التعريب
تعريب
-
نجدة خماش
- تعريب النقد:
كان بين الدولة البيزنطية والدولة الساسانية معاهدة خاصة بالعملة، تقتضي أن يضرب الساسانيون نقوداً من الفضة فقط وألّا يتخذوا عملة ذهبية سوى العملة الرومية، ولهذا كانت عملة بلاد الفرس الجارية هي الدراهم الفضية في حين شاعت العملة الذهبية في البلاد التي كانت تحت السيطرة البيزنطية كسورية ومصر والشمال الإفريقي والتي نجح العرب بتحريرها. وقد عرف العرب قبل الإسلام الدراهم الساسانية التي كانوا قد حصلوا عليها في تجارتهم الخارجية مع العراق وسواحل الخليج العربي، كما عرفوا النقود الذهبية والنحاسية البيزنطية لصلتهم الوثيقة بعرب الشام، وقد كانت التجارة بينهم موسمية منتظمة، وكان النقد البيزنطي يسمى سوليدس، ويزن 4.48 غ تقريباً. أما النقد النحاسي فهو ما أطلق عليه العرب اسم (الفلس). ويتبين مما ورد في المصادر التاريخية أن الجزية والخراج وأعطيات الجند في الشام ومصر والمغرب كانت تدفع بالدنانير الذهبية، في حين كانت الدراهم العملة المستخدمة في العراق والمشرق.
والمعلوم أن العرب بعد أن نجحوا بتأسيس دولتهم الإسلامية التي ضمت الأراضي الممتدة من وسط آسيا حتى المحيط الأطلسي كانوا يحافظون على الأوضاع العامة الراهنة لشعوب البلدان المفتوحة، ولم يعتمدوا التغيير إلا إذا كان ذلك للإصلاح والتقدّم، وانسجاماً مع هذا الأساس؛ أبقوا بداية على العملات السابقة للحفاظ على الاستقرار الاقتصادي، ولكن اتساع الفتوحات- وما رافق ذلك من تطورات وأحداث- خلق وضعاً جديداً قاد بالضرورة إلى محاولات عديدة لسك العملة، وقادت هذه المحاولات العديدة إلى الإصلاح النقدي الكامل الذي حدث في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان (65-86هـ/684- 705م).
ومع أن المصادر تشير إلى أن عمر بن الخطاب ومعاوية ابن أبي سفيان وعبد الله بن الزبير، ضربوا دراهم على الطراز الساساني؛ فإنّ قضية إصلاح النقود وتوحيدها غدا ضرورة بالغة الأهمية لوضع حدّ للفوضى والصعوبات في أثناء جباية الجزية والخراج وعشور التجارة والزكاة، ذلك أنّ العملة الفضية الشائعة في المشرق كانت على عكس العملة الذهبية الموحدة بالدينار تنقسم إلى ثلاث وحدات، فهناك الدرهم الفارسي والدرهم الرومي مع بيزنطة، والدرهم الطبري مع آسيا الوسطى، وكانت الجزية والخراج وأعطيات الجند والمعاملات التجارية في العراق والمشرق كلها تتمُّ بالدرهم. وعندما قَسَّط (فرض) عمر بن الخطاب الخراج في العراق مثلاً قسطه وَرِقاً (الدراهم الفضية) وعيناً، والدراهم تؤدى فيه عدداً، ففسد الناس كما يقول أبو هلال العسكري، فكانوا يؤدونه بالدرهم الطبري الذي وزنه أربعة دوانق = 10 قراريط؛ لأنّ الدانق يساوي قيراطين ونصف. ويستبدلون به الوافي؛ ووزنه مثقال = 8 دوانق = 20 قيراطاً. فلما وليَ زياد بن أبيه العراقين (البصرة والكوفة) (45-52هـ/665-672م) طلب أداء الوافي، فشقّ ذلك على الناس، لأنّ من كان يدفع على جريب الكرم 10 دراهم طبرية أصبح مجبراً على أن يدفع 20 درهماً طبرية أو عشرة دراهم وافية.
ومن الطبيعي أن يؤدي ذلك إلى الإجحاف، فلما كانت خلافة عبد الملك بن مروان، واستتب الأمر له بعد القضاء على الحركة الزبيرية والخارجين عليه؛ فحص النقود والأوزان والمكاييل، وأمر بضرب الدرهم الشرعي على وزن أربعة عشر قيراطاً، فيكون وزن كل 10 دراهم سبعة مثاقيل = 140 قيراطاً، ثم بعث عبد الملك السكة إلى الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراقين، فسيرها إلى الآفاق؛ لتضرب الدراهم بها، وتقدّم إلى الأمصار كلها أن يُكتب إليه في كل شهر ما يجتمع قبلَهم من المال؛ كي يحصيه عندهم، وأن تضرب الدراهم في الآفاق على السكة الإسلامية العربية، وأن تسحب النقود الأخرى التي كان يجري التعامل معها تدريجياً.
مرَّ تعريب الدرهم الساساني بمراحل قبل أن يصبح درهماً عربياً إسلامياً، فقد كانت الدراهم الأولى التي ضربها العرب تحمل جميع معالم الدرهم الساساني إلاّ أنهم أحدثوا شيئاً بسيطاً على نقود يزدجرد الثالث (632-651م)، وهو أنهم أضافوا كلمة (جيد) في الربع الثاني من الوجه، ثم أضافوا على نقود أخرى في المكان نفسه (بسم الله) أو (بسم الله ربي) أو (صدق الله)، أطلق علماء المسكوكات على هذه النقود اسم (النقود المغفلة)؛ لأنه لم يذكر فيها اسم الخليفة أو الوالي العربي، وظلّت تحمل اسم يزدجرد أو خسرو الثاني، أما مكان الضرب فهو مذكور بالفهلوية مختصراً بحرفين؛ مثال ذلك AB = أبرشهر، BISH = بيشاور، أما التاريخ فهو بالتقويم الهجري على الأكثر أو اليزدجردي (التاريخ اليزدجردي يبدأ من أول سنة حكم فيها يزدجرد (632م) وهي تعادل 11هـ، فإذا كان التاريخ على هذه النقود (20) فهي حتماً بالتاريخ اليزدجردي؛ وتعادل 31هـ).
في سنتي 41 و43هـ/661 - 663م ضرب معاوية بن أبي سفيان دراهم تحمل اسمه بالفهلوية (معاوية أمير المؤمنين)، وبعد موت معاوية أعلن عبد الله بن الزبير نفسه خليفة، وبايعه أهل الحجاز، وأرسل جيشاً بقيادة أخيه مصعب بن الزبير، فاستولى على العراق وأجزاء من فارس، وضرب دراهم عربية ساسانية باسمه بالفهلوية (عبد الله أمير المؤمنين) أو (عبد الله بن الزبير).
ويبدو أن الخليفة الأموي - منذ عهد معاوية- أجاز الولاة بضرب النقود العربية الساسانية بأسمائهم بالفهلوية، وهذه النقود تحمل رموز مدن الضرب في العراق وفارس، وهي مؤرخة بالتقويم الهجري أو اليزدجردي.
في الحلقة الأخيرة من تطور النقود العربية الساسانية، كتب الحجاج بن يوسف الثقفي (75-95هـ/694-317م) والي العراقين للخليفة عبد الملك بن مروان اسمَه فقط باللغة العربية، والأهم من ذلك الدرهم العربي الساساني الذي ضربه عبد الملك بن مروان، فوضع صورته في مركز الظهر واقفاً متقلداً سيفاً، وكتب إلى اليسار (أمير المؤمنين) وإلى اليمين (خلفت الله)؛ أي خليفة الله. وكُتب خلف رأس العاهل (ضرب في ـ سنة خمس) وأمام وجهه (وسبعين). هذا الدرهم يخلو من أي كلمة فهلوية، وهو آخر درهم عربي ساساني متطور ومعروف حتى هذا اليوم قبل تعريب النقود تعريباً نهائياً.
ويُظن أن أقدم درهم عربي إسلامي ضُرب سنة 79هـ/698م من دون ذكر مكان الضرب، وهو فريد حتى الآن في العالم؛ ولكن ظهر حديثاً في العراق درهم عربي خالص، ضرب بأرمينية سنة 78هـ/697م. وكان هذا حدثاً مهماً جداً في عالم المسكوكات العربية الإسلامية.
ليس في مأثورات الدرهم العربي الأموي ما يَلفت النظر إلا ذكر مدينة الضرب؛ مما يدل على أنّ الخليفة فوَّض الولاة القيام بهذه المهمة، واستمر الولاة بضرب الدراهم حتى خلافة هشام بن عبد الملك (105-125هـ/723-742م) الذي أمر خالد بن عبد الله القسري والي العراقين سنة 106هـ/724م أن يبطل السكة من كل بلد إلا واسط، وكذلك فعل يوسف بن عمر الثقفي (121-126هـ/738-743م)، فلما استخلف مروان ابن محمد ضرب الدراهم بالجزيرة بحرّان.
إذا كان إيجاد درهم شرعي قد سهل أمور الجباية؛ فإنّه بالتالي قد سهل العمليات التجارية ليس فقط بين البلدان التي تتعامل بالدرهم الفضي، وإنما في المناطق التي تتعامل بالدينار؛ إذ إنّ عبد الملك جعل وزن الدينار اثنين وعشرين قيراطاً وهو أقل من وزن الدينار المضروب بحسب النمط البيزنطي، وكان ذلك ضرورياً من أجل إيجاد نسبة عادلة بين الدينار الذهبي والدرهم الفضي وزناً وقيمة.
مَرّ تعريب الدينار الرومي بمراحل خمس قبل أن يصبح ديناراً عربياً إسلامياً خالصاً من أي تأثير بيزنطي.
كانت أولى هذه المراحل تقليد نقد فوكاس (601-610م) الذهبي؛ إذ ظهر على وجه النقد في المركز صورة نصفية للقيصر، ويعلو رأسه صليب، ويحمل بيده اليمنى كرة يعلوها صليب، وقد كُتب عليه في المدار اسمه ودعاء البقاء، وعلى الظهر ظهر شعار النصر تمسك بيمناها رمحاً في ذروته الشارة المقدسة، وبيسراها كرة يعلوها صليب.
لم يستطع علماء المسكوكات أن يحدّدوا متى تمَّ تقليد سوليدس (دينار) فوكاس؛ إذ إنّ الساكّ لم يغير أي شيء من المعالم الرئيسية للسوليدس، وإنما مسح عارضة الصليب؛ ليبطل معناه الديني، وجعل في ذروة القسم القائم منه كرة صغيرة جداً.
الخطوة الثانية استهدفت تقليد سوليدس هيراكليوس (610-641م)، ظهر على وجه النقد في المركز صورة نصفية لكل من هيراكليوس وابنه، وقد علا رأس كل منهما صليب واطئ كأنه زهرة ثلاثية، وبدا في الفراغ بينهما صليب، وكتب في الهامش اسم القيصر وابنه مع الدعاء بالبقاء. وبدا على الظهر في المركز الصليب البيزنطي المرفوع على قاعدة أربع درجات.
احتفظ العرب أيضاً بجميع مظاهر السوليدس؛ لكنهم حذفوا جناحي الصليب من فوق رأس القيصر وابنه، ومسحوا الصليب بينهما، واستغنوا عن قمة الصليب البيزنطي في الظهر، حيث بقيت العارضة فقط بحيث زال المعنى الديني له.
جاءت الخطوة الثالثة بتقليد سوليدس هيراكليوس وابنيه. حيث ظهر على مركز الوجه هيراكليوس وولداه واقفان، على رأس كل منهم صليب، وباليد اليمنى من كل منهم كرة يعلوها صليب، وعلى الظهر هناك الصليب البيزنطي في المركز قائماً على أربع درجات.
في الدينار المقلَّد حذفت عارضة الصلبان من الوجه، وأُزيلت قمة الصليب من الظهر، وحذفت الشارة المقدسة من الفراغ الأيسر.
أما الخطوة الرابعة فقد جاءت جريئة استهدفت تعديلاً مهماً وتعريباً لسوليدس هيراكليوس وولديه، فقد ظهر في مركز الوجه رسم الأشخاص محوَّراً ومبسّطاً، وفي الظهر حذفت عارضة الصليب في المركز، واستبدل بها كرة صغيرة، وكتب بالعربية في الهامش باتجاه حركة عقرب الساعة:
«بسم الله، لاإله إلاّ الله وحده محمد رسول الله»
وكُتب إلى يسار الصليب المحور B وإلى اليمين I.
أتت الخطوة الخامسة، وكانت تعريباً واضحاً، تمّ في عهد عبد الملك بن مروان سنة 74هـ/696م، فقد ظهر على مركز الوجه عبد الملك واقفاً متقلداً سيفاً مرتدياً ملابس مزركشة، وكتب في الهامش حوله بحسب اتجاه حركة عقرب الساعة:
«بسم الله لا إله إلا الله وحده محمد رسول الله»
وعلى الظهر بدا في المركز الصليب البيزنطي المحوّر، وكتب حوله بالهامش باتجاه حركة عقرب الساعة «بسم الله » ضرب هذا الدينار سنة أربع وسبعين، هذا الدينار ما يزال فريداً في العالم، وقد ضرب على نمطه دنانير في السنوات 57-67-77هـ/496-596-696م. مع ملاحظة أن كل هذه الكتابات جاءت بالخط الكوفي البسيط.
أما الدنانير العربية الأموية الخالصة؛ فلا تحمل صوراً للخليفة، وإنما تحمل مأثورات عربية إسلامية صرفة، من ضمنها آيات قرآنية، ولا يحمل دينار عبد الملك الذي ضرب سنة 79هـ إلا الآيات القرآنية على الوجهين في المركز والهامش، وكان قطر الدينار الأموي بين 21.18 مم، ووزنه بين 4.20 و4.30 غ، كما سك الأمويون عملة قيمتها نصف دينار، ووزنها 2.06 - 2.12غ؛ وثلت دينار، ووزنه ما بين 1.39 و1.5غ، والملاحظ أن مكان الضرب لم يظهر على الدنانير العربية الأموية على الأكثر؛ وهذا يعني أنّ الدنانير كانت تضرب بدمشق في بادئ الأمر، ويرى محمد أبو الفرج العش أن الدنانير الأموية العربية الصافية في إفريقية ضربت في دمشق لمصلحة المغرب؛ إذ إنها شبيهة بالنقود المشرقية، ولا تختلف إلا بذكر إفريقية، وإذا أمعن الدارس النظر في الخط على هذه الدنانير؛ يرى أنه لا يختلف عن الخط المشرقي وأسلوبه، ويوجد في متحف دمشق دينار عربي فريد ضرب لمصلحة إفريقية سنة 101هـ/719م وآخر ضرب سنة 116هـ/734م بحسب النمط المشرقي، أما الدينار الموجود في برلين؛ فقد ضرب سنة 122هـ/739م.
أما تعريب النقود النحاسية البيزنطية (الفلوس)؛ فقد مَرّ بمراحل أكثر تعداداً وربما أطول أمداً، فقد قلّد العرب الفلوس البيزنطية؛ ولكنهم أضافوا اسم مكان الضرب في حين كانت الفلوس البيزنطية عامة خالية من أسماء المدن السورية ماعدا أنطاكية التي كان لها منزلة دينية، وقد نقش على الفلوس البيزنطية التي قلدها العرب اسم مكان الضرب كبيسان، بعلبك، دمشق، طبرية، إيلياء، فلما أصبحت النقود النحاسية عربية؛ وُجِد هناك أنواع عديدة تختلف في وزنها وحجمها ومأثوراتها، بعضها مغفل، وبعضها يحمل مكان الضرب والتاريخ، وفلوس تحمل اسم الخليفة أو الوالي ومكان الضرب والتاريخ، ولذلك فإنّ المعلومات التي تقدمها العملة النحاسية أكثر أهمية من تلك التي تقدمها الدراهم والدنانير.
تحمل النقود الذهبية والفضية في العصر الأموي - ثم جميع النقود في العصور التالية - التاريخ الهجري المتسلسل، وإنّ إثبات التاريخ بالتقويم المتعارف عليه يُعدُّ إبداعاً عربياً مفيداً في غاية الأهمية، في حين كانت بعض النقود الساسانية والبيزنطية تحمل تاريخاً، بيد أنّ هذا التاريخ يبدأ من أول حكم كل ملك وليس تاريخاً تقويماً، فإذا أريد تحديد تاريخ النقد؛ وجب مقارنته بسلسلة تعاقب الملوك استناداً إلى التقويم الميلادي ليُعرف على وجه الدقة تاريخ النقد، ولهذا تُعَدُّ النقود العربية الإسلامية من هذه الزاوية أفضل من جميع النقود المعاصرة والسابقة.
لا شك أن عبد الملك بتعريبه النقد البيزنطي - ولاسيما الدينار- أراد أن يحرر الدولة العربية الإسلامية من السيطرة البيزنطية اقتصادياً وأن يقيم وحدة اقتصادية مستقلة؛ إذ كان لا يمكن أن تظل الدولة العربية معتمدة في نشاطها الاقتصادي على نقد أجنبي محدود الكمية باقٍ من أيام الجاهلية أو يورد من بلاد العدو عن طريق التجارة.
أعطى إجراء عبد الملك بإصدار دينار عربي إسلامي أعظم النتائج الاقتصادية الإيجابية للعالم العربي الإسلامي على المدى الطويل، ولكن نتائجه المباشرة انعكست سلباً ولفترة معيّنة على الشام ومصر؛ لأنه إذا كان تعريب الدرهم وسك درهم عربي شرعي لم يؤدِّ إلى ردود فعلٍ في المشرق، فما ذلك إلا لأنّ العرب كانوا قد قضوا على الدولة الساسانية، أما الدولة البيزنطية؛ فكانت لا تزال قائمة، وقد رأت في إصدار نقد ذهبي عربي إسلامي تهديداً لاقتصادها وتجارتها ومكانتها السياسية؛ ولاسيما أن العملة الذهبية الرومية كانت العملة الأساسية المتداولة في الشام ومصر والتجارة العالمية، ولذلك عمد جستنيانوس الثاني (87-93هـ/705-711م) إلى نقض الصلح، وأعاد هو وخلفاؤه من بعده النظام التجاري المقيّد الذي كان متبعاً في عهد جستنيانوس الأول (527-565م) وخلفائه ضد الساسانيين؛ إذ كانت طرق التجارة والبضائع المستوردة كلها موجهة وبدقة لمصلحة بيزنطة والدفاع عن مصالحها، واستخدمت بيزنطة أسطولها لدعم ذلك النظام؛ كي تغلق البحر المتوسط في وجه الملاحة المنطلقة من الشام ومصر، وقد يفسر هذا توجه أسطول إسلامي ضخم سنة 99هـ/717م نحو القسطنطينية، ولكن هذا الأسطول دُمَّر نتيجة لاستخدام البيزنطيين النار الإغريقية.
استطاع العرب أوائل القرن 3هـ/9م أن يفرضوا إشرافهم على المرور في البحر المتوسط؛ بفتح جزره التي كان للبيزنطيين فيها في السابق قواعد تحكم ومراقبة، ولقد حقق هذا الهدف المسلمون في الجزء الغربي، ففي سنة 212هـ/827م قام مهاجرو الربض الأندلسي بفتح كريت، وأزالوا بذلك السيطرة على مدخل بحر إيجة، وفي السنة نفسها وجَّه الأغالبة من تونس حملة ضد صقلية، بدأت بعملية فتحها التي انتهت في العقد السادس من القرن 3هـ/9م، وفتحوا في أثناء عملياتهم فيها القواعد البيزنطية في جنوبيّ شبه الجزيرة الإيطالية وبرنديزي وترنتو وباري، وسيطر العرب على البحر المتوسط بهذه القوى التي انطلقت من المغرب الإسلامي والتي دعمتها قوة الطولونيين التي وحّدت أساطيل مصر والشام.
كان من نتائج سيطرة العرب المسلمين على المتوسط ربط كل بلدان العالم الإسلامي ومناطق الشرق الأقصى تجارياً، وكوَّن ذلك قاعدة لوحدة اقتصادية امتدّت من نهر التاجه (في الأندلس) الذي يصب في المحيط الأطلسي إلى جزر الهند الشرقية، وكان من أهم مظاهر هذه الوحدة استخدام الدينار الذهبي الإسلامي الذي غدا نقداً دولياً دون منازع.
- تعريب القراطيس:
كان صناع القراطيس في مصر من المصريين، وكانت أغلبيتهم أو كلهم في عهد الفتح من القبط، وأكثرهم ما يزال على النصرانية، فكانوا يطرزونها بالرومية (اليونانية)، وطرازها «بسم الأب والابن والروح القدس». وعندما وقف عبد الملك بن مروان على فحوى الترجمة أكبر أمرها، ثم كتب إلى أخيه عبد العزيز بن مروان عامله على مصر بإبطال ذلك الطراز على ما كان يطرز به من ثوب وقرطاس وغير ذلك؛ وأن يستبدلوا بتلك العبارة صورة التوحيد (قل هو الله أحد)، وكتب عبد الملك إلى عمال الآفاق جميعاً بإبطال ما في أعمالهم من القراطيس المطرزة بطراز الروم ومعاقبة من يخالف ذلك بالضرب الوجيع.
- تعريب دواوين الخراج:
يُعدّ ديوان الخراج من أهم دواوين الدولة؛ لأنه مصدر جميع الأموال للأقاليم والدولة، وكان عبد الملك بن مروان يدرك هذه الحقيقة، فيقول: «الملك لا يصلح إلا بالرجال، والرجال لا يقيمها إلا الأموال». ومنذ أن أسس الخليفة عمر بن الخطاب ديوانه في المدينة وُجد في الكوفة والبصرة والشام ومصر ديوانان؛ أحدهما بالعربية لإحصاء الناس وأعطياتهم، والآخر لوجوه الأموال باللغة الفارسية في العراق، وبالرومية (اليونانية) في الشام ومصر.
تشير الدلائل المتعددة إلى أنّ اللغة العربية كانت تستخدم في دواوين الخراج إلى جانب الفارسية والرومية قبل التعريب، فقد كان صالح بن عبد الرحمن مولى بني تميم يخط بين يدي زادان فَروخ بالعربية والفارسية، كما أنّ الوثيقة التي عثر عليها في مصر والتي تعود إلى جمادى الأولى سنة 22هـ /6نيسان 643م ثنائية اللغة؛ كتبت باليونانية والعربية، وأكّدت برديات نيسانا Nessana التي عثر عليها في جنوبيّ فلسطين أنّ اللغة العربية استخدمت في كتابة الوثائق الضريبية إلى جانب اليونانية في دواوين الشام المالية منذ عهد معاوية، فلما عُرِّبت الدواوين؛ بقيت اللغة اليونانية في مصر تستخدم إلى جانب اللغة العربية التي أصبحت اللغة الرسمية للدولة، ذلك أنّ التعريب تناول بالدرجة الأولى المصطلحات والأرقام الحسابية، وآخر البرديات الثنائية في مصر تعود إلى سنة 101هـ/719م. أما في العراق؛ فليس هناك وثائق تساعد على معرفة مدى استمرارية الفارسية في الدواوين بعد التعريب.
بدأت عملية التعريب في خلافة عبد الملك بن مروان بعد أن توطدت أركان الدولة إثر القضاء على الحركة الزبيرية، وتُعَدُّ رواية الجهشياري (ت331هـ/942م) عن أسباب تعريب دواوين خراج الشام في خلافة عبد الملك أكثر رواية منطقية؛ وإن كانت لا تعطي تفسيراً للدافع الذي حدا عبد الملك أن يقوم بحركة تعريب شملت النقد والقراطيس أولاً ثم الدواوين ثانياً. يذكر الجهشياري أنّ عبد الملك رأى من سرجون بن منصور توانياً وتثاقلاً وتقصيراً وإدلالاً منه عليه، فقال عبد الملك لسليمان ابن سعد الخشني؛ وكان يتقلد له ديوان الرسائل: أما ترى إدلال سرجون علينا، وأحسبه رأى ضرورتنا إليه وإلى صناعته، أفما عندك حيلة؟ قال: لو شئت لحولت الحساب إلى العربية، قال: فافعل، فحوّله.
تم تعريب دواوين الشام وفق رواية البلاذري (ت279هـ/909م) سنة 81هـ/ـ700م، وتمّ تعريب دواوين الخراج في العراق ما بين 82-83هـ/701-712م بعد مقتل زادان فروخ، فاستكتب الحجاج صالح بن عبد الرحمن الذي كان يتقن الفارسية والعربية، وتأخّر تعريب ديوان خراج مصر إلى خلافة الوليد بن عبد الملك (86-96هـ/705-715م) وولاية أخيه عبد الله على مصر، أمّا خراسان فقد بقي ديوانها بالفارسية، وكتابها من المجوس حتى كتب يوسف بن عمر والي العراق سنة 124هـ/741م إلى عامله على خراسان؛ نصر بن سيّار يأمره بألا يستعين بأحد من أهل الشرك في أعماله وكتابته وأن ينقل الديوان إلى العربية.
إنّ التعريب الذي بدأ في خلافة عبد الملك بن مروان، واستمرّ في خلافة الوليد بن عبد الملك ليتم في خلافة هشام بن عبد الملك (105-125هـ/723-742م) كان استكمالاً للسياسة التي سارت عليها الدولة تحقيقاً لشخصيتها واستقلالاً عن النفوذ الأجنبي؛ إذ إنه كان لا يمكن أن تبقى دواوين الخراج - وهي المختصة بالجبايات والحسابات- تحت سيطرة موظفين أعاجم، يظهرون دالتهم على الخلفاء والولاة.
كان من أهم النتائج التي نجمت عن تعريب دواوين الخراج ضبط أعمالها والإشراف عليها بدقة لمنع الغش والتزوير والتلاعب بالأموال، فقد اتهم سرجون ابن منصور أثناس كاتب ديوان خراج مصر بأنه مدّ يده بالسرقة من بيت مال مصر، ويورد البلاذري رواية تذكر أنّ مردانشاه بن زادان فروخ بذل لصالح بن عبد الرحمن 100 ألف درهم على أن يظهر العجز عن نقل الديوان ويمسك عنه، وما كان مردانشاه ليقدم على هذا العمل لولا شعوره بالخسارة المادية والمعنوية التي سوف يُمنى بها هو وكتّابه نتيجة لتعريبه ولإشراف الولاة والمسؤولين على تدقيق الحسابات، وقد ضعف بصر الحجاج لكثرة نظره في الدفاتر، وتميز هشام بن عبد الملك بتشددّه أكثر من غيره بأمر الأموال ووجوه صرفها.
ترتب على تعريب الدواوين نتائج أخرى لها أهميتها؛ إذ كان سبباً في جعل اللغة العربية اللغة الرسمية السائدة في الدواوين؛ وفي إيجاد طبقة من الكتّاب تتقن العربية، وتتقن الحساب كذلك، واضطر الفرس - وهم كثرة في العراق - والموالي إلى تعلّم اللغة العربية لدينهم ودنياهم، فكانوا مضطرين إلى نوع من العلم يسهّل لهم طريق التعلم، فمسّت الحاجة إلى وضع علم النحو، وكان السابقون إلى وضع النحو البصريين أولاً ثم الكوفيين، وتفوق البصريون لقربهم من بادية العرب وبعد الكوفيين عن البادية الفصيحة.
وحققت العربية كذلك في مصر تقدماً ملحوظاً نتيجة لتعريب دواوين الخراج؛ لأن الأقباط الذين كان تستخدمهم الحكومة العربية اضطروا إلى تعلم اللغة العربية منذ أن أصبحت لغة الدولة الرسمية سنة 87هـ/705م، أمّا في الجناح الشرقي فقد تأخر تعريب ديوان خراسان إلى سنة124هـ/741م، وكانت مهمة اللغة العربية في انتشارها قاسية، ليس لأنّ المدى بين اللغة العربية والبهلوية الفارسية عميق متسع؛ وإنما لأنّ اللغة الفارسية كانت لغة هؤلاء الناس الذين عانوا الإدارة، وتمرّسوا فيها، وكان لهم سلطان وملك وحضارة، لذلك لم تستطع العربية - وهي بعد حديثة العهد في هذه المناطق - أن تتسرب وتنتشر بسرعة، ومع ذلك فإنّ انتشار الإسلام ساعد على انتشار العربية، وإسكان العرب في خراسان كان خطوة أخرى في تعريب المنطقة؛ مما ساعد بعد ذلك على إيجاد طبقة من الموظفين تتقن العربية والفارسية، واستطاعت أن تسيّر أعمال الديوان بعد تعريبه.
مراجع للاستزادة:
|
- التصنيف : آثار إسلامية - المجلد : المجلد الرابع مشاركة :