ايسوس (معركه)
Issos - Issus

إيسوس (معركة -)

محمد الزين

وقائع المعركة

 

إيسوس Issos مدينة قديمة في الشمال الغربي من سورية، تقع في منطقة كيليكيا على بوابات الأمانوس في منتصف خليج الإسكندرون (الذي كان يدعى قديماً خليج إيسوس)، اشتهرت بالمعركة التاريخية الكبيرة التي جرت قربها في خريف عام 333ق.م بين الإسكندر الكبير المقدوني Alexander وداريوس الثالث Darius III ملك الفرس وقررت مصير بلاد الشام ومصر والمشرق العربي لمئات السنين. ويتميز هذا الموقع بأهمية استراتيجية فائقة لأنه صلة وصل بين الممرات الكيليكية للقادم من الأناضول والممرات السورية (عبر جبال الأمانوس) للقادم من سورية. هنا أيضاً جرت معارك حاسمة في التاريخين القديم والحديث حيث هزم الامبراطور سبتيميوس سفيروس Septimius Severus عام 194م منافسه بسكينوس نيجر Pescennius Niger الذي أعلن نفسه امبراطوراً في سورية، كما أحرز هنا امبراطور الروم هرقل أول انتصاراته على الفرس عام 622م، وانتصر القائد المصري إبراهيم باشا على الجيوش العثمانية في معركة بيلان - بغراس سنة ٨٤٢١هـ/1832م.

وقائع المعركة:

بدأ الإسكندر حربه ضد الامبراطورية الفارسية في ربيع عام 334 ق.م، فعبر مضائق الدردنيل على رأس جيش بلغ تعداده نحو 40 ألف مقاتل وهزم ولاة الفرس في معركة غرانيكوس Granikos التي فتحت له أبواب آسيا الصغرى على مصاريعها فاستسلمت له مدنها الواحدة تلو الأخرى. وفي ربيع عام 333ق.م غادر الإسكندر مدينة غورديون Gordion الواقعة في وسط الأناضول بعد أن بتر بسيفه عقدتها الشهيرة التي كانت تعد من يحلها بأنه سيصير سيد آسيا، وتوجه جنوباً نحو كبادوكيا وبعد أن بسط سيطرته على هذا الإقليم جاءته أنباء عن تحرك الجيوش الفارسية بقيادة الملك داريوس الثالث باتجاه الغرب فانطلق مسرعاً للوصول إلى الممرات الكيليكية التي تخترق جبال طوروس (والمعروفة اليوم باسم بوغازغولك Gulek Boghas) من غير أن يلقى مقاومة تذكر مع أنه كان بإمكان الفرس أن يقطعوا هذه الممرات بقوة صغيرة ويكبدوا الإسكندر بالتالي خسائر كبيرة إن أراد اقتحامه، ولكنهم فوتوا هذه الفرصة. وهكذا اجتاز الإسكندر بوابات كيليكيا Cilician Gates فما كان من حاكمها الفارسي إلا أن فر أمامه تاركاً ولايته لمصيرها، وكذلك استسلمت له عاصمتها طرسوس Tarsos التي دخلها بلا قتال وطالت إقامته فيها بسبب إصابته بحمى شديدة أقعدته بعض الوقت بين الحياة والموت على أثر سباحته في مياه نهر كيدنوس Kydnos الجليدية. وبعد أن تماثل للشفاء أرسل قائده بارمنيون Parmenion للاستطلاع وتأمين الممرات الجبلية في المنطقة، ثم انطلق شرقاً باتجاه خليج إيسوس وفي أثناء ذلك وصله خبر من بارمنيون بأن الملك الكبير قد عبر نهر الفرات على رأس جيش ضخم باتجاه الشمال الغربي من سورية. ويذكر المؤرخ أريانوس Arrianos أن داريوس نصب معسكره في سهل العمق عند السفوح الشرقية لجبال الأمانوس في موقع يدعى سوخوي Sochoi (درب سك Tarbe zek على الضفة اليمنى للنهر الأسود (قره صو). ويبدو أنه كان ينوي التصدي للمقدونيين في هذا السهل الواسع الملائم لجيشه الكبير وتحرك سلاح الفرسان الذي كان عماد القوة الفارسية. أما الإسكندر فتابع زحفه على الطريق الساحلي من إيسوس وصولاً إلى مرياندروس Myriandros، وهي مدينة فينيقية قديمة وهناك منعته العواصف والأمطار من متابعة سيره إلى ممر بيلان الموصل إلى سهل العمق، ورأى الإسكندر من موقعه المرتفع جيش داريوس الهائل وقد انتشر في الوادي (وتذهب تقديرات المؤرخين المعاصرين إلى أنه كان يناهز المئة ألف مقاتل) وأدرك أنه لا يستطيع مجابهة عدوه في هذا السهل المفتوح لذلك قرر البقاء في موقعه وترقب سير الأمور.

وعندما طال انتظار ملك الفرس وصول الإسكندر وجيشه اعتقد أنه لا يجرؤ على خوض معركة مكشوفة معه، ولما لم يكن بوسعه الانتظار طويلاً بسبب قدوم فصل الخريف وصعوبات تأمين احتياجات جيشه الجرار قرر الزحف للقائه في ممرات الأمانوس، وقام بارسال المعدات التي لا يحتاج إليها مع الحريم وقسم كبير من خزينته العسكرية إلى دمشق. ولما كان ممر بيلان (وهو أشهر الممرات السورية المؤدية الى كيليكيا وأيسرها) قد أصبح تحت رحمة الإسكندر، فان داريوس توجه شمالاً وعبر جبال الأمانوس من خلال ممر أرسلان Koprak Kalessi، وتمكن بهذه المناورة العسكرية البارعة من تجاوز مواقع الإسكندر والنزول في سهل إيسوس في ظهر الجيش المقدوني قاطعاً عليه طريق الرجعة إلى بلاده حيث أعمل السيف في مؤخرته وأجهز على الجرحى والمرضى الذين وجدهم هناك. وما كاد الإسكندر يعلم بتحركات الفرس حتى عاد مسرعاً إلى إيسوس واحتل المضائق الساحلية التي كان قد اجتازها ونشر قواته على ضفة نهر بيناروس Pinaros الجنوبية، في حين كان داريوس يرابط بقواته على الضفة الأخرى الشمالية. وهكذا تقابل الطرفان بجبهتين متعاكستين في سهل إيسوس الذي لا يزيد عرضه على 7-8 كيلومترات، يفصل بينهما نهر بيناروس الذي تجمع المصادر التاريخية وعلى رأسها أريانوس أن المعركة جرت على ضفافه، وكان ميدان المعركة محدوداً جداً لا يتعدى لساناً ضيقاً يمتد بين البحر والجبال المحيطة به وبالتالي أقل ملاءمة لحشود الفرس الكبيرة، ولكن يبدو أن ثقة داريوس الزائدة بضخامة جيشه واستهانته بعدوه رغم انتصاره السابق في غرانيكوس جعله يغامر بمنازلته في ذلك المكان بالرغم من تحذيرات الخبراء له، وهكذا انتصرت إستراتيجية الإسكندر وتقرر مصير المعركة قبل أن تبدأ.

كان داريوس قد وزع قواته على نحو تكون وحدات النخبة والمرتزقة الإغريق في الوسط، في حين ترابط الوحدات الخفيفة في الميسرة، وتحتشد خيالة الفرس على الجناح الأيمن باتجاه البحر. أما الإسكندر فكان على رأس فرسأنه المقدونيين يقود الجناح الأيمن، ويتولى بارمنيون قيادة الجناح الأيسر، واتخذ الفيلق المقدوني موقعه في القلب.

وبدأ الإسكندر المعركة بهجوم خاطف تمكن فيه من عبور نهر بيناروس على الرغم من ضفتيه الشديدتي الانحدار واختراق صفوف الجناح الأيسر لعدوه، ثم الالتفاف والنفاذ إلى قلب الجيش الفارسي وصولاً إلى الحرس الملكي الذي قاتل بضراوة دفاعاً عن داريوس الذي أصابه الهلع عندما رأى الهجوم الكاسح للإسكندر فبادر إلى الفرار بعربته الحربية طلباً للنجاة، ثم استبدل بها في المضائق أحد الجياد السريعة وانطلق مع فلول جيشه باتجاه الفرات تاركاً ترسه وقوسه وعباءته وعربته الملكية الفاخرة التي سقطت بيد الإسكندر. ومع هذا توجب خوض قتال مرير مع فرسان الفرس الذين دحروا الخيالة التساليين بقيادة بارمنيون، كما أن المرتزقة الإغريق تمكنوا من صد الفيلق المقدوني، ولم ينقذ الموقف سوى عودة الإسكندر من المطاردة وانتشار خبر فرار الملك داريوس مما أحدث اضطراباً شديداً في صفوف الجيش الفارسي الذي انفرط عقده وحوصر في ذلك السهل الضيق وقتل كثير من الجنود الذين لم يتح لهم حتى مجرد المشاركة في القتال، ولم ينجُ من الجيش الكبير سوى نحو أربعة آلاف التحقوا بداريوس، أما الباقي فسقطوا قتلى أو فروا من الميدان وتفرقوا في كل مكان.

واستولى الإسكندر على معسكر الفرس، ووقعت في يده أم الملك داريوس وزوجته وبناته اللواتي أحاطهن بمظاهر الاحترام والتقدير، لم يطارد الإسكندر عدوه الهارب إلى الشرق بل قرر السير جنوباً لاحتلال الساحل السوري لكي يحرم الأسطول الفارسي من قواعده وليؤمن اتصالاته ببلاد اليونان. وأرسل قائده بارمنيون على رأس قوة من الفرسان للسيطرة على دمشق وكنوز الملك الفارسي التي أودعت فيها.

وهكذا حقق الإسكندر انتصاراً باهراً على أكبر امبراطورية عرفها الشرق القديم حتى ذلك الوقت على النقيض من كل التوقعات؛ إذ كانت كل شعوب آسيا - كما يقول أحد المؤرخين اللاحقين وهو فلافيوس يوسيفوس - واثقة أن المقدونيين لن يجرؤوا على الدخول في معركة مع الفرس بسبب كثرة عددهم، ولكن عبقرية الإسكندر الحربية وتفانيه في القتال على رأس جيشه المتفوق بنظامه وخبرته القتالية وروحه المعنوية العالية واعتماده مبدأ الهجوم والمباغتة كل هذا ضمن له النصر على جيش كبير يفتقد إلى الخبرة والتدريب وتنقصه القيادة القادرة والميدان الذي يمكنه من تفعيل تفوقه العددي مما أدى إلى هزيمته وانكساره.

ويروى أن مدينة إيسوس صارت تعرف منذ تلك المعركة باسم مدينة النصر (نيكوبوليس Nikopolis). كما أنه أقيمت بجانب مدينة مرياندروس الفينيقية القديمة تخليداً لذلك النصر الكبير مدينة حملت اسم الإسكندر ودعيت إسكندرية إيسوس Alexandria ad Issum التي تحول اسمها فيما بعد إلى الإسكندرونة للتفريق بينها وبين إسكندرية مصر العظيمة.

ومن روائع الأعمال الأثرية الفنية التي خلدت معركة إيسوس لوحة فسيفسائية شهيرة عثر عليها في مدينة بومبيي الإيطالية، وهي محفوظة اليوم في المتحف الوطني بنابولي، ويرجح أنها صنعت في مدينة الإسكندرية. وهي تمثل نسخة طبق الأصل من لوحة جدارية شهيرة رسمها الفنان فيلوكسنوس Philoxenos لمعركة إيسوس، وصارت فيما بعد من المواضيع المفضلة في العصرين الهلنستي والروماني، وتكاد تمثل اللوحة وصفاً حياً لهذه المعركة الرهيبة التي جرت بين المقدونيين والفرس ويظهر فيها الإسكندر ممتطياً جواده وهو يستعد لتسديد رمحه نحو ملك الفرس داريوس الواقف في عربته الملكية التي تهم جيادها بالانطلاق للنجاة به، وتنم تعابير وجهي الملكين على النبل والشجاعة في تلك اللحظة التاريخية الحاسمة.

مراجع للاستزادة:

- فيليب حتي، تاريخ سورية ولبنان وفلسطين الجزء الأول (بيروت 1965).

 - ويل ديورانت، قصة الحضارة، ج 8، ترجمة محمد بدران (القاهرة 1964).

 


- التصنيف : آثار كلاسيكية - المجلد : المجلد الثاني مشاركة :

بحث ضمن الموسوعة

من نحن ؟

الموسوعة إحدى المنارات التي يستهدي بها الطامحون إلى تثقيف العقل، والراغبون في الخروج من ظلمات الجهل الموسوعة وسيلة لا غنى عنها لاستقصاء المعارف وتحصيلها، ولاستجلاء غوامض المصطلحات ودقائق العلوم وحقائق المسميات وموسوعتنا العربية تضع بين يديك المادة العلمية الوافية معزَّزة بالخرائط والجداول والبيانات والمعادلات والأشكال والرسوم والصور الملونة التي تم تنضيدها وإخراجها وطبعها بأحدث الوسائل والأجهزة. تصدرها: هيئة عامة ذات طابع علمي وثقافي، ترتبط بوزير الثقافة تأسست عام 1981 ومركزها دمشق