تدمر (قلعة-)
تدمر (قلعه)
-
تقوم قلعة تدمر على قمة جبل صخري عالٍ مكوّنٍ من حجارة كلسية، وتقع في الجهة الشمالية الغربية لمدينة تدمر الأثرية التي تبعد عن شمال مدينة دمشق ٢٣٥ كيلومتراً بقلب البادية السورية، وتعلو نحو ١٥٠ متراً عن مستوى سطح مدينة تدمر و٥٥٠م عن مستوى سطح البحر، وتسمى أيضاً قلعة فخر الدين المعني أو القلعة العربية.
منحوتة جدارية لآلهة تدمر من اليمين إلى اليسار: بل - يرحبول - عجلبوب - بعل شمين |
لا يعرف في تاريخ تدمر الإسلامي أنها عرفت وجود تحصينات عسكرية قبل فترة الدولة الزنكية، حيث بدأ نور الدّين محمود بن زنكي إعادة ترميم عدد من القلاع والحصون وبنائهاعلى طول الحدود بين الإمارات الصليبية من أنطاكية وأراضي حلب شمالاً مروراً بتدمر ووصولاً حتى بصرى في الجنوب السوري، وقد لاقت أعماله تلك عناية زائدة وتطويراً ممنهجاً أيضاً بعد تمكن السلطان صلاح الدين من توحيد مصر والشام اللتين شهدتا في زمنه وزمن خلفائه استقراراً وازدهاراً مميزين. وعلى الرغم من انشغال الأيوبيِّين الدائم بمحاربة الصليبيِّين؛ فقد نشطت الحركة العمرانية في عصر الدولة الأيوبية (٥٧٠-٦٥٨هـ/١١٧٤-١٢٦٠م) بقوة غير مسبوقة ولاسيما في تجديد أسوار المدن وقلاعها وفي تشييد العديد من القلاع الأخرى.
وتشير الدلائل التاريخية والأثرية إلى أن البنا الأول لهذه القلعة يرجع إلى منتصف القرن ٦هـ/١٢م، والذي باشر العمل بها هو الأمير أسد الدين شيركوه الأيوبي؛ حيث بنيت جز اً من خطة التحصين التي كان نور الدين قد أقرها في الاستراتيجية العسكرية التي اتبعها للتصدي للغزو الصليبي، ومثلها كانت أعمال التحصين على تل حارم وقلعة حلب وقلعة المضيق وقلعة شيزر ومدرج بصرى أيضاً.
أما الإعمار الثاني للقلعة فقد تمّ على يد أمير جبل لبنان «فخر الدين المعني الثاني» (٩٨٠-١٠٤٤هـ /١٥٧٢- ١٦٣٥م( الذي تمكن بعد سنة 1027هـ/1618م من الاستقلال، من حكم لبنان وأجزا من سورية؛ حيث امتد حكمه من أنطاكية وحلب شمالاً مروراً بحماة وحمص والسلمية وتدمر إلى العريش على الحدود المصرية جنوباً، وقد حمى فخر الدين أراضي الإمارة بشبكة من الحصون والقلاع والأبراج والأسوار، والتي عني بتطوير أساليب تحصينها وتطوير هندستها، فقد سيطر في لبنان على قلاع طرابلس وجبيل وبعلبك وبيروت وصور وغزير، وفي سورية سيطر على قلاع حلب وأنطاكية وحصن الأكراد، والمرقب في الأردن إضافة إلى تدمر التي عني بها وباشر فيها إعادة إعمار وتوسعة ومرمة شاملة حتى عرفت باسمه، استمرت حتى نهاية حكمه سنة ١٠٤٥هـ/ ١٦٣٥م .
مخطط توزيع الأبراج الدفاعية |
وقد استعملت بداية في بنا القلعة الحجارة التي تم استخراجها من حفر الخندق المحيط بها، فجا ت كلُّ أبنيتها من الحجارة الكلسية البيضا ، ويبدو أن هذه الخطة طُبِّقت منذ البنا الأول للقلعة، حيث استغلت الكتلة الصخرية للجبل شبه المخروطي، فخططت القلعة بحيث يكون الخندق محيطاً بها، لتشكل مبانيها مرتفعاً شاهقاً ستساهم الأسوار المنتصبة بشكل شاقولي في منعتها، فقد نقرت الكتل الحجرية التي كانت مكان الخندق واقتطعت منها الحجارة التي استخدمت بداية في بنا الجدران الخارجية الضخمة فكلما زاد عرض الخندق وعمقه كانت ترتفع الأسوار والمباني الأخرى للقلعة، وقد جا ت مباني القلعة الأولى متكاملة من الناحية الإنشائية والمعمارية والوظيفية وأدت الدور الذي أنشئت من أجله حيث سيطر الزنكيون والأيوبيون من بعدهم بوساطتها على تحركات القبائل والأعدا والجيوش؛ إذ صُمِّمت وظائف مبانيها لتكفي من فيها جميع متطلباتهم في حال الحصار.
وعندما وصلها الأمير «فخر الدين» كانت قد أهملت وفقدت مكانتها العسكرية، ولاسيما بعد أن تهدم العديد من أجزائها، فقام بتنظيفها وإعادة بنا العديد من أبراجها وأجزا كبيرة من أسوارها وزاد فيها، وكذلك الأمر في مبانيها، حتى أعاد لها مكانتها الدفاعية والاستراتيجية فبدت شامخة تعانق السحاب كبيت العقاب.
وقد عنيت الجهات الأثرية مؤخراً بالمحافظة على القلعة ولاسيما بعد أن سجلت مدينة تدمر على قائمة التراث العالمي سنة ١٩٨٠م؛ فشهدت العديد من مواسم التنقيب والترميم والدراسات المعمقة للثبات الإنشائي للكتل الصخرية الحاملة لمباني القلعة، فأُهّلت وأُنيرت وصارت مفتوحة للزيارة خاصة بعد تنفيذ طريق دائري صاعد يسهل وصول وسائل النقل الحديثة إلى مسافة مقبولة من مدخلها، مما رفع نسبة زوارها وسهل رحلتهم إليها، حيث تعدّ زيارتها اليوم جز اً أساسياً من مخطط زيارة مدينة تدمر؛ إذ تبدو كلُّ المواقع الأثرية من القلعة وكأن المشاهد محلّقٌ في طائرة.
تتربع قلعة تدمر على قمة الجبل المخروطي بمخطط عام أقرب إلى المثلث المتساوي الساقين تقريباً، تحتل قاعدته كامل الواجهة الغربية للقلعة؛ في حين يتوسط مدخلها الرئيسي الواجهة الشرقية أو الجنوبية الشرقية، وتشكل الضلع الثالثة منها الواجهة الشمالية أو الشمالية الشرقية وهي الضلع الأقل من حيث عدد الأبراج بسبب مناعتها الطبيعية لارتفاعها الشاهق.
منظر عام للقلعة | القلعة من الشارع الطويل | باب القلعة |
وللقلعة ثمانية عشر برجاً تأخذ في أغلبها الشكل الأقرب إلى المربع، يحتل البرج الأول الزاوية الشمالية الغربية؛ في حين يحتل البرج الرابع الزاوية الجنوبية الغربية. أما البرج الثامن عشر فيحتل الزاوية الشمالية الشرقية، ويمكن عدّ الأبراج التي تحمل الأرقام من الأول حتى الثامن أنها ترجع إلى زمن الإعمار الأول للقلعة أي القرن ٦هـ/١٢م. أما الأبراج الأخرى الباقية فإنها تعود إلى فترة الإعمار الثانية في مطلع القرن ١١هـ/١٧م، وقد بنيت أغلب هذه الأبراج على قمة سفوح صخرية منحدرة، ويزيد وجود الخندق، الملتف حول القلعة بعرض يصل من الأعلى إلى ١٢م وعمق لا يقل عن ذلك، من حصانتها ويسهل الدفاع عنها.
البهو الرئيسي 2 | بهو الممر الرئيسي أمام الباب الثاني | القبوة المتقاطعة للممر الثاني الداخلي |
بنيت هذه الأبراج كافة بالحجارة الكلسية البيضا غير المتساوية الحواف، قطعت على عجل من الكتلة الصخرية التي تشكل الكتلة الحاملة للقلعة وبالتحديد من فراغ الخندق الحالي، وتختلف هذه الأبراج فيما بينها من حيث عدد الطوابق في كل منها حيث تحكمت تضاريس الكتلة الصخرية في عدد الطوابق بكل منها؛ ففي حين تصل في البرج الرابع إلى أربعة طوابق يلاحظ في البرج السابع أنها تتألف من طابقين فقط. وينتهي كلٌّ من الأعلى بسطح مستوٍ ذي ساترٍ دفاعي ذي شرّافات تلتف حوله، وفتح بالجدار الخارجي لكل منها مزاغل أو طلاقات بشكل شقوق رأسية تسمح للمرابطين بالأبراج بالدفاع عنها، وتتصل سطوح هذه الأبراج من أعلى ببعضها بممرات علوية مكشوفة وتربطها مع باقي أجزا القلعة أدراج مختلفة؛ في حين يربط هذه الأبراج بعضها ببعض من الأسفل ممرات مغطاة بأسقف حجرية معقودة تسير عبر جدران القلعة وأجزائها.
الدرج المؤدي لسطح البرج 3 | الطابق السفلي للبرج 1 | قلعة تدمر في سبعينيات القرن العشرين الميلادي | الأدراج والمداخل |
ويتوصل إلى مدخل القلعة عبر الطريق الصاعد الملتف حولها شمالاً وشرقاً، والذي يؤدي إلى الطرف الخارجي للخندق الذي مازال يتقدم مدخلها الذي كان يتوصل إليه عبر جسر خشبي متحرك يتم رفعه عند وصول الأعدا إلى أسفل القلعة لتصبح معزولة عن محيطها، والذي استبدل به جسر خشبي ثابت يمتد فوق الخندق محمولاً على دعامتين حجريّتين بنيتا وسط الخندق لحمل هذا الجسر ذي الدرابزين الحديدي، والذي يؤدي مباشرة إلى مدخل القلعة المؤلف من فتحة باب مغطاة بعقد مدبب يدخل منه مباشرة إلى رحبة ثم إلى دهليز يتوصل منه إلى داخل القلعة.
الواجهة الشرقية للقلعة | الأبراج 1-2-3-8 | أدراج السطح |
وتتألف القلعة من الداخل من مجموعة كبيرة من الفراغات المعمارية المبنية بالأحجار الكلسية البيضا قليلة التشذيب وبمداميك غير متناسقة، وبطوابق متعددة يختلف عددها بحسب شكل الكتلة الصخرية أسفلها بين أربعة طوابق واثنين، تغيرت وظائف أغلبها عبر فترات استخدامها لتشابه تصميماتها الخالية من الزخارف والعناصر المعمارية المميزة؛ حيث تتوزع فيها غرف الإقامة وقاعات الاجتماعات والمستودعات والمخازن وإسطبلات الخيل والحيوانات الأخرى وصهاريج جمع الما التي كانت مياه الأمطار تستجر إليها بوساطة المزاريب الموزعة على السطوح العالية لتساق إلى الصهاريج المنقورة بالصخر لجمعها وتخزينها لحين حاجتها.
الجسر الخشبي للمدخل | جز من الواجهة الشرقية | جانب من السطح الشمالي |
وقد غطيت أغلب الأجزا الداخلية للقلعة بقبوات حجرية متقاطعة وبرميلية، كما تتميز القلعة بممراتها الكثيرة المتعرجة وكثرة مداخلها المعقودة، وكثرة الأدراج التي تسهل الاتصال الحركي بين الأجزا المتعددة التي تتشكل منها.
- التصنيف : آثار إسلامية - المجلد : المجلد الرابع مشاركة :