي – البارثي احتلت جنديرس بموقعها الجغرافي مكاناً مهماً كونها تتوسط الطريق الواصل بين أنطاكية وسيروس (النبي هوري)، وهو نفسه الطريق الواصل إلى المعبر الرئيس على الفرات زويغما. وخلال هذه المرحلة كانت جنديرس نقطة عسكرية وسكانها في غالبيتهم من الجنود اليونانيين والمقدونيين، وتمول كل المواقع العسكرية القريبة بما تحتاج إليه من مواد تموينية.

 

قمع من الفخار

وفي العصر الهلنستي المتأخر والروماني الباكر بقيت جنديرس محايدة في الصراع بين البارثيين والسلوقيين، بعد الاتفاق الذي تم بعد عام 131 ق.م بين الطرفين على أن يصبح نهر الفرات هو الحد الفصل بن الدولتين، ولكن هذا الحال لم يستمر، ففي عام 38ق.م تمكن البارثيون من السيطرة على جنديرس وقتل حاكمها باكوروس خلال محاولتهم السيطرة على الشمال.

وفي العصر الروماني المتأخر ظهر النفوذ الساساني الأكثر طموحاً في السيطرة على المنطقة، فقد ذكرت مدينة جنديريس في نقش من عهد الملك شابور خلال توجهه إلى أنطاكية وسيروس حيث تمت السيطرة عليها في عام 255 أو 256 م، وهذا ما تؤكده طبقة الحريق الضخمة في الطبقة الثالثة في جنديرس. أما في العصر البيزنطي فقد أصبحت جنديرس مركزاً مهماً حتى إنها أصبحت في النصف الأول من القرن الرابع الميلادي مقر أسقفية.

عمار عبد الرحمن

مراجع للاستزادة:

- نوربرت كرامر، جنداروس في شمال غربي سورية- أبحاث تاريخية وأثرية حول تاريخ الاستيطان في العصور الهلنستية والرومانية والبيزنطية، تعريب محمد قدور (دمشق، 2006م).

- نائل حنون وعمار عبد الرحمن، «تل جنديرس في سهل العمق (دراسة تاريخية- أثرية)»، دراسات تاريخية 99-100، جامعة دمشق، أيلول – كانون الأول 2007م)،ص ص 1-43.

- عمار عبد الرحمن، «جنديرس»، مجلة الوقائع الأثرية في سورية، مجلد IV ، 2010، ص ص89-102.

 


- التصنيف : العصور التاريخية - المجلد : المجلد الخامس مشاركة :

بحث ضمن الموسوعة

من نحن ؟

الموسوعة إحدى المنارات التي يستهدي بها الطامحون إلى تثقيف العقل، والراغبون في الخروج من ظلمات الجهل الموسوعة وسيلة لا غنى عنها لاستقصاء المعارف وتحصيلها، ولاستجلاء غوامض المصطلحات ودقائق العلوم وحقائق المسميات وموسوعتنا العربية تضع بين يديك المادة العلمية الوافية معزَّزة بالخرائط والجداول والبيانات والمعادلات والأشكال والرسوم والصور الملونة التي تم تنضيدها وإخراجها وطبعها بأحدث الوسائل والأجهزة. تصدرها: هيئة عامة ذات طابع علمي وثقافي، ترتبط بوزير الثقافة تأسست عام 1981 ومركزها دمشق