انسان (علم)
-

الإنسان ( علم -)

مي الحايك

الأسترالوبيتكإنسان النياندرتال
الهوموهابيلالإنسان العاقل
الإنسان المنتصب القامةالإنسان العاقل في المشرق العربي
 

إن مصطلح علم الإنسان "الأنثروبولوجي" Anthropology حرفياً (علم الإنسان)، والمصطلح مكون من كلمة مركّبة من مقطعين من اللغة اليونانية، هما: Anthropos= الإنسان، logos = علم. فهي ذلك العلم الذي يهتم بدراسة تنوع الإنسان البيولوجي، والثقافي، والاجتماعي. فالإنسان كائن بيولوجي مميز كما أنه اجتماعي أيضاً؛ يتميز بقدرته الفريدة على خلق الثقافة وابتكارها. فبالتالي علم الأنثروبولوجيا يتمحور حول محورين أساسيين؛ هما ثقافة الإنسان وبيولوجيته. كما أن هناك بعداً ثالثاً أساسياً في دراسة الإنسان، ألا وهو البعد الزمني، حيث إن الأنثروبولوجيا تهتم بدراسة المجتمعات الإنسانية الآنية والتاريخية وما قبل التاريخية.

وتعدّ الأنثروبولوجيا الطبيعية Physical Anthropology من أقدم أفرع الأنثروبولوجيا. وترجع أصول هذا العلم إلى القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين؛ إذ كان الاهتمام منصباً على دراسة الخصائص المورفولوجية للجماعات الإنسانية وتصنيف سلالات الإنسان. ويعتمد المختصون في هذا العلم على دراسة بقايا الهياكل البشرية القديمة والأسنان مستخدمين أدوات علم الأنثروبومتري Anthropometry الذي يهتم بدراسة أبعاد الإنسان سواءً على قيد الحياة أم على الهيكل العظمي، وكذلك علم الأنثروبوسكوبي Anthroposcpy الذي يهتم بدراسة الصفات والمميزات التي توجد في بعض السلالات البشرية، ولا توجد في غيرها. وقد ركز الرواد الأوائل للأنثروبولوجيا الطبيعية في دراساتهم على التصنيف والوصف للبقايا العظمية والمجموعات الإنسانية، حيث إن أدوات البحث العلمي بالأنثروبولوجيا المنظم لم تكن قد ظهرت بعد، كما كانت العلوم البيولوجية والحيوية القريبة الصلة بالأنثروبولوجيا الطبيعية في بداية تطورها. ولكن مع تطور تلك العلوم وتقدمها وتحسن طرق البحث العلمي وأدواته بدأت دراسة العظام تتحول من الدراسات الوصفية إلى الدراسات العلمية التحليلية المنظمة، فتطورت وتنوعت مجالات التخصص لتشمل فروعاً مختلفة للأنثروبولوجيا الطبيعية، ومن هذه الفروع:

> علم الديموغرافيا القديم Paleodemography: الذي يهتم بإعادة بناء الخصائص الديموغرافية للجماعات الإنسانية المختلفة، كما يساعد على فهم أفضل للدور البيئي الذي أدّاه الإنسان العاقل على مر الزمن، فالنمط الديموغرافي لمجتمع ما هو مؤشر لمدى تكيف المجتمع مع البيئة التي يعيش فيها.

> علم الأمراض القديمةPaleopathology : يوفر هذا العلم معلومات مهمة عن تاريخ الأمراض التي تصيب الإنسان وجغرافيتها وتوزيعها بين الجماعات الإنسانية المختلفة. كما يساعد على تفهم طبيعة التفاعل المتبادل بين المرض والثقافة من منظور تطوري.كما يحاول الكشف عن العوامل البيئية (ثقافية أو طبيعية) المؤثرة في طبيعة الأمراض التي تصيب الجماعة السكانية وأهمية الممارسات الثقافية للمجتمع في منع انتشار الأمراض أو زيادته.

> علم التغذية القديم Paleonutrition: إن الوضع الغذائي لمجتمع ما هو نتيجة طبيعية للتفاعل بين العوامل البيولوجية (النوع، العمر، الصحة والمرض) والبيئة الطبيعية (الموارد النباتية والحيوانية والمائية…إلخ) إضافة إلى المعلومات التي تتوفر عن الأمراض الناجمة عن سوء التغذية والتي تترك آثارها على الهيكل العظمي.

فبالتالي الأنثروبولوجيا الطبيعية بفروعها المختلفة تساعد علماء الآثار على إعادة بناء التطور التاريخي الإنساني البيولوجي والثقافي؛ فهي تغني علم تطور الإنسان، وشكله المورفولوجي، وتركيبه الجيني، وطبيعة الأمراض التي أصابته، والتركيبة السكانية في تلك العصور. وتشكل نتائج دراسات الأنثروبولوجيا الطبيعية مع نتائج الدراسات الأثرية صورة متكاملة عن الإنسان وبيئته ومخلفاته المادية في العصور القديمة.

الإنسان كائن معقد جداً، وشغف العلماء بدراسته لوجود أشكال مختلفة من البشر على الرغم من أنهم نوع واحد، ولذلك ظهر الكثير من الأسئلة: متى ظهر الإنسان؟ ولماذا؟ ولعل أهمها هل الإنسان العاقل هو النوع الوحيد من البشر الذي عاش و لايزال على سطح الكرة الأرضية؟ وجاءت بعض الإجابات عن هذه الأسئلة عن طريق العثور على بعض البقايا الأحفورية لما يمكن أن يسمّوا أسلاف البشر، ومن هذه الأنواع:

الأسترالوبيتك:

كشف عن بقايا هذا النوع لأول مرّة عام 1924 من قبل العالم دارت R. Dart، وكانت البقايا لطفل صغير لم يتجاوز السادسة من العمر.

انتشر الأسترالوبيتكAustralopithecus في مناطق عديدة من إفريقيا، وأشهرها البقايا العظمية التي عثر عليها في إقليم عفار في جيبوتي، وأطلق عليه اسم الأسترالوبيتك العفاري، ويعود إلى 3.8 -3 ملايين سنة. كان عموماً قصير القامة، يراوح طوله ما بين 110-130سم، وحجم دماغه ما بين 300-400 سم3، كان يسير منتصب القامة، وقد دل على ذلك آثار أقدامه المحفوظة في الرماد البركاني في موقع لاتولي في تنزانيا.

تم الكشف عن بقايا عظمية للأسترالوبيتك في مناطق أخرى من إفريقيا، منها منطقة بحر الغزال في تشاد؛ وقد أطلق عليه اسم أسترالوبيتك بحر الغزال، ويعتقد أنه كان معاصراً للأسترالوبيتك العفاري. وعلى الرغم من أن الأسترالوبيتك حقق شرط الأنسنة بالسير منتصب القامة؛ فإنه لم يحقق حتى الآن الشرط الحضاري بصنع الأدوات.

الهوموهابيل:

أي الإنسان الصانع أو الماهر Homo habilis، فإليه تعزى أولى الأدوات الحجرية المؤرخة بـ 2.5 مليون سنة والتي شكلت الدليل الأول على التفكير المنظم لدى هذا الإنسان. فقد كان يسير منتصب القامة، ويقدّر طوله بنحو150سم، وحجم دماغه ما بين 650-750سم3، جمجمته قليلة التدور، وجبهته مائلة للخلف، وذقنه غير واضح، وفكاه وأسنانه غليظة، وعظام حواجبه بارزة ومتصلة بعضها ببعض، والوجه أقل بروزاً مما عند الأسترالوبيتك. وقد وجدت الهياكل العظمية للإنسان الصانع والتي كانت في معظمها أسناناً وأجزاء من الجماجم في مناطق مختلفة من إفريقيا كحوض نهر أومو في إثيوبيا، وعلى شواطئ بحيرة تركانيا في كينيا ، وفي ألدوڤاي Olduvai في تنزانيا ظهر أول دليل على الأنسنة؛ وهي أدوات حجرية بسيطة تضمّ حصى مطروقة من جانب واحد وتسمى بالقواطع؛ أو من جانبين وتسمى أداة قاطعة. ولم يعثر على أي بقايا عظمية لهذا النوع خارج إفريقيا حتى الآن.

الإنسان المنتصب القامة:

إن أول خروج للإنسان خارج إفريقيا كان منذ حوالي المليون ونصف سنة مع الإنسان المنتصب القامة الهوموإركتوس Homo erectus، والذي يعتقد أنه اتخذ أحد اتجاهين، إما ساحلياً أي بمحاذاة سواحل البحر المتوسط؛ وإما أنه اتخذ الانهدام الآسيوي الإفريقي. وقد عثر على عظامه لأول مرّة في حوض نهر سولو في جزيرة جاوا. يتمتع هذا النوع بصفات فيزيولوجية أكثر تطوراً من أسلافه، فهو كائن منتصب القامة، يراوح طوله بين 130-150سم، وحجم دماغه ما بين 800-1000سم3، وجمجمته أكثر تدوراً، وجبهته أقل ميلاناً للخلف، وعظام حواجبه بارزة ومتصلة، وذقنه غير واضح. وقد كان هذا النوع أقدر من أسلافه في السيطرة على بيئته، إذ اهتدى لأول مرّة إلى بناء الأكواخ البسيطة كما في موقع القرماشي في سورية، كما أنه عرف النار، ففي موقع اللطامنة في سورية والذي يؤرخ بحدود 500 ألف سنة عثر على دلائل مبكرة لاستعمال النار، التي حققت له فوائد كثيرة من التدفئة والدفاع عن النفس. إضافة إلى أنه صنع أسلحة وأدوات حجرية أكثر فاعلية؛ وعلى رأسها الفأس اليدوية والتي تنسب إلى الثقافة الآشولية Acheulian culture، والتسمية ترجع إلى منطقة Saint- Acheul في شماليّ فرنسا. وكانت حياة الهوموإركتوس تعتمد على الصيد والتقاط الثمار، وكان يتنقل خلف مصادر غذائه، ولهذه الأسباب يعزى العثور على بقاياه في مواقع مختلفة من العالم، فإلى هذا النوع ينتمي إنسان الصين Pekin man، وإنسان جاوا Java man، وإنسان هيدلبرج Heidelberg man، وإنسان المغرب العربي، وكذلك موقع العبيدية في فلسطين حيث عثر فيه على أربعة أجزاء من جمجمة وأسنان تعود إلى الإنسان المنتصب القامة.

أما بالنسبة إلى سورية فقد عثر على أدوات هذا الإنسان في موقع ست مرخو (900 ألف سنة)، وموقع الشيخ محمد في حوض النهر الكبير الشمالي في اللاذقية، وكل من مواقع خطاب (800 ألف سنة)، واللطامنة (300 ألف سنة) والقرماشي (200 ألف سنة) في حوض نهر العاصي غربي حماة، وكذلك موقع أرض حمد (200 ألف سنة) في طرطوس، أما بالنسبة إلى موقع الندوية (عين عسكر) والذي يعود إلى نحو (500 ألف سنة) والواقع في حوض الكوم في وسط سورية - إضافة إلى وجود الأدوات الحجرية الآشولية - فقد عثر عام 1996 على أجزاء من العظم الجداري لجمجمة الإنسان المنتصب القامة في المستوى B من الطبقة 8. يتكون هذا الجزء من عظم جدار جمجمة أيسر كامل تقريباً، وهو يتألف من جزء من قبة القحف في الجمجمة. كان يرقد على وجهه الخارجي، وفي مكانه الأصلي ضمن طبقة تعود إلى العصر الحجري القديم الأدنى غنية ببقايا العظام الحيوانية مثل الغزلان والبقريات وحمار الوحش محفوظة على نحو جيد ومرفقة بفؤوس يدوية بيضوية الشكل وشظايا طرق بحالة حفظ جيدة جداً. تتجاوز سماكة العظم الجداري 12مم من الجزء الأسفل المتصل بالعظم الصدغي، وبسماكة أكثر من 9مم في المنطقة المتصلة بالعظم الجبهي. ويرى الباحثون أن السماكة الكبيرة للعظم تشير إلى فرد بالغ، كما يدل طمس الدروز أنه ليس متقدماً في السن. إن دراسة هذا الاكتشاف ومقارنته مع المكتشفات التي عثر عليها في الصين وجاوا تبين أن هذه الجمجمة تعود إلى الإنسان المنتصب القامة. إن تصدع العظم سمح بملاحظة بنيته الداخلية وملاحظة سماكة معتبرة للطبقات الداخلية والخارجية وكذلك تناقص الطبقة الإسفنجية، وهي الميزة التي تبعد جمجمة الندوية عن النوع النياندرتالي الذي تكون عنده الطبقة الإسفنجية أكثر سماكة.

 
 

ولا يمكن قول الكثير عن عادات الدفن لدى الإنسان المنتصب القامة؛ وذلك أن أغلب المكتشفات المتعلقة بهذا الإنسان وجدت في العراء، وليس في المغاور والكهوف؛ مما ادى إلى صعوبة الكشف عن أي لقى أو بقايا حتى الآن.

إنسان النياندرتال:

تمتد فترة العصر الحجري القديم الأوسط من نحو 200 ألف سنة إلى 40 ألف سنة قبل الميلاد، عاش خلال هذه الفترة إنسان نياندرتال الذي تم الكشف عن أولى بقاياه العظمية في وادي نياندر بألمانيا عام 1856 والتي كانت عظام أطراف ضخمة وجمجمة مكتنزة. تميز النياندرتال Homoneanderthalensis بحجم دماغه الكبير 1000-1200سم3 وجمجمته ذات الشكل المتطاول، وذات السقف المنخفض بسبب العظم الصدغي الأقرب في شكله إلى الاستطالة منه إلى الاستدارة، وجبهته مسطحة وأقل بروزاً إلى الأمام، وحواجبه أقل غلظة من سلفه الإنسان المنتصب القامة، وجمجمته أكثر تدوراً، وجبهته أقل ميلاناً نحو الخلف، يفتقر الفك العلوي لديه إلى الفجوة النابية، والفك السفلي ثقيل، ويكاد يفتقر إلى بروز عظمة اللحية. ويتفق الباحثون على أن بعض هذه السمات تمثل تكيفاً مع البيئة؛ إذ سمحت الأجسام القصيرة الممتلئة للنياندرتاليين بالمحافظة على حرارة أجسامهم على نحو جيد خلال العصور الجليدية. انتشر هذا النوع في كل من أوربا، وآسيا، وإفريقيا. أما في منطقة المشرق العربي فقد وجدت آثاره وبغزارة في كل من شانيدار العراق، والمسلوخة في لبنان، ومغائر الطابون وكبارا والعامود في فلسطين.

أما بالنسبة إلى سورية فعثر على بقايا هذا الإنسان في يبرود[ر] وبئر الهمَّل[ر] وجرف العجلة[ر] والدوارة[ر]. أعطى بعض هذه المواقع - إضافة إلى البقايا الأثرية - هياكل عظمية كما في موقع كهف الديدرية[ر] في كهف عفرين، والذي يعدّ من أهم المواقع في مجال دراسات إنسان النياندرتال، حيث عثر على هيكلين عظميين لطفلين، إضافة إلى سبعين قطعة عظمية بشرية تبين أنها تعود إلى أفراد نياندرتاليين، وهذه الأجزاء هي: عظم الساعد الأيسر لطفل، نهاية عظم الزند، سلاميات للقدم واليدين وعظم الكتف وغيرها.

الهيكل العظمي الأول: اكتشف هذا الهيكل في عام 1993، في المربع (D06) في الطبقة الحادية عشرة، على عمق متر ونصف تقريباً، وهو هيكل عظمي كامل تقريباً مما يعطيه أهمية كبيرة، دلت الدراسة على أن الهيكل يعود إلى طفل، كان عمره نحو السنتين عند موته. دفن في حفرة مستلقياً على ظهره، يداه ممدودتان وقدماه مثنيتان، وضعت تحت رأسه بلاطة حجرية، وعلى صدره من جهة القلب أداة صوانية. وهذه كلها دلائل دفن شعائري مقصود. كان طوله نحو

عظم جدار الجمجمة الأيسر لإنسان منتصب القامة بعد استخراجه من موقع الندوية والمراوح عمره بين 450000 و 500000 سنة تمثيل موضع عظم جدار الجمجمة الأيسر في عينة جمجمة 83سم، وعظامه غليظة، ومن الممكن أن يكون لصبي ذكر.

الهيكل العظمي الأول الذي كشف في كهف الديدرية (عفرين) وهو لطفل عمره سنتين دفن مستلقياً على ظهره، يداه ممدودتان وقدماه مثنيتان، وضعت تحت رأسه بلاطة حجرية، وعلى صدره من جهة القلب أداة صوانية.

الهيكل العظمي الثاني: كُشف عن هذا الهيكل في موسمي التنقيب 1997-1998 في الطبقة الثالثة وعلى عمق 50 سم في المربع (DO 8)، وهو ليس بدرجة اكتمال الهيكل العظمي الأول نفسها، وإنما احتوى على أجزاء مهمة من عظام الجمجمة والوجه والفك والأسنان، إضافة إلى بعض عظام العمود الفقري والأطراف . وقد تبين أنه يعود إلى طفل عمره نحو سنتين، وعظامه أقل غلظة من الأول، وقد يكون لأنثى .

وعموماً فإن الأجزاء العظمية التي وجدت حتى الآن في مغارة الديدرية ترجع إلى حوالي خمسة عشر فرداً نصفهم من البالغين، والنصف الآخر من الأطفال. ويرى الباحثون أن إنسان النياندرتال كان قادراً على إصدار الأصوات الفردية للكلام؛ وذلك لميزة كان يتمتع بها، ألا وهي العظم اللامي، وهو عظم منفصل موجود في الحنجرة تلتصق عليه العضلات التي تتحكم بالأوتارالصوتية، وقد عثر على عدة اكتشافات تظهر وجود العظم اللامي عند إنسان نياندرتال كتلك التي عثر عليها في مغارة الكبارا في فلسطين.

الشكل المتخيل لطفل الديدرية

ومن المحتمل أن العلاقات الاجتماعية وتطور الفكر الاجتماعي بدأت تنشأ مع إنسان النياندرتال في العصر الحجري القديم الأوسط ، فقد كان النياندرتاليون أكثر عدداً من سابقيهم، واستغلوا على أكمل وجه المغاور والملاجئ الطبيعية التي قاموا بتهيئتها وإعدادها كمساكن لهم، كما أسهمت السيطرة على النار والتي بدأت خلال العصر الحجري القديم في تطور البنى الاجتماعية لدى إنسان نياندرتال من خلال الدور المهم بتبديدها للظلمة وما قدمته من النور والدفء والحماية لأفراد الجماعة في مناطق سكناهم أو في المناطق الخارجية، حيث انتشر وجود المواقد المنتظمة الشكل وبأحجام مختلفة في الكهوف التي أقاموا بها، كما أنه من المحتمل أن الإنسان أصبح يتناول طعامه

نصف مطهوّ بعد تعريضه للنار سواء كان نباتياً أم حيوانياً. وابتكروا طرقاً جديدة لتصنيع الأدوات الحجرية، فكانوا يخططون مسبّقاً لأعمالهم، فيميزون الأحجار الجيدة من غيرها، فاستخدموا لأول مرّة النوى المعدة بشكل جيد، ليصنعوا منها أنواع المقاحف والسكاكين والمخارز، التي نسبت إلى ما يسمى بالثقافة اللفلوازية - الموستيرية Levalloiso- Mousterian، وصنعوا الأدوات المركّبة ذات القبضات الخشبية أو العظمية.

أما بالنسبة إلى عادات الدفن فقد كان النياندرتال أول من مارس دفن الموتى حتى الآن، حيث عثر على القبور النياندرتالية ضمن المغاور والملاجئ التي سكنها إنسان نياندرتال في بعض مواقع المشرق العربي، حيث دلت هذه القبور على اهتمام إنسان نياندرتال بموتاه، فوضع معهم ما يمكن أن يسمى قرابين بمختلف أنواعها سواء قرابين حيوانية كالغزلان كما في مغارة العامود في فلسطين، أم أدوات حجرية كما في مغارة الديدرية. دفن النياندرتال موتاه من كلا الجنسين من البالغين الذكور في شانيدار العراق، والإناث كما في الطابون، كما اهتم بالأطفال، وأعطاهم رعاية خاصة كما في العامود والديدرية. ومن الأمثلة على التكافل الاجتماعي عند إنسان نياندرتال المدفن الذي وجد في كهف شانيدار العراق، ويحتوي على هيكل عظمي لرجل، وضع ضمن حفرة قليلة العمق؛ مستلقياً على ظهره باتجاه شرق غرب، والرأس باتجاه الغرب، والأطراف العلوية مضمومة إلى الصدر، وقد عثر بالقرب من الهيكل على قطعتين من الصوان، الأولى شظية من الحجر الرمادي اللون مشذبة، وجدت بالقرب من الكتف اليسرى، أما الثانية فهي شظية من حجر أسود وجدت في الجانب الأيمن من الهيكل العظمي بين الأضلاع، وقد أثبتت الدراسة الأنثروبولوجية أن صاحب هذا الهيكل كان يعاني إصابات ملازمة له منذ ولادته، فقد وجد ضمور في الذراع اليمنى؛ مما يشير إلى الإصابة بالشلل منذ الولادة، إضافة إلى وجود جروح قرب العين اليسرى، فربما كان أعمى، وكل هذه الأمراض لم تكن سبب الوفاة، فقد عاش مدة أربعين عاماً، وتم دفنه بطريقة حضارية جداً، حيث نثرت الأزهار والورود فوق جثته. وهو شيء يدل على الرعاية التي كان يحظى بها على الرغم من أنه ربما كان ذا قيمة ضئيلة بالنسبة إلى جماعته. إن كل هذه الاكتشافات تدل على شعائر دفن قائمة على مفهوم معيّن لمسألة الموت عند إنسان نياندرتال.

الإنسان العاقل:

الإنسان العاقل - الذي يتحدر منه الإنسان الحديث وسائر البشر الآن - هو صاحب أعظم حضارات العصر الحجري القديم. وكانت بداية التعرف إلى نوعيته عندما تم الكشف عن بقاياه أول مرّة عام 1868م؛ في مأوى صخري يعرف باسم موقع كرومانيون Cro-Magnon في فرنسا في مقاطعة الدردون. ومن هنا جاءت تسميته بإنسان كرومانيون. ويتميز هذا النوع بأنه منتصب القامة؛ وذلك لأن مركز اتصال الجمجمة بالعمود الفقري في المنتصف تماماً، كما أن قامته أطول من أسلافه، وجمجمته مكتملة التدوير، وجبهته عريضة ومستقيمة، وجهه مسطح، وذقنه بارز، وحجم دماغه يصل ما بين 1100- 1500سم3، وفكاه وأسنانه مثل الإنسان الحالي والذي أطلق عليه الباحثون الإنسان العاقل العاقل Homo Sapiens sapiens.

ومن أهم المواقع التي عثر فيها على بقايا هذا الإنسان في المشرق العربي مغارة قفزة في فلسطين؛ إذ ضمت هذه المغارة على الأقل ثلاثة مدافن لأفراد من البشر، ذوي المظهر الحديث، فقد اعتقد في البداية انها لإنسان نياندرتال لكن تبين أن الهياكل قريبة في مظهرها من مظهر الإنسان الحديث؛ بجماجمها المكورة، ووجوهها المسطحة، لذلك أطلق عليها كثير من العلماء اسم طلائع إنسان كرومانيون. أيضاً تعدّ مغارة السخول في فلسطين من المواقع المهمّة بالنسبة إلى الإنسان الحديث؛ إذ ضمت ما يقارب الأربعين هيكلاً، والتي تمثل نماذج من الإنسان العاقل، من حيث معالم الوجه، وبروز الذقن، واستقامة الجبين. وعلى الرغم من الظهور الأول للإنسان العاقل في منطقة المشرق العربي فإنه - ولأسباب غير معلومة حتى الآن - هاجر إلى أوربا محولاً بذلك مركز النشاط الإنساني من إفريقيا وآسيا إلى أوربا.

استمر الإنسان العاقل في سكن المغاور والكهوف في منطقة المشرق العربي في حين أقام مساكن كبيرة ذات أشكال بيضوية ودائرية، أساساتها من الحجارة وعظام الماموث في أوربا. صنع الإنسان العاقل أدوات حجرية كالنصال الطويلة، والسهام التي أصبحت تطلق من القوس، والرماح المدببة لتساعده على عملية الصيد، فلم يعد يقتصر على صيد الحيوانات البرية كالغزال والبقر الوحشي والثيران، بل تعداها لصيد الحيوانات المائية باستخدام العظام والأخشاب في صنع خطاطيف ذات الصف الواحد أو الصفين من الأسنان، والصنانير التي استخدمت في صيد الأسماك.

دفن الإنسان العاقل موتاه في قبور فردية كما في مغارة السخول وكذلك في مدافن جماعية كما في مغارة قفزة في فلسطين؛ إذ عثر على مدفن يتضمن هيكلاً عظمياً لامرأة ممددة على جنبها الأيمن وعند قدميها هيكل عظمي لطفل في السادسة من العمر، وهذا المدفن يدل على شعور ديني عميق لدى الإنسان العاقل. كما زود الإنسان العاقل موتاه بالقرابين الحيوانية كالأيائل، ودهن الجثث بالمغرة الحمراء.

إن البدايات الأولى للفنون ظهرت مع الإنسان العاقل، فقد رسم على جدران الكهوف كما في كهف لاسكو Lascaux cave في فرنسا وكهف التميرا Altamira cave بإسبانيا صور ملونة (بالأصفر والأحمر والبني والأسود) لحيوانات بأشكال وأحجام متنوعة (خيول برية، وثيران وأبقار متوحشة، ووعول، وثور البيزون)، والتي لم تكن بقصد إشباع رغبات فنية (نظرية الفن لأجل الفن) ولكن نتيجة لأفكار ومعتقدات سحرية تقليدية ترتبط بعملية الصيد وحب السيطرة على الحيوان؛ مما يساعد على قنصها. ويمكن القول: إنه منذ 40 ألف سنة بدأ الإنسان ببناء حضارة قائمة على أساس الحاجات المادية والروحية للبشر والتي استمرت إلى هذا اليوم.

الإنسان العاقل في المشرق العربي:

ظهر الإنسان العاقل منذ نحو 40 ألف سنة في أوربا، بيد أن الوضع مختلف بالنسبة إلى منطقة المشرق العربي، فقد عثر على آثار للإنسان العاقل منذ نحو 100 ألف سنة، وهذا يتزامن مع فترة ظهور إنسان نياندرتال في المنطقة. وهذا دفع العديد من الباحثين إلى وضع فرضيات حول كيفية ظهور الإنسان العاقل واختفاء إنسان نياندرتال. وأولى هذه الفرضيات: تؤيد حدوث نوع من التطور من إنسان نياندرتال إلى الإنسان الحديث، وتعتمد هذه الفرضية وجود بعض هياكل النياندرتال التي عثر عليها في مغارة السخول والطابون والأميرة والزطية في جبال الكرمل، ومغارة جبل قفزة قرب الناصرة، ومغارة العامود بجوار بحيرة طبرية في فلسطين؛ تحمل صفات مشتركة مع الإنسان العاقل كالذقن البارز، والقامة الطويلة، إضافة إلى حجم الدماغ الكبير؛ مما دعا الباحثين إلى افتراض وجود نوع من التطور الطبيعي والتدريجي من النياندرتال إلى الإنسان الحديث.

الفرضية الثانية تقوم على أساس أن إنسان نياندرتال والإنسان العاقل قد عاشوا معاً في الفترة الزمنية نفسها، ولكن مع وجود اختلاف في كيفية العيش واستراتيجيته، حيث سكن الإنسان العاقل الكهوف مؤقتاً وخصوصاً خلال الشتاء، وسكن النياندرتال الكهوف طوال العام، كان الإنسان العاقل أكثر قدرة على التكيف مع البيئة من خلال تصنيعه لأدوات صيد سريعة وخفيفة، وذلك على العكس من إنسان نياندرتال الذي لم يستطع التكيف مع البيئة وتطوير أدواته؛ مما أدى إلى حدوث نوع من التنافس على مصادر الغذاء الذي انتهى بحلول الإنسان الحديث مكان إنسان نياندرتال على نحو دائم.

ظهرت مؤخراً دراسات حديثة قام بها الباحث ڤاندرميرش Vandermeersch، مبنية على مكتشفات جديدة من فلسطين وإفريقيا، وعلى إعادة تأريخ بعض الهياكل العظمية التي عثر عليها في مواقع السخول وجبل قفزة في فلسطين، أدت هذه الدراسات إلى تبني رأي آخر حول النياندرتال؛ مفاده أن لا علاقة تطورية بين النياندرتال والإنسان العاقل وأن الاثنين تطورا من أصل مشترك واحد؛ هو الإنسان المنتصب القامة الهوموإركتوس وفي مناطق جغرافية مختلفة وأزمنة متقاربة، فالنياندرتال ظهر في أوربا منذ نحو 200 ألف سنة خلت في حين ظهر الإنسان العاقل في إفريقيا في زمن متقارب.

مراجع للاستزادة:

- جان. م.لو تونسوري، الإنسان الأول في الصحراء السورية، تعريب: أمجد القاضي (دمشق 2005).

- سلطان محيسن وتاكيرو أكازاوا، «مكتشفات متميزة من عصور ما قبل التاريخ في منطقة عفرين بسورية»، «أدوماتو» العدد ٥ (٢٠٠٢).

-Takeru AKAZAWA, Neanderthal Infant Burial from the Dederiyeh Cave in Syria, Paleorient, Vol 21/2, pp. 77- 86 (1995).


- التصنيف : عصور ما قبل التاريخ - المجلد : المجلد الثاني مشاركة :

بحث ضمن الموسوعة

من نحن ؟

الموسوعة إحدى المنارات التي يستهدي بها الطامحون إلى تثقيف العقل، والراغبون في الخروج من ظلمات الجهل الموسوعة وسيلة لا غنى عنها لاستقصاء المعارف وتحصيلها، ولاستجلاء غوامض المصطلحات ودقائق العلوم وحقائق المسميات وموسوعتنا العربية تضع بين يديك المادة العلمية الوافية معزَّزة بالخرائط والجداول والبيانات والمعادلات والأشكال والرسوم والصور الملونة التي تم تنضيدها وإخراجها وطبعها بأحدث الوسائل والأجهزة. تصدرها: هيئة عامة ذات طابع علمي وثقافي، ترتبط بوزير الثقافة تأسست عام 1981 ومركزها دمشق