logo

logo

logo

logo

logo

التآثر الجيني البيئي

تاثر جيني بييي

Gene-environment interaction -

 

التآثر الجيني - البيئي

أمثلة عن بعض الأمراض وعلاقتها بالأثر البيئي 

 

يُعرف التآثر الجيني - البيئي Gene-Environment Interaction (GxE) بالحالة التي تؤثر فيها العوامل البيئية بصورة مختلفة في الأفراد اعتماداً على التركيب الوراثي لهم، بمعنى آخر يمكن أن تؤدي الاختلافات الدقيقة في الجينات بين الأفراد إلى الاستجابة بشكل مختلف لذات الأثر البيئي الذي تعرضوا له. فمثلاً: قد يجعل التآثر بين الجينات والبيئة شخصاً ما قادراً على شرب الكثير من القهوة من دون أن يعاني من الأرق، في حين لا يستطيع شخص آخر تناول أكثر من فنجان واحد. في هذه الحالة، يمكن أن يكون أحد التغيرات الجينية في الإنزيم الذي يستقلب الكافيين أكثر كفاءة لدى الفرد الأول في حين حدوث تغير جيني آخر في الإنزيم ذاته يجعله أقل كفاءة لدى شخص ثان، بالتالي تعتمد القدرة على استقلاب الكافيين على وجود أحد النوعين المختلفين من الإنزيم. وبالمثل، فإن بعض الناس لديهم خطر أعلى للإصابة بالمرض بعد تعرضهم لعامل بيئي معين في حين لا يصاب بعضهم الآخر بالمرض نفسه. فالتغيرات الوراثية قد تفضي إلى قابلية وراثية للإصابة بالمرض، إلا أنّ التعرض للعامل البيئي يبقى مطلوباً حتى يظهر ذاك المرض. ومن المعروف الآن أن مخاطر الإصابة بالأمراض المزمنة الشائعة، مثل السرطان ومرض باركنسون وداء السكري، ناتجة من التآثرات المعقدة بين العامل البيئي والتغيرات الجينية. بالمقابل يمكن أن تكون بعض التغيرات الجينية مفيدة، وتوفر الحماية من الآثار الضارة للعوامل البيئية الخارجية. وتُعد تآثرات العوامل الداخلية غير الوراثية كمستويات الهرمونات، والسُبل الالتهابية والتأشير العصبي neural signaling والأعداد الغفيرة من المكروبيوم microbiome الطيف البيئي الأوسع.

أدت التطورات السريعة في علم الأحياء الجزيئي في السنوات الأخيرة إلى زيادة كبيرة في فهم التأثيرات الجينية في العديد من الأمراض البشرية. في الوقت نفسه، أصبحت القناعة بخصوص العديد من الأمراض، أن التأثيرات الجينية معقدة للغاية. يشير مصطلح التوريث heritability -وهو مفهوم مهم في دراسات التآثر الجيني البيئي- إلى مدى مساهمة الاختلافات الجينية الموروثة من الأقارب، مقارنة بالعوامل البيئية، في الاختلافات المظهرية الملحوظة بين شخصين أو أكثر. فمثلاً يُلاحظ ميل بعض الأمراض "المعقدة" إلى التجمع ضمن عائلات معينة، لكن توزعها العائلي قد لا يتوافق ونماذج التوريث المندلي البسيطة (جسمي autosomal أو مرتبط بـالجنس sex-linked، سائد dominant أو متنحٍ recessive)، إذ تساهم العوامل الوراثية والبيئية في القابلية أو الاستعداد الوراثي للمرض، ومن غير الواضح كيف تتفاعل هذه العوامل في تأثيرها في مخاطر حدوث المرض؛ فقد تختلف الآليات الجينية أو البيئية بين العائلات. علاوة على ذلك، قد يكون تأثير النمط الجيني ضمن العائلة الواحدة متغيراً بسبب التأثيرات المعدلة للجينات الأخرى، أو لاختلاف العوامل البيئية.

ولدى دراسة مرض ما فإنّ عامل الخطر البيئي قد يكون فيزيائياً (مثل الإشعاع ودرجة الحرارة) أو مادة كيميائية (مثل الهدروكربونات العطرية متعددة الحلقات) أو بيولوجية (مثل فيروس)؛ وقد يكون نمطاً سلوكياً (على سبيل المثال، الحمل الأول في سن متأخرة)؛ أو "حدثاً مدى الحياة" (إصابة جسدية ..). وبالمثل، فإنّ النمط الجيني عالي الخطورة يمكن أن يكون جسمياً أو مرتبطاً بـالصبغي X، أو نموذجاً متعدد الجينات وغيرها من نماذج التوريث. في مواجهة هذا التعقيد، أدرك الباحثون الحاجة إلى دمج أدوات البحث في علم الأوبئة وعلم الوراثة البشرية، وهكذا، ظهر علم هجين جديد دُعي، علم الأوبئة الجيني أو الوراثي genetic epidemiology. تعد دراسة التآثر بين الجينات والبيئة جوهرية في مجال علم الأوبئة الوراثي ويتضمن هذا المجال الجديد مفاهيم وطرائق من علم الأوبئة، والإحصاء الحيوي، وعلم الوراثة السريرية، وعلم الوراثة الجزيئية، وعلم الوراثة السكانية، إضافة إلى طرائق جديدة تم تطويرها لمعالجة المشاكل الخاصة بدراسة المساهمات الوراثية في الأمراض المعقدة.

وبرز أيضاً فرع جديد من علم الوراثة دُعي علم الوراثة البيئي Ecogenetics وهو يدرس السمات الوراثية المتعلقة بالاستجابة للعوامل والمؤثرات البيئية. وعلم السموم الوراثي Genetic toxicology، وتعود تسميته إلى عام 1927 عندما أثبت عالم الوراثة الأمريكي هيرمان جوزيف مولر Hermann J. Muller (1890-1967) أن الأشعة السينية زادت معدلَ الطفرات الجينية وتغيرات الصبغيات في ذباب الفاكهة. يدرس هذا العلم آثار العوامل الكيميائية والفيزيائية في المادة الوراثية، ويشمل دراسة تلف الحمض النووي في الخلايا الحية التي تؤدي إلى السرطان، ويفحص أيضاً التغيرات في الحمض النووي الموروثة عبر الأجيال. تتضح أهمية علم السموم الوراثي من خلال بعض الأمراض الوراثية مثل بيلة الفينيل كيتون، والتليف الكيسي cystic fibrosis، وفقر الدم المنجلي ومرض تاي ساكس Tay-Sachs disease.

أدى الكم الهائل من المعلومات الناجمة عن دراسات الارتباط على مستوى الجينوم Genome-Wide Association Studies (GWAS) للأمراض والسمات الكمية إلى نتيجة مفاجئة ومخيبة لآمال بعض الباحثين، وتشير إلى الافتقار الحالي إلى الفهم والفكرة الغامضة نسبياً عن العوامل "القابلة للتوريث" وأيها المسؤول عنها. إضافة إلى ذلك، فقد عُلم من دراسات عوامل الخطر الوبائية ومن التدابير السريرية للمرضى في بعض الأمراض مثل مرض السكري، وارتفاع ضغط الدم، وارتفاع قيم الكولسترول، والسمنة؛ بأن الحمية أو العوامل الغذائية والسلوكية تتأثر بالتركيب الوراثي للمريض لإنشاء النمط الظاهري المرافق.

وفي الوقت الذي يزداد فيه فهم العلماء للعلاقة بين الجينات والبيئة، فإنهم يسعون حثيثاً للتوصل إلى مناهج جديدة للوقاية من الأمراض وعلاجها تراعي التركيبة الجينية الإفرادية.

وصفت مؤخراً خمسة نماذج عن العلاقات بين النمط الجيني والأثر البيئي من حيث آثارها في مخاطر الإصابة بالمرض، يؤدي كل نموذج من النماذج الخمسة إلى مجموعة مختلفة من التنبؤات حول مخاطر حدوث المرض لدى الأفراد المصنفة وفق وجود النمط الجيني عالي الخطورة والتعرض البيئي أو عدم وجوده (الشكل 1).

 
الشكل (1) مخطط يوضح خمسة نماذج للعلاقة بين النمط الجيني عالي الخطورة وعامل الخطورة البيئي، من حيث تأثيرها في ظهور المرض. 

ففي النموذج (أ)، يكون تأثير النمط الجيني من خلال إنتاج "عامل الخطر"، أو زيادة التعبير عنه. مثال ذلك مرض بيلة الفينيل كيتون phenylketonuria (PKU)؛ وهو اضطراب جسمي متنحٍ، يؤدي إلى ارتفاع فينيل ألانين الدم والتخلف العقلي. فالأفراد متماثلو الألائل لجين PKU لديهم عوز في الإنزيم المطلوب لتحويل فينيل ألانين إلى التيروزين. فإذا ما تُركوا من دون علاج، يحدث تراكم وارتفاع مستويات فينيل ألانين في الدم بعد الولادة الأمر الذي يسبب تخلفاً عقلياً. ويمكن منع التخلف العقلي من خلال الحفاظ على مستويات منخفضه منه في الدم وذلك باتباع حمية غذائية محددة. يمكن أن ينتج التخلف العقلي أيضاً بسبب تعرض الأجنة داخل الرحم لارتفاع مستويات الفينيل ألانين في الدم نتيجة عوز الإنزيم لدى الأمهات. من الناحية الوبائية، فإن ارتفاع مستوى الفينيل ألانين في الدم في النموذج (أ) هو متغير متداخل وتأثير التعرض هو ذاته في الأشخاص الذين يعانون من النمط الجيني عالي الخطورة أو من دونه. هذا النموذج لا يعبر عن التآثر بوضوح، على النحو المحدد أعلاه، لكنه نموذج مهم، لأن اكتشاف الآليات التي تؤثر بها جينات الاستعداد الوراثي في المرض هو الهدف الرئيسي لعلم الأوبئة الوراثي.

في النموذج (ب)، يؤدي النمط الجيني إلى تفاقم تأثير عامل الخطر البيئي، ولكن لا يوجد تأثير للنمط الجيني في الأشخاص غير المعرضين لعامل الخطر. ومن أحد الأمثلة على ذلك هو علاقة جفاف الجلد المصطبغ xeroderma pigmentosum بالأشعة فوق البنفسجية وسرطان الجلد، وهو اضطراب وراثي جسمي متنحٍ. إذ يعاني المرضى من نقص في إنزيم مهم لإصلاح تلف الـدنا DNA الناجم عن التعرض للأشعة فوق البنفسجية، ولديهم خطورة أعلى للإصابة بسرطان الجلد. وبالتالي فإنّ منع التعرض لأشعة الشمس تماماً لدى هؤلاء الأشخاص، سيقلل خطورة الإصابة بسرطان الجلد.

في النموذج (ت)، يؤدي تعرض الأفراد لعامل الخطر البيئي إلى تفاقم تأثير النمط الجيني، ولكن لا يوجد تأثير له لدى الأشخاص ذوي النمط الجيني منخفض الخطورة low-risk genotype. فمثلاً: يعاني الأفراد المصابون بالبرفيرية المبرقشة porphyria variegata، وهو اضطراب وراثي جسمي سائد، من مشاكل جلدية شديدة الخطورة، بما في ذلك حساسية غير عادية للشمس وميل إلى التقرح بسهولة. فإذا ما تعرضوا لأحد المستحضرات الطبية كالباربيتورات barbiturates (فئة من الأدوية المهدئة والمحفزة للنوم مشتقة من حمض الباربيتوريك)، فإنهم يتعرضون لنوبات حادة قد تنطوي على الشلل أو حتى الموت.

في النموذج (ث)، يؤدي فعل كل من التعرض لعامل الخطر والنمط الجيني إلى زيادة خطر الإصابة. ومن الأمثلة على ذلك عوز الإنزيم غلوكوز 6- فسفات ديهدروجيناز (G6PD)، وهو اضطراب متنحٍ مرتبط بـالصبغي X إذ يبقى الأفراد الذين يعانون من نقص في ذاك الإنزيم من دون أعراض، لكنهم يصابون بفقر الدم الانحلالي الوخيم إثر تناولهم حبوب الفول الخضراء مثلاً أو أي محفز انحلالي آخر. في حين لا ينتج التعرض الغذائي للفول رد الفعل نفسه لدى الأفراد الذين لا يعانون من عوز في الإنزيم.

في النموذج (ج)، يكون لكل من التعرض لعامل الخطر البيئي والنمط الجيني بعض التأثير في خطورة الإصابة بالمرض، ولكن عندما يحدثان معاً تكون المخاطر أعلى مما كانت عليه عندما كانا بمفردهما. ومن الأمثلة على ذلك العلاقة بين عوز مضاد التريبسين α-1 (α-1-antitrypsin) والتدخين ومرض الانسداد الرئوي المزمن (COPD) Chronic Obstructive Pulmonary Disease. إذ يزداد خطر الإصابة بمرض الانسداد الرئوي المزمن في كل من غير المدخنين الذين يعانون من العوز وفي المدخنين الذين يعانون من العوز ذاته. ولكن تزداد المخاطر إلى حد كبير لدى المدخنين الذين يعانون من عوز مضاد التريبسين α-1.

تشكل النماذج (ب و ت و ث و ج )، من الناحية الرياضية، مجموعة شاملة من النماذج الممكنة للتآثر بين الجينات والبيئة. هناك أربع مجموعات ممكنة من النمط الجيني والتعرض لعوامل الخطر البيئية، من حيث آثارها الفردية في مخاطر المرض: (1) تأثير التعرض وليس النمط الجيني، (2) تأثير النمط الجيني ولكن ليس التعرض، (3) لا تأثير للنمط الجيني ولا للتعرض، (4) تأثير كل من النمط الجيني والتعرض. إذا أضيف التآثر لكل من هذه الاحتمالات الأربعة، فستكون النتيجة هي النماذج من ب إلى ج، على التوالي.

من أجل اختبار النماذج آنفة الذكر، يجب تصنيف الأفراد من خلال وجود كل من التعرض للعامل البيئي والنمط الجيني عالي الخطورة أو عدم وجودهما. يعد التصنيف وفقاً لتاريخ التعرض أمرًا سهلاً نسبياً، وذلك باستخدام الأساليب الوبائية التقليدية مثل الفحص السريري والمقابلات ومراجعات السجلات الطبية. لكن التصنيف وفقاً للنمط الجيني عالي الخطورة هو الأكثر إشكالية. يعرض الجدول (1) ست استراتيجيات محتملة لقياس أو تقريب النموذج الوراثي.

الجدول (1) الاستراتيجيات المحتملة في قياس النموذج الوراثي ومحدوديتها. 

القيود أو المحدودية

القياس

يمكن استخدامها فقط عندما يتم تحديد الطفرات، إجراء التنميط قد يكون باهظ الثمن ومن النادر تحديد الحمَلة

1- تحديد جين الاستعداد الوراثي susceptibility gene

يتطلب معرفة الإمراضية تجاه المرض

2- الجينات المرشحة candidate genes

نادراً ما تكون متوفرة أو في الغالب نادرة

3- العلامات الجينية المساعدة associated genetic markers

مفيدة عندما يتم تحديد الارتباط ويتم توفر بيانات العلامات لكل العائلات

4- العلامات الجينية المرتبطة linked genetic markers

بديل عن النمط الجيني لكن الأفراد معرضون لخطأ التصنيف. تاريخ تعرض المرضى والشواهد لعامل الخطورة مرتبط باحتمالية وجود النمط الوراثي عالي الخطورة

5- قصة عائلية إيجابية مقابل قصة عائلية سلبية أو أقارب المرضى مقابل أقارب الشواهد

صعبٌ تحديد كفاءته

6- التوائم أحادية الزيغوت monozgoic twins مقابل ثنائية الزيغوت dizygot twins

 

لا يمكن استخدام الاستراتيجية الأولى، إلا في الحالات النادرة والمثالية نسبياً عندما يتم التعرف على الطفرة. علاوة على ذلك -حتى إذا تم تحديد الطفرة- فقد يكون الاختبار مكلفاً، وقد تكون النواقل (الحملة) carriers نادرة جداً بحيث يكون تجميع أعداد كافية لاختبار التفاعل بين الجينات والبيئة أمراً غير عملي. والمثال على ذلك الجين BRCA1 في سرطان الثدي أو جين APP في مرض ألزهايمر العائلي.

تتضمن الاستراتيجية الثانية تحديد الجينات المرشحة أو العلامات الجينية،و يتطلب استخدام هذا النهج بعض المعرفة حول الإمراضية pathogenesis، لأن الجينات المختارة يجب أن يكون لها دور ملموس في التسبب في المرض على سبيل المثال، جين السيتوكروم P450 CYP1A1 أو الجلوتاثيون ترانسفيراز μ (glutathione transferase μ)، الذي يؤدي دوراً في تنشيط/إزالة السموم من المواد المسرطنة.

في الاستراتيجية الثالثة، يتم استخدام الواسم الجيني المرتبط بالمرض بديلاً للنمط الجيني عالي الخطورة. يمكن استخدام هذا التصميم فقط في الحالات الخاصة حيث تم إثبات الارتباط بين المرض والأليل الواسم ضمن المجتمع. على سبيل المثال، تم العثور باستمرار على خطر الإصابة بمرض ألزهايمر لدى الأفراد متغايري الأليل أو متماثليه في جين صميم البروتين الشحمي أي من النوع apolipoprotein E (APOE) المحمول على الصبغي رقم 19.

تنطبق الاستراتيجية الرابعة على الحالات التي تم فيها الحصول على أدلة لربط علامة وراثية معينة بجين الاستعداد الوراثي للمرض، ولكن لم يتم تحديد الطفرة المسببة للمرض حتى الآن. في هذه الحالة، عامة، لن يتم العثور على ارتباط على مستوى السكان بين أليل المرض وأليل معين في موضع العلامة.

تتضمن الاستراتيجية الخامسة استخدام بيانات تاريخ العائلة بديلاً للنمط الجيني. في دراسة الحالة - الشاهد case- control، يمكن تصنيف كل من الحالات وعناصر التحكم (الشواهد) من خلال وجود تاريخ عائلي أو عدم وجوده، ويمكن افتراض ترجيح أولئك الذين لديهم تاريخ عائلي إيجابي على أنهم أكثر استعداداً وراثياً من أولئك الذين ليس لديهم. يجب استخدام هذه الاستراتيجية بحذر: أولاً لأنها تخضع لتصنيف خاطئ كبير. فقد يكون تاريخ العائلة إيجابياً في الأشخاص الذين ليس لديهم نمط وراثي شديد الخطورة وسلبياً في أولئك الذين لديهم نمط وراثي عالي الخطورة (على سبيل المثال، بسبب الوفيات، وصغر حجم الأسرة، وما إلى ذلك). ثانياً لأنه يختلف احتمال "تاريخ عائلي إيجابي" باختلاف عدد الأقارب لكل أسرة، ودرجة القرابة بين الأقارب المشمولين بالقياس مع الفرد المريض. فإذا اختلفت هذه العوامل بين المرضى والشواهد، سينجم عنه ارتباك خطير.

وأخيراً تعتمد الاستراتيجية السادسة على دراسات المقارنة بين التوائم أحادية الزيغوت أو ثنائيته. بفرض عدم ملاحظة فرق بين التوائم الأحادية أو الثنائية من حيث معدل انتشار التعرض للعامل البيئي أو النمط الوراثي أو خطورة الإصابة بالمرض اعتماداً على النمط الوراثي أو التعرض للعامل البيئي فإنه لا يوجد فرق متوقع بين التوائم بنوعيها في احتمال وجود النمط الجيني عالي الخطورة بالتالي يمكن التحقق من الارتباط بين المرض والتعرض للعامل البيئي في هذا النمط من الدراسات فقط من أجل تقييم التآثر بين الجينات والبيئة. ومع ذلك، فإن هذا النهج له قوة إحصائية محدودة.

أمثلة عن بعض الأمراض وعلاقتها بالأثر البيئي

تنشأ اضطرابات التنامي العصبي Neurodevelopmental disorders من العديد من المصادر الوراثية والبيئية معاً، والتي تبدأ آثارها في المراحل الجنينية المبكرة. توفر تقنيات الفحص الحديثة تحولاً مستمراً في وجهات النظر التقليدية المبسطة إلى إطار دقيق للتآثر بين الجينات والبيئة (G × E) يعزز هذا التحول فهماً أكثر دقة لتعقيد المسارات السببية. علاوة على ذلك، قد تختلف طبيعة التآثر بين الجينات أو المنتجات الجينية تبعاً للمؤشرات الزمنية (أي فترة النمو)، والكيمياء الحيوية (أي حالة البروتين النشطة أو المستقرة) والمكانية (أي الموقع داخل الجسم) الموجودة خلال التعبير الجيني.

أظهرت الدراسات الحديثة نتائج جديدة زادت المعرفة عن التآثر بين الجينات والبيئة في تطور اضطرابات النمو. فمن بين العوامل البيئية المبكرة، يؤدي نمط حياة الأمهات والعوامل ما قبل الولادة أدواراً مهمة وقد يؤدي إلى عواقب صحية خطرة وأمراض في وقت لاحق من الحياة. بعض العوامل التي ثبت أنها تؤثر في نمو الجنين الطبيعي تشمل الإجهاد والنظام الغذائي وداء السكري الحملي والتعرض للكحول في أثناء الحمل. تولّد أنماط الحياة غير الصحّية تغييرات لا جينية أو فوق وراثية epigenetic، بما في ذلك تغيير مثيلة الحمض النووي وتعديلات الكروماتين، والتي يعتقد أنها تمثل أنواعاً مختلفة من الإعاقات في التنامي العصبي المتعلقة بلدونة الدماغ plasticity brain، وعيوب الأنبوب العصبي neural tube defects والتوحد.

في البداية كان يعتقد أن اضطراب طيف التوحد Autism spectrum disorder ناتج من عوامل بيئية فقط. لكن يُنظر الآن، بشكل متزايد إلى العوامل الوراثية والجينية على أنها تؤدي دوراً محورياً أكثر في مسببات مرض التوحد نظراً لأن التغييرات الجينية تتأثر إلى حد ما بالعوامل البيئية مثل التغذية وبعض الأدوية والإجهاد stress، بالتالي يمكن أن يعد التوحد ناتجاً من تآثرات جينية مع متغيرات بيئية عبر آليات فوق وراثية. فمثلاً، وجدت الدراسات المختبرية أن بعض المبيدات الحشرية (rotenone) إضافة إلى بعض مبيدات الفطريات (مثل trifloxystrobin وfamoxadone وpyraclostrobin) تؤدي إلى تعديلات في عملية النسخ المورثي، وقد تم التأكد منها لدى مقارنتها بتلك الموجودة في عينات دماغية مأخوذة من أفراد مصابين بالتوحد. كما تزيد المستويات العالية من تلوث الهواء من خطر الإصابة بالتوحد لدى الأطفال الذين يعانون من تغير وراثي في جين يدعى MET، والذي يشارك في نمو الدماغ. مما يشير إلى أن التوحد قد يكون ناتجاً من تآثر بين العوامل الوراثية والبيئية معاً. فالاستعدادات الجينية المحددة تجعلها أكثر عرضة للتأثيرات البيئية الضارة.

قد يكون للتعبير عن العوامل الوراثية تأثير محدد بطريقة تعتمد على الزمن أو التوقيت الذي تؤثر فيه. فمثلاً تحدث عملية نضج البنية العصبية المسماة المعقد الزيتوني العلوي Superior Olivary Complex (SOC) (مجموعة من نوى جذع الدماغ تعمل في جوانب متعددة من السمع وهي مكون مهم من المسارات السمعية الصاعدة والهابطة للنظام السمعي) خلال فترة زمنية حرجة في الفترة ما بعد الولادة مباشرة، تقع هذه البنية في جذع الدماغ وتعد المسؤولة عن بدء السمع المكاني spatial hearing إذ يرافق النضج زيادة التنظيم في التعبير الجيني للجينات المرتبطة بالسيروتونين والجينات المرتبطة بالجهاز السمعي المحيطي. يُلاحظ لدى الرضع الذي يعانون من عدم نضج في تلك البنية العصبية أنهم غير قادرين على تحديد الإشارات السمعية من محيطهم، مما يؤدي إلى زيادة استعدادهم لاضطرابات السمع والإعاقة في النمو، بما في ذلك عسر القراءة واضطراب طيف التوحد.

يُعد مرض باركنسون Parkinson disease من الاضطرابات متعددة العوامل multifactorial disorder إذ رُبط ظهور هذا المرض بمجموعة من المتغيرات الجينية المتعددة، والتعرض البيئي وبنمط حياة الفرد، ففرصة الإصابة بمرض باركنسون تزداد وفق نمط الحياة المتعلقة بطبيعة النظام الغذائي وممارسة الرياضة والتدخين. كما تزداد بعد التعرض للمبيدات الحشرية بصورة أكبر لدى الأشخاص الذين لديهم تغير جيني معين. إذ تعد مبيدات الفسفات العضوية - شائعة الاستخدام في الزراعة - سموماً عصبية تساهم في الإصابة بمرض باركنسون لدى الأفراد الذين يحملون تغيراً وراثياً في الجين الذي ينتج الإنزيمات التي تستقلب (تزيل السموم) تلك المبيدات، بالتالي يصبح الأفراد الحاملون للتغير الوراثي هذا أكثر استعداداً للأثر السمي لمبيدات الفسفات العضوية. ويطورون مع الزمن مرض باركنسون.

أظهرت الأبحاث أن سرطان الثدي ناتج من عوامل الخطر الوراثية والهرمونية والبيئية مجتمعة. وتشمل بعض العوامل المرتبطة بزيادة خطر الإصابة بسرطان الثدي العلاجات الهرمونية المركبة، وموانع الحمل الفموية.

وجد الباحثون أن بعض المواد الكيميائية تخل في عمل الغدد الصم إذ يمكن للعديد من المواد الكيميائية تغيير التعبير الجيني بشكل دائم خلال الأشهر الثلاثة الأولى من الحمل (تكوّن الأعضاء organogenesis). أو تغييره في أثناء فترة التنامي الجنيني ككل، وتتغير إثر ذلك مسارات الإشارات الهرمونية والتعبير عن الإنزيمات المزيلة للسموم detoxifying. الأمر الذي يزيد خطر الإصابة بالأمراض المزمنة في فترة الطفولة، والسمنة، والاضطرابات التناسلية reproductive disorders، والخلل الوظيفي المناعي immune dysfunction والسرطان.

قد تؤثر عوامل الخطر البيئية في التعبير الجيني من خلال آليات فوق وراثية فمثلاً، يؤدي التعرض للمعادن الثقيلة - بما في ذلك ميثيل الزئبق والزرنيخ والكادميوم والنحاس والحديد والألمنيوم والنيكل - إلى حدوث خلل على المستوى فوق الوراثي الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى تغيير في التعبير الجيني في الدماغ، أو تنشيط العناصر القافزة (القابل للتحول) transposable elements، مما يفضي إلى تغيير في فوق جينوم epigenome الجنين، أو يمكن أن يؤدي إلى حدوث تغيير في التعبير الجيني للمورثات الكابحة للورم tumor suppression genes. فالتغيرات فوق الوراثية الناتجة من أثر عوامل الخطر البيئية يمكن أن تزيد خطر التشوهات في التنامي الجنيني، أو الإصابة بالسرطان والتنكس العصبي neurodegeneration. كما يمكن للضغوط النفسية والاجتماعية Psychosocial stressors أن تُحدث تغييرات فوق وراثية أيضاً. إذ يمكن أن تحفز البيئات المهددة أو التي لا يمكن السيطرة عليها أو التي لا يمكن التنبؤ بها، استجابة لتلك الضغوطات في الجسم، ويمكن أن يؤدي التعرض المزمن للضغط إلى تقويض الصحة العامة للفرد. ويمكن للضغوط لدى اختبارها في وقت مبكر من الحياة، أن تغير العلامات فوق الوراثية على جين معين في الدماغ مما يؤثر في قدرة نظام الاستجابة للضغط على التوقف turn off. وقد أظهرت الدراسات المختبرية أن الإجهاد في الحياة المبكرة، حتى في الرحم، يمكن أن يسبب تغيراً وراثياً في الدماغ يجعل الأفراد أكثر استجابة للمنبهات المجهدة، وبالتالي يعانون من المزيد من الإجهاد الداخلي مدى الحياة. تزيد هذه الاستجابة المتزايدة خطر التغيرات السلوكية في مرحلة البلوغ، والإصابة بالأمراض القلبية الوعائية، كما تقلل التواصل بين الأبناء والآباء. كما يتعرض الأشخاص الذين لديهم استجابة عالية للضغوطات لزيادة خطر القلق anxiety وارتفاع ضغط الدم والسمنة وداء السكري من النوع الثاني واضطرابات المناعة الذاتية.

ختاماً، يمكن القول إن العلماء قد تجاوزوا نطاق علم الوراثة، وتم إيلاء اهتمام متزايد للتآثر بين الجينات مع عوامل الخطر البيئية. واستيعاب مفهوم التكيف ومناقشة آثار المحددات الجينية، سواء بمفردها أم بالاقتران بعوامل الخطر البيئية (أي أمراض الأم والحالة التغذوية لها والسموم البيئية). من ناحية أخرى - وفقاً لفرضية الاستعداد الوراثي التفاضلي - فإن البيئة مليئة بالعوامل الخطرة المحتملة، ولكن هذه العوامل تؤثر فقط في الأشخاص الذين لديهم استعداد وراثي محدد تجعلهم أكثر عرضة للتأثيرات البيئية الضارة.

تعد دراسة التآثر بين الجينات والبيئة مهمة لتحسين الدقة في ضبط تقييم التآثرات الجينية -البيئية. كما يعد فهم تلك التآثرات مهماً على الصحة العامة، إذ تساعد على التنبؤ بمعدلات المرض وتوفر الأساس لتوصيات مستنيرة للوقاية منه.

غالية أبو الشامات

مراجع للاستزادة:

- L. G. Costa, D. L. Eaton, Gene-Environment Interactions: Fundamentals of Ecogenetics, John Wiley & Sons 2005.

- M. Smith, Gene Environment Interactions: Nature and Nurture in the Twenty-First Century, Academic Press 2020.

- M. Windle, Statistical Approaches to Gene X Environment Interactions for Complex Phenotypes, MIT Press 2016.

 


التصنيف : الوراثة والتقانات الحيوية
النوع : الوراثة والتقانات الحيوية
المجلد: المجلد السادس
رقم الصفحة ضمن المجلد : 0
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 1038
الكل : 58491931
اليوم : 64445

البروج (دائرة-)

آلان (إميل كارتييه ـ) (1868 ـ 1951)   إميل كارتييه Emil Chartier المعروف باسم آلان Alain فيلسوف فرنسي ولد في مورتاني أوبرش (مقاطعة أورن) وتوفي في الفيزينيه Le Vésinet (من ضواحي باريس). كان ابن طبيب بيطري، قضى طفولة عادية، رأى أنها كانت ضرباً من الحماقة. فقد إيمانه بالدين وهو بعد طالب في الثانوية من غير أزمة روحية، لمع في دراسته الثانوية في الرياضيات، حتى إنه كان يحلم بدخول مدرسة البوليتكنيك لكن حلمه لم يتحقق، إذ إن إخفاقه في امتحانات الشهادة الثانوية بفرعها العلمي جعله يستعد لدخول المعهد العالي للمعلمين سنة 1889، إذ انصرف إلى قراءة أعمال كبار الفلاسفة، مثل أفلاطون وأرسطو وأوغست كونت، ولكنه أولى الفيلسوف الألماني كَنت اهتماماً خاصاً طبع تفكيره بطابع دائم.
المزيد »