تقانات الفضاء على الأرض (تطبيقات-)
تقانات فضاء علي ارض (تطبيقات)
Space technologies on earth -
تقانات الفضاء على الأرض (تطبيقات ـ)
محمد خالد شاهين
أهم تطبيقات تقانات الفضاء على الأرض
هيئات نقل التقانة الفضائية ومؤسساتها
يُستَخدم مصطلح تقانات الفضاء على الأرض space technologies on Earth، أو ما يُعرف أيضاً بنقل التقانة الفضائية space technology transfer للدلالة على مجمل النشاطات الموجهة نحو نقل التقانات الفضائية إلى ميادين إنتاجية و/أو خدمية أخرى، بهدف وضعها في خدمة الإنسان على الأرض.
ويُقصد بتقانات الفضاء عادة مراقبة الأرض بوساطة السواتل، والاتصالات الساتلية، والتحسّس من بُعد. وتعتمد تقانات كثيرة -مثل التنبؤ بالطقس، والتحسّس من بُعد، ومنظومات تحديد الموقع الشاملة، ومنظومات التلفزة الساتلية ومنظومات الاتصالات الساتلية، إضافةً إلى مجالات علمية أوسع، مثل علم الفلك وعلوم الأرض- على علوم الفضاء وتقاناته. وتدعم هذه التقانات منظومات اتخاذ القرار بتقديم معلومات في الزمن الحقيقي، ومعطيات متسلسلة زمنياً من أي موضع مركزي أو بعيد، كما أنها ضرورية في مراقبة تطور مؤشرات الأهداف الرئيسية.
وقد استخدمت إدارة الطيران والفضاء الوطنية (ناسا) National Aeronautics and Space Administration (NASA) الأمريكية مصطلح المستلهمات الفضائية space spin-offs للدلالة على المنتجات المتوافرة تجارياً (سواء أكانت منظومات أم إجرائيات أم خدمات) التي تجسد تقانة منشؤها ناسا، أو عوناً فنياً قدمته. وقد شاع استخدام هذا المصطلح لدى كثير من هيئات البحث والتطوير الأخرى العاملة في مجال الفضاء مثل وكالة الفضاء الأوربية (إيزا) European Space Agency (ESA) ، ووكالة الفضاء الإيطالية (آزي) Italian Space Agency (ASI) وغيرهما.
وعلى الرغم من شيوع استخدام كثير من تطبيقات التقانات الفضائية، مثل التنبؤ بالطقس والطب من بعد والتعليم من بعد وتحديد الموقع؛ تَعِد تقانات الفضاء - بالاشتراك مع تقانات المعلومات والاتصالات - بإمكانات جديدة غير محدودة لتحسين الحياة على الأرض.
كما توفر تقانات الفضاء منصة أشد إحكاماً لتحقيق إنجازات علمية، بما فيها بعض الأبحاث التي لا يمكن تنفيذها على الأرض؛ إذ توفر المحطة الفضائية الدولية بيئة تسهل الأبحاث والتجارب في الطب وعلم الحياة وعلم المواد والفيزياء الأساسية ومكافحة الحرائق والمناخ وفاعلية وقود المركبات وكثير من التطبيقات الأخرى.
جرى إرسال أول ساتل satellite إلى الفضاء في العام 1957، ووضع أول إنسان قدمه على سطح القمر في العام 1969، ومن ذلك الحين يتعاظم أثر التقانات الفضائية في الحياة اليومية للإنسان. ويمكن القول إن هذه التطبيقات قد غدت مع حلول القرن الحادي والعشرين شائعة وكثيرة ومتنوعة وضرورية.
من أكثر تطبيقات تقانات الفضاء على الأرض شيوعاً اليوم: معرفة الشخص لموقعه على الكوكب بفضل سواتل منظومة تحديد الموقع الشامل Global Positioning System (GPS)، ومعرفة الشخص للملابس والأغراض التي يتوجب حزمها من أجل رحلته اعتماداً على توقعات الطقس بفضل سواتل الطقس، ومشاهدة القنوات التلفزيونية المفضلة في قرية نائية بفضل سواتل البث التلفازي، إضافةً إلى الاستخدامات البيئية البالغة الأهمية للتقانات الفضائية في مجال إدارة الموارد الطبيعية، ومجال المراقبة البيئية. وتكشف المعطيات المتحسَّسة من بعد remote sensed عن مشاهد للأرض لا تضاهى من أجل المنظومات التي تتطلب مراقبات إجمالية أو دورية، مثل قيادة عمليات الجرد inventory، ومسح الأراضي والزراعة والتجارة وعلم المعادن وعلم المياه وعلوم الأرض واستخدام الأراضي وغطاء اليابسة والمراقبة البيئية. وقد ساهم تطور التحسّس من بعد في جعل المعطيات المتحسّسة ذات تكلفة معقولة، ومتاحة للدمج مع مصادر معطيات متنوعة لإنشاء مزيج mash-ups. يُعدّ دمج مصادر المعطيات هذه في فروع معرفية، مثل الزراعة وتخطيط المدن وتطبيقات الوب web ورسم الخرائط والمنظومات المرجعية الجيوديزية geodetic والمنظومات الساتلية للملاحة الشاملة تطوراً مهماً للتطبيقات الفضائية وعلم الفضاء.
وتجدر الإشارة إلى أن هيئة الأمم المتحدة -ومنذ فجر عصر الفضاء- قد أدركت قدرة التقانات المتعلقة بالفضاء على تحسين ظروف الإنسان عبر العالم؛ لذا فهي تنظم سنوياً أسبوع الفضاء العالمي world space week لتكريم مساهمات علوم الفضاء وتقاناته في تحسين حياة الإنسان. ولا تقتصر فوائد التقانات الفضائية على تحسين الظروف الحياتية على الأرض، بل تمتد إلى توسيع فهم الإنسان للفضاء، ولموقعه في الكون.
وشهدت السنوات الأخيرة ازدياد اهتمام كثير من الدول باستخدام التطبيقات الفضائية من أجل تحقيق أهداف التنمية المستدامة sustainable development.
وقد غدا استلهام التقانة الفضائية نموذجاً مقبولاً عالمياً بفضل الجهود الرائدة لناسا في سعيها إلى تحقيق عائد على استثماراتها الهائلة في البحث الفضائي في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، مع ملاحظة أن غالبية تلك التقانات جذورها موجودة على الأرض.
وبما أن استكشاف الفضاء هو عمل معقد وذو مخاطر، وأنه من الصعب إصلاح المعدات في الفضاء عند حدوث الأعطال كانت الموثوقية reliability متطلباً أساسياً في كل منظومة مركبة فضائية. وقد سعى المصممون الأوائل إلى استخدام مواد ومكنات مجربة وموثوقة في صنع المركبات الفضائية، وكان معظم تلك المواد مستلهماً من الصناعات الحربية بُعيد الحرب العالمية الثانية مباشرة، أي إن كثيراً من التقانات التي تعدّ لب المركبات الفضائية ومنظوماتها تعود جذورها إلى الأرض. لكن ما قامت به أبحاث الفضاء هو تطوير تلك التقانات وتحسينها إلى مستويات غير مسبوقة؛ وصولاً إلى تطبيقات مستلهمة تصلح للأرض.
لا يصعب إدراك سبب ملاءمة التقانات الفضائية للاحتياجات المعاصرة للإنسان؛ فالنهج المرشد لمصممي المركبات الفضائية كان منذ البدايات أسرع وأقل تكلفة وأخف وزناً، فكل كيلوغرام إضافي على وزن الساتل يتطلب عدة كيلوغرامات إضافية من وقود الصاروخ لإطلاقه. وقد كان لمهندسي الفضاء الفضل في إرساء بحوث ودراسات عن كيفية جعل الأشياء أصغر حجماً.
تمثل الحواسيب خير مثال على ذلك؛ إذ كان أوائل مستخدمي الحواسيب الإلكترونية راضين عن أجهزتهم التي كانت تَشْغل عدة غرف، ويعود الفضل جزئياً إلى الصناعة الفضائية في تحريض الحاجة إلى إنتاج حواسيب مستقلة self-contained وجبارة من حيث الأداء، وصغيرة الحجم، وخفيفة الوزن. وهذا ما قاد إلى تطوير الحواسيب الشخصية التي توجد اليوم على جميع الطاولات المكتبية. وفي الواقع سببت الحاجة إلى معالجة كميات هائلة من المعطيات تحدياً مستمراً للباحثين في مجال الفضاء، ومن المذهل أن غالبية اليافعين يملكون اليوم في منازلهم قدرة حاسوبية أكبر بكثير مما كان متوافراً لرائد الفضاء نيل أرمسترونغ Neil Armstrong في وحدة الهبوط القمرية التابعة لأبولو Apollo.
إن الاستلهام الفضائي هو إجرائية مستمرة التطور، وقد أظهر ذلك توسعاً في طيف استخدامات أبحاث الفضاء على الأرض. فاليوم تسهم تقانات مشتركة في مساعدة عالم الفلك على دراسة الكون باستخدام مقراب الفضاء هبل Hubble، وفي مساعدة عالم الأحياء على فهم أسرار الخلية البشرية. وكذلك تستخدم ذات المواد المطوّرة لحماية معدات القياس الفضائية من الحرارة العالية لمحركات صاروخ الإطلاق من أجل خفض مخاطر الحريق في تنجيد مقاعد المسارح، وتطول لائحة التطبيقات المتوافرة في دول العالم المتقدمة وتتنوع.
يمثل الازدهار الاقتصادي الهدف الأهم للإنسان في المجتمع الشامل الحالي، لكن ينبغي أن يكون الهدف الأسمى للعرق البشري الإبقاء على محيط حيوي biosphere صالح للعيش، ومن ثمَّ يجب بذل جهود منسقة ومحددة لتحسين نشاطات التنمية المستدامة في العقود القادمة.
ويواجه كوكب الأرض عدداً من التحديات الرئيسة، يُمكن أن تصبح أكثر تدميراً في العقود القادمة وتمتد المشاكل المهمّة التي يجب التصدي لها إلى المجال البيئي والتقاني والإنساني. وتُعدّ معضلة الاحتباس الحراري global warming -التي تشتمل على تراكم ثنائي أكسيد الكربون والميتان من جهة، واختفاء الغطاء الجليدي من جهة أخرى- من أخطر المشاكل. وقد أثبتت الدراسات الخاصة بالتغيرات المناخية أن النشاطات البشرية تتسبب بالاحتباس الحراري، وتوقعت أن ترتفع درجات الحرارة بمعدل قد يصل إلى 4 درجات سلزية في العقود القادمة، وارتفاع مستويات البحار بقرابة 40 سم، كما يمثل العجز الغذائي تحدياً خطيراً ربما لا يكون بالإمكان إيجاد حلول له في المستقبل المنظور. ويُعدّ ارتفاع أسعار الوقود والحبوب، إضافةً إلى التغيرات المناخية، والطلب المتزايد على الوقود الحيوي من العوامل المسببة لنقص الغذاء العالمي.
أهم تطبيقات تقانات الفضاء على الأرض
يمكن تصنيف تطبيقات تقانات الفضاء على الأرض في أبواب مختلفة، من أهمها:
1- حماية المحيطات، وتحسين الإدارة الشاملة للموارد المائية:
تطور علم المحيطات العملياتي بصورة ملحوظة في العقود الأربعة المنصرمة بفضل سواتل مراقبة المحيطات، ويقدم علم المحيطات العملياتي operational oceanography توقعات طويلة الأمد عن المحيطات باستخدام نماذج عددية تنفذ على حواسيب متقدمة، وتقوم بمحاكاة الحالة الفيزيائية والأحيائية للمحيطات وديناميتها اعتماداً على المعطيات التي تقدمها السواتل وأجهزة المراقبة والقياس في الموقع، مثل العوامات والزوارق الجوالة.
تقدم أجهزة قياس الارتفاع الرادارية على متن السواتل قياسات لارتفاع مستوى البحر الموضعي، وتسمح الفروقات بينها وبين المجسم الأرضي geoid الموضعي (الذي يكوّن السطح المرجعي المطلق، أو السطح متساوي الجهد equipotential لحقل الجاذبية الأرضي) بحساب الشذوذ في مستوى البحر، ومن ثمَّ حساب السمات topography الدينامية للمحيط.
كما توفر سواتل الملاحة، مثل منظومة تحديد الموقع الشامل (GPS) الموقع المطلق لسواتل مراقبة المحيطات؛ مما يسمح بتحويل المسافة بين الساتل وسطح الماء إلى قياس لشذوذ مستوى البحر مقارنة بالمجسم الأرضي.
وقد أطلق الاتحاد الأوربي بالتعاون مع وكالة الفضاء الأوربية إيزا ESA في العام 2006 مجموعة من النشاطات التي تعتمد على استخدام السواتل في خدمة البيئة والأمن المدني، وأُطلق على المبادرة اسم المراقبة الشاملة للبيئة والأمن. وقد وضع الاتحاد الأوربي بالتعاون مع وكالة الفضاء الأوربية برنامج كوبرنيكوس Copernicus program، وهو مكوّن لمراقبة الأرض من برنامج الفضاء للاتحاد الأوربي، ويهدف إلى مراقبة كوكب الأرض وبيئته لفائدة المواطنين الأوربيين. ويقدم خدمات معلومات مستخرجة من معطيات المراقبة الساتلية للأرض ومن معطيات الموضع in-situ. وهذا البرنامج هو برنامج مقود بالمستخدمين، وخدمات المعلومات التي يقدمها متاحة لكل المستخدمين، وهي سلطات عامة على الأغلب على أساس كامل ومفتوح ومجاني. ويعتمد برنامج كوبرنيكوس على سواتل مخصصة (مثل مهمات سنتينل Sentinel) ومجموعة من مهمات مساهمة إضافية (سواتل تُشَغلها وكالات وطنية وتجارية). ومنذ إطلاق أول السواتل سنتينل-1إيه Sentinel-1A في عام 2014 وضع الاتحاد الأوربي إجرائية لوضع قرابة 20 ساتلاً في المدار قبل عام 2030. ويُشار إلى أن آخر جيل من سواتل سنتينل جرى إطلاقه هو سنتينل 6 الذي جرى إطلاقه في عام 2020. وتستكمل هذه المعطيات الساتلية وتقر صلاحيتها اعتماداً على معطيات في الموقع. ويعول على هذا الساتل الذي يحمل قائس ارتفاع رادارياً بوسيدون-4 ،Poseidon-4 ومقياس إشعاع مِكروياً، في مراقبة المتوسط الشامل لارتفاع مستوى البحر الناجم عن التغيرات المناخية.
كما تقوم إدارة الطيران والفضاء الوطنية (ناسا) الأمريكية بالتعاون مع إدارة الغلاف الجوي والمحيطات National Oceanic and Atmospheric Administration (NOAA) الأمريكية بتطوير سواتل وأدوات معالجة أرضية جديدة بهدف بناء شبكة علم محيطات عملياتي مكينة. وتخطط الصين أيضاً لوضع سواتل على المدار تحمل مقاييس ارتفاع رادارية أيضاً.
تُعدّ المعلومات عن كمية الموارد المائية وإتاحيتها وجودتها مكوّناً مهمّاً في إدارة الموارد المائية، ويمكن استخدام التقانات الفضائية، مثل الاستشعار من بعد، ومسوحات منظومة المعلومات الجغرافية Geographic Information System (GIS) من أجل قياس كمية الموارد المائية، ووضع خرائط هذه الموارد بوصفها تابعاً للزمن وللتغيرات المناخية من أجل منظومات اتخاذ القرار.
كما أطلقت وكالة الفضاء الأوربية في عام 2009 المهمة الفضائية (إس إم أو إس) Soil Moisture and Ocean Salinity (SMOS) من أجل مراقبة رطوبة التربة على امتداد اليابسة، والملوحة في المحيطات؛ إذ ثمة حاجة ملحة إلى معطيات عن رطوبة التربة من أجل الدراسات الهدرولوجية hydrological، وإلى معطيات عن ملوحة المحيطات من أجل تحسين فهم نماذج حركة المحيطات. كما أن لهذين الموسطين الجيوفيزيائيين أهمية بالغة في تحسين التنبؤات المناخية وزيادة فهم دورة الماء؛ مما يوفر معرفة أفضل بظاهرة التغيرات المناخية، ومراقبة احتياطي الأرض من الماء العذب. وتستخدم هذه المهمة ساتلاً على مدار متزامن مع الشمس sun-synchronous على ارتفاع 755 كم عن سطح الأرض، وبزمن إعادة معاينة revisit time قدره 3 أيام (وهو الزمن الفاصل بين تغطية الساتل لموضع معين على الأرض والتغطية اللاحقة). ويقوم الساتل بقياس الضجيح الحراري الذي تولّده الأرض في المجال الترددي "إل" L-band (عند التردد 1.4 غيغاهرتز)، بميْز فضائي spatial resolution قدره 50 كم، وحساسية قياس إشعاع قدرها 3.5 كلفن لكل لقطة فوتوغرافية snapshot وفق محور الإشعاع الأعظمي boresight.
2- تطبيقات الطب من بعد:
يسمح الطب من بعد telemedicine بنقل الخبرات الطبية المتوافرة في المشافي التخصصية المدنية إلى المشافي الريفية والنائية، وإلى المشافي الميدانية والنقاط الطبية البحرية بوساطة دمج تقانات المعلومات والاتصالات مع العلوم الطبية. ولا تعاني البلدان النامية ضعفاً في البنية التحتية ونقصاً في المرافق فحسب، بل ينطبق ذلك على البلدان المتطورة، وتتباين درجة إمكان النفاذ إلى هذه الخدمات والقدرة على تحمل تكاليفها من مكان إلى آخر. ويؤسس الطب من بعد نوعاً جديداً من العلاقة بين المشافي الصغيرة والكبيرة، وكذلك بين المرضى والمشافي الكبيرة التخصصية للإفادة من مواردها بوساطة الاستشارات من بعد، والتشخيص من بعد، والمراقبة من بعد. كما يشغل الطب من بعد وشبكاته موقعاً حيوياً في حالات الكوارث والحروب، وتؤدي منظومات الاتصالات الساتلية عريضة المجال دوراً رئيساً في منظومات الطب من بعد.
لقد حققت التقانات الطبية تطوراً هائلاً في العقود المنصرمة بفضل التقدم في مجالات العلوم الأخرى من تقانات الليزر إلى هندسة المواد، مروراً بمضخات الإنسولين insulin pumps، وأجهزة التصوير بالأشعة السينية المحمولة، والأدوات الجراحية المجهرية، ومعينات القلب القابلة للزرع، وغير ذلك من التقنيات التي طُورت أساساً من أجل الفضاء. فالبقاء في الفضاء ليس بالأمر السهل؛ إذ إن البيئة الفضائية مكان عدائي جداً؛ مما يستلزم الكثير من التحضير والإجرائيات من أجل حماية الجسم البشري الهش من بيئتها القاسية. فالفضاء هو مكان التغيرات القصوى والشديدة، إضافةً إلى الاعتبارات الأخرى، ومنها الجاذبية المصغرة ،micro-gravity والفراغ الفضائي، وإمكان التعرض لكائنات حية مؤذية، وخطر الغبار والنفايات والنيازك الصغيرة.
إن بقاء رواد الفضاء على متن محطة الفضاء الدولية مدة تتجاوز ستة أشهر، وكذلك الأمر فيما يخص المشاريع المنظورة من إنشاء قواعد على القمر والرحلة إلى المريخ يرفع التحدي من البقاء surviving إلى النماء thriving في الفضاء. وبما أن المشاكل الفيزيولوجية التي يبتلى بها رواد الفضاء ليست بشديدة الاختلاف عن الأمراض والاضطرابات التي تصيب البشر على الأرض تجد الأبحاث الجارية في الطب الفضائي لنفسها تطبيقات مهمّة في الطب على الأرض.
فعلى سبيل المثال: شملت المستلهمات من البزَّات الفضائية spacesuits التي صُممت لرواد الفضاء طيفاً واسعاً من منتجات الرعاية الطبية والسلامة، بدءاً من إجرائيات تصنيع دوائية أكثر فاعلية إلى الأقنعة الواقية من الغازات. وقد حققت البزَّات المبرَّدة المصنَّعة بحسب الطلب -والتي اشتُقت من البزَّات الفضائية- تحسينات هائلة في المؤشرات الحيوية لمرضى الشلل الدماغي cerebral palsy على سبيل المثال وذلك بتدوير circulating مبرد عبر أنابيب لخفض درجة حرارة جسم المريض. كما جرت مواءمة مواد البزَّات الفضائية التي توفر الحماية من الحرارة لصنع بزَّات حرارية لحماية السائقين في حلبات سباق السيارات من حرارة المحرك.
كما أثبتت تقانات مراقبة الهواء في المركبات الفضائية فائدتها في الحياة اليومية على الأرض؛ إذ جرت مواءمة محلِّلات الغاز gas analysers المصممة لمراقبة تركيب الغاز الجوي على متن محطة الفضاء الدولية مع غرف العمليات الجراحية من أجل تحليل غازات التخدير والهواء لضمان مزيج ملائم للمرضى. وفي مجال السلامة استفاد مكافحو الحرائق من خزانات الهواء الأخف وزناً، والمستلهمة من منظومات دعم الحياة المحمولة في المركبات الفضائية، والتي تنذر مستخدميها عند قرب نفاد الهواء فيها. كما استلهمت تقانات تنقية الهواء التي طورتها وكالة الفضاء الأوربية لمصلحة القطاع الصحي؛ إذ جرت مواءمة منظومة التنقية بالبلازما -التي صُممت للمحافظة على المحطات الفضائية خالية من الملوثات- للقضاء على 99.9% من المتعضيات المجهرية microorganisms المنقولة جواً، كالفطور والبكتريا في غرف المشافي للمرضى ضعيفي المناعة.
وتستخدم المعلومات المحصلة بفضل تقانات التحسّس من بعد في مراقبة أنماط الأمراض، وفهم الحوافز البيئية لانتشار الأوبئة، وتوقع مناطق المخاطر، وتحديد المناطق التي تتطلب تخطيط تحكم بالأوبئة. ففي سياق وباء فيروس كورونا الذي بدأ انتشاره في عام 2019، تمكنت مؤسسات عديدة من نشر معلومات عن الإصابات المؤكدة والوفيات بفضل معطيات منظومة المعلومات الجغرافية التي كانت مفيدة للدراسات الوبائية للفيروس.
3- النفاذ إلى الاتصالات:
إن النفاذ إلى الشبكات الأرضية محدود أو أحياناً غير متوافر في أجزاء كثيرة من العالم، وخاصة في المناطق ذات الكثافة السكانية المنخفضة أو المناطق النائية. وبمقدور التقانات الفضائية تسليم خدمات عريضة المجال في تلك المناطق إما بصورة مستقلة، وإما بالاشتراك مع تقانات أخرى.
تُعدّ الاتصالات الساتلية satellite communications التقانة الفضائية التجارية الفعلية الوحيدة، وتؤدي هذه المنظومات دوراً حيوياً في قطاعات عديدة، منها الاتصالات المدنية والعسكرية والبث الإذاعي والتلفازي. ويمكن للشبكة الساتلية توفير مسار إضافي أو احتياطي أو كذلك مسار خاص من أجل وصلة شابكة (إنترنت) internet موثوقة ومحمولة (في أي وقت، وفي أي مكان)، ولهذه الشبكات فوائد جمة فهي رديفة للشبكات الأرضية، وأحياناً بديلة عنها في حال الكوارث، وقد جرت مكاملة الشبكات الساتلية مع الشبكات الأرضية في شبكات الجيل القادم، كما أنها مكوّن أساسي في شبكات اكتشاف الفضاء العميق.
وقد استفادت منظومات الاتصالات الأرضية وشبكاتها وتجهيزاتها أيضاً من التقانات التي طُورت أساساً من أجل المنظومات الفضائية؛ فاستخدام البنى القابلة للنفخ inflatable في البيئة الفضائية نجح في خفض الوزن بقرابة 50%، والحجم بقرابة 75% مقارنة بالعواكس القطعية المكافئة parabolic، ويُعد هذان العاملان حيويَّين في تصميم المهمات الفضائية. وقد أمكنت مواءمة هذه البنى القابلة للنفخ في صنع هوائي أرضي ملائم للاتصالات الساتلية المباشرة land-based ومنخفض التكلفة، وقابل لإعادة الاستخدام، وقابل للنقل. ويتوفر هذا النوع من الهوائيات بأحجام مختلفة لتشغيلها في طيف واسع من الترددات؛ مما يجعلها ملائمة لتطبيقات متعددة، مثل الاتصالات العسكرية النقالة، واتصالات الاستجابة إلى الطوارئ، والتعليم من بعد، والطب من بعد وغيرها.
4- مراقبة الكوارث وتقييم الأضرار:
يُعدّ الاستشعار الفضائي من بعد space remote sensing تقانة مستمرة التطور، تقدم مساعدة قيّمة إلى أصحاب القرار على النطاق المحلي والإقليمي والشامل. ويوجد حالياً عدد كبير من سواتل الاستشعار من بعد، تراوح من المهمات الشاملة العلمية والعالية الدقة والمتعددة الأغراض إلى المهمات محلية التوجه والمخصصة والصغيرة. وقد شاع استخدام تطبيقات حديثة تعتمد في عملها على المعلومات الجغرافية التي توفرها سواتل الاستشعار من بعد.
وقد غدت الكوارث بفعل الطبيعة أو بفعل الإنسان في السنوات الأخيرة أحد مصادر القلق المهمة للإدارات، وتعد إدارة الكوارث في الوقت الراهن إحدى الأولويات للإدارات والمواطنين على حد سواء. وتنجم الخسائر البشرية والاقتصادية والبيئية عادةً عن الزلازل وحرائق البراري والتسربات النفطية وغيرها من الكوارث. ويُسهم الاستشعار الفضائي من بعد - بوصفه أداة شاملة ودقيقة ومتاحة لصانعي القرار- في حماية المدنيِّين في المناطق المعرضة للخطر، بفضل الإنذار المبكر والدقيق والمتابعة، ثم التعافي من الآثار الضارة. وقد سمحت التحسينات في التقانات الفضائية من جهة، والاستراتيجيات المناسبة من جهة أخرى ببناء خدمات بالزمن الحقيقي لإدارة الكوارث وتقييم الأضرار. ويمثّل تردد إعادة المعاينة الساتلي عنق الزجاجة في الإجرائية. وتتوفر منظومات للكشف عن حرائق الغابات ومراقبتها اعتماداً على معطيات الأشعة تحت الحمراء التي تقدمها السواتل الثابتة بالنسبة إلى الأرض geostationary، أو السواتل القطبية.
5- الغذاء والزراعة:
يمكن للتقانات الفضائية أن تكون حيوية للإبداع الزراعي والزراعة الحديثة والزراعة الدقيقة؛ فالتقانات المعتمدة على الفضاء ذات قيمة للمزارعين وخبراء الزراعة وصناع الأغذية وواضعي السياسات الزراعية الراغبين بتحسين الإنتاج والربح بآنٍ واحدٍ؛ إذ تقدم سواتل التحسّس من بعد معطيات مهمّة لمراقبة التربة، والغطاء الثلجي، والجفاف، ونمو المحاصيل. فعلى سبيل المثال: تسهم تقييمات معطيات الهطولات المطرية المأخوذة من السواتل بمساعدة المزارعين على تخطيط توقيت الري اللازم للمحاصيل وكميته، كما تساعد المعلومات المضبوطة والتحليل الدقيق على التنبؤ بالإنتاج الزراعي لمنطقة مقدماً، ويمكن أن تكون حيوية لتوقع آثار نقص الغذاء والمجاعات وتخفيفها. فعلى سبيل المثال: يقدم برنامج سواتل مراقبة الأرض رادارسات Radarsat في كندا معطيات لدعم المزارعين في تقييم ملوحة الأرض واحتياجات الري.
6- إدارة الموارد الطبيعية والبيئة:
شهدت العقود الأخيرة نمواً هائلاً في متاحية المعطيات والإشارات الساتلية الناجمة عن مراقبة الأرض. وبحسب وكالة الفضاء الأوربية فقد جرى إطلاق قرابة 1460 ساتلاً لمراقبة الأرض في العقدين الأخيرين. ويمكن للسواتل أن تشغل من قبل حكومات وطنية أو وكالات متعددة الجنسيات أو شركات خاصة أو جامعات ومعاهد بحوث. وتُقدم معظم الصور والمعطيات الساتلية التي تملكها الحكومات والوكالات متعددة الجنسيات مجاناً للمستخدمين حول العالم.
ومراقبة الأرض أداة ضرورية لإدارة الموارد الطبيعية والبيئة، وهي مناسبة جداً لمراقبة أهداف التنمية المستدامة وتحقيقها. وتقدم معلومات تدعم إدارة الإنتاج الزراعي والمزارع السمكية والمياه العذبة والغابات. كما يمكنها المساعدة على مراقبة النشاطات التي تؤذي البيئة؛ مثل قطع الأشجار والتعدين والصيد غير المشروع والحرائق. فعلى سبيل المثال: تستخدم أستراليا المراقبات الساتلية لمراقبة ظروف الجفاف، وتحويل المياه غير المشروع. كما يمكن استخدام معطيات مراقبة الأرض من السواتل لتجاوز تحديات مختلفة، مثل إدارة المياه وتلوث الهواء والحفاظ على الثروة الحراجية.
وإضافةً إلى التطبيقات المذكورة أعلاه يمكن استخدام مشاهدة الأرض لمراقبة الظروف البيئية الخاصة ببلد معين والتحديات المرتبطة، مثل مراقبة الثلج والجليد والكتل الجليدية.
7- تطبيقات أخرى:
ثمة تقانات أخرى كثيرة صُممت من أجل المهمات الفضائية، وجرت مواءمة بعضها من أجل تطبيقها على الأرض، وستجري مواءمة ما تبقى وما سيظهر تباعاً، وذلك في مجالات عديدة، منها التغذية؛ حيث يجري إنتاج مركبين استخدمهما رواد الفضاء هما lifeDHA المكون من حمض أوميغا 3 الدهني، وlifeARA الذي يحتوي على حمض أوميغا 6 الدهني، وإضافتهما إلى تركيبات أغذية الرضع؛ لما لهما من تاثير في تطور ذكاء الطفل وبصره. وكذلك في أغذية الحمية وتعبئة الطعام وحفظه، وتنمية النباتات باستخدام الزراعة المائية hydroponics بديلاً من التربة، ومنظومات تنقية المياه، ومنظومات التعرّف identification إلى الأجسام، وأجهزة الإنارة الساطعة، ورص النفايات وإحكامها، والألياف الصادة للحريق fire blocking fibres، ومنظومات تنظيف التسربات النفطية، ومنظومات الرعاية الطبية، وغيرها.
هيئات نقل التقانة الفضائية ومؤسساتها
سعت ناسا منذ بداياتها إلى ضمان تطبيق نشاطات البحث والتطوير لديها على نطاق أوسع من مجال الرحلات الفضائية. وقد تطورت شبكة نقل التقانة التجارية على مر السنين لتصبح مصدراً للمعلومات التقنية والعلمية. وتشمل الشبكة عشرة مكاتب تقانة تجارية في كل مركز لناسا تعمل بصورة وثيقة مع مركز نقل التقانة الوطني National Technology Transfer Center في مدينة ويلينغ Wheeling بولاية فرجينيا الغربية الأمريكية، والمراكز الإقليمية التابعة له، وحاضنات incubators ناسا التقانية، وبرامج الأعمال الصغيرة الأخرى، مثل برنامج ناسا للبحث الإبداعي للأعمال الصغيرة Small Business Innovation Research (SBIR)، وبرنامج ناسا لنقل التقانة للأعمال الصغيرة Small Business Technology Transfer (STTR)، واتحاد المخابر الفدرالي Federal Laboratory Consortium (FLC)، والاتحاد الوطني للهندسة الروبوتية National Robotics Engineering Consortium (NREC)، وعلى سبيل المثال تشير التقديرات استناداً إلى قاعدة معطيات مستلهمات ناسا إلى وجود 16 مستلهماً سنوياً من مهمات الاستكشاف الفضائي فقط.
ومنذ ثلاثة عقود من الزمن تؤدي وكالة الفضاء الأوربية دوراً متميزاً في نقل التقانة الفضائية إلى الصناعة الأوربية بوساطة برامج الاستلهام الخاصة بها والقائمة على برامج البحث العلمي المكثفة في مجال مراقبة الأرض والاتصالات الفضائية. ويُقدر عدد المستلهمات من مهمات الاستكشاف الفضائي لوكالة الفضاء الأوربية بثلاثة مستلهمات سنوياً.
ثمة مستلهمات أيضاً من برامج البحث والتطوير العائدة إلى وكالة استكشاف الفضاء اليابانية Japan Aerospace Exploration Agency (JAXA)، في مجال البيئة والأمن والرعاية الصحية والرفاهية الاجتماعية.
كما تمتلك منظمة أبحاث الفضاء الهندية Indian Space Research Organization (ISRO)، ووكالة الفضاء الفدرالية الروسية Roscosmos، وإدارة الفضاء الوطنية الصينية Chinese National Space administration (CNSA) ، وغيرها من وكالات الفضاء الوطنية ومراكز الأبحاث الفضائية برامج لنقل التقانات الفضائية إلى الأرض.
الأبحاث والدراسات المستقبلية
تقوم وكالات الفضاء ومراكز الأبحاث ذات الصلة بتطوير برامج لاستكشاف الفضاء، مع الأخذ بالحسبان إمكان الاستفادة منها في تحقيق تقانات مستلهمة تعود بالنفع على سكان الأرض. وقد أُعطيت الأولوية إلى المجالات التي تطرح تحديات كبيرة على الأرض، مثل الطاقات المتجددة من أجل الحد من التغيرات المناخية الشاملة global change، والرعاية الصحية ولاسيما مسألة التقدم في السن، والمعينات المختلفة للإنسان، وإمدادات المياه وإعادة استخدامها، وإمدادات الطاقة، والمنظومات الروبوتية المرنة والمستقلة.
كما أقرت دراسات حديثة قدرات دمج التصوير الساتلي بتعلّم الآلة على التنبؤ بالفقر باستخدام المعطيات العامة وغير الامتلاكية؛ إذ يمكن للشبكات العصبونية التلافيفية convolutional بالاشتراك مع التصوير الساتلي عالي الميْز مساعدة الدول النامية على تقدير مدى الفقر في المناطق الحضرية، بما في ذلك نسبة السكان الحضريين الذين يعيشون في الأحياء الفقيرة والأحياء العشوائية، ومدى توفر الخدمات الأساسية والبنية التحتية.
مراجع للاستزادة: - V . Hessel et al., In Space Manufacturing and Resources: Earth and Planetary Exploration Applications, Wiley, 2022. - D. Nandi et al., Application of Space Technology in Natural Resource Management, Om Publications, 2020. - M. Razani, Commercial Space Technologies and Applications, CRC Press, 2020. - R. B. Rustamov, Geographic Information Systems in Geospatial Intelligence, IntechOpen, 2020. |
- التصنيف : تقانات الفضاء والفلك - النوع : تقانات الفضاء والفلك - المجلد : المجلد التاسع مشاركة :