الجليل
جليل
Galilee - Galilée
¢ الجـليـل
الجليل Galilee هو المنطقة الشّماليّة الشرقيّة من فلسطين، وحدوده : لبنان شمالاً، ومرج ابن عامر وجبل الكرمل جنوباً، وسهل الحُولة وبحر الجليل (أيْ بحيرة طبريّة) ثمّ الجولان شرقاً، وسهل عكّا ثمّ البحر المتوسط غرباً. ويقسمه وادٍ عميق قسمين : الجليل الأعلى؛ وهو جبال يراوح ارتفاعها بين ٥٠٠م و ١٠٠٠م فوق سطح البحر، والجليل الأدنى؛ وهو قليل الارتفاع ويضمّ أوديةً واسعة هي الشّاغور وسخنين والبَطّوف وطرعان. وقد توفرت في الجليل العوامل التي جذبت السكّان إليه منذ أقدم العصور، فمناخه حسن لأنّه من أعلى المناطق في فلسطين، وأمطاره ليست قليلة، وينابيعه كثيرة، وتربته خصبة، والأشجار تغطي مساحات واسعة منه؛ ولذا سكنهُ الناس منذ عصور ما قبل التاريخ، إذْ عُثر في كهوفه الصخريّة على أدوات من العصر الحجري القديم الوسيط Middle Paleolithic؛ وبعضها آثار لإنسان نياندرتال Neanderthal الذي عاش هناك قبل مئة ألف عام، وكذلك على آثار الإنسان العاقل التي تعود إلى الفترة الأورينياسيّة Aurignacien من العصر الحجري القديم الأعلى Upper Paleolithic قبل ٣٠ ألف عام، كما عُثر على أدواتٍ فخّاريّة وحجريّة ترجع إلى فترة العبيد من العصر الحجري النحاسي Chalcolithic (٦٠٠٠- ٣٥٠٠ ق.م).وقد أقام فيه الكنعانيون منذ العصر البرونزي المبكر أيْ مطلع الألف الثالث ق.م، ثم جاء بنو إسرائيل-كما تزعم أسفار «العهد القديم»- بقيادة يشوع بن نون الذي خلف موسى عليه السّلام لاجئين إليهم، ليسكنوا في مدنهم وقراهم وينعموا بحمايتهم، ولكن المدقّقين من المستشرقين يقولون إنّ أقدام بني إسرائيل لم تطأ الجليل أو المنطقة الساحليّة؛ لأنّ نابلس هي أقصى موقعٍ وصلوا إليه. ويروي سفر «صموئيل الأوّل» أنّ الفلسطينييّن بدؤوا هجومهم على شاؤل من «شُونَم»، وهو موقع يجعله الباحثون جنوبي جبل تابور في الجليل الأدنى، فلمّا ألحقوا به الهزيمة علّقوا جثته مع جثث أبنائه على أسوار «بيت شان» أيْ بيسان؛ ثم أصبح الجليل تحت سيطرة سليمان، ولكنّه تخلّى عن مواقع في منطقة كابول Cabul شرقيّ عكّا لملك صُور أحيرام لأنه زوّده بالأخشاب وأرسل إليه عمّالاً مهرة شاركوا في بناء الهيكل. وتروي نقوش الملك الآشوري تجلات بلاصر الثالث (٧٤٥-٧٢٧ ق.م) أنه أخضع الجليل في حملته على فلسطين عام ٧٣٢ ق.م وجعله جزءاً من ولايةٍ آشوريّة. ولمّا خضعت فلسطين للدّولة الفارسيّة كان الجليل ضمن ولايةٍ تمتدّ حدودها من حاصور شمالاً إلى مجدّو جنوباً. ثمّ أصبح الجليل - وعاصمته سكيثوبوليس Scythopolis أيْ بيسان- إحدى ولايات فلسطين الخمس في عهد البطالمة. ولمّا حلّ السلوقيون محلّهم مطلع القرن الثاني ق.م قلّصوا عدد تلك الولايات إلى أربع، وصار الجليل جزءاً من ولاية السامرة. ثمّ أبقى بومبيوس Pompeius في بداية العهد الرّومانيّ عام ٦٣ ق.م على الجليل تابعاً للإمارة الحشمونيّة بقيادة هيركانوس الثاني Hyrcanus II (٦٣-٤٠ ق.م)، وخلفه عليه هيرود الكبير Herod the Great الأدوميّ (٣٧-٤ق.م)، ثمّ ابنه هيرود أنتيباس H. Antipas (٤ ق.م-٣٩م). وكان الجليل مهداًً للمراحل المبكرة من دعوة المسيح “ لأنّه عاش في النّاصرة، ويقال إنّ التجلّي كان على جبل تابور، كما أنّ معجزاته ظهرت في مدن الجليل: «قانا» و»نايين» و»هِبتابيغون» (أيْ التَّبْغة). ثمّ حكم الرّومان بأنفسهم الجليل بعد تدمير الهيكل عام٧٠م، فازدهر وزاد عدد ساكنيه، ولذا كثرت فيه المدن والقرى، فدام ذلك بضعة قرون لأنّ المكتشفات التي أظهرتها أعمال التنقيب الأثريّ لا تتجاوز أواخر القرن الرابع للميلاد. ولم يُعثر في أيٍّ من المواقع في الجليل كلّه على نقوشٍ ماعدا تلك التي اكتشفت في «حاصور»، وهي بضعة نقوش قصار طُمس بعض حروفها، وقد كُتبتْ على جرارٍ لبيان أسماء مالكيها أو بائعيها فحسب.
إذا نحيت جانباً المواقع المندثرة أوالتي لم يتمكّن الباحثون من تحديدها فإنّ عدد المدن والقرى في الجليل التي أجرى علماء الآثار فيها أعمال التنقيب أوالسّبر أوالمسح زهاء عشرين، وأقدمها تلك التي بناها الكنعانيّون، ومنها: «حاصور» و«قادش» و«مَيروم» و«يَطْبَة» و«غيشالا» و«كِنّروت» و«كابول»، وتعود «فيلوتريا» و«صفّورية» و«قانا» و«كفر نَحوم» و«كُورزين» و«المَجدل» و«نايين» و«جَبَرا» و«التَّبْغَة» إلى العصرين الهلنستي أوالرّوماني، ويضاف إليها «طبريّة» و«الناصرة» اللتان سيكون لكلٍ منهما بحث مستقلّ في هذه الموسوعة.
وتُعدّ المدينة الكنعانيّة «حاصور» Hazor (تلّ القِدَح حاليّاً) من أقدم المواقع في الجليل، إذ ورد ذكرها في نصوص اللعن المصريّة التي تعود إلى القرنين ١٩ و ١٨ ق.م، كما وردت في أرشيف ماري – الذي يعود إلى القرن ١٨ ق.م- بوصفها مركزاً لانطلاق القوافل التجاريّة إلى بلاد بابل. ثمّ ذُكرتْ في كتابات الفراعنة تحوتمس الثالث (١٤٦٩– ١٤٣٦ ق.م) وابنه أمينوفيس الثاني (١٤٣٦ – ١٤١٣ ق.م) ثم سيتي الأوّل (١٣٠٧- ١٢٩١ ق.م) التي تصف حروبهم في سورية. ويُعلن حاكمها - الذي يُلقّب نفسه بالملك – ولاءه لفرعون مصر في إحدى رسائل العمارنة. وتزعم أسفار «العهد القديم» أنّ ملك حاصور كان واحداً من واحدٍ وثلاثين من الملوك الكنعانيين الذين هزمهم يشوع بن نون، وأنّ سليمان أعاد بناء المدينة، ولكنّ تجلات بلاصر الثالث دمّرها ليختفي ذكرها بعد ذلك. وقد أظهرت أعمال التنقيب التي قام بها روتشيلد J.A.Rothschild بين عامي ١٩٥٥ و ١٩٥٨، ثم بين عامي ١٩٦٨ و ١٩٧٠ في الموقع أنّ عدد طبقاته يبلغ ٢٢ تمثّل مراحل الاستيطان المتعاقبة منذ منتصف القرن ١٨ ق.م في العصر البرونزيّ الوسيط في تلك المدينة الكبرى التي كانت تتألّف من قسمين، أحدهما يقوم على رابيةٍ ولذا يُسمّى المدينة العُليا ؛ والآخر -وهو الأكبر - على سفحها ويُسمّى المدينة السُّفلى. فأمّا القسم العلوي فتعود أدواته الفخّاريّة وأنقاضه إلى العصر البرونزيّ المبكر والوسيط، وتشمل الأنقاض سوراً فوق أساسٍ حجريٍّ عرضه نحو سبعة أمتار، ومبنى كبيراً قد يكون قصراً ظلّ مستعملاً حتى نهاية العصر البرونزي المتأخّر، وإلى جواره معبد صغير مستطيل كان فيما يبدو خاصّاً بالحاكم. وأمّا القسم الأدنى منها فأهمّ مكتشفاته مئات من الأواني الفخّاريّة، و ثلاثة معابد تعود إلى عصورٍ مختلفة، يتألّف أحدها من قاعةٍ واسعة فيها مناضد حجريّة بجوار الجدران لتقديم الأضاحي، وفي الجدار الغربيّ منها مشكاة تحوي أنصاباً وتماثيل منها تمثالٌ لشخصٍ يرفع يديه باتجاه الهلال وقرص الشّمس. ويلي ذلك أنقاض العصر الحديديّ بدءاً من القرن ١٢ ق.م، وتشمل سوراً ومنازل وأجزاء من نظام نقل المياه من الينابيع المجاورة إلى المدينة التي اتّسعت وازداد عدد سكّانها، ويبدو أنّ زلزالاً ألحق بها دماراً كبيراً عام٧٦٠ ق.م، فلمّا أُعيد بناؤها جاءها تجلات بلاصر الثالث ودمّرها.
حاصور |
وتشارك «قادش»Kedesh (تلّ قَدِس حاليّاً) – التي تقع على بعد زهاء ٢٠ كم شمالي صفد – حاصور في عدّة أمور ؛ فهي مدينة كنعانيّة، وكان حاكمها واحداً من الملوك الكنعانيين الذين هزمهم يشوع بن نون، وورد ذكرها فيما يبدو في قوائم تحوتمس الثالث وفي إحدى رسائل العمارنة، وكانت ضمن المدن التي استولى عليها تجلات بلاصر الثالث. ثم ذُكرتْ في العصر الهلنستي في برديات زينون Zenon، ثم في العصر الرّوماني بصيغة Kydisos عند يوسيبيوس Eusebius الذي يجعلها على مقربة من بانياس على بعد زهاء ٣٠ كم شرقي صور. وقد اكتشف فيها مدفنٌ mausoleumحجريّ رومانيّ، ومعبدٌ رومانيّ مبنيّ بالحجر المربّع المنحوت، له ثلاثة أبواب ملأى بالزّخارف، وقد نُقش على ساكف lintel كلٍ منها حلية معماريّة على شكل وردةٍ تحوي أغصان الكرمة وعناقيدها وأوراق الأكانثوس وفوقها صورة النّسر وهو شعار الإله جوبيتر، وتخبر النقوش الإغريقية على جدار المعبد أنّه بُني في عهد الامبراطور هادريانوس Hadrianus (١١٧-١٣٨ م) عام ١١٨م، ثمّ رُمّم مرّتين عامي ٢١٥ و٢٨٠م.
المعبد الروماني في بلدة قادش |
أمّا «مَيْروم» Merom – التي تبعد عن قانا نحو٧ كم شمالاً - فهي المكان الذي اجتمع عنده الملوك الكنعانيون الذين هزمهم يشوع بن نون، والظاهر أنه هو الذي ورد في قائمة الأماكن التي أخضعها تحوتمس الثالث ثم في نقوش رمسيس الثاني ثم في حوليات تجلات بلاصر، ثم ذكرها يوسيفوس F. Josephus باسمها المعروف حالياً وهو «ميرون» Meron. وقد تبيّن للبعثة الأمريكيّة التي نقّبت هناك بإدارة ماير E. M. Meyers بين عامي١٩٧١ و ١٩٧٥م أنّ تحصينات الموقع تعود إلى القرن الثاني للميلاد، وأنّ مساحة البلدة القديمة – التي ظلت آهلة بالسكّان حتى منتصف القرن الرّابع - تبلغ نحو ١٦٠ ألف م٢.
بقايا طاحون في ميرون |
معصرة عنب في ميرون |
وورد اسم يوطبه Jotbah- التي تقع على الطرف الشماليّ من سهل البطّوف قرب صفورية - في «المشنا» ضمن قائمة المدن المسوّرة في زمن يشوع بن نون. ويشير ورود اسمها بصيغة «يَطْبَة» في سفر الملوك الثاني إلى أنّه – على الأرجح- ذو أصل كنعانيّ؛ لأنّ التنقيبات الأثريّة تدلّ على أنّ المدينة سُكنتْ في العصر البرونزيّ المتأخّر. وقد استولى عليها فسباسيان Vespasian بعد حصارٍ دام ٤٧ يوماً – كما يقول يوسيفوس - عام ٦٧ م وهو يقمع التمرّد اليهودي على الرّومان. ويظهر أنّ اسمها اليوم وهو «خِرْبة جِفات» تعريب لإحدى الصيغتين Jotapata أوJodephat من الاسم Jotbah المشار إليه.
ولا تكاد «غِيشالا» Gischala – الواقعة غربيّ حاصور- تختلف في تاريخها عن Jotbah، فقد ذُكرت في قائمة المشنا، وشاركت في التمرّد على الرّومان، وحوصرت ثم استسلمت عام ٦٧ م. وكُشف في البلدة - التي تسمّى اليوم «الجِيش» - عن أنقاض كنيسة وكنيس ٍيهوديّ.
وورد اسم «كِنّروت» Kinnaroth في أسفار «العهد القديم»، ويظهر أنّه ورد في قوائم تحوتمس الثالث أيضاً، وهي تبعد عن مدينة طبريّة نحو٩كم شمالاً، وتقع على الشاطئ الغربيّ من بحيرة طبريّة، ولذا سُمّيت البحيرة قديماً «بحر كِنّروت»، وتُسمّى اليوم «خِربة أُرَيْمه». وقد كشف المسح الأثريّ الذي أجراه B. Mazar في مدفنٍ منحوت في الصّخر آثاراً تعود إلى ثلاث فترات من العصر البرونزي المبكر تشمل فخّاراً مماثلاً لذاك المعروف في مدينة «أبيدوس» Abydos في مصر العليا؛ مما يشير إلى صلاتٍ مع مصر حينذاك. كما عُثر على حليٍّ ذهبيّة وأحجار كريمة.
وتقع «فيلوتريا» Philoteria (خِربة الكرك حاليّاً) على الطرف الجنوبيّ الغربيّ من بحيرة طبريّة على مقربةٍ من كِنّروت، ويعود زمن تأسيسها إلى القرن الثالث ق.م إذا صحَّ أنّ مؤسّسها هو بطلميوس الثاني فيلادلفوس (٢٨٥- ٢٤٦ق.م). ولكنّ التنقيبات التي أجرتها بعثة جامعة شيكاغو بإدارة ديلوغز P. Delougaz في الموقع عامي ١٩٦٣/٦٤ عثرت على فخّار من العصر البرونزيّ وأرجعتْ سور المدينة وأنقاض البيوت المبنيّة بالبازلت - وفي فناء أحدها فرن لصناعة الأواني الفخّاريّة - إلى ذلك العصر، مما يشير إلى قِدم المدينة وإلى أنها هُجرتْ زمناً طويلاً قبل أن تعود إليها الحياة في العصر الهلنستي. كما عثر المنقّبون على حصنٍ رومانيٍّ ذي أبراج مستطيلة في زواياه الأربع، وعلى حمّام رومانيّ بأقسامه الثلاثة المعروفة : البارد والدّافئ والحارّ، وعلى أنقاض كنيسة مبنيّة على شكل بازيليكا basilica مكسوّة بالفسيفساء يبدو أنها بُنيتْ في القرن الخامس ثم خربتْ مطلع القرن السّابع.
وكانت بلدة «صفورية» في الجليل الأدنى تابعةً لألكسندر ينايوس Alexander Jannaeus الحشموني (١٠٣-٧٦ ق.م)، ثم أصبحت في عهد الحاكم الرّوماني غابينيوس A. Gabinius (٥٧- ٥٥ق.م) عاصمة الجليل إحدى الولايات الخمس، وظلّت كذلك في عهد هيرود أنتيباس حتى تأسيس طبريّة عام١٨ م فحلّتْ محلّها، ولكن صفورية عادت عاصمةً للجليل بعد فصل طبريّة عنه عام٦١م حيث ألحقها الامبراطور نيرون Nero (٥٤-٦٨ م) بممتلكات أغريبا الثاني [ر]، ومنحها مرتبة «مدينة» Polis، فأصدرت عندئذٍ نقوداً باسم «إيرينوبوليس النّيرونيّة»، ثم سمّاها هادريان «ديوقيسارية» Diocasarea ووسّع ممتلكاتها وجعلها مدينة ذات حكمٍ ذاتيّ، مما أتاح لها بعد ذلك أنّ تسكّ نقوداً تحمل الاسم الجديد. وقد استطاع L. Waterman أثناء التنقيب هناك عام ١٩٣١ تحديد هويتها، واكتشف فيها معبداً رومانيّاً مخصّصاً لثالوث الآلهة: جوبيتر ويونو ومنيرفا، ومسرحاً رومانيّاً كبيراً يتسع لجلوس نحو خمسة آلاف مشاهد، وبازيليكا بيزنطيّة بُلّطتْ الأرضُ في إحدى غرفها بالفسيفساء، كما اكتشف في أكروبول المدينة حصناً يرجع إلى زمن الحروب الصليبيّة.
المسرح الروماني في صفورية |
ولاتبعد «قانا» Cana (خربة قانا حاليّاً) عن صفّورية سوى بضعة كيلومترات إلى الجنوب، وقد ظهرت أولى معجزات السيّد المسيح – كما يروي إنجيل يوحنّا – فيها عندما جعل الماء خمراً في أثناء حضوره إحدى الأعراس؛ ولذا أصبحت هذه القرية فيما بعد مزاراً للمسيحيين. كما يذكر يوسيفوس أنّه اتخذها مقرّاً له وهو يستعدّ لحرب الرّومان.
وذُكرتْ «كفر نحوم»Capernaum الواقعة على الشاطئ الغربيّ من بحيرة طبريّة في الأناجيل مراراً، إذْ جاءها السيّد المسيح من الناصرة والتقى فيها أوّل تلاميذه، وكان يبشّر ويشفي المرضى هناك، وقد وبّخها مع بلدانٍ أخرى لأنّها لم تتبْ، ووصفها يوسيفوس - المتوفّى أواخر القرن الأوّل - بأنّ أرضها شديدة الخصب. وتشير الصيغة السريانية لاسم البلدة كما وردت في الأناجيل – وهي Kfar Nahom المطابقة لصيغة «كفر نحوم»في ترجمتها العربيّة – إلى صلتها بالآراميين.وقد كشفت أعمال التنقيب التي أجراها «كول» H. Kohl و «واتسينجر» C. Watzinger عام ١٩٠٥ عن كنيسةٍ بيزنطيّة ذات أرضيّة فسيفسائيّة على شكل ثمانيّ الأضلاع، ثم كُشف تحتها عام ١٩٦٨ عن بيوتٍ أسبق زمناً لأنها تعود إلى القرن الأول الميلاديّ، وقيل إنّ أحدها كان لبطرس تلميذ السيّد المسيح.
ويرد اسم بلدة «كُورَزين» Chorazin – التي تقع على بعد ٥ كم جنوبي حاصور - في الأناجيل مقترناً بأسماء بلدانٍ أخرى – منها «كفر نحوم»- وبّخها السيّد المسيح. وتبيّن من أعمال التنقيب - التي كان أسبقها بإدارة كول وواتسنغر بين عامي ١٩٠٥ و ١٩٠٧- أنّ أقدم استيطان فيها كان في القرن الأول الميلاديّ، وأنّ البلدة كانت مأهولة في النصف الأوّل من القرن الرّابع؛ لأنّ أحدث النقود التي عُثر عليها في مجرى إحدى قنواتها يعود إلى عهد قسطنطين الكبير. ثم يصفها يوسيبيوس - المتوفى عام ٣٣٩ م- بأنها موقع مهجور، غير أنها استعادت حيويتها في زمانٍ لاحق، ويدلّ على ذلك العثور على مجموعة أخرى من النقود تعود إلى القرن السّادس.
وتقع بلدة «المجدل» Magdala على الشاطئ الغربيّ من بحيرة طبريّة، وتبعد زهاء ٥ كم عن مدينة طبريّة شمالاً. وتدلّ صيغة اسمها السريانيّة Magdôlâ – أيْ «البُرْج» - كما وردت في أسفار «العهد القديم» على صلة البلدة بالآراميين. وقد أعطى نيرون – كما يقول يوسيفوس- كلتا المدينتين لأغريبا الثاني، فسُمّيتْ حينذاك طاريخياي Taricheae، ثم شاركت في التمرّد على الرّومان عندما نزل بها يوسيفوس وحصّنها، فحاصروها واستولوا عليها. وأظهرت التنقيبات التي أُجريت فيها بين عامي ١٩٧١ و ١٩٧٥ بإدارة كوربو V. Corbo أنقاض ديرٍ ومدينة رومانيّة تتضمّن شارعين مستقيمين متقاطعين وكنيساً يهوديّاً صغيراً.
المجدل - طبريا |
وليست «نايين» Nain - ويسمّيها يوسيبيوس Naeim - سوى قرية على بعد ١٠ كم إلى الجنوب الشّرقي من الناصرة، أحيا فيها السيّد المسيح - كما يروي إنجيل لوقا – ابناً وحيداً لإحدى الأرامل. وقد عُثر في هذا الموقع المهم- الذي عُرف في العصر البيزنطي باسم Kome Nais «قرية نَيِس»– على قبورٍ منحوتة في الصّخور، وعلى أنقاض كنيسة من العصور الوسطى في إطار مبنى دينيّ أقدم زمناً لمْ تُعرف هويّته بعد.
نايين |
ويصف يوسيفوس «جَبَرا» Gabara أو Gabathon بأنها – من حيث الحجم – ثالثة المدن في الجليل بعد طبريّة وصفّورية، وأنها كانت أولى المدن التي اقتحمها فسباسيان عام ٦٧ م وهو يقمع التمرّد اليهودي على الرّومان، فوجدها مهجورة ولذا أحرقها – كما يقول يوسيفوس - مع القرى المجاورة لها.
أمّا «هِبتابيغون» Heptapegon أيْ «الينابيع السّبعة» («التَّبْغَة» حاليّاً)– التي تقع قرب بحيرة طبريّة ولا تبعد عن المجدل أكثر من٣ كم- فيبدو أنّ أوّل من ذكرها هو الرّاهب اليونانيّ سيرل Cyril الذي وُلد في سكيثوبوليس (أيْ عكّا) وعاش في فلسطين في القرن السّادس الميلاديّ. وتقول الرّوايات المسيحيّة إنّ ظهور السيّد المسيح أمام التلاميذ بعد القيامة كان فيها، وتذكر أنّ إحدى معجزاته التي ترويها الأناجيل وهي إطعامه بخمسة أرغفة وسمكتين بضعة آلاف من الناس وقعت هناك. ولذا بُنيتْ في هذا الموقع بعد منتصف القرن الرّابع كنيسة تذكارية أصبحت مزاراً للحجّاج، وقد جرى التنقيب فيها بإدارة شنايدر A. M. Schneider ومادر A.E. Mader عام ١٩٣٢، ثم كُشف عام ١٩٣٦ تحت أرض الكنيسة عن كنيسة أخرى أصغر حجماً، ولعلّ ما يستحقّ الانتباه في ما بقي من اللوحة الفسيفسائيّة في صحن الكنيسة أنها مزيّنة بمناظر من وادي النّيل تشمل أزهار اللوتس وقصب البرديّ وطيور الإوزّ والبطّ والكُرْكي وغيرها.
كنيسة الخبز والسمك (التبغة) |
فسيفساء كنيسة الخبز والسمك |
ويُضاف إلى ذلك كله مواقع أخرى - وردت أسماء بعضها في أسفار «العهد القديم» - لم تتضح صورتها بعد، فمنها قريتان في الجليل الأعلى قريبتان من صفد هما «كَفْر برم» Kefar Baram جنوبي المدينة ؛ و«كفر نيبوريا» Kefar Niboraya (خِربة النَّبَرتين حاليّاً) شماليّها، ومنها بلدتان في جنوب شرقيّ عكّا؛ إحداهما «أفيق» Aphekالكنعانيّة التي يُقال إنها تقع على «تلّ كُرْدانه»، والأخرى «حَنّاتون» (تلّ البديويّه حاليّاً) التي وردت بصيغة Hunnatuna في رسائل العمارنة بوصفها بلدة مهمة غربيّ الجليل، ثم وردت ضمن البلدان التي اجتاحها تجلات بلاصرالثالث، ومنها «دَبَرة» التي ذكرها يوسيفوس بصيغة Dabaritta، ثم ذكر يوسيبيوس أنها كانت في السّفح الشّماليّ من جبل تابور وكانت تتبع صفّورية، وهيلينوبوليس Helenopolis التي بنتها Helene أمّ الامبراطور قسطنطين الكبير، ومازال موقعها غير معروف.
قانا |
كفر ناحوم |
والخلاصة أنّ هذا العرض الموجز للمواقع الأثريّة في الجليل يشهد على أهميّة هذه المنطقة في تاريخ فلسطين القديم وحضارتها، ولاشكّ في أنّ المزيد من أعمال التنقيب والمسح سيجعل هذه الصورة أكثر وضوحاً واكتمالاً.
رفعـت هـزيـم
مراجع للاستزادة: - A.H.M.Jones, The Cities of the Eastern Roman Provinces (Amsterdam 1983). - J.Simons, Geographical and Topographical Texts of the Old Testament (Leiden 1959).
|
- التصنيف : آثار كلاسيكية - المجلد : المجلد الخامس مشاركة :