تدمر (مدينه)
-

تدمر

مأمون عبد الكريم

مدينة تدمر

العمارة الجنائزية

مخطط المدينة وأهم المباني الأثرية

المباني العامة
العمارة الدينيةالعمارة السكنية
 النحت في تدمر 

 

 

مدينة تدمر

تقع مدينة تدمر Palmyra في وسط البادية السورية في واحة غنية بالمياه، ساعدت على نشأتها وتطورها خلال عصور طويلة، ومن أهم أسباب نشوئها وجود نبع أفقا الذي تمتع بقدسية لدى سكانها، وقد دلت نقوش كتابية على عبادة السكان لرب النبع يرحبول الذي يعود إليه الفضل في نشو المدينة.

اشتق اسم تدمر من تدمرتو أو تدمرتا أي الأعجوبة، وتعود هذه التسمية إلى القرن التاسع عشر قبل الميلاد. أما اسم بالميرا فيعود إلى القرن الأول الميلادي، ويعني مدينة النخيل. وتعد اللغة التدمرية أحد فروع اللغة الآرامية التي كانت لغة سكان تدمر، إضافة إلى اللغتين اليونانية واللاتينية، وهما اللغتان الرسميتان خلال العصور الكلاسيكية.

عاشت المدينة خلال العصر الروماني نهضة اقتصادية منذ منتصف القرن الأول قبل الميلاد. وتشير النصوص التاريخية إلى محاولة القائد الروماني ماركوس أنطونيوس[ر] احتلال مدينة تدمر عندما أرسل عام ٤١ ق.م قوة رومانية للقيام بهذه المهمة بغرض نهبها، وعندما علم سكان تدمر بقدوم هذه الحملة قاموا بنقل أموالهم وأمتعتهم إلى الطرف الآخر من نهر الفرات، فاستطاعوا بذلك الخلاص من هذا الهجوم الذي انتهى بالإخفاق.

ومن العوامل الأساسية التي ساعدت على ازدهار المدينة السلام الذي عاشته بفضل بعدها عن الحروب الدائرة بين قادة الرومان أنفسهم، أو تلك الحروب التي نشبت بين الرومان والبارثيين، إضافة إلى موقعها التجاري بوصفه محطة تجارية مهمة للقوافل التجارية بين الشرق والغرب، وهذا ما ظهر على مبانيها المعمارية ولاسيما على أبنيتها الدينية، إذ بني معبد بل في سنة ٣٢م، ولم يكتمل بناؤه حتى القرن الثاني الميلادي، كما بني معبد نبو في نهاية القرن الأول الميلادي، واكتمل بناؤه في القرن الثاني الميلادي، أما معبد بعل شمين فقد بني في القرن الثاني الميلادي ولم يكتمل حتى القرن الثالث الميلادي، بفضل النمو الاقتصادي وازدهار تجارة المدينة الدولية، حيث أنشئ إضافة إلى ذلك معبد اللات، والأجزا الأخرى من المدينة مثل الشارع الرئيسي والسوق العامة.

ارتبطت تدمر في مطلع القرن الثاني بعلاقات جيدة مع الرومان، فكانت تتمتع بالحكم الذاتي على الرغم من تبعيتها للسلطة الرومانية، ومما زاد في نشاطها التجاري احتلال الرومان في عام ١٠٦ للميلاد لمدينة البترا [ر] عاصمة دولة الأنباط [ر]، وإلحاقها بالولاية العربية التي كانت عاصمتها مدينة بصرى.

وفي نهاية القرن الثاني حكمت الأسرة السيفيرية - السورية الأصل- روما، وفي عصرها عاشت تدمر خاصة وسورية عامة فترة استقرار وازدهار، حيث تم منح تدمر امتيازات أهمها إعطاؤها لقب مستعمرة رومانية، وهذا يعفيها من دفع الضرائب.

ازدهرت مدينة تدمر بوصفها مملكة في عهد أسرة أذينة[ر] بين عامي ٢٣٥م و٢٧٣م، وكانت تتمتع بإمكانات اقتصادية وعسكرية كبيرة، وكان لهذه الأسرة علاقة قوية مع روما، خاصة في حروب هذه الأخيرة مع البارثيين ثم الساسانيين، وأشهر الوقائع هي تلك التي تصدى فيها الملك أذينة للجيش الساساني وأسر الامبراطور فاليريانوس. كما قام بحماية الحدود الشرقية للبلاد من توغلهم في المنطقة، فمنحته روما ألقاباً منها ملك الملوك. بعد وفاة أذينة تسلم ابنه وهب اللات الحكم الذي كان تحت وصاية أمه زنوبيا التي اتسعت بعهدها حدود تدمر، وشملت مناطق واسعة من المشرق العربي القديم، وكذلك شمالي الجزيرة العربية ومصر والأناضول وأرمينية.هذه العظمة التي وصلت لها مملكة تدمر هددت نفوذ السلطة الرومانية في الشرق؛ ما أدى إلى قيام حرب بينهما، انتهت بانتصار أورليانوس [ر] امبراطور روما وتدمير المدينة في عام ٢٧٣ م. وفي نهاية القرن الثالث الميلادي (٢٨٥-٣٠٥ م) قام الامبراطور ديوقليسيانوس[ر] بترميم أجزا من أسوار المدينة من أجل حماية الفرقة العسكرية الأولى، كما قام ببنا معسكر لجيشه على أنقاض القصر الملكي في الجز الغربي من المدينة، وترميم حمامات زنوبيا.

في القرن الرابع دخلت المسيحية إلى تدمر وهجرت معابدها، وتحول بعضها مثل بل وبعل شمين إلى كنائس، وقد اهتم أباطرة بيزنطة بها خلال العصر البيزنطي، من أهمهم جوستينيانوس[ر] (٥٢٧-٥٦٥ م) الذي قام بتدعيم أسوارها وتقويتها وحمايتها من الخطر الساساني. تحولت هذه المدينة خلال القرنين الخامس والسادس الميلاديين إلى مركز مهم لمملكة الغساسنة [ر]. أخيراً فتح خالد بن وليد المدينة سلمياً في سنة ١٣هـ/٦٣٤ م.

منظر عام لآثار مدينة تدمر

زار الرحالة والمهتمون مدينة تدمر منذ أواسط القرن السابع عشر، ومنهم الإيطالي بيترو دلافالي Pietro Della Valle، والفرنسي جيرود Girod في عام ١٧٠٥م، والسويدي كورنيليوس لوس Cornelius Loos في عام 1710 م. ومن ثم زار المدينة الرحالة الإنكليز مثل وود R.Wood، ودوكنس H. Dawkins عام ١٧٥١م، ونشرا كتاباً مهماً باسم «أطلال تدمر»، باللغتين الإنكليزية والفرنسية في عام ١٧٥٣م. زارها فيما بعد عدد من الرحالة الفرنسيين في القرن التاسع عشر مثل كساس L. F. Cassas و الكونت دوفوغيه De Vogué ، ووادينغتون W. H. Waddington . كما كان الباحث الأرمني اباماليك لازاريف A. Lazarew في عام ١٨٨١م من أهم الباحثين الذين درسوا هذه المدينة في القرن التاسع عشر، عندما اكتشف نصوص التعرفة الجمركية التدمرية التي تم نقلها إلى متحف أرميتاج في سان بطرسبرغ الروسية، وتعد هذه التعرفة من أهم النصوص التي تسلط الضو على القانون التدمري المالي، وتعرف أنواع البضائع التي تمر بهذه المدينة، كما يمكن تعرف طبيعة المبادلات والقوانين الناظمة للتجارة الدولية العابرة من هذه المدينة. وفي بداية القرن العشرين قامت بعثة ألمانية برئاسة فيغاند Wigand بالأبحاث الأثرية بين عامي ١٩٠٢ و١٩١٧م، ونشرت أعمالها لاحقاً. كما قامت البعثة الأثرية الفرنسية بدراسة الكتابات التدمرية، وكان فيها أ. موسيل A. Mussil، وأ. جوسين A. Jaussen . بعد الحرب العالمية الأولى، وتحديداً في عام ١٩٢٤م قامت بعثة دنماركية بالعمل في هذا الموقع برئاسة هرالد إنغولت H. Ingholt. وتتالت بعد ذلك الكثير من البعثات الأثرية للعمل في هذا الموقع بين الحربين، ومن أهمها البعثة الفرنسية برئاسة هنري سيريغ Henri Seyrig مدير آثار سورية خلال فترة الانتداب، وج. ب. شابو G. B. Chabot، وج. كانتينو G. Cantineau، ور. دورو R. Duru، ود. شلومبيرجير D. Schlumberger، وج. ستاركي J. Starcky. شهدت المرحلة الممتدة من الحرب العالمية الثانية حتى الآن الكثير من الأبحاث الأثرية في هذا الموقع، وتنوعاً في جنسيات البعثات الأثرية، وبدأت بعثة وطنية بالعمل بهذا الموقع منذ الاستقلال برئاسة سليم عادل عبد الحق، ومن ثم عدنان البني الذي كرّس سنوات طويلة من حياته في دراسة هذا الموقع، وقد عمل عدد من الباحثين معه مثل نسيب الصليبي وخالد الأسعد، الذي أدار مديرية الآثار في هذه المدينة سنوات طويلة، كما عمل معهم أحمد طه خلال هذه المرحلة من البحث الأثري الوطني. كما يعمل في هذا الموقع منذ سنوات عديدة البعثات الفرنسية المختلفة مثل بعثة ب. كولار P. Collart البولونية برئاسة ك. ميخالوفسكي K. Michalowski، ومن ثم م. غافليكفسكي M. Gawlikowski، والبعثة اليابانية التي عملت على دراسة المقابر التدمرية.

- مخطط المدينة وأهم المباني الأثرية:

تطورت مدينة تدمر على نحو أساسي خلال القرون الثلاثة الأولى الميلادية، حيث اتخذت المدينة مخططاً على شكل نصف دائرة مغلقة بالأسوار، وتتجمع فيها أهم المباني الأثرية من المعابد، والمباني الرسمية المختلفة. أما القبور فهي تقع خارج هذه الأسوار في عدة اتجاهات، ولاسيما في وادي القبور في الجهة الجنوبية الغربية من المدينة. ويخترق المدينةَ الشارعُ المستقيم المزود برواقين في جهتيه، ويسمى بالشارع ذي الأعمدة، تتوزع على امتداده المحلات التجارية. يبدأ هذا الشارع من معبد بل في الجهة الجنوبية الشرقية من المدينة، ويمتد حتى وسط المدينة ليصل إلى قوس النصر. وتنتشر على جانبي شارع الأعمدة عدة مبانٍ مهمة، مثل حمامات ديوقليسيان في الجهة الشمالية، ومعبد نبو والمسرح من الجهة الجنوبية، تقع ورا ها مبانٍ مهمة مثل الأغورا ومجلس الشيوخ. ويصل الشارع إلى ساحة تسمى بالتترابيل (المصلبة) Tetrapylon، وهي بنا ذو قاعدة مربعة ترتفع فوقها أربعة أعمدة، ويمتد إلى السور الغربي بالقرب من معبد اللات، ومعسكر ديوقيلسيانوس. وتتوزع البيوت في المدينة ضمن أحيا شبه منتظمة من خلال وجود الشوارع المتوازية والمتقاطعة.

مخطط مدينة تدمر

- العمارة الدينية:

تعد مدينة تدمر من أكثر المدن غنىً في عدد المعابد المهمة التي لا تزال تحافظ على حالتها المعمارية جيداً، وتعود إلى فترة ازدهار المدينة خلال القرون الثلاثة للميلاد. حيث وجد في هذه المدينة الكثير من الأرباب، وصل عددهم إلى العشرات، ومن أهمهم الرب بل [ر]؛ لذا تم تكريس عدد من المعابد لهم، ومن أهمها:

١- معبد بل: كرّس للإله بل على نحو أساسي، وللثالوث الإلهي الذي يضم الرب بل، ويرحبول «رب الشمس»، وعجلبول «رب القمر». دشن سنة ٣٢م، وتم الانتها من بنائه في القرن الثاني الميلادي، تهدم خلال الحرب التي قامت بين تدمر والرومان سنة ٢٧٢م .

ويتألف هذا المعبد من الهيكل الرئيس الذي يقع في وسط باحة مربعة واسعة Temenos (تمنوس)، تبلغ أبعادها ٢١٠×٢٠٥م، يحيط بها سور مزود بأروقة محمولة على أعمدة ذات تيجان كورنثية، وهناك درج لولبي في الزاوية الشمالية كان يؤدي إلى سطح الرواق. وتوجد أمام هذا الهيكل عدة ملحقات كمذبح للأضاحي وحوض التطهر وكذلك قاعة الولائم.

شيد الهيكل على مصطبة مرتفعة، بامتداد العرض بدلاً من امتداده الطولي على محور البوابة، ويحيط به رواق محمول على أعمدة مخددة، وتيجان ذات زخارف كورنثية نقشت عليه مشاهد دينية وأسطورية وزخارف حيوانية ونباتية وهندسية. وفي داخل الهيكل محرابان كانا مخصصين لوضع تماثيل الآلهة على الطريقة الشرقية، إذ توضع التماثيل داخل المحاريب بخلاف اليونانيين والرومان الذين يضعون تماثيلهم في الهيكل فوق قواعد. كان المحراب الجنوبي مخصصاً للرب بل، والمحراب الشمالي لباقي الأرباب. وقد زيّن سقفا المحرابين بزخارف مختلفة تتسم بسمات شرقية وكلاسيكية.

٢- معبد نبو: يقع هذا المعبد إلى الغرب من قوس الشارع المستقيم، إذ تم البد ببنائه في النصف الثاني من القرن الأول الميلادي، وتم الانتها منه في نهاية القرن الثاني الميلادي، ثم تعرض للتدمير في عام ٢٧٢ الميلادي.

معبد بلهيكل معبد بل

كرّس المعبد للإله نبو (أبولون)، ويتألف من الهيكل الذي بني على منصة في وسطه، ويتجاوز طوله العشرين متراً وعرضه تسعة أمتار. ويحيط بهذا الهيكل رواق محمول على اثنين وثلاثين عموداً من الطراز الكورنثي. أما في الداخل فهناك محراب لتمثال الإله، وبقربه آثار درج صاعد نحو السقف المزين بالشراريف التي حملت على الأعمدة الدورية، كما يوجد مذبح مشيد من الحجر الكلسي بني أمام الهيكل. ويحيط بالمعبد سور خارجي على شكل شبه منحرف غير منتظم، إذ تقع البوابة الرئيسة في جهة الجنوب، تكتنفها ثلاث غرف متصلة مباشرة بالأروقة الداخلية حول باحة المعبد، كما يوجد خزان ما لتطهر الكهنة.

٣- معبد بعل شمين: يقع هذا المعبد في الجهة الشمالية من المدينة، تم تكريسه للإله بعل شمين (سيد السموات وإله المطر والخصب في تدمر). بني في القرن الثاني الميلادي فوق معبد أكثر قدماً منه يعود إلى بداية القرن الأول الميلادي، لم تبقَ من آثاره سوى غرفة المائدة وبعض الأروقة ومدفن عتيق.

ويتألف المعبد من هيكل وباحتين شمالية وجنوبية، فيهما أروقة، ويحمل هذا المعبد بعض الخصائص الشرقية كالعضائد الخارجية، والنوافذ وعدم وجود الأساس المدرج تحت الحرم.

معبد بعل شمينمعبد بعل شمين (منظر واجهة)

٤- معبد اللات: يقع هذا المعبد في الحي الغربي من المدينة، وقد كرّس للرّبة الأم عند العرب وربة الحرب، ورمزها الأسد، وتقابل الربة أثينا عند اليونان، ويعود تاريخ هذا المعبد إلى القرن الثاني الميلادي، وقد أظهرت التنقيبات أن هذا المعبد بني فوق معبد أقدم منه يعود إلى القرن الأول الميلادي.

ويتألف المعبد من مدخل رئيس ينفتح على رواق من ستة أعمدة، يفضي إلى الهيكل ذي الأبعاد (١٩م×١٠م)، كان يحيط به رواق محمول على أعمدة كورنثية الطراز، ويقع الهيكل وسط ساحة مستطيلة واسعة بأبعاد (٧٢×٢٨).

٥- معبد بلحمون ومناة: يقع هذا المعبد في قمة الجبل الغربي (المنطار)، بني عام ٨٨م، وقد كرّس لإله كنعاني وللإلهة مناة (ربة عربية) إلهة المنية والقدر والمصير، ذكرت مناة عند الأنباط إلى جانب ذي الشّرى كإلهة مرافقة عبدت عند العرب كابنةٍ للإله إيل مع اللات والعزى.

قوس النصر في تدمر

- العمارة الجنائزية:

تتميز مدينة تدمر بتنوع أشكال المباني الجنائزية فيها، حيث تمتلك المدافن مخططات مختلفة، وهي مدافن برجية وأرضية وبيتية وفردية.

فيما يخص المدافن البرجية هناك الكثير من المدافن الجميلة، وهي في حالة من الحفظ المعماري الجيد ولاسيما المقبرة الغربية (وادي القبور). لقد أعطى هذا النوع من المدافن فرصة للباحثين لتتبع تطورها بفضل الكتابات التأسيسية الموجودة فيها. ويتميز المدفن البرجي بوجود قاعدة مربعة الشكل بوجه عام، ويتألف كل برج من عدة طوابق يصل ارتفاعها إلى خمسة أمتار في بعض الأحيان. ويقوم كل برج فوق مصطبة مربعة الشكل، ويكون مجهزاً بعدد من المعازب في الداخل. وتقع بوابة البرج في إحدى جهات البرج، كما يوجد درج داخلي يصل بين الطوابق.

المدافن البرجية

أما المدافن الأرضية في تدمر فتتنوع أيضاً بأشكالها وبغناها بالزخارف المختلفة، ومن أهم هذه المدافن مدفن الإخوان الثلاثة الذي يقع في المنطقة الجنوبية الغربية لمدينة تدمر، ويعود تاريخه إلى نحو منتصف القرن الثاني الميلادي، تم تأسيسه من قبل الإخوة مالئ وسعدي ونعماي. وتتقدم المدفن بوابة حجرية ضخمة، يعلوها ساكف مزين بكورنيش، ويتألف من ثلاثة أروقة، رواق مركزي في الوسط، يحتوي على صفوف من المعازب من كل جانب، وفي نهايته غرفة مربعة الشكل تحيط بها من كل جانب من جوانبها الثلاثة أربعة صفوف من المعازب. وقد عثر ضمن هذه الغرفة على لوحات جدارية ملونة تمثل الفن الهلنستي والسوري غنية بالرسوم الرائعة. وإلى جهة اليمين من الرواق المركزي رواق يحتوي على ثمانية صفوف من المعازب من كل جانب، يتصدره ثلاثة توابيت حجرية كانت تخفي خلفها أربعة صفوف من المعازب، وإلى الشمال منه رواق آخر شبيه بالرواق السابق غير أنه لا يضم التوابيت الحجرية.

أما مدفن يرحاي فقد بني سنة ١٠٨م، وهو يقع في وادي القبور بمدينة تدمر، أعيد بناؤه في متحف دمشق الوطني، ويتميز هذا المدفن بالغنى بالمنحوتات النصفية التي تمثل الأشخاص الذين دفنوا فيه بوضعيات مختلفة تشير بوضوح إلى فن محلي خالص في النحت. ويضاف إلى هذين المدفنين العشرات من المدافن الأرضية المحفورة في الحجر الكلسي في تدمر.

والنوع الثالث من المدافن في هذه المدينة يتمثل بالمدفن البيتي، وهو مبنىً بطابق واحد، فيه باحة في وسط البيت، وتتوزع حولها معازب الدفن. ظهر هذا النموذج من المدافن في القرن الثاني الميلادي، ومن أهم نماذجه مدفن قصر الحية الذي يقع في المقبرة الشمالية.

- المباني العامة:

١- مسرح تدمر:

يقع مسرح تدمر في وسط المدينة إلى جهة الجنوب من الشارع الرئيسي، وقد شيد على أرض منبسطة كغيره من المسارح الكبرى كمسرح بصرى وأفامية وشهبا...إلخ. وتم ربط المسرح بالشارع الرئيسي بوساطة رواقين: يتصل الأول بالرواق المعمد الخارجي للمسرح، ويؤدي الثاني إلى الباب الخلفي لمنصة الممثلين التي شيدت في نهاية القرن الثاني ومطلع القرن الثالث الميلادي، وبني المدرج في مرحلة أبكر في بداية القرن الثاني الميلادي، ويبلغ قطره ٩٠م، ولم يبقَ منه سوى ١٣ صفاً من الأدراج المرتبة بشكل متناسق، تقابله المنصة التي يبلغ طولها ٤٨م، وعرضها ١٠م، تزينها المحاريب والأبواب الفخمة والأعمدة الرومانية التي تحمل تيجاناً منحوتة بزخارف نباتية وهندسية رائعة. أما «الأوركسترا» فهي تتوسط المسرح، وعلى جانبيها ممران وبوابة مستطيلة من الجهة الجنوبية يفصل بينها وبين مقاعد الجمهور حائط حجري بارتفاع مترٍ واحد.

٢- حمامات ديوقليسيان:

تقع مباشرة بعد قوس النصر إلى اليمين من الشارع المستقيم، ولا تبعد سوى عدة أمتار منه. كشفت عنها البعثة الوطنية السورية في سنة ١٩٧٠م، وقامت في سنة ١٩٧٦م بترميم واجهة الحمامات وأجزا من القسم الحار، وهي تجمع معماري يتألف من مبنىً رئيس مقسوم إلى ثلاثة أقسام: البارد والدافئ والحار، تتقدمه واجهة مؤلفة من أربعة أعمدة غرانيتية حمرا جلبت من مصر، ويضم مجموعة ملحقات كالمراحيض وباحة للرياضة والاجتماعات. يبدو أن هذه الحمامات قد بنيت قبل عهد الامبراطور ديوقليسيانوس[ر]، لكنه أعاد ترميم بعض المباني العامة التي دمرت في عهد الامبراطور أورليانوس [ر]، خاصة أن هذه المدينة أصبحت مهمة في الدفاع عن حدود الامبراطورية ضد هجمات الساسانيين في عهد ديوقليسيانوس.

٣- الأغورا أو الفوروم:

يتألف السوق في مدينة تدمر من باحة مربعة ومغلقة، تبلغ أبعادها ٨٤×٧١م، تحيط بها الأروقة الداخلية التي كانت تحمل السقوف الخشبية. ولهذا السوق أحد عشر مدخلاً حيث تقع ثلاثة مداخل رئيسة في الجدار الجنوبي والشرقي والشمالي، كما يمكن رؤية سبيلين للسقاية في الزاوية الشمالية-الشرقية، وتم العثور أيضاًعلى بقايا منصة كانت تستخدم للخطابة أو لأغراض الإعلان التجاري.

ودلَّت الكتابات الكثيرة المكتشفة في هذا السوق على إقامة تماثيل بأمر من مجلس الشيوخ، وذلك لتخليد بعض الشخصيات التي كان لها دور مهم في حياة المدينة، كما دلَّت هذه الكتابات أيضاً على وجود عملية توزيع للأروقة على حسب المركز الاجتماعي والوظيفي لبعض الشخصيات؛ إذ خصصت الحوامل في الرواق الشرقي لرفع تماثيل أعضا مجلس الشيوخ والأسرة المالكة في تدمر، وكذلك تماثيل بعض الأباطرة، أما الرواق الغربي فقد كان مخصصاً لتماثيل القادة العسكريين، وأما الرواق الشمالي فقد خصص للمدنيين والموظفين، وأخيراً كان الرواق الجنوبي مخصصاً لرجال المال والتجار.

وتشير الدراسات الأثرية التي تمت في هذا الموقع إلى أن تاريخ بنا الأغورا في تدمر يعود إلى الفترة الممتدة مابين عهد الامبراطور فسباسيانوس ٦٩-٧٩م، وعهد الامبراطور تراجانوس ٩٨-١١٧م، لكن مجموع الأعمال قد نفذت وانتهت خلال عهد الإمبراطور هادريانوس ١١٧-١٣٨م، وهناك إشارات واضحة في التعرفة الجمركية التدمرية.

كما دلَّت التنقيبات الأثرية أيضاً على أن هذا المجمّع التجاري الضخم والمؤلف من آغورا وبازليك ومجلس الشيوخ لم يبنَ على أرض عذرا ، بل يبدو أنه كانت هناك مبانً أقدم تشغل هذه المنطقة قبل الشروع في بنا الأغورا، ولكن من غير الممكن التأكد من وظيفة هذه المباني بسبب قلة المعلومات المستقاة من التنقيب، وإن دلَّ العثور على بعض الأعمدة ورؤوس التماثيل على وجود مبنى ذي وظيفة دينية. وبعد بنا الأغورا في القرن الثاني الميلادي أعيد تنظيمها في نهاية هذا القرن خلال عهد الأسرة السيفيرية، عندما حصلت تدمر على حقوق المستعمرة الرومانية، وكانت هذه الأعمال تهدف إلى ربط المركز الاقتصادي القديم بالطريق المستقيم الذي تحول إلى مركز اقتصادي جديد خلال هذا العصر.

٤- معسكر ديوقليسان:

يقع في نهاية الشارع المستقيم إلى الغرب منه مباشرة بجوار معبد اللات، وقد بُني المعسكر في عهد الإمبراطور ديوقليسيانوس عندما حاول تحصين المدينة ضد الهجمات الساسانية، وأشارت الدراسات الأثرية إلى وجود بقايا مبنى أقدم في هذا الموقع قبل أن يتحول إلى معسكر.

- العمارة السكنية:

ساعدت التنقيبات الأثرية التي تمت في مدينة تدمر على اكتشاف بعض البيوت في بعض الأحيا السكنية التي كانت منتظمة في جزر سكنية ضمن شبكة مربعات من خلال الشوارع المتقاطعة والمتوازية. وكانت البيوت بوجه عام تتألف من مدخل يقود على نحو غير مباشر إلى ساحة معمَّدة محاطة بالأروقة التي تنفتح على مجموعة من الغرف والملحقات. وتميزت هذه البيوت بمخططات مختلفة بسيطة أو معقدة، وتختلف فيما بينها بمساحة البيت وعدد الغرف والمساحات والزخارف.

تعود البيوت المكتشفة في تدمر إلى العائلات الميسورة الحال، ويشهد على ذلك أحجام المنازل وانتظامها بالجزر السكنية التي تقع في نقاط مهمة من المدينة على مقربة من الشارع المستقيم أو تكون قريبة من بعض المعابد.أما البيوت الأخرى البسيطة فقد بنيت في الحي الشمالي الغربي بعيداً عن الشارع المستقيم، وعن المعابد الرئيسة؛ لذا في تدمر نوع من الفصل بين الأحيا الفقيرة والغنية على النقيض مما هو في مدينة دورا أوروبوس [ر].

- لوحات الفسيفسا والرسوم الجدارية في تدمر:

تعد اللوحات الفسيفسائية المكتشفة في تدمر قليلة، إلا أنها على قدر كبير من الأهمية؛ لأنها تظهر التمازج بين الفن المحلي المنتشر في تلك الفترة العائدة إلى القرن الثالث الميلادي والفن الكلاسيكي، وقد تم اكتشاف لوحات فسيفسائية تحمل سمات إغريقية - رومانية في تدمر بين عامي 1939م و1941م في منزلين يقعان إلى الشرق من معبد بل (بيت أخيل Achilles وبيت كاسيوبيا Cassiopeia) تعود إلى النصف الثاني من القرن الثالث الميلادي، وقد سميا كذلك نسبة إلى الموضوعات الأسطورية التي تم تنفيذها في اللوحات التي عثر عليها في كلا البيتين، وهي على غرار اللوحات الفسيفسائية المكتشفة بمناطق أخرى في سورية.

أما الرسوم الجدارية في هذه المدينة فقد تم الكشف عن عدد من اللوحات في عدد من المدافن، وهي بحالة ممتازة من الحفظ، كتلك التي وجدت في مدفن الإخوان الثلاثة، لقد تم تنفيذ هذه الرسوم على طبقة جافة رسمت فوقها المشاهد الفنية من خلال استخدام الألوان المركبة من الأكاسيد المعدنية المحلولة بالما ، فنجم عن ذلك تنفيذ الرسوم بتقنيات رائعة، وهذه المشاهد المختلفة ذات مواضيع دينية وميثولوجية بألوانٍ مختلفة، وذات أسلوب محلي يحمل تأثيرات كلاسيكية ومشرقية من خلال وجود الزخارف ودلالات مختلفة تعبر عن الغنى الفني الذي شهدته المدينة.

- النحت في تدمر:

قدمت المكتشفات الأثرية في مدينة تدمر كماً كبيراً من المنحوتات الفنية ذات الخصائص المحلية الفريدة من نوعها، وتعد واحدة من أهم المدارس الفنية التي عرفت في ذلك العصر.

وقد تم استقرا تاريخ تطور الفن التدمري الممتد من منتصف القرن الأول الميلادي حتى الربع الأخير من القرن الثالث الميلادي، وتقسيمه إلى عدة مراحل تتميز كلٌ منها بسمات معينة.

ولقد تم الكشف عن منحوتات مختلفة تمثل الآلهة حيث عبد التدمريون آلهة محلية عديدة كانت مرتبطة بمظاهر الطبيعة كالشمس والقمر، وأعطوها أشكالاً إنسانية أو مركبة متمثلة بأوضاع مختلفة تبرز قوتها بشكل فردي أو جماعي، كذلك مثلوا في تماثيلهم البيئة المحيطة من حيوانات أو نباتات كان بعضها يحمل رموزاً معينة كالنسر وغصن الزيتون والسنبلة...إلخ. وتأثر التدمريون بآلهة الشعوب والحضارات التي احتكت معهم ودياناتها كالحضارة الرافدية والحضارة الكلاسيكية؛ مما أدى إلى تمييز العديد من الآلهة التدمرية المختلفة وتنوعها.

وصوّر التدمريون آلهتهم تصويراً واقعياً؛ مما يجعل من الصعب أحياناً التفريق بين تلك المنحوتات الخاصة بالآلهة وتلك التي تخص الأشخاص العاديين، إذ تم تمثيلهم غالباً باللباس الحربي والدروع الحربية وهم يحملون السهام، معتلين الأحصنة أوالجمال أو يسوقون العربات الحربية، ويمكن من خلالها ملاحظة امتزاج التأثيرات المحلية والكلاسيكية والبارثية على الألبسة وغيرها.

ويمكن تقسيم المنحوتات الدينية التدمرية إلى ثلاث فئات رئيسة هي: مشاهد آلهة منفردة أو مجتمعة منقوشة على الجدران أو الأفاريز، ومشاهد التقدمات الدينية وتضم عادةً آلهة وطقوساً دينية وتقدمات للآلهة، ومشاهد آلهة ومتعبدين بأوضاع مختلفة منقوشة على مذابح نذرية تهدى للمعابد.

ومن أهم الآلهة التدمرية الرئيسة التي كانت تعبد عند التدمريين الإله بل رئيس مجمع الآلهة، يقابله الإله زيوس - جوبيتر عند اليونان والرومان وشركاؤه يرحبول (إله الشمس)، وعجلبول (إله القمر)، كما صوّر الإله بل في المنحوتات مع آلهة أخرى مثل شمش وبعل شمين وقرينته والربة عشتار.

ويبدو من خلال منحوتات الإله بل أنه كان يمثل بردا عسكري، شعره مصفف بشكل مستدير حول وجهه، وتنتشر منه أشعة الشمس، وهو يرتدي ثوباً قصيراً فوقه درع مضفورة مميزة له، ويحمل أحياناً كرة في يده اليسرى أو سيفاً، مستنداً إلى رمح أو صولجان. أما يرحبول فيبدو في المنحوتات بزيه العسكري أيضاً متميزاً بالأشعة الشمسية والهلال المنطلق من الخلف، ويكوّن هذان الإلهان في كثير من الأحيان ثالوثاً مع بعل شمين إله الخصب والمطر، وهومنافس للإله بل الرئيسي، إذ يُمثل كذلك وهو يرتدي الزي العسكري أو المدني حاملاً رموزه وهي السنابل والنسر. وعثر على تمثالٍ آخر مرسوم لربة النصر المجنحة في تدمر، فتبدو فيه مرتدية عبا ة وتحمل قرن الخصب والوفرة، وهو يعود إلى القرن الثاني الميلادي، ولا تبدو فيه ربة النصر مدرعة. كما توجد إضافة إلى الآلهة السابقة أرباب عربية أخرى، أهمها الربة العربية اللات والعزى ومناة وأرصو وعزيزو...إلخ، وكذلك الربة السورية لهيرابوليس (ربة منبج) وغيرها.

كما تم الكشف عن أعمالٍ مهمة تمثل النحت الجنائزي في تدمر، منها التماثيل النصفية حيث توجد في متحف تدمر ودمشق المئات من الأعمال الفنية التي تعبر عن قوة هذا الفن في التعبير وتصوير المشاهد. وهناك أعمال تمثل واجهات التوابيت والأسرّة الجنائزية، وقدمت هذه معلومات غنية عن حياة التدمريين وعاداتهم الدينية، وهي محفوظة في كل من متحفي تدمر ودمشق على نحو أساسي.

وتم نحت النقوش الفنية التدمرية أيضاً على واجهات المباني، وهي تتضمن موضوعات مختلفة كنحت الأغصان النباتية وعناقيد العنب والثمار المحلية والوريقات الجميلة، إلى جانب الأشكال الهندسية المختلفة، كما نحت الفنان التدمري التماثيل التي تمثل شخصيات بارزة في المجتمع التدمري، مثل شيوخ القبائل وأعضا مجالس الشيوخ والموظفين، وكان يُزين بها الشارع المستقيم والآغورا والأعمدة التذكارية.

كما عثر على منحوتات تمثل المحاربين بأسلحتهم، توجد إحداها في المتحف الوطني بدمشق، وهي تمثل رجلين من الرماة التدمريين شعرهما أجعد، ويلبسان لباساً فضفاضاً مشدوداً بالوسط بحزام، ربط فيه سيف، ويمسك كل منهما رمحاً باليد اليمنى و ترساً باليد اليسرى. ووجدت أيضاً منحوتات تمثل الحيوانات كالإبل والخيل، كالمنحوتة التي تمثل هجاناً عُد من قبل بعض الباحثين إله القوافل وحاميها شارو، كما تم أيضاً تمثيل الأسد والكلب في النحت. وهكذا يتبين أن فن النحت التدمري قد حافظ على السمات المحلية بطريقة لافتة للنظر على الرغم من دخول التأثيرات الكلاسيكية إلى المدينة خلال العصور الكلاسيكية.

 

- التصنيف : آثار كلاسيكية - المجلد : المجلد الرابع مشاركة :

بحث ضمن الموسوعة

من نحن ؟

الموسوعة إحدى المنارات التي يستهدي بها الطامحون إلى تثقيف العقل، والراغبون في الخروج من ظلمات الجهل الموسوعة وسيلة لا غنى عنها لاستقصاء المعارف وتحصيلها، ولاستجلاء غوامض المصطلحات ودقائق العلوم وحقائق المسميات وموسوعتنا العربية تضع بين يديك المادة العلمية الوافية معزَّزة بالخرائط والجداول والبيانات والمعادلات والأشكال والرسوم والصور الملونة التي تم تنضيدها وإخراجها وطبعها بأحدث الوسائل والأجهزة. تصدرها: هيئة عامة ذات طابع علمي وثقافي، ترتبط بوزير الثقافة تأسست عام 1981 ومركزها دمشق