التقانات الحيوية في الفضاء
تقانات حيويه في فضاء
Biotechnologies in space -
مجد الجمالي
التفاعلات الحيوية استجابةً لانعدام الوزن
تطبيقات الجاذبية الصِّغريَّة في التقانات الحيوية
التقانات الحيوية في الفضاء biotechnologies in space هي استخدام الإجرائيات (العمليات) processes الحيوية أو المتعضّيات organisms لتصنيع منتجات وإجراء تجارب علمية في الفضاء الخارجي أو في بيئات الجاذبية الصغرية microgravity؛ بهدف تحسين جودة الحياة البشرية. ويمكن لهذه المنتجات أن تكون طبية أو حيوية أو بيئية.
ويُعدّ الفضاء فرصةً حقيقية لإجراء الأبحاث البيولوجية وتطبيقاتها بما يعزز الاستفادة من تلك البيئات الفضائية الشاذة في زيادة المنتجات الحيوية، كالبروتينات والخلايا والنسج كمّاً ونوعاً؛ على الرغم من التحديات الكبيرة التي تمثّلها الشروط غير الطبيعية السائدة خارج الغلاف الجوي للأرض، كالإشعاعات، ودرجات الحرارة المنخفضة جداً، وانعدام الجاذبية، ومحدوديّة الموارد الغذائية والأكسجين.
تطوّر المحيط الحيوي biosphere للأرض خلال ما يزيد على 3 مليارات سنة محميّاً من البيئة العدوانية للفضاء الخارجي بفضل غطاء واقٍ، هو الغلاف الجوي atmosphere. ويُعدّ هذا الفضاء الواسع والبارد والممتلئ بالإشعاعات تحدّياً بيئياً لأيّ شكل من أشكال الحياة. وخلال العقود المنصرمة سمحت تقانات الفضاء بتوفير الوسائل الضرورية لنقل الكائنات الحية خارج هذا الغلاف الواقي. ومن وجهة نظر بيولوجية تخصّ جميع المتعضّيات الحية- بدءاً من البكتريا وانتهاءً بالإنسان- فإن أكثر تعديلين فيزيائيين تأثيراً في الرحلات الفضائية هما حالة انعدام الوزن (الجاذبية الصِّغريَّة) التي تنشأ من السقوط الحر للمركبة الفضائية والابتعاد عن مركز الأرض؛ وزيادة التعرّض للإشعاعات. وتضم العوامل البيئية الأخرى: الخلاء الفضائي space vacuum ودرجات الحرارة الحديّة ووجود الأشلاء الفضائية ذات السرعة الكبيرة. ويُخفف تأثيرها جميعاً بفضل تصميم المركبة الفضائية الذي يأخذ بالحسبان حماية رواد الفضاء داخل المركبة.
ومع ذلك فإن تقانة الفضاء توفر فرصة تعريض المتعضيات المجهرية للشروط البيئية المتوفرة خارج الغلاف الجوي من أجل زيادة المنتجات الحيوية وتحسينها. ومن أشهر تطبيقات التقانة الحيوية في الفضاء هندسة النسج tissue engineering وإنتاج اللقاحات والمستقلَبات metabolites الثانوية للبكتريا والفطريات. ولا بد من الإشارة هنا إلى إمكان إجراء معظم هذه التطبيقات على الأرض في شروط تماثل الفضاء؛ لمحدودية القدرة حالياً على التوسع في إنشاء المختبرات البحثية الضرورية لذلك على متن المركبات الفضائية أو داخل المحطات الفضائية space stations.
التفاعلات الحيوية استجابةً لانعدام الوزن
أكّدت الأبحاث الحيوية (البيولوجية) في الفضاء الدور الجوهري الذي تؤدّيه الجاذبية في تطوير وظيفة المتعضيات الحية. ففي حين تسهم الجاذبية الطبيعية 1 gravity (1g) في التصاق الخلايا ضمن مستنبتات الزرع؛ فإنّ الجاذبية الصِّغريَّة أو انعدامها يؤثّران في العديد من الظواهر الفيزيائية المتصلة بالبحث البيولوجي؛ ومن ذلك توازن السوائل في الأوعية وتَثَفُّل (ترسيب) sedimentation العضيات الخلوية وتدفّق flow الجزيئات الحيوية وتبادل الحرارة. ويمكن لهذه الظواهر جميعها أن تؤثر تأثيراً مباشراً أو غير مباشر في شكل (مورفولوجية) الخلايا، والاستقلاب، والحركة، وإفراز بروتينات المطرق خارج الخلوي extracellular matrix والإشارات المنحلّة، وتجمّع الخلايا في نسج وظيفية. وتتطلب مثل هذه الدراسات -التي تميّز أثر الجاذبية- أمرين اثنين: التحكّم بكمّ الجاذبية المطبّق على الخلايا، والحفاظ على جميع العوامل الأخرى ثابتة طوال مراحل الدراسة. ويظهر ذلك وجود آليات مستقلّة عن الجاذبية تتواسط التآثر بين الخلايا وبيئاتها. وقد ساهمت المعدّات المتوفّرة على متن المركبات الفضائية في تصميم التجارب وتحديد الأهداف العلمية للدراسات الخلوية والنسيجية المعمول بها حتى اليوم. كما أثمرت الدراسات في أوعية الاستنبات الخلوي البسيطة معلوماتٍ مهمّة، وساعدت على تأسيس نماذج لحركة الخلايا في المُخْتَبَر in vitro، ونمو العديد من أنماط الخلايا الثديية وتمايزها؛ ومن ذلك الخلايا الجنينية واللمفاوية. وأخيراً أسّست الدراسات على خلايا البكتريا للارتباطات الأولية بين العوامل المستقلة عن الجاذبية، مثل سرعة التَّثَفُّل والمسافة البينية بين الخلايا والاستجابات الخلوية المتعلِّقة بذلك.
تطبيقات الجاذبية الصِّغريَّة في التقانات الحيوية
1-هندسة الخلايا والنسج
لم تتغيّر ممارسة استنبات الخلايا طوال عقود. فحتى زمن قريب قيّد الباحثون أنفسهم بتقانة استنبات الخلايا ثنائية البعد 2-dimensional، مع أنّه - وعلى نحو واضح - لا تكون المخلوقات الحية بأبعاد ثنائية. وهكذا- ومع تقدّم الأبحاث - اقتُرح أن تكون منظومات استنبات الخلايا في المُخْتَبَر ثلاثية الأبعاد 3-dimensional لتُحقّق النموذج الأقرب إلى الواقع، وتُقارب تقارباً أكبر بيولوجيا الخلية في الأَحْياء in vivo. وقد أوضحت المحاولات التي بُذلَت لتعديل الاستنبات ثنائي الأبعاد إلى ثلاثي الأبعاد- مثل غرس embedding الخلايا في المطرق خارج الخلوي- تفوّق النموذج ثلاثي الأبعاد، مع العلم أن لهذا النموذج مساوئ عدّة تتمثل بالنقل المحدود للكتلة وضعف المردود وعدم إمكان زيادته. ويبين الشكل (1) مقارنة استنبات الخلايا ثنائي الأبعاد وثلاثي الأبعاد. تُبدي الخلايا المستنبتة بشكل ثنائي الأبعاد (أ و ب) شكلاً مسطّحاً، وتغطّي مساحة كبيرة من المستوي x-y، وتملك ارتفاعاً منخفضاً مع المحور z، في حين تملك الخلايا المستنبتة بشكل ثلاثي الأبعاد (ج و د) شكلاً يشبه المكعّب، وتنمو بارتفاع ملحوظ مع المحور z.
الشكل (1) مقارنة استنبات الخلايا ثنائي الأبعاد وثلاثي الأبعاد. |
وقد طورت إدارة الطيران والفضاء الوطنية الأمريكية (ناسا) National Aeronautics and Space Administration (NASA) تقنية جديدة قبل قرابة عقد من الزمن؛ بهدف دراسة أثر الجاذبية الصِّغريَّة في الخلايا، وتبيّن أنها حلّت العديد من مشاكلات الاستنبات ثلاثي الأبعاد. وأساس هذه التقنية هو استعمال الوعاء ذي الجدار الدوّار Rotating Wall Vessel (RWV)، ويدعى أحياناً كلينوستات clinostat، وهو جهاز ذو محور وحيد يتألف من وعاء أسطواني لاستنبات الخلايا ممتلئ بالسوائل، ويدور أفقيّاً. ويبين الشكل (2) مقارنة جهاز الكلينوستات مع المخمر الحيوي التقليدي؛ فعندما يدور جدار الكلينوستات أفقيّاً وبسرعة محددة (الشكل 2- أ) تتبعثر الخلايا في وسط الاستنبات السائل تبعثراً لطيفاً غير مؤذٍ تفقد فيه ارتباطها بالجاذبية، وربما تتكدس فيه الخلايا، ويدور بعضها مع بعض. أما عند استنبات الخلايا عموديّاً (الشكل 2- ب)، كما هي الحال في المفاعلات الحيوية والمخمرات التقليدية- لا بد من تحريك وسط الاستنبات باستمرار لمنع تكدّس الخلايا في الأسفل بسبب تأثير الجاذبية، ويجري ذلك عادة بوساطة مازجات تؤثر سلباً في حيوية العديد من الخلايا.
وتكون الخلايا المستنبتة داخل الكلينوستات معلّقةً بسبب انعدام محصلة قوى الجاذبية والتثفّل مع كون قوى الشد الميكانيكي المطبّقة على الخلايا في حدّها الأدنى. وتُمكّن هذه الشروط - والمسمّاة بالجاذبية الصِّغريَّة المنخفضة الشدة low shear modeled- الخلايا من التجمّع في شكل يشبه النسج، مع نقل كبير للمواد المغذّية والأكسجين والفضلات، ولذلك تطبيقات جمّة في البحوث الأساسية الخلوية وفي هندسة النسج.
الشكل (2) مقارنة جهاز الكلينوستات مع المخمر الحيوي التقليدي. |
وتستعمِل جميع المفاعلات الحيوية bioreactors-المحاكية لشروط الجاذبية الصِّغريَّة- منظومات استنبات للخلايا ثلاثية الأبعاد 3D، ترافق فيها الخلايا مرتكزات (سِقَالات) scaffolds من البوليمرات المتدرّكة حيوياً biodegradable polymers ، أو هلامات الكولاجين؛ وذلك لتحفيز التعبير عن وظيفة الخلايا المتمايزة. وقد زُوّدت المفاعلات المتطورة لاستنبات الخلايا والمستعملة في هندسة النسج بمنظومات ونماذج في المُخْتبر لدراسة صحّة رواد الفضاء الذين يعانون فقداً في النسج العضلية والهيكلية واستجابات على مستوى التعبير الجيني وعلى المستوى الخلوي للبيئة الميكانيكية في المركبة الفضائية؛ عدا عن التعرض المستمر للإشعاعات الكونية التي قد تسبب الإصابة بالسرطان. وبُدئ حديثاً بالعديد من الأبحاث الجزيئية التي تقيس التغيرات في التعبير الجيني لدى رواد الفضاء خلال رحلاتهم والتبدّلات الخلوية الاستقلابية، وذلك في محاولة لوقايتهم من أمراض قد يصابون بها نتيجة ما يتعرضون له في بيئة مختلفة، أو لتحديد المعالجات المناسبة لهم، والتي قد لا تشبه تماماً العلاجات التي يتلقاها أقرانهم الذين لم يغادروا محطاتهم الأرضية.
2- تقنيات التخمير
إنّ إحدى أهم ميّزات التعامل مع الخطوط الخلوية أو البكتريا المستنبتة في الفضاء هي القدرة على جعل الخلايا معلّقةً في وسط سائل من دون الحاجة إلى تطبيق قوى قص وشد واحتكاك، والتي عادةً ما تصاحب منظومات التحريك والمزج في شروط الجاذبية الطبيعية. ويقدّم البحث الصيدلاني في الفضاء فرصة لتطوير فهم كيفية حدوث العمليات الحيوية بعد إزالة تأثير الجاذبية الموجود دائماً عن الخلية ومحيطها، كما يفتح آفاقاً جديدة لاستكشاف التقنيات غير التقليدية؛ وربما بدايةً لاكتساب المعرفة وترجمتها في أماكن الإنتاج الأرضية، وأيضاً لتعزيز الرؤية المستقبلية للمنتجات المصنّعة في الفضاء مع التوصّل إلى قيمة مضافة كافية لاعتمادها تجارياً.
وتبيّن بعض الأبحاث التي أجريت في الفضاء أن إنتاج بعض المستقلَبات -الثانوية بالنسبة إلى المتعضية والمهمّة بالنسبة إلى تطبيقاتها العلاجية- يزداد في بعض الكائنات الحيّة. والأمثلة على ذلك: زيادة إنتاج المضاد الفطري الحيوي monorden من فطر Humicola fuscoatra؛ على الرغم من أن نمو الفطر لا يزداد بحد ذاته، وزيادة إنتاج الصاد الحيوي الأكتينوميسين "د" Actinomycin D في بكتريا Streptomyces plicatus. وفي سياق متصل لوحظ أن بكتريا الإِشْريكِيَّة القولونية Escherichia coli قد نَمَت نموّاً أكبر في الفضاء؛ وأيضاً في الكلينوستات من دون استهلاك مقادير زائدة من الغلوكوز. ويقترح ذلك زيادة في كفاءة efficiency تمثّل المواد المغذّية مسببة زيادة نمو البكتريا. وكانت هذه النتائج المشجّعة حجر الأساس لاستعمال مفاعل حيوي في المحطة الفضائية الدولية International Space Station (ISS)، وقد أفضت إلى زيادة في إنتاج الأكتينوميسين "د" خلال الأسبوعين الأولين بالمقارنة بناتج تخمير البكتريا ذاتها التي تكاثرت في المختبر الأرضي. أما اللقاحات vaccines؛ فقد بدئ بالعديد من التجارب لإنتاجها اعتماداً على التغيّر في فوعة virulence البكتريا عند نموّها في الفضاء، وتُجرى هذه التجارب أيضاً داخل المحطة الفضائية. ومن اللقاحات المستَهدَفة لقاح ضد ذراري السَّالمونيلّا Salmonella المسببة للإسهالات والتي لا يتوفر لها أي منتجات حالياً، وقد بدت النتائج مشجعة إلاّ أنها لم تعمّم بعد.
ويبدو أن البكتريا عموماً تملك بالفضاء عدداً من الميزات كزيادة النمو وإنتاج المستقلبات الثانوية ومقاومة الصادات الحيوية antibiotics، وقد اقترحت تجارب أخرى أن فعالية الصادات الحيوية ضد البكتريا يمكن أن تنخفض، ومن ثمَّ تزيد من فوعة البكتريا في الفضاء. وأثارت هذه النتائج بعض القلق حول صحة رواد الفضاء الذين يعانون التثبيط المناعي بسبب الشدّات stresses النفسية المتعدّدة؛ ولا سيّما بعد إطالة أمد الرحلات الفضائية التي قد تستمر سنوات عدة في المستقبل. وحديثاً زاد الاهتمام بتحليل التعبير الجيني بوصفه محاولة لتحديد استجابة البكتريا المزروعة في الفضاء ومقارنتها بظروف مثيلة على الأرض باستعمال جهاز الكلينوستات. وبيّن تقرير حديث أنّ مقاومة البكتريا للشدّات الحمضية والحرارية والتناضحية osmotic، وكذلك القدرة على النمو والمقاومة داخل البالعات الكبيرة تزداد جميعها؛ في حين تنخفض مقاومة البكتريا للشدة التأكسدية. ومن المثير للاهتمام أن مستويات البروتينات المدروسة تتغيّر في البكتريا المستنبَتَة بظروف الجاذبية الصِّغريَّة مقارنةً بالشروط الطبيعية فيما تبقى مستويات الحمض النووي الريبي (الرنا) المرسال Messenger Ribonucleic Acid (mRNA) ثابتة؛ مما دعا إلى الاعتقاد أن الفرق الأساسي هو في مستوى ترجمة جزيئات الرنا، وليس في التعبير عن الجينات.
وفي هذا السياق يُخشى أن تكون إمراضية البكتريا في الشروط المماثلة للفضاء أكثر منها على الأرض؛ الأمر الذي استدعى التفكير ملياً بمحاولة تجنّب الإنتانات البكترية المقاومة على متن المركبات الفضائية حرصاً على سلامة الرواد. ويجب دائماً التذكير بأنّ رواد الفضاء يحملون في أجسامهم النَّبيت المِجْهَرِيّ microflora، وهم مصدر لهذه البكتريا التي قد تملك سلوكاً شاذاً سواء من حيث مقاومتها للصادات أم ميلها للنمو. وقد لوحظ بالفعل تشكل الرقائق الحيوية biofilms في الفضاء، وهي يمكن أن تسبب الحدّ الأدنى ضرراً لمكوّنات المركبة الفضائية. أما ما يخص رواد الفضاء أنفسهم؛ فيُخشى من وجود عوامل ممرضة انتهازية opportunistic pathogens، ومن ذلك البكتريا إيجابية الغرام وسلبية الغرام والفطريات، والتي يمكن أن تتراكم في جملة مغلقة كما هي الحال في المركبة الفضائية؛ مما يستدعي البحث عن واسمات حيوية biomarkers نوعية تظهر أي تأثير لهذه العوامل في صحة الرواد، مثل السيتوكينات الالتهابية، أو تقصّي اختبارات تعتمد على مقايسة التعبير الجيني على مستوى الرنا المرسال أو البروتينات. وقد أصبح – في الواقع- العديد من هذه الاختبارات قيد التطوير ليستخدمها رواد الفضاء.
وأخيراً -وكما هي الحال على الأرض- يمكن الاستفادة من البكتريا في العديد من العمليات الحيوية، مثل تدرّك الفضلات وتنقية المياه وحتى إنتاج الطعام والأكسجين، والاعتماد على توليد مصادر الطعام ذاتياً في المركبات لتجنب أي نقص في تزويد تلك المركبات بمصادر الطاقة. وتقوم النباتات عادةً بتوليد الأكسجين الذي يحتاج إليه البشر على الأرض، في حين أن عدداً آخر من الكائنات الحية كالبكتريا والفطريات والزراقم Cyanobacteria يمكنها أيضاً القيام بعمليات متنوعة مثل إنتاج الڤيتامينات وإعادة تدوير الماء وإزالة تلوث الهواء والتخلص من الفضلات. ويمكن هنا أيضاً الاستفادة من المتعضّيات التي تعيش أصلاً في ظروف بيئية حديّة، كتلك المقاومة لتبدلات الحرارة أو البكتريا اللاهوائية المجبرة التي لا تحتاج إلى الأكسجين لنموها، أو الطحالب المجهرية microalgae أو العتائق archbacteria. ويُعتقد أن المجموعتين الأخيرتين تضمّان أولى الكائنات الحية التي وُجدت على الأرض، حيث تتحمّل العديد من الأنواع الحية فيهما درجات حرارة وحموضة حديّة وتراكيز ملحية عالية؛ إضافةً إلى عدم تأثرها بالأشعة فوق البنفسجية Ultraviolet rays (UV). وفي الواقع اختُبرت بعض هذه الأنواع في شروط مماثلة لتلك الموجودة في القمر وفي كوكب المريخ، وأبدت تحمّلاً لافتاً لتلك البيئات الشاذّة.
3- الطب وانتاج الأدوية
تعد النباتات حقاً حمولة أساسية في المهمات الفضائية؛ إذ تستخدم في الغذاء. وتقوم باستهلاك ثنائي أكسيد الكربون الموجود بكثرة على المريخ، وتنتج الأكسجين والماء اللذين يحتاجهما رواد الفضاء. "إضافة إلى ذلك فإن وجود النباتات له فائدة نفسية لأفراد الطاقم. غير أن الأمر يتعدى تلك الفوائد إذ ابتكرت مجموعة بحثية سلالة معدلة وراثياً من الخس (الشكل 3) تنتج عقاراً بروتينياً. ويستخدم هذا الدواء لعلاج فقدان العظام، وهو مرض شائع بين رواد الفضاء.
الشكل (3) زراعة الخس في محطة الفضاء الدولية. |
أما في مجال الطب التجديدي regenerative medicine الذي يُعنى باستعمال الخلايا الجذعية لتعويض المفقود من النسج؛ فقد أشارت الدراسات الحديثة إلى أنّ الخلايا الجذعية المستنبَتة في شروط تماثل الجاذبية الصِّغريَّة تتكاثر بصورة أفضل بكثير من تلك المستنبَتَة في الشروط ثنائية الأبعاد التقليدية، إذ بيّنت إحدى تلك الدراسات أن الخلايا الجذعية الميزنشيمية Mesenchymal Stem Cells (MSCs) المستنبَتَة في ظروف الجاذبية الصِّغريَّة تكاثرت بمقدار 13 ضعفاً خلال أسبوع واحد بالمقارنة بأربعة أضعاف فقط في الخلايا التي استُنبِتت في شروط الجاذبية الأرضية الطبيعية. مع ذلك فقد بقيت القُسَيمات الطَّرَفِيّة (التلوميرات) telomeres بالطول نفسه في كلتا الحالتين، كما كان التعبير عن المستضدات السطحية المميزة للخلايا الجذعية المتوسطية نفسه أيضاً في كلتا الحالتين. ومن المعروف أن صبغيات الخلايا المنقسمة تفقد جزءاً من تتالياتها مع كل انقسام مؤديةً إلى قصر القُسَيمات الطَّرَفِيّة في نهاية الصبغي، لذلك يُعدّ ثبات القسيمات خلال الانقسام المتزايد للخلايا الجذعية في شروط الجاذبية الصِّغريَّة أمراً مهماً وجديراً بالمزيد من الأبحاث. أما أهم نتائج تلك الدراسات على الإطلاق فكانت أنّ الخلايا الجذعية التي زرعت في الـكلينوستات، ثم حُقنت في فئران معوزة بالغضاريف قد نمت وتكاثرت داخل العضوية، وتمايزت إلى نسيج غضروفي، في حين شكّلت الخلايا المزروعة في شروط الجاذبية الطبيعية 1g نسيجاً غير غضروفي احتوى عدداً قليلاً فقط من الخلايا.
وتعمل شركات بحثية رائدة مثل شركة BioTech على بلورة البروتينات في الجاذبية الصغرى لتحسين توصيل الأدوية، واختبار إنتاج مُخبر حيوي جديد لتحسين تقييم فعالية الدواء وسلامته. فعلى سبيل المثال إن العديد من أدوية السرطان، هي جزيئات بيولوجية كبيرة تكون ضمن محاليل مخففة يجب إعطاؤها من خلال التسريب الوريدي البطيء. ومع ذلك إذا أمكن صياغة الأدوية على شكل معلقات بلورية مركزة، فقد يكون من الممكن تقديمها كحقنة سريعة تحت الجلد، مما يفيد كثيراً راحة المرضى وتعافيهم. كما يمكن أن تؤدي نتائج البحث الذي أجرته شركة ميرك Merck - والذي جرى إطلاقه على متن المهمة الفضائية SpaceX CRS-10 في شباط/فبراير من عام 2017 - إلى تحسينات في عملية تنقية الأدوية وتخزينها.
وتعد محطة الفضاء الدولية منصة مثالية للعديد من تجارب البلورة، لأن الجاذبية الصغرى تمكن من نمو البلورات بشكل أكثر تنظيماً. ويرجع ذلك إلى تقليل القوى التي تحركها الجاذبية مثل الحمل الحراري والترسيب، والتي تؤدي -من خلال الخلط- إلى إنشاء تدرجات تنتج بلورات أقل ترتيباً. ومن خلال بلورة الأجسام المضادة العلاجية وحيدة النسيلة مثل Keytruda® في المحطة الفضائية يأمل باحثو ميرك في الحصول على فهم أفضل للمتغيرات التي تؤثر في نمو البلورات والتي يمكن تطبيقها على تطوير الأدوية وتصنيعها على الأرض. ويبين الشكل (4) أحد رواد الفضاء من الباحثين وهو يقوم بتجارب علمية على متن محطة الفضاء الدولية.
الشكل (4) رائد فضاء يقوم بتجربة في محطة الفضاء الدولية. |
مراجع للاستزادة: - E. Duan, M. Long, Life Science in Space: Experiments on Board the SJ-10 Recoverable Satellite, Springer, 2019. - G. Ruyters, C. Betzel, D. Grimm, Biotechnology in Space (SpringerBriefs in Space Life Sciences), Springer, 2017. - A. Webb, A. Hessel, The Genesis Machine: Our Quest to Rewrite Life in the Age of Synthetic Biology , Public Affairs, 2022. |
- التصنيف : الوراثة والتقانات الحيوية - النوع : الوراثة والتقانات الحيوية - المجلد : المجلد التاسع مشاركة :