اوسرويينه (منطقه )
Osroene -

أوسروئينه (منطقة -)

كميت عبد الله

الآثار المكتشفة في أوسروئينه

 

أوسروئينه Osrhoene أو أسروانة هي مملكة صغيرة نشأت في أواخر العهد السلوقي في منطقة بلاد ما بين النهرين، وهي واحدة من عدة ممالك صغيرة نشأت بفعل ضعف الامبراطورية السلوقية وتفككها. وتعدّ مملكة أوسروئينه واحدة من أكثر الممالك استمرارية في هذه المنطقة، وقد كانت عاصمتها أديسا Edessa (الرها)[ر] التي تقع حاليا جنوب شرقي تركيا.

ويعزو مؤرخون سريان تأسيس مملكة أوسروئينه إلى سنة 180 من التاريخ السلوقي؛ أي نحو 130/131 ق.م، ويقال: إن أول ملك كان رجلاً يدعى أريوس Arius، وعرفت سلالته باسم الأباجرة، وهي عربية النسب. وتنتمي هذه السلالة إلى قبيلة أورهوي Orrhoei.

وقد ضمت هذه المملكة القسم الشمالي الغربي من بلاد ما بين النهرين، ويحدها من الشمال جبال طوروس، وجنوباً وشرقاً نهر الخابور، وغرباً نهر الفرات، وكانت تضم - إضافة إلى أديسا العاصمة - بيرجيك والمسعودية وصرين، وربما ضمت أيضاً حران [ر] في الشرق ومنبج [ر] في الغرب.

ولأهمية موقع مملكة أوسروئينه الاستراتيجي بين الامبراطورية البارثية والرومانية فقد كانت تنتهج سياسة متقلبة مع هاتين الامبراطوريتين، فتارة تتحالف مع روما؛ وتارة أخرى تتآمر عليها مع الفرس. فعندما دخل بومبيوس Pompeius القائد الروماني سورية سنة 64 ق.م؛ أبقى على ملك أوسروئينه أبجر الثاني في عرشه، ولكن قام هذا الأخير بالإسهام في هزيمة القوات الرومانية في معركة حران سنة 53 ق.م من قبل البارثيين. وخلال حملته في الشرق، قام ترايانوس Trajanus بتثبيت أبجر السابع [ر] (109/116م) على عرش أوسروئينه، ولكن سرعان ما انضم هذا الملك إلى ثورة المدن الرافدية ضد الرومان الذين انتقموا من أديسا وعاثوا فيها خراباً. وبعد ذلك قام الامبراطور هادريانوس Hadrianus بتعيين أمير فارسي يدعى بارثاما سباط، ولكن السلالة المحلية رجعت باعتلاء معنو العرش (123-139م). وبعد هجوم البارثيين على الامبراطوربة الرومانية في الخمسينيات من القرن نفسه تم عزل ملك أديسا معنو، وحلّ مكانه على العرش ملك موالٍ للبارثيين يدعى وائل بن سهرو، لكن في نحو سنة 165م حاصر القائد الروماني أڤيديوس كاسيوس Avidius Cassius أديسا، فقام أهلها بقتل الحامية البارثية وأدخلوا الرومان إلى المدينة، وبموجب معاهدة أبرمت في السنة التالية أصبح حاكم أديسا موالياً لروما التي أرجعت الملك معنو إلى العرش بلقب "فيلو رومايوس" أي المحب لروما. وبعد ثلاثين عاماً نكث حاكم أديسا أبجر بعهده مع الرومان بمشاركته بثورة ضد الحكم الروماني في المدن الرافدية، وقام بمحاصرة نصيبين مع حاكم أديابين، ولكن سرعان ما انتصر الرومان بقيادة سبتيميوس سيڤيروس Septimius Severus على "الملك البارثي" أبجر - الذي حول نصيبين إلى مستعمرة كولونيا Colonia - وعيّن حاكماً نائباً عنه، ثم أعاد أبجر إلى عرش أديسا بعدما ساعد الرومان ضد البارثيين ودعاه إلى روما. توفي أبجر الكبير سنة 212م، وخلفه ابنه أبجر سيڤيروس Abgar Severus، ولكن بداية نهاية استقلال أوسروئينه كانت قد بدأت على يد الامبراطور كركلا[ر]Caracalla الذي عزل الملك في أثناء حملته على البارثيين، وأعلن أديسا العاصمة مستعمدة في سنة 213/214 م. ويبدو أن أوسروئينه حكمت اسمياً من قبل ملك يدعى معنو مدة 26 سنة حتى سنة 240م. ويذكر أن الامبراطور شابور الأول Shapur Iأعاد احتلال نصيبين وحران وأديسا، ولكن الرومان استطاعوا استرجاع هذه المدن بعد ذلك. وانتهى استقلال مملكة أوسروئينه نهائياً في سنة 243م، وبذلك ينتهي عصر سلالة الملوك في أوسروئينه بعد أن دام نحو 372 سنة، ويبدأ عصر المقاطعة الرومانية أوسروئينه التي شملت أراضيها أراضي مملكة أوسروئينه نفسها، وبسبب موقعها المتاخم للامبراطورية الفارسية فقد جرت على أراضيها عدة معارك بين الرومان والفرس، وبعد ذلك - خصوصاً في القرنين الخامس والسادس الميلاديين - تعرضت لغزوات متلاحقة من قبل الفرس انتهت باحتلالها من قبلهم في بداية القرن السابع مع كلّ المقاطعات البيزنطية في سورية، وقد تمكن البيزنطيون من استرجاعها في سنة 628م، ولكن سيطرتهم عليها لم تدم طويلاً؛ حيث فتحها العرب المسلمون في سنة ٨١هـ/639م.

لم يسبغ الملك على نفسه السلطة المطلقة في المملكة، بل كان يساعده على الحكم الزعماء العرب القبليون عن طريق مجلس من كبار القوم؛ ربما كانوا شيوخاً أو أعضاء من الأسرة الحاكمة. وقد أطلق المؤرخون لقب فيلارك Phylarch على حكام أوسروين؛ لأن المملكة كانت مقسمة إلى مقاطعات موزعة توزيعاً قبلياً، يديرها رجل يدعى أركون Archon، وعندما فقدت مملكة أوسروئينه استقلالها وأصبحت مقاطعة رومانية حكمها حاكم مدني عُيّن من قبل الرومان وأطلق عليه لقب "مدبرنا".

تعدّ مملكة أوسروئينه مهد اللغة السريانية الكلاسيكية - وهي الصيغة المطورة للغة الآرامية التي عرفت نهضة كبيرة منذ القرن الأول الميلادي - حيث انتشرت هذه اللغة انتشاراً واسعاً في أراضي المملكة، كما يدل على ذلك العدد الكبير من النقوش السريانية المكتشفة فيها. وقد رافق هذه النهضة انتشار الدين المسيحي في أوسروئينه التي تعد من أوائل الممالك في العالم التي اعتنقت الديانة المسيحية، وعلى الرغم من وجود أسطورة محلية تقول إن ملك أوسروئينه أبجر أوكاما قد تنصّر على يد السيد المسيح نفسه من خلال رسائل متبادلة؛ فإن تنصر المملكة تم على الأغلب على يد الملك أبجر الثامن في نحو عام 150م، حيث أصبحت أديسا - عاصمة المملكة - مركزاً للتعاليم والثقافة المسيحية التي نشرت باللغة السريانية عن طريق عدد كبير من رجال الفكر والدين المسيحيين. ويجب الإشارة إلى أنه وعلى الرغم من انتشار المسيحية المبكر في أوسروئينه؛ فقد بقي معظم السكان وثنيين حتى نهاية القرن الرابع الميلادي، وكان لعبادة الكواكب شعبية كبيرة بينهم.

الآثار المكتشفة في أوسروئينه

تم العثور على العديد من البقايا الأثرية المؤرخة من الفترة الرومانية، وأقل منها من الفترة البيزنطية في عدة مناطق تابعة تاريخياً لمملكة أوسروئينه ومقاطعتها. ومعظمها في أديسا العاصمة التاريخية لمملكة أوسروئينه، ومن ثم في صرين الواقعة إلى الجنوب من أديسا؛ إلى الشرق من مدينة منبج السورية، وفي تلال دير يعقوب الجرداء التي تبعد نحو 8كم إلى الجنوب من أديسا، وفي منطقة قصر البنات في جبال تكتك التي تبعد نحو 80 كم إلى الجنوب الشرقي من أديسا، وفي قرية المسعودية الواقعة إلى الجنوب من بلدة صرين، وأيضاً في موقع حلاوة إلى الجنوب الشرقي من بلدة صرين على الضفة اليسرى لنهر الفرات. وتشمل المكتشفات المدافن والنصب والمنحوتات ولوحات الفسيسفاء.

1- المدافن: تم العثور قرب مدينة أديسا على نحو 100 مدفن محفور في الصخر، كذلك عثر قرب بلدة صرين على عدد كبير من المدافن المحفورة في الصخر في التلال الشرقية من المدينة، كما عثر في قصر البنات على العديد من الأضرحة الجنائزية، وكذلك الأمر في دير يعقوب. وعموماً فإن أغلب المدافن التي استخدمت هي المدافن الكهفية، ويشهد على ذلك كثرة عددها؛ وخصوصاً في مدافن أديسا المحفوظة جيداً، وعلى نحو أقل في مدافن صرين لأنّ أكثرها مخرب.

تميزت هذه المدافن بالأفاريز المنقوشة بالعناصر الزخرفية كأوراق الكرمة. وقد عثر على العديد من المدافن البرجية التي تدعى في السريانية "نفشاتا"، ويعتقد أن هذا النوع من المدافن قد بني من قبل الأثرياء كما هو الحال في تدمر. كما عثر في التلال الجرداء قرب دير يعقوب القريبة من مدينة أديسا على مدفن برجي يحوي في جداره المرتفع صورة محفورة لشخص متكىء على رأسه لباس مما يلبسه النبلاء، والرأس مستريح على وسادة، وفي الطابق العلوي من الضريح توجد كتابة منقوشة بلغتين إحداهما يونانية والأخرى مكتوبة بخط تدمري تؤرخ هذا الضريح في القرن الثاني الميلادي.

كذلك وجدت عدة مدافن برجية مهدمة جزئياً في قصر البنات وأماكن أخرى في جبل الكتكت. وفي صرين مدفنان برجيان، أحدهما مخرب والآخر محفوظ جيداً تقريباً، ويتألف البناء من طابقين بنيا فوق مصطبة مربعة طول ضلعها 4.60 م وارتفاعها 65 سم عن سطح الأرض. يتوضع مدخل البرج الوحيد في الواجهة الجنوبية الشرقية للمستوى الأول، وهو باب مستطيل صغير (100*70 سم)، يؤدي إلى غرفة مستطيلة الشكل تتوزع على محيطها مصاطب حجرية، وهي مسقوفة بقبو سريري مبني من الحجر، وتتم إنارة هذه الغرفة عن طريق فتحة طولية ضيقة. ويبدو بوضوح في واجهة البرج بروز نحتين نافرين لزوج من التماثيل النصفية، كل واحد منهما يمثل رأس أسد وجسمه، ولكنهما مخربان وتعرض رأساهما للتهشيم والكسر. ومن المحتمل أن قمة الضريح المدمرة كلياً كانت هرمية الشكل. وعلى أحد الجدران الخارجية للضريح نقش سرياني تكريسي مع دعوات لراحة جسد المتوفى، ويذكر أيضاً تاريخ البناء في 73م.

وتجدر الإشارة إلى أن المدافن في منطقة أوسروئينه كشفت معلومات جيدة حول طقوس الدفن واحترام الأموات، ويظهر هذا جلياً من خلال غنى المدافن عامة ومدافن العاصمة أديسا خاصة الغنية بالزخارف المنوعة (فسيفساء، نحت نافر) التي تحمل صوراً وأشكالاً ذات مضمون جنائزي واضح، إضافة إلى أن العديد من المدافن تحوي نقوشاً سريانية تتكلم عن تبجيل الأموات.

2- النصب التذكارية: تم العثور على نصب تذكاري في جبل القلعة في مدينة أديسا، وهو مؤلف من عمودين مع تاج كورنثي، وهناك نقش سرياني على أحد هذين العمودين مكرس للملكة شلمات ويؤرخ في القرن الثالث الميلادي. كما وجدت في جبال التكتك - وتحديداً في الجبل المقدس منه - عدة نقوش سريانية تكريسية تشير إلى إقامة نصب تذكارية مؤلفة من عمود ومقعد أو مذبح، مخصصة للإله ماريلاها. وعلى الرغم من ندرة النصب المكتشفة في منطقة أوسروئينه؛ فإن النصب مؤلف من عمود أو عمودين مع أثاث في بعض الأحيان ونقش سرياني تكريسي، وأن هذه النصب مكرسة في معظم الحالات للإله ماريلاها، والذي كان على ما يبدو من أكثر الآلهة تبجيلاً في منطقة أوسروئينه.

3- المنحوتات: عُثر في بعض مدافن أديسا على منحوتات جنائزية تمثل المتوفى (دير يعقوب)، وأحياناً تظهر ولائم جنائزية تضم المتوفى وأفراد عائلته، يضاف إلى ذلك أنّ بعض المدافن قرب أديسا[ر] حوت نحتاً نافراً لصور وزخارف منوعة. كما عثر أيضاً في جبل التكتك على نحتين ناتئين على الحجر، أحدهما تمثال نصفي لرجل مع نقش سرياني تكريسي يبين أن هذا التمثال صنع للإله سين، والثاني تمثال لرجل يلبس معطفاً طويلاً. وعموماً يمكن الحديث عن طابع خاص لفن النحت في أوسروئينه، وهو طابع محلي شرقي يشبه إلى حد ما فن النحت التدمري ويعاصره.

4- الفسيفساء: تم اكتشاف العديد من لوحات الفسيفساء في محيط مدينة أورفا وخصوصاً في المدافن، بعضها معروض في متاحف أورفا وإسطنبول في تركيا ودالاس في الولايات المتحدة الأمريكية؛ وبعضها الآخر فُقد، وهناك لوحتان وجدتا ضمن مقتنيات خاصة في أوربا. كما كشفت أعمال التنقيب عن لوحات فسيفساء في مناطق متفرقة من أوسروئينه كصرين والمسعودية.

أما اللوحات المكتشفة في محيط أديسا فإن معظمها يحمل صوراً جنائزية أو مواضيع ذات دلالات رمزية متعلقة بالموت والحياة الأخرى، وهي مؤرخة من القرن الثالث، ومعظم هذه اللوحات تحوي نقوشاً سريانية تكريسية وجنائزية، وأغلب الظن أنه كان يوجد في أديسا[ر] ورشة فسيفساء محلية.

ومن اللوحات المؤرخة من القرن الثالث لوحة المسعودية التي تحمل نقشاً يونانياً مؤرخاً في 228م، ونقشاً سريانياً قصيراً. وموضوع اللوحة فريد في المنطقة لأنه يحمل تجسيداً لأحد آلهة الأنهار الذي يعتقد أنه الفرات، وهو منفذ وفق الأسلوب المتبع في تصوير آلهة الأنهار في الفن الروماني: شاب ملتحٍ صُوِّر بشكل نصفي؛ وهو شبه عار؛ وعلى رأسه تاج؛ ويقف خلفه طفل وأمامه تقف امرأة يعتقد أنها تجسد إقليم بلاد الرافدين. وتتشابه هذه اللوحة من حيث التقنية والأسلوب الفني مع اللوحات المكتشفة في سورية المؤرخة في النصف الأول من القرن الثالث الميلادي (لوحة هرقلس المكتشفة في حمص ولوحة إله النهر المكتشفة قرب اللاذقية).

وفي صرين اكتشفت لوحة فسيفساء تحوي مشاهد مستوحاة من الأساطير اليونانية (أرتميس الصيادة، ديونيسوس وأريان، اختطاف أوربا، انتصار أفروديت، هيراكليس وأوجيه، ميلاجر وأطلانط). ويعود تاريخ هذه اللوحة بعد دراسة تحليلية للأسلوب الفني وتقنية التنفيذ إلى النصف الأول من القرن السادس. وقد فسرت هذه الصور الأسطورية على أنها تمثل برنامجاً متماسكاً محوره شخصيتان أساسيتان مقدستان هما: أرتميس وديونيسوس اللذان يمثلان القوى المسيطرة العنيفة للطبيعة المتوحشة والقوى الحامية للحياة وقوى الموت في الوقت نفسه. وربما يشير هذا التمثيل إلى استمرار التقاليد الوثنية في هذه المنطقة في زمن سيطرة شبه مطلقة للديانة المسيحية فيها.

مراجع للاستزادة:

- ج. ب. سيغال، الرها المدينة المباركة، ترجمة يوسف إبراهيم جبرا (حلب، 1988).

- Baris SALMAN, Family, Death and Afterlife According to Mosaics of the Abgar Royal Period in the Region of Osroene، Journal Mosaics Research، vol. II (Bursa, 2008) p.103-115.

- Jules LEROY, Nouvelles découvertes archéologiques relatives à Edesse, Syria 38, pp. 159-169

- J.W. Han DRIJVERS, Cults and Beliefs at Edessa, (Leiden, 1980).

- Steven K. ROSS, Roman Edessa, Politics and Culture on the Eastern Fringes of the Roman Empire, 114-242 CE, (London and New York, 2001).


- التصنيف : آثار كلاسيكية - المجلد : المجلد الثاني مشاركة :

بحث ضمن الموسوعة

من نحن ؟

الموسوعة إحدى المنارات التي يستهدي بها الطامحون إلى تثقيف العقل، والراغبون في الخروج من ظلمات الجهل الموسوعة وسيلة لا غنى عنها لاستقصاء المعارف وتحصيلها، ولاستجلاء غوامض المصطلحات ودقائق العلوم وحقائق المسميات وموسوعتنا العربية تضع بين يديك المادة العلمية الوافية معزَّزة بالخرائط والجداول والبيانات والمعادلات والأشكال والرسوم والصور الملونة التي تم تنضيدها وإخراجها وطبعها بأحدث الوسائل والأجهزة. تصدرها: هيئة عامة ذات طابع علمي وثقافي، ترتبط بوزير الثقافة تأسست عام 1981 ومركزها دمشق