إيبلا
ايبلا
Ebla -
عيد مرعي
بيئة إيبلا الطبيعية وقصة اكتشافها
تاريخ الموقع وطبقاته الأثرية والبقايا المعمارية
تتميز إيبلا Ebla بأهمية خاصة لكونها أقدم الممالك التي ظهرت في سورية، فضلاً عن كونها من أهم المدن السورية القديمة [ر]. وكانت منطقة نفوذها تمتد بين البحر المتوسط في الغرب ونهر الفرات في الشرق، وبين جبال طوروس في الشمال وحوض نهر العاصي (سهول حمص وحماة) في الجنوب. ويعرف موقعها حالياً باسم تل مرديخ الواقع على بعد نحو خمسة وخمسين كيلومتراً جنوب- غربي مدينة حلب (على بعد نحو كيلومترين من الطريق الرئيس الواصل بين حلب وحماة).
بيئة إيبلا الطبيعية وقصة اكتشافها:
تتصف المنطقة التي نشأت فيها مملكة إيبلا بغناها بالموارد الاقتصادية، فضلاً عن موقعها الاستراتيجي المتمثل بأنها صلة وصل بالغة الأهمية بين مناطق الشرق الأدنى القديم المختلفة، فهي تربط بين بلاد الرافدين (العراق) في الشرق وعالم البحر المتوسط في الغرب، وبين هضبة الأناضول (آسيا الصغرى) في الشمال وجنوبي سورية وفلسطين وما بعدها في الجنوب. شكلت المناطق الجبلية الغربية القريبة من سواحل البحر المتوسط الشرقية ومناطق جبال طوروس الواقعة في الشمال مورداً للأخشاب المختلفة بسبب غناها بأنواع متعددة من أشجار الفصيلة الصنوبرية، مثل الأرز والسرو والصنوبر وغيرها. كما أن قرب إيبلا من سواحل البحر المتوسط الشرقية سهل عليها عملية الاتصال بعالم البحر المتوسط وقبرص ومصر عن طريق أوغاريت التي تذكر مراراً في محفوظات إيبلا الملكية. كذلك فإن السهول المحيطة بمدينة إيبلا أو القريبة منها كانت مناطق زراعية مناسبة لزراعة مختلف أنواع الحبوب والأشجار المثمرة مثل القمح والشعير والزيتون والكروم والتين واللوز والرمان، وذلك بسبب خصوبة التربة وسقوط كميات كافية من الأمطار لنشوء زراعة مزدهرة. وما زالت هذه المناطق حتى اليوم مناطق إنتاج زراعية من الدرجة الممتازة. كما أن قرب إيبلا من سهول البادية الغنية بغطاء نباتي كافٍ من المراعي من جهة الشرق أتاح لسكانها إمكانية تربية أعداد كبيرة من الحيوانات من مختلف الأنواع ولاسيما الأغنام التي تذكر بأعدادٍ كبيرة في نصوص المحفوظات الملكية الإيبلاوية. وقد ساهم هذا بدوره في ازدهار بعض الصناعات في هذه المدينة مثل صناعة الأنسجة التي أدت دوراً مهماً في اقتصادها.
لفت تل مرديخ انتباه المهتمين بالآثار إليه، سواء بشكله الكبير أم بسبب بقايا الأواني الفخارية الملتقطة من على سطحه منذ العام 1955م. والأهم من ذلك عثور فلاح (في العام نفسه) - من قرية تل مرديخ المجاورة وهو يقوم بحراثة حقله في التل - على حوض حجري من البازلت نحتت على جوانبه الخارجية مشاهد نافرة لموضوعات أسطورية وحربية ودينية مثل مشهد الوليمة المقدسة والراعي البطل الذي يدافع عن الحيوانات الأليفة. وقد رأى علماء الآثار أن تاريخ هذا الحوض يرقى إلى نحو 1900-1850 ق.م. لكن على الرغم من أهمية هذا التل لم تجرِ فيه أي حفريات أثرية حتى الثالث عشر من شهر أيلول/سبتمبر 1964م عندما بدأت بعثة أثرية إيطالية من معهد دراسات الشرق الأدنى القديم بجامعة روما La Sapienzà- Universita di Roma برئاسة الآثاري پاولو ماتييه P. Matthiae. وكان قد قام بزيارة تل مرديخ في العام 1962م بعد أن شاهد في متحف حلب الحوض الحجري البازلتي المكتشف عام 1955م.
لم يكن أحد يتوقع - ولا حتى ماتييه نفسه - أن الحفريات في تل مرديخ ستؤدي إلى الكشف عن إحدى أهم المدن السورية القديمة وأعرقها، ألا وهي مدينة إيبلا التي كانت عاصمة لمملكة مزدهرة تحمل اسمها ازدهرت في النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد.
مخطط طبوغرافي لتل مرديخ |
يتصف تل مرديخ بأنه تل كبير له شكل شبه منحرف تقريباً، تبلغ مساحته ستة وخمسين هكتاراً، ويمتد نحو ألف وثمانمئة متر من الشمال إلى الجنوب، ونحو سبعمئة متر من الشرق إلى الغرب، ويبلغ ارتفاعه ثلاثة عشر متراً. ويتألف من مرتفع مركزي بنيت فوقه المدينة العليا (الأكروبول Acropolis) التي تضم الأبنية العامة والرسمية من قصور ومعابد، ومن منطقة سهلية تحيط بالأكروبول كانت توجد فيها أحياء المدينة ممتدة على شكل دائري (المدينة السفلى Lower City)، ويحيط بها إكليل مرتفع يدل على السور الضخم الذي كان يحيط بمدينة إيبلا كلها ويحميها من الأعداء في العصور القديمة. وتظهر في هذا الإكليل أربع فجوات في الجنوب الغربي والجنوب الشرقي، وفي الشمال الشرقي والشمال الغربي، هي مواضع بوابات المدينة التي كانت تسمح للسكان بالدخول والخروج من إيبلا.
استمرت الحفريات في تل مرديخ نحو أربع سنوات (من العام 1964 إلى العام 1968م) من دون أن تتمكن البعثة الإيطالية المنقبة من العثور على آثار ذات أهمية تذكر. واقتصرت اللقى المكتشفة على بقايا معمارية (أنقاض قصرين ومعبدين وجزء من السور) وعلى بعض الأواني الفخارية والأدوات البرونزية والقطع الفنية التي تعود إلى العصور المتأخرة من تاريخ هذا الموقع.
كانت نقطة البداية والمفتاح لمعرفة اسم المدينة التي بُنيت في تل مرديخ، وتاريخها وحضارتها العثور في موسم تنقيب العام 1968م على جذع تمثال رجل منحوت من حجر الصوان الأسود (TM.68.G.61) فقد رأسه وجزءاً من جانبه الأيمن، فضلاً عن الكشف عن البوابة الجنوبية الغربية وبقايا أبنية ومدافن. تكمن أهمية هذا التمثال أنه نقش على الجزء العلوي من الصدر كتابة مؤلفة من ستة وعشرين سطراً باللغة الأكادية والكتابة المسمارية، أمر بنقشها إبِط- لِم Ibbit-Lim بن إجرِش- خيبا Igrish-Hepa، أحد ملوك إيبلا في بداية الألف الثاني قبل الميلاد. وكان اللافت للانتباه في هذا النقش ورود اسم إيبلا فيه مرتين، مرة صفة ومرة اسماً. ونجم عن ذلك أن المنقبين تأكدوا أنهم يحفرون في موقع مدينة إيبلا القديمة التي كانت معروفة سابقاً بالاسم فقط من خلال ذكرها في نصوص قديمة رافدية ومصرية وحثية متعددة، والتي كان يعتقد أنها تقع في مكان ما في شمالي سورية أو جنوبي تركيا.
ولكن على الرغم من العثور على جذع التمثال والنقش الذي عليه بقي فريق من مؤرخي الشرق الأدنى القديم والمختصين بآثاره يشكك في المطابقة بين إيبلا وتل مرديخ لوجود احتمال بأن يكون التمثال منقولاً من مكان آخر. واستمر الحال كذلك حتى شهر آب/أغسطس من العام 1974م عندما تم العثور في إحدى غرف الجناح الشمالي- الغربي من القصر الملكي ج (L.2589) (G) - وهو القصر الرئيس من عصر ازدهار إيبلا في النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد- على اثنين وأربعين لوحاً وكسرة طينية تحمل كتابات بالخط المسماري، وبلهجة سورية قديمة غير معروفة سابقاً، اصطلح على تسميتها فيما بعد اللغة الإيبلاوية، نسبة إلى إيبلا.
مخطط القصر الملكي «G» |
وعثر في شهر آب/أغسطس من العام 1975م في غرفتين أخريين من غرف القصر الملكي (L.2769, 2715) على نحو خمسة عشر ألف لوح وكسرة طينية مكتوبة بالخط المسماري أيضاً، كانت مرتبة على رفوف خشبية احترقت وانهارت نتيجة النيران التي شبت في القصر الملكي. وكشفت حفريات العام 1976م عن نحو ألف وخمسمئة لوح وكسرة طينية أخرى. فبلغ بذلك مجموع الرقم المكتشفة نحو سبعة عشر ألف رقيم وكسرة طينية مكتوبة تمثل بمجموعها المحفوظات الملكية الإيبلاوية التي تعد إحدى أهم محفوظات الشرق الأدنى القديم وأقدمها، وهي محفوظة حالياً في متحف مدينة إدلب مع بقية الآثار المكتشفة في تل مرديخ وغيره من المواقع الأثرية في محافظة إدلب.
أثار اكتشاف المحفوظات الملكية الإيبلاوية ضجة علمية اكتشاف إيبلا غير الاعتقاد السابق القائل إن الحضارات الأولى في تاريخ البشرية نشأت في أودية الأنهار حيث ظهرت المستوطنات ومراكز التجمع البشري الأولى، وأقيمت مشاريع الري الصناعية، وتكونت المدن. فإيبلا كانت بعيدة عن الأنهار الكبرى، واعتمدت في زراعتها على مياه الأمطار اعتماداً أساسياً.
تاريخ الموقع وطبقاته الأثرية والبقايا المعمارية:
تشير أقدم الآثار المكتشفة في تل مرديخ - هي كسرات أوانٍ فخارية من النوع البسيط - إلى حدوث استيطان في منطقة المدينة العليا وبعض السهول المجاورة خلال الحقبة الممتدة مابين 3500-3000 ق.م. كما تم العثور أيضاً على ثلاثة أختام أسطوانية يرقى تاريخها إلى دور أوروك [ر] Uruk المتأخر (3600-3100 ق.م) الذي يمثل فجر الكتابة في الشرق الأدنى القديم. وبناء على ذلك يمكن القول إن الاستيطان البشري في تل مرديخ بدأ في النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد على الأقل، متزامناً في ذلك مع ظهور المدن الأولى في منطقة الفرات الأوسط والجزيرة السورية وجنوبي بلاد الرافدين. وقد أعطى الموقع الجغرافي والظروف الطبيعية المناسبة للاستقرار المستوطنة الأولى في تل مرديخ إمكانية النمو والتطور والازدهار حتى بلغت الأوج في النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد.
إجمالاً يمكن ترتيب الطبقات الأثرية المكتشفة في تل مرديخ على النحو الآتي:
1- مرديخ I 3500-3000 ق.م آخرالعصر الحجري النحاسي.
2- مرديخ IIA 3000-2350 ق.م العصر البرونزي القديم الأول- الثالث.
3- مرديخ IIB1 2350-2250 ق.م العصر البرونزي القديم الرابع أ.
4- مرديخ IIB2 2250-2000 ق.م العصر البرونزي القديم الرابع ب.
5- مرديخ III A 2000-1800 ق.م العصر البرونزي الوسيط الأول.
6- مرديخ IIIB 1800-1600 ق.م العصر البرونزي الوسيط الثاني.
7- مرديخ IV A 1600-1400 ق.م العصر البرونزي الحديث الأول.
8- مرديخ IV B 1400-1200 ق.م العصر البرونزي الحديث الثاني.
9- مرديخ A V 1200-900 ق.م عصر الحديد الأول.
10- مرديخ B V 900-720 ق.م عصر الحديد الثاني.
11- مرديخ C V 720- 535 ق.م عصر الحديد الثالث.
12- مرديخ VI A 535 -330 ق.م.
13- مرديخ VI B 330 -60 ق.م.
14- مرديخ VII A القرنان 3-4 الميلاديان.
15- مرديخ VII B القرنان 5-7 الميلاديان.
منظر المدينة المرتفعة في تل مرديخ (إيبلا) |
تصنيف نصوص المحفوظات المكتشفة:
تكمن أهمية محفوظات إيبلا الملكية في أنها المصدر الوحيد المكتوب عن تاريخ شمالي سورية في النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد الذي يزود بمعلومات عن العلاقات التي كانت سائدة آنذاك في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية وغيرها. ويمكن تصنيفها بحسب فحواها إلى:
أولاً- نصوص اقتصادية وإدارية:
تمثل العدد الأكبر من النصوص المكتشفة، وتتحدث على نحو أساسي عن النشاطات الاقتصادية المختلفة من زراعية وصناعية وتجارية، وتقسيم الأراضي الزراعية واستغلالها وكمية إنتاجها، وإنتاج المنسوجات وتوزيعها داخل مملكة إيبلا أو تصديرها إلى الممالك والبلدان المجاورة، وبالتالي فهي مفيدة جداً في تعرف جوانب الحياة الزراعية والحرفية، ومدى ضخامة الإنتاج الزراعي والحيواني والحرفي، وآفاق اتساع علاقات إيبلا الخارجية.
ثانياً- رسائل ونصوص دبلوماسية:
وهي مجموعة من الرسائل والمعاهدات التي أرسلها أو عقدها ملوك إيبلا مع حكام المدن وملوك الممالك المختلفة، وأشهرها تلك المعاهدة التجارية التي عقدتها إيبلا مع مملكة تدعى أبارسال Aparsal، يعتقد أنها تقع في منطقة ما في بلاد الرافدين، والرسالة التي أرسلها إركب- دامو Irkab- Damu ملك إيبلا إلى ملك خمازي التي كانت تقع على ما يبدو في مناطق جبال زاغروس الغربية (ربما شرق منطقة ديالى).
ثالثاً- النصوص الأدبية والدينية:
إن ما هو معروف حتى الآن من النصوص الأدبية قليل جداً لكونها لم تدرس وتنشر بعد. إلا أن الدراسات الأولية لها أظهرت أنها تضم أعمالاً أدبية مهمة، من بينها نحو عشرين أسطورة محفوظة في نسخةٍ واحدة أو أكثر، مثل ملحمة جلجامش المشهورة، وثلاث نسخ من أسطورة خلق الكون الشبيهة بأسطورة خلق الكون البابلية (إينما إيلِش: عندما في العُلى). كما توجد ترانيم دينية متعددة، منها ترنيمة موجهة لإله الشمس (أوتو Utu بالسومرية وشمش Shamash بالأكادية) تذكر فيها أسماء الآلهة الرافدية الرئيسة: إنليل Enlil إله الجو، إنكي Enki إله مياه العمق والحكمة، ونانّا Nanna إله القمر. وهناك أيضاً نصوص تتحدث عن شعائر زواج الملك والملكة.
رابعاً- القوائم المعجمية والعلمية والمدرسية:
قام كتبة إيبلا بوضع قوائم معجمية لمساعدة الكتَّاب والمعلمين على ممارسة الكتابة ومعرفة المترادفات اللغوية والمعارف العامة، ومنها قوائم بأسماء الحيوانات والنباتات وغيرها. وهناك قوائم معجمية أحادية اللغة (سومرية أو الإيبلاوية) وثنائية اللغة (الإيبلاوية - سومرية).
وهناك قائمة مكتوبة على عدة ألواح طينية مؤلفة من ألف وأربعمئة وسبع وخمسين مفردة سومرية مع مرادفاتها الإيبلاوية. إن هذا النص المعجمي الذي عثر على نسخ متعددة منه يمكن أن يكون أقدم معجم عرفته البشرية.
مما تجدر الإشارة إليه أن التلاميذ في مختلف مدن الشرق الأدنى القديم - بما فيها المدن السورية - كانوا يتعلمون القراءة والكتابة والمعارف الأخرى في مؤسسات ملحقة بالمعابد والقصور تسمى في اللغة الأكادية "بيت طُبِّ" Bit tuppi بمعنى بيت الألواح أو غرفة المحفوظات، وكانت أيضاً بمنزلة المدرسة بالمفهوم العصري، يتعلم فيها التلميذ مختلف فنون المعرفة من قراءة وكتابة وحساب وفلك وتاريخ وجغرافية وعلوم مختلفة. ويؤلف فيها الكهنة والمعلمون، أو ينسخون الملاحم والأساطير والأشعار ومختلف الأعمال الأدبية والعلمية، أي إنها لم تكن مراكز للتعليم فقط، بل أماكن للابتكار ولحفظ التراث الثقافي والديني والعلمي، يعيش بين جدرانها أرباب المعرفة الذين يتقنون اللغة والقراءة والكتابة والرياضيات والمعارف المختلفة المتعلقة بالنبات والحيوان، أي باختصار جميع معارف العصر. وتبرز أهمية المدارس في إيبلا بصورة أفضل من خلال النصوص التي يمكن أن تعد "كتباً تعليمية"، إذ كانت تستخدم وسيلة لتعليم التلاميذ مختلف أنواع المعرفة، كقوائم الرموز المسمارية، وقوائم بأسماء النباتات والحيوانات والأسماك والأشجار والمعادن والأحجار الكريمة وغيرها، ويمكن أن تسمى "موسوعات".
تختلف ألواح المحفوظات الملكية الإيبلاوية بعضها عن بعض من حيث الشكل والأبعاد، فالألواح التي تسجل الصادرات من الأنسجة مربعة في معظمها (16*16سم)، مسطحة الوجه ومحدبة الظهر. أما الألواح التي تسجل الصادرات من الذهب والفضة فهي كبيرة نسبياً (37*32 سم). وكذلك هو حال القوائم المعجمية والمعاهدات (40*35 سم) التي تتميز بشكلها المربع أو المستطيل وبسماكتها. وهناك عدد غير قليل من الألواح بيضوية الشكل، صغيرة الحجم، مختلفة المواضيع.
كانت الألواح توضع في الأماكن المخصصة لها وتصنف بحسب مواضيعها. وتظهر حجرة المحفوظات الملكية الرئيسة (L.2769) ترتيباً مكتبياً للألواح التي كانت موجودة فيها. ففي هذه الغرفة التي تبلغ أبعادها 5.10*3.55م رتبت الألواح على رفوف خشبية (عددها ثلاثة على ما يبدو) مثبتة في الجدران، ولها دعائم خشبية أرضية. وقد وضعت الصغيرة فوق والكبيرة تحت. ويبلغ عمق الرف ثمانين سنتيمتراً، وتفصلها عن الرف الآخر خمسون سنتيمتراً. وقد تحولت تلك الرفوف والدعائم الخشبية إلى رمادٍ نتيجة للنيران التي شبت في القصر الملكي G في نهاية عصر المحفوظات الملكية، وأدت بالتالي إلى شيّ الألواح الطينية واكتسابها صلابة ساعدتها على تحمل عوامل الطبيعة المختلفة على مدى آلاف من السنين.
كانت الكتابة تتم على وجهي اللوح الطيني، وذلك بتقسيم كل لوح إلى أعمدة قائمة يكتب في كل منها عدد مختلف من السطور. فبعد أن يقسم الكاتب وجه اللوح إلى أعمدة يبدأ بكتابة العمود الأول ذاهباً من اليسار إلى اليمين. ويكتب سطور كل عمود من الأعلى إلى الأسفل. وعندما يصل إلى السطر الأخير من العمود الأخير على وجه اللوح فإنه لا يقلب اللوح كما تقلب ورقة الكتابة حالياً، بل يقلبه رأساً على عقب، أي بشكل طولي، ثم يتابع الكتابة على القفا بعكس ترتيبها على وجه اللوح بحيث يقابل أعلى القفا أسفل الوجه ويبدأ بالعمود الأول على القفا من جهة اليمين وليس من جهة اليسار كما هو على الوجه.
لقد تم العثور في غرفة (L.2875) مجاورة لحجرة المحفوظات الملكية الرئيسة على نحو أربعمئة وخمسين لوحاً وكسرة طينية، وعلى جرة مملوءة بالطين، وعلى بعض أدوات الكتابة (أقلام من عظم)، مما يدل على أن هذه الغرفة كانت تستخدم لكتابة الألواح الطينية.
بقايا السور الخارجي وبوابة دمشق في إيبلا |
نشأ بعد اكتشاف المحفوظات الملكية الإيبلاوية خلاف كبير بين الباحثين حول زمن هذه المحفوظات، وإلى أي عصر تعود. فرأى پاولو ماتييه رئيس البعثة الإيطالية المنقبة في إيبلا أن المحفوظات تعود إلى ما بين 2400-2250 ق.م، وذلك بناءً على بعض الآثار المكتشفة ولاسيما كسرات الأواني المصرية التي تحمل أسماء الملكين المصريين المشهورين خفرع Khafra من السلالة الرابعة، وبيبي الأول Pepi I من السلالة السادسة (عصر المملكة المصرية القديمة). لكن من المعروف أن خفرع رابع ملوك الأسرة الرابعة حكم على ما يعتقد ما بين 2558-2532 ق.م، وحكم بيبي الأول ثالث ملوك الأسرة السادسة ما بين 2402-2377 ق.م. وبناء على ذلك يمكن القول إن الزمن المعطى من قبل ماتييه يمكن أن يعاد أكثر من قرن إلى الوراء. أما جيوفاني بيتيناتو G. Pettinato - أول من قرأ نصوص إيبلا- فقد استند إلى المعلومات الواردة في نصوص المحفوظات وإلى تشابه الكتابة المسمارية التي استخدمت في كتابة نصوص إيبلا مع تلك التي استخدمت في كتابة نصوص تل "أبو الصلابيخ" [ر] (على بعد 145 كم جنوب- غرب بغداد)، إلى جانب استعمال أعداد وأسماء أشهرٍ واحدة، ليفترض أن محفوظات إيبلا الملكية تعود إلى مابين 2600-2500 ق.م، وهي معاصرة لزمن سلالة كيش الأولى في بلاد الرافدين ولزمن السلالة الرابعة في مصر القديمة. وعدَّ ألفونسو أركي A. Archi - الذي حل محل بيتيناتو قارءاً لنصوص إيبلا- تأريخ نصوص محفوظات إيبلا الملكية في النصف الأول من القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد، واعتقد أنها تغطي حقبة زمنية متصلة تبلغ نحو خمسين عاماً. ورأى أن الحضارة التي ازدهرت في إيبلا في تلك الحقبة تطورت بقواعدها الأساسية قبل عدة عقود من الزمن على الأقل، وربما في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد. وأدلى باحثون آخرون معروفون بآراء أخرى متعددة مختلفة.
القصر الملكي «G» من العصر الذهبي الأول (2400 - 2250 ق.م) |
باختصار لا يوجد اتفاق بين آثاريي الشرق الأدنى القديم ومؤرخيه حول تأريخ عصر محفوظات إيبلا الملكية، ذلك العصر الذي بلغت فيه إيبلا بوصفها مملكة أوج تطورها وازدهارها، وتمتعت فيه بدرجة كبيرة من القوة مكنتها من مد نفوذها على المناطق المجاورة. ولكن يمكن القول - بناء على المعطيات الأثرية ومعلومات النصوص المكتشفة - إن ذلك العصر كان خلال النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد، وانتهى على ما يبدو على يد الملك الأكادي المشهور نارام- سين Naram-Sin (2260-2223 ق.م) الذي دمر المدينة وقضى على نفوذها وسيطرتها في شمالي سورية.
أثار اكتشاف المحفوظات الملكية الإيبلاوية نقاشاً حاداً بين المختصين في تاريخ الشرق الأدنى القديم ولغاته حول تصنيف اللغة التي استخدمت في كتابة نصوص إيبلا، التي تظهر اختلافاً عن لغات المشرق العربي القديم الأخرى مثل الأكادية والأوغاريتية والآرامية والفينيقية وغيرها. وكان علماء لغات قديمة مشهورون (من أمثال فون زودن W.von Soden ولاندسبيرغيرB. Landsberger . وتيو باور Th. Bauer) قد صرحوا قبل اكتشاف إيبلا بسنوات عدة عن اعتقادهم بوجود لغة "سامية" في سورية في الألف الثالث قبل الميلاد، يمكن أن تكون إما لهجة أكادية خاصة، وإما لهجة أمورية قديمة.
انقسمت آراء المختصين حول تصنيف اللغة الجديدة المكتشفة في إيبلا إلى ثلاثة آراء:
1- الرأي الأول يقول إنها لغة كنعانية قديمة، أو ما قبل الكنعانية، وكانت معاصرة للغة الأكادية التي انتشرت في بلاد الرافدين منذ منتصف الألف الثالث قبل الميلاد على الأقل.
2- الرأي الثاني يقول إنها لهجة أكادية غربية.
3- الرأي الثالث رأى أنها لغة مستقلة ضمن لغات المشرق العربي القديم، وهي أقرب ما تكون إلى اللغتين الأكادية والأمورية، علماً أن اللغة الأكادية التي ظهرت أولاً في بلاد الرافدين انقسمت مع الزمن إلى لهجات عدة استخدمت في مناطق متعددة من الشرق الأدنى القديم، ومنها سورية. أما اللغة الأمورية فهي معروفة فقط من خلال أسماء العلم الواردة في النصوص الأكادية.
على أي حال يمكن القول إن اللغة التي أطلق عليها الباحثون المعاصرون اسم الإيبلاوية نسبة إلى إيبلا تظهر تشابهاً كبيراً مع اللغة العربية، شأنها في ذلك شأن بقية لغات المشرق العربي القديم الأخرى، وهي أقدم لغة معروفة من سورية حتى الآن، وتربطها بلغات المشرق العربي القديم الأخرى صفات مشتركة تظهر واضحة في القواعد والنحو والمفردات وأسماء العلم وغيرها.
استخدم أهل إيبلا الكتابة المسمارية في كتابة لغتهم، وهي الكتابة التي يعزى ابتكارها إلى السومريين في أواخر الألف الرابع قبل الميلاد في جنوبي بلاد الرافدين. وهي كتابة مقطعية استخدمت لتدوين عدد من لغات الشرق الأدنى القديم مثل الأكادية والحثية والحورية. لكن سكان إيبلا استخدموها على نحو يتناسب مع خصائص لغتهم وصفاتها، كما هو الحال اليوم في استخدام الخط العربي لكتابة اللغة الفارسية أو لغة الأوردو، وقبل ذلك اللغة العثمانية، بشكل يناسب تلك اللغات، وكذلك استخدام الحروف اللاتينية لكتابة العديد من اللغات الأوربية الحديثة، على نحو يتناسب مع قواعد تلك اللغات وصفاتها.
تعود بدايات الاستيطان البشري في موقع تل مرديخ إلى النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد. وتطورت المستوطنة الناشئة مع الزمن إلى مدينة مهمة أصبحت عاصمة لمملكة قوية بدءاً من منتصف الألف الثالث قبل الميلاد. ويمكن القول - بناءً على المكتشفات الأثرية ونصوص المحفوظات الملكية - إن إيبلا شهدت عصرين من الازدهار والقوة، الأول ما بين 2500-2250 ق.م وانتهى بتدميرها على أيدي الأكاديين. في هذا العصر كانت إيبلا تحكم من قبل "ملك" بيده السلطة على كل المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية والدينية وغيرها. وبسبب قلة النصوص التي تتحدث عن النواحي السياسية هناك مشكلة في معرفة أسماء الملوك، وترتيبهم، وعدد سنوات حكمهم، والعلاقة فيما بينهم. وهناك تضارب في الآراء بين الباحثين حول هذه الأمور. غير أنه يمكن القول حالياً بشيء من التأكيد أن ثلاثة ملوك حكموا إيبلا في عصر الأرشيف الملكي الذي دام نحو خمسين عاماً، وهم:
1- إجرِش- خَلام Igrish- khalam 2- إرْكَب- دامو Irkab- Damu 3- إشار- دامو Ishar- Damu، وهم الملوك الذين تذكرهم بعض النصوص الإدارية. إذ إن معظم النصوص تذكر الملك بلقبه، وليس باسمه. أما بعض الأسماء الأخرى مثل إبريوم Ebrium، وإبي- زيكير Ibbi- Zikir، وأرّوكوم Arrukum، التي اعتقد سابقاً أنها أسماء ملوك، فما هي في الواقع - كما أثبتت الدراسات العلمية الموضوعية - إلا أسماء لموظفين كبار ووزراء عملوا في الإدارة الإيبلاوية، ولا علاقة لأي منهم بشخصيات من العهد القديم مثلما حاول بعضهم افتراضه خطأً.
كان الملك يقيم في قصر كان داراً للسكن ومركزاً للحكم والإدارة. وقد كشف المنقبون عن عدة قصور في إيبلا، أقدمها وأشهرها القصر ج (G) الذي بني على الطرف الجنوبي الغربي من المدينة العليا، ويرقى تاريخ بنائه إلى عصر المحفوظات الملكية (2350-2250 ق.م Mardikh II B1، العصر البرونزي القديم)، وما تزال جدرانه ترتفع حتى بضعة أمتار.
كان القصر الملكي (G) المركز السياسي والاقتصادي والإداري للمدينة التي عاصرت الفترة الثالثة من عصر السلالات السومرية الباكرة والفترة الأولى من العصر الأكادي، وتم العثور فيه على المحفوظات الملكية. يتألف هذا القصر من عدة أقسام، أهمها الساحة العامة والبرج والدرج والبوابة الرئيسة والجناح الإداري. وتبلغ مساحة الساحة العامة التي تطل على الأجزاء الغربية والجنوبية الغربية من المدينة 50*27 متراً. وقد بني جداراها الشمالي والشرقي من اللبن على أساسات حجرية. وكان يحيط بهذين الجدارين رواقان محمولان على أعمدة خشبية كبيرة كانت منتصبة فوق قطع حجرية ضخمة. وأقيمت في الرواق الشمالي منصة العرش الملكية من اللبن المطلي بالكلس، وتبلغ أبعادها 4.5*3م، وارتفاعها 50سم. ويوجد في ظهر الرواق الشرقي مدخل ودرج كبير يصل بين الساحة العامة وأقسام القصر الشرقية. أما البرج فكان قائماً في الزاوية الشمالية الشرقية من الساحة، وتبلغ أبعاده 11*10م، وسماكة جدرانه 2.8م.
كان يوجد إلى جانب الملك مجلس للشيوخ تألف على ما يظهر من زعماء العائلات القوية والمتنفذة والغنية في مملكة إيبلا، وكانوا يشاركون الملك في اتخاذ القرارات الحاسمة والضرورية لحماية مصالح المملكة. ويبدو أنه كان على الملك مراعاة مصالحهم، وبالتالي يمكن القول إنه لم يكن مطلق السلطات في إدارة شؤون المملكة. كان الملك نظرياً مسؤولاً عن كل شؤون المملكة، ولكن كانت الدولة تدار عملياً من قبل مجموعة من الموظفين الكبار الذين كانوا مسؤولين عن حكم المقاطعات والمدن وإدارتها باسم الملك، وكانوا غالباً من أفراد الأسرة المالكة، أو من المقربين منها، أو من المتنفذين في المملكة، ويتبعهم عدد من الوكلاء والموظفين.
ازدهرت في إيبلا صناعات وحرف مختلفة يأتي في مقدمتها صناعة الأنسجة التي كانت تعتمد اعتماداً رئيسياً على الإنتاج المحلي من صوف الأغنام، وعلى الكتان الذي كان يزرع في إيبلا. وتذكر النصوص تسميات مختلفة للأنسجة التي كانت تصدر إلى المدن والممالك المجاورة. إلا أن صناعة الأنسجة لم تكن الصناعة الوحيدة في إيبلا، بل كانت هناك صناعات أخرى متعددة مثل صناعة المفروشات الخشبية وزخرفتها وتطعيمها، وتصنيع المعادن الثمينة والأحجار الكريمة وشبه الكريمة. ومن أشهر القطع الفنية المكتشفة تمثال لثور بري برأس إنسان (طوله 5 سم، وعرضه 1.8 سم، وارتفاعه 4.2 سم) مضطجعاً واضعاً يده اليمنى تحت جسمه، وتمتد يده اليسرى قائمة أمامه، ويلتفت نحو الناظر إليه بزاوية قائمة. وقد صنع جسمه من الخشب وغطي بصفائح من الذهب، وشعر عنقه من الستياتيت steatite (حجر الطلق) الذي يتدلى على شكل حزوز مؤلفة من عدة طبقات من الخصلات المعقوفة نهايتها، ووجهه مؤلف من رقائق مذهبة، وعيونه وحواجبه منزلة، وقرونه قصيرة مغطاة بصفائح ذهبية ومعقوفة نحو الأعلى. وتظهر أذنه اليسرى كبيرة، ربما للدلالة على الحكمة والذكاء الحاد، مما قد يعني أن هذا التمثال ربما كان لأحد ملوك إيبلا المؤلهين.
دمية على شكل ثور مضجع له رأس إنسان وهي مركبة من عدة مواد منها |
عبد سكان إيبلا العديد من الآلهة شأنهم في ذلك شأن بقية شعوب الشرق الأدنى القديم، وتظهر في النصوص أسماء نحو أربعين إلهاً وإلهة، يعود بعضها إلى آلهة سورية أصيلة لا يوجد لها شبيه في المناطق المجاورة لسورية، ويأتي في مقدمتها الإله نيداكول Nidakul الذي يرد ذكره مراراً في النصوص، وكانت تقدم له أضاحٍ كثيرة، ويعبد في مدن متعددة. إن قراءة الاسم بهذا الشكل غير مؤكدة، وليست نهائية، كذلك فإن معناه غير معروف، وصفاته غير محددة. ولما كان إله القمر لا يظهر في نصوص إيبلا ولا باسمٍ من أسمائه المعروفة في مناطق الشرق الأدنى القديم الأخرى (نانّا السومري، يراخ الأموري، سين الأكادي) لذلك يمكن الافتراض أن نيداكول هو اسم لإله القمر في إيبلا. وهناك آلهة أخرى مثل الإله كورا Ku.RA إله القسم، والإله دامو Dammu الإله الحامي للأسرة المالكة.
مكتبة إيبلا حين كشفها عام 1975 |
وقد سموا بوابات مدينتهم الأربع بأسماء آلهة مشهورة هي: بوابة بعل إله الخصوبة والمطر الذي شاعت عبادته في جميع مناطق سورية القديمة، ومازال اسمه يطلق حتى الآن على الأراضي التي تسقى بماء المطر، وبوابة رشب إله الطاعون والعالم السفلي عند الكنعانيين، وبوابة إله الشمس (أوتو باللغة السومرية) الذي لا يعرف اسمه الإيبلاوي، والبوابة الرابعة اسمها غير معروف.
لوح من مكتبة إيبلا |
ومن الآلهة الأخرى التي عبدت في إيبلا أدد إله الجو، والإله إيل الذي يظهر كثيراً في أسماء العلم (مثل ميكائيل: من مثل إيل)، وكاميش الذي يظهر في اسم مدينة كركميش (ميناء، رصيف كاميش)، وخيوم نظير إنكي السومري إله الحكمة والماء العذب والعالم السفلي، وآلهة أخرى.
كتابة هيروغليفية على إناء من إيبلا |
إن عصر ازدهار إيبلا الأول هذا انتهى على أيدي ملوك أكاد، شاروكين أو نارام- سين اللذين يذكران في كتابات لهما أنهما استوليا على إيبلا وعلى مناطق أخرى في شمالي سورية بعد حملات قاما بها على تلك المناطق. يقول شاروكين:
"شاوَرُكين الملك خر خاشعاً في توتول (تل البيعة بالقرب من الرقة) وصلى أمام دجان (إله الحبوب وأحد آلهة الخصب)، الذي أعطاه الأرض العليا: ماري ويرموتي وإيبلا حتى غابة الأرز وجبال الفضة".
جذع تمثال رجل من حجر البازلت تم بوساطته معرفة إيبلا |
ويذكر نارام- سين:
"منذ الأزل، منذ خلق البشر لم يخضع أي ملك من الملوك أرمانوم وإيبلا. بسلاح نرجال (إله الطاعون والعالم السفلي في بلاد الرافدين القديمة) فتح نارام- سين الطريق إلى هناك، وأعطاه (أي نرجال) أرمانوم (ربما حلب) وإيبلا، وأهدى إليه الأمانوس جبل الأرز، والبحر الأعلى (البحر المتوسط). حقيقة بسلاح دجان الذي جعل مملكته كبيرة، فتح نارام- سين القوي أرمانوم وإيبلا".
يبدو أن الخراب والحريق الذي لحق بالقصر الملكي ج في نهاية عصر المحفوظات الملكية نجم عن حملة نارام- سين المذكورة أعلاه. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما الأسباب التي دفعت ملوك أكاد إلى مهاجمة شمالي سورية، وضمنه إيبلا ؟ هذا مع العلم أن المملكة الأكادية التي نشأت في بلاد الرافدين، واتسمت بالقوة والعظمة لا يرد ذكرها أبداً في نصوص إيبلا، كذلك لا يرد ذكر ملوكها الكبار على الرغم من شهرتهم. كما أن الكتابات الملكية الأكادية لا تتحدث عن أسباب الصراع بين أكاد وإيبلا، ومثلها تصمت نصوص ماري عن ذلك.
ختم أسطواني من إيبلا |
يمكن الاعتقاد أن الأسباب التي أدت إلى نشوب الصراع بين أكاد وإيبلا، وبالتالي إلى هزيمة إيبلا وتدميرها، هي أنها كانت قوة سياسية واقتصادية كبيرة في شمالي سورية، وامتد نفوذها إلى شمالي بلاد الرافدين ولاسيما إلى منطقة الجزيرة حيث ارتبطت بعلاقات وثيقة مع مدينة نَجار Nagar التي كانت قائمة في موقع تل براك الحالي (بالقرب من الحسكة). يضاف إلى ذلك قربها من جبال طوروس والجبال الساحلية مصادر الفضة والأخشاب التي كانت مطلوبة جداً في بلاد الرافدين.
أما عصر ازدهار إيبلا الثاني فكان مابين 2000-1600 ق.م، وهو عصر الهجرات الأمورية الكبيرة التي غمرت بلاد الرافدين وسورية في بدايات الألف الثاني قبل الميلاد، وأدت إلى نشوء العديد من الممالك الأمورية في المنطقتين المذكورتين مثل ممالك بابل وآشور ويمخد وقطنة وغيرها.
حوض نذري من الحجر البازلتي |
عادت الحياة إلى إيبلا من جديد بعد تدميرها على أيدي الأكاديين، وتحولت إلى مركز تجاري واقتصادي مزدهر. فقد استورد منها جوديا Gudea - حاكم مدينة لجش في جنوبي بلاد الرافدين (2143-2124 ق.م) - أنواعاً مختلفة من الأخشاب. ويذكر نص اقتصادي من الفترة نفسها ثلاث قطع نسيج كتاني منها. غير أن أكثر الإشارات إلى إيبلا ترد في محفوظات سلالة أور الثالثة (2112-2004 ق.م). وتوجد رسالة من المستوطنة التجارية الآشورية في كانيش (كول تبه حالياً بالقرب من قيسارية في وسط الأناضول، القرن 20-19 ق.م) تذكر أن قوماً من أهل إيبلا وصلوا إلى كانيش، وانصب اهتمامهم على الحصول على النحاس، وقدموا مقابل ذلك "فضة أمورية" بسعر مرتفع. ويرد ذكر إيبلا في نصوص أخرى متفرقة مصرية وحثية من العصور اللاحقة.
أما من إيبلا نفسها فهناك بعض الشواهد المكتوبة التي ترقى إلى ما بين 2000-1800ق.م مثل النص المنقوش على جذع تمثال إبِط- لِم الذي كان المفتاح لمطابقة تل مرديخ مع إيبلا، والذي يذكر ملكين من ملوك إيبلا آنذاك هما: إبِط- لِم وأبوه إجرِش- خيبا. كذلك عثر على أختام وطبعات أختام أسطوانية تحمل أسماء علم أمورية.
حلي ذهبية من إيبلا |
وقد كشفت الحفريات الأثرية في المرحلة الأولى من الطبقة الثالثة (III A) عن قصر ملكي آخر (القصر Q)، بني ما بين 1900- 1800 ق.م، وقد سمي بالقصر الغربي الكبير لأنه بني غربي المدينة العليا، ويبدو أنه كان مخصصاً لولي العهد. تبلغ مساحة هذا القصر نحو 7300م2 (115* 60م)، أساساته لوحات حجرية طول الواحدة منها نحو مترين، وارتفاعها نحو 1.40م، وضعت فوقها قطع من اللبن. تألف هذا القصر من طابقين، والدليل على ذلك سماكة الجدران الخارجية البالغة 3.10م، ووجود بقايا عدة أدراج فيه. وتم العثور في الجزء الشمالي من هذا القصر على بعض الشواهد المادية والمكتوبة (طبعات أختام أسطوانية ورقم مسمارية). كما تم الكشف تحت أرضية القصر عن مقبرة ملكية تتألف من عدة مدافن منها مدفن الأميرة ومدفن الخزانات ومدفن "سيد الماعز" الذي يرجح أن يكون صاحبه إمّيا Immeya. لقد شهدت هذه الطبقة عمليات إعادة واسعة بحيث يعود إليها الشكل الأكمل للمدينة وكذلك الأسوار المرتفعة التي يصل ارتفاع ما تبقى منها إلى 22م. وإلى هذه الطبقة أيضاً تعود المعابد الرئيسة، وهي معبد عشتار (D)، معبد رشف (B1) ومعبد شمش (N). ومن مكتشفات هذه الطبقة الأحواض الشعائرية المزينة بمشاهد النحت البارز. أما المرحلة الثانية من هذه الطبقة (III B) فيعود تاريخها إلى 1800- 1600ق.م، وقد كشف فيها عن بيوت في القطاع B وكذلك البوابة A والمزار B2 والقصر الملكي الشرقي E.
القصر الغربي |
ومن القصور الأخرى التي اكتشفت بقاياها القصر الشمالي (القصر P) الذي أظهرته حفريات العام 1986م في المدينة السفلى، وترقى معظم مراحل بنائه إلى العصر البرونزي الوسيط، وتعرض للخراب والتدمير نحو 1600 ق.م. تبلغ مساحة هذا القصر نحو 3500م2.
القصر الملكي «P 5» للمملكة الثانية |
لم يكشف من الطبقة الرابعة في تل مرديخ (1600- 1200ق.م) سوى عن بقايا بيوت بسيطة. ومن الطبقة السابعة كشف عن بقايا مسكن كبير في القطاع E، وبقايا بيوت صغيرة على سفح التل المركزي. وإلى هذه الطبقة أيضاً يعود المستوطن الروماني- البيزنطي الذي وجدت بقاياه على السفح الغربي للتل المركزي.
أحيطت إيبلا في عصر ازدهارها الثاني بسور ضخم من الأتربة المختلطة بكسرات فخارية تعود إلى عصر ازدهارها الأول. وكانت تغطي السور عند قاعدته حتى ارتفاع أربعة أمتار أحجار كبيرة، وتكسو قسمه العلوي طبقة من الطين والجص الأبيض. وتقوم في أعلاه أبراج للدفاع في الجانب الخارجي، ومستودعات في الجانب الداخلي. إن السور في مجمله تحصين قوي يبلغ ارتفاعه نحو عشرين متراً فوق السهل المفتوح المجاور من الخارج، ونحو اثني عشر متراً فوق مستوى المدينة السفلى. وكانت سماكته عند القاعدة تصل حتى خمسين متراً تتناقص تدريجياً بالاتجاه نحو الأعلى. إن بدايات بناء هذا السور تعود بالتأكيد إلى عصور أقدم ولاسيما إلى عصر ازدهار إيبلا الأول.
على الرغم من الازدهار الكبير الذي عاشته إيبلا في عصرها الثاني (عصر المد الأموري) والظاهرة آثاره في الأوابد المعمارية المكتشفة حتى الآن، فإن محفوظات مدينة ماري الملكية عاصمة الفرات الأوسط - التي تعود في معظمها إلى النصف الأول من القرن الثامن عشر قبل الميلاد، والتي يرد فيها ذكر الكثير من المدن السورية والرافدية مثل حلب وأوغاريت وقطنة وجبيل وحاصور وبابل وآشور وغيرها- لا يرد فيها ذكر لإيبلا أو أي إشارات إليها. ربما كان سبب ذلك انتقال الزعامة السياسية في شمال سورية في بداية الألف الثاني قبل الميلاد من إيبلا إلى حلب التي أصبحت عاصمة مملكة يمخد التي تأسست هناك، واحتفظت بدور الزعامة والقيادة حتى منتصف القرن السابع عشر قبل الميلاد عندما ظهر الحثيون قوة كبيرة في وسط هضبة الأناضول ثم أخذوا بشن حملاتهم العسكرية على شمالي سورية بقيادة ملوكهم خاتوشيلي الأول ثم مورشيلي الأول، اللذين أخضعا شمالي سورية كله للسيطرة الحثية. وقد سقطت بأيديهم مدن حلب وألالاخ، وبالتأكيد إيبلا أيضاً التي تعرضت للخراب والتدمير.
أظهرت الحفريات أن السكن في إيبلا انحصر ما بين 1600-1200ق.م (العصر البرونزي الحديث) في منطقة المدينة العليا. ولم يتغير هذا الحال في العصور اللاحقة الممتدة ما بين 1200-530 ق.م. واقتصر السكن في العصرين الفارسي- الأخميني والهلنستي على القسم الشمالي من المدينة العليا. ويبدو أن الاستيطان توقف في تل مرديخ بعد منتصف القرن الأول قبل الميلاد.
واليوم وبعد مضي نحو الخمسين عاماً على بدء الحفريات في تل مرديخ، وعلى الرغم من الكشف عن الكثير من المباني العامة التي كانت قائمة في إيبلا، ما تزال الحفريات مستمرة بهدف الكشف عن المزيد من كنوز إيبلا المختفية تحت رواسب الزمن.
مراجع للاستزادة: - P. MATTHIAE, Ebla: An Empire Rediscovered, (London, 1980). - P. MATTHIAE, The Royale Archives of Ebla, (Skira, 2008). - P. MATTHIAE,, Ebla, La città del trono, Archeologia e Storia, (Torino, Einaudi, 2010). - G. PETTINATO, The Archives of Ebla: An Empire Inscribed in Clay, (Garden City- NewYork, 1981). - K. R. VEENHOF (ed.), Cuneiform Archives and Libraries, (Leiden, 1986). - I. J. GEIBb, B. KIENAST, Die Altakkadischen Königsinschriften des dritten Jahrtausends v.Chr., (Stuttgart, 1990). |
- التصنيف : العصور التاريخية - المجلد : المجلد الثاني مشاركة :