تشكل شعب
Phylogeny -

 تشكل الشعب

تشكل الشعب

محمد مجاهد البطل

أنماط عمليات التطور

طرائق دراسة تشكل الشُعَب

أنماط تشكل الشُعَب

الاتجاهات الرئيسية لتطور الشعب

 

تشكل الشعب (الفيلوجيني) phylogeny هو دراسة اشتقاق زمر الكائنات الحية المختلفة بعضها من بعض اعتماداً على الشكل والبنية التشريحية والوراثية وتغيرها عبر الزمن، ومن ثم معرفة علاقات القرابة بينها ووضع النتائج بشكل الشجرة بما يشبه شجرة النسب أو شجرة العائلة. هذا يعني أن الموضوع يتعلق بالتطور evolution، الأمر الذي يتطلب تعرف آليات التطور والتبدلات الزمنية المتعاقبة التي تؤدي إلى ظهور شيء جديد، وفيما يلي عرض سريع له. كان العالم بونيه Ch.Bonnet أول من استخدم مصطلح التطور هذا عام 1762 للتعبير عن التغيرات التي تطرأ على الأجنة، لكن تَوَسَّع مفهوم التطور الحيوي فيما بعد ليشمل التغيرات التي تطرأ على الكائنات الحية والنظم الحيوية biosystems، وهو يستند إلى صفة التكاثر التي تميز الكائنات الحية.

التطور الحيوي هو النمو الزمني الموجه غير العَكوس للطبيعة الحية والذي يرافقه تغير التركيب الوراثي للجماعة population وتكيفاتها مع الظروف الجديدة، ونشوء أنواع جديدة، وانقراض أنواع قديمة، وتَغَيُّر النظم البيئية ecosystems.

أنماط عمليات التطور

تعتمد دراسة عمليات التطور على مبدأين أساسيين: مبدأ الواقعية actualism، ويَنُصُّ على أن معرفة العالَم الحي الحالي هو مفتاح دراسة العالَم الحي القديم، وعلى مبدأ التاريخية historism الذي يَنُصّ على أن معرفة العالَم الحي القديم مفتاح لدراسة العالَم الحي الحالي.

تقسم عمليات التطور إلى نمطين أساسيين:

أ- النمط الأول هو التطور الصغير (المكروي) microevolution: وهو عمليات التطور التي تجري ضمن النوع خلال فترات قصيرة نسبياً، ويمكن أن تخضع للتجارب الإنسانية، وتؤدي إلى تشكل المَرتَبات التصنيفية الأدنى من النوع (العرق race والصنفvariety والنويع sub-species)، ثم النوع species الجديد.

تُستخدَم في دراسة التطور الصغير طرائق دراسة الجماعات، مثل التجارب الوراثية كالتهجين، أو بيئية مثل التجارب حول دور لون الجسم عند الحشرات في الصراع من أجل البقاء بفعل الاصطفاء الطبيعي، وكذلك تحليل التجارب الطبيعية، وهي التغيرات ضمن النوع التي تجري في الوقت الحالي في الطبيعة وتُوَضِّح الدور الأساسي للاصطفاء الطبيعي في نشوء الصفات والخصائص الجديدة، مثل ظاهرة الاسوِداد الصناعي industrial melanism للفراشات في بريطانيا.

ب- النمط الثاني هو التطور الكبير macroevolution: وهو عمليات التطور التي تجري على مستوى أعلى من مستوى النوع species خلال فترات طويلة جداً تُقَدَّر بملايين السنين، وبالتالي لا يمكن أن تخضع لتجارب الإنسان، وهو يؤدي إلى نشوء المجموعات التصنيفية الأعلى من النوع، وهي الجنس genus والفصيلة family والرتبة order والصف class والشعبة phylum، لذلك يسمى تَشَكُّل الشُعَب (أو نشوءها) phylogeny (أو phylogenesis).

طرائق دراسة تشكل الشُعَب

تُستعمَل في دراسة تشكل الشُعَب طرائق العلوم التالية:

أ- طرائق المستحاثات: وتشمل جمع المستحاثات ودراستها واستبعاث ملامح الأشكال القديمة والأوساط التي عاشت فيها وتوزعها الجغرافي وتحليل العناصر ذات المنشأ الحيوي، وكذلك دراسة الأشكال الانتقالية للحفريات (المستحاثات) وصفوفها وتعاقب أشكالها في الطبقات الرسوبية، مما يُمَكِّن من معرفة كيفية نشوء المجموعة الحديثة المتطورة أكثر من المجموعة القديمة.

ب- طرائق التشريح المقارن: وتتضمن تحديد درجة القرابة بين الأشكال المدروسة استناداً إلى تشابهها في البنية الداخلية والشكل الخارجي، وبالتالي يمكن ربط الأشكال القديمة بالحديثة باستعمال مبدأي تَقابُل الأعضاء وارتباط بعضها ببعض، وكذلك دراسة الأعضاء المتقابلة والأعضاء الضامرة والأعضاء المُرتَدَّة والصفوف التشريحية المقارنة.

ج- طرائق علم الجنين المقارِن: وهي تعتمد على دراسة المراحل الجنينية المبكرة لمتعضيات مختلفة تنتمي إلى مجموعة تصنيفية واحدة، وذلك لتحديد الصفات السَلَفِيَّة التي تختفي في المراحل المتأخرة من التشكل الجنيني، وبالتالي إظهار التشابه الجنيني لمتعضيات المجموعة الواحدة ودراسة التلخيص الجنيني للتطور النوعي؛ لأن الحيوان يُرَدِّد خلال تشكله الجنيني كثيراً من الصفات الممَيِّزَة للأسلاف.

د- طرائق الكيمياء الحيوية والجزيئية: وتتضمن تحديد نقاط التشابه والاختلاف الجزيئي بين الكائنات الحية، مثل تحديد درجة الانتماء النوعي بالاستعانة بخرائط الرَحَلان الكهربائي electrophoresis للبروتينات، وكذلك اختبارات المناعة التي تُعَيِّن مدى تشابه البروتينات النوعية، والتهجين الجزيئي لمقارنة الحمض الريبي النووي المنقوص الأكسجين (الدنا) Deoxyribonucleic Acid (DNA) عند الكائنات الحية المختلفة.

هـ- طرائق الجغرافية الحيوية: وتعتمد على أن دراسة التوزع الجغرافي الحالي للحيوانات يساعد على استِبعاث توزع المجموعات القديمة وازدهارها وانقراضها.

و- طرائق دراسة الطفيليات: وتستند إلى دراسة الوحدة التطورية للطفيلي ومضيفه وتَرافُق تطورهما، مما يسمح بتحديد اتجاهاتهما التطورية.

ز- طرائق السلوك: وهي تسمح بدراسة سلوك الحيوانات لتحديد درجة القرابة بين المجموعات استناداً إلى التقابل الوراثي للسلوك الشرطي.

ح- الطرائق الفيزيولوجية: وتعتمد -لتعيين صلة القرابة بين المجموعات- على مقارنة الصفات الفيزيولوجية، مثل الاستقلاب (الأيض) metabolism، وتبادُل المواد والطاقة مع الوسط.

أنماط تشكل الشُعَب

يمكن أن تنشأ الشُعَب نتيجة للتغير المتصل المستمر التدريجي، الذي يُحَوِّل المجموعة القديمة إلى مجموعة جديدة في أثناء التطور المستقيم (التشكل المستقيم) orthogenesis بفعل التغير التدريجي للظروف، أو نشوء المجموعات نتيجة انقسام المجموعة القديمة في أثناء التطور المتشعب أو المُتباعِد divergence، أو النشوء المتشعب بفعل تَغَيُّر عمل الاصطفاء في الظروف المختلفة. إضافة إلى هذين النمطين الأساسيين لتطور الشُعَب يوجد نمطان ثانويان للنشوء المستقيم هما التوازي parallelism والتقارب convergence.

أ- التشكل المستقيم: هو عملية تجري في أثناء تطور جذع شجرة الحياة وفروعها، وتؤدي إلى تغير متصل تدريجي للوحدة التصنيفية الأصلية وتَحَوُّلِها إلى وحدة تصنيفية جديدة. ويتألف تطور المجموعة من تراكم تَغَيّرات الأنواع المُنتَمِيَة إليها بشرط ألا تكون ذات قرابة وثيقة.

ويقدم علم المستحاثات أمثلة واضحة على التطور المستقيم، أشهرها تطور الخيليات Equidae (الشكل 1) الذي يُلَخَّص بالخط التطوري كما يلي:

الشكل (1) شجرة تطور الحصان.

تجدر الإشارة إلى أن الحصان الحالي الذي نشأ وتطور في أمريكا الشمالية قد انطفأ في موطنه الأصلي في الدور الرباعي بعد أن هاجرت بعض أفراده إلى آسيا وأوربا وإفريقيا، حيث انتشرت وازدهرت حتى الوقت الحالي. أما الخيول الموجودة حالياً في أمريكا فقد أدخلها المهاجرون الأوربيون في أثناء استعمارهم للعالَم الجديد، وبذلك عادت الخيل إلى موطنها الأصلي بفضل الإنسان.

وأهم التبدلات التي حدثت خلال تطور الخيليات هي ازدياد القَد من حجم الثعلب إلى الحجم الحالي، وتَطَوُّر الأطراف تَكَيُّفاً مع الجري السريع، وذلك بنمو الإصبع الوسطى وعظام رسغها وضمور الأصابع الجانبية مع عظام رسغها، وتبدل الأسنان تكيفاً مع النظام الغذائي العشبي وذلك بضمور الأنياب ونمو القواطع وتضخم الرحى وتعقدها، ونمو القحف الحشوي splanchnocranium مقارنة بالقحف العصبي neurocranium؛ مما أدى إلى تطاول الوجه.

ب- التطور المتشعب divergence: هو انقسام الوحدة التصنيفية القديمة إلى مجموعتين جديدتين نتيجة تَغَيُّر تأثير الاصطفاء في الظروف المختلفة، مما يؤدي إلى تباعد الفروع الناشئة من جذع الأسلاف الواحد في شجرة النَسَب، وهو الطريق الرئيسي لنشوء التنوع الحيوي وارتفاع «مجموع الحياة» (الشكل 2).

الشكل (2) تمثيل لبعض أنماط تطور المجموعات:

أ. الشعب، ب. التوازي المتواقت، ج . التقارب المتواقت، د. التقارب غير المتواقت

ويبدأ التشعب بنشوء الاختلافات في صفات الجماعة الأصلية وتَعَمّقها، مما يؤدي إلى تشعب النوع وتشكل أنواع جديدة، ويصبح تَشَعُّب النوع أساساً لتشعب المجموعة نتيجة تراكم التغيرات والاختلافات بفعل عوامل التطور، وتصبح الأنواع الجديدة مُنطَلَقاً لأجناس جديدة، وهذه بدورها تكون بدايةً لتشكل فصائل جديدة ثم رتب جديدة. وأبسط مثال على التطور المتشعب على مستوى الشعبة هو نشوء صَفَّي الثدييات والطيور من الزواحف القديمة. لقد انحدرت الثدييات من الزواحف الثديية Therapsida (الزواحف الشبيهة بالثدييات mammal-like reptiles) التي ظهرت في أواخر البِرمي من حقب الحياة القديمة، وعاشت في الترياسي من حقب الحياة المتوسطة. وجرى تطورها المتشعب في فرعين مستقلين، الأول: أعطى الثدييات الأوالي Prototheria في الجوراسي، وهي ثدييات بَيوضَةٌ متل أسلافها، وبقي منها حتى الوقت الحالي الثدييات وحيدة الثقب Monotremata التي تُرضِع صغارها بعد فقس البيوض، مثل طيري المنقار Ornithorhynchus المكسو جسمه بالشعر، وقنفذ النمل Echidna. أما الفرع الثاني فقد أعطى الثدييات الولودة المسماة Pantotheria التي تشعبت في الكريتاسي إلى فرعين: الأول هو الثدييات التوالي Metatheria (الجرابيات Marsupialia) الحالية، وهي ذات مشيمة placenta ابتدائية، وتلد صغارها ناقصة التشكل الجنيني وتحضنها وترضعها في الجيب البطني لتتابع نموها، والفرع الثاني أعطى الثدييات الحقيقية Eutheria (المشيميات Placentata) ذات المشيمة المتطورة التي تلد صغارها كاملة التشكل الجنيني (الشكل 3)، وأهم صفاتها الأخرى: الجسم المغطى بالشعر، ودرجة حرارته الثابتة، وتشكل العظم السني، وتمايز الأسنان إلى قواطع وأنياب وأرحية، وتطور الأطراف بما يلائم الوقوف والمشي والركض على اليابسة.

الشكل (3)

شجرة نسب الثدييات تبين التطور المتشعب لرتبها الثلاث (من اليسار إلى اليمين) الثدييات وحيدة الثقب، الجرابيات، الثدييات الحقيقية.

ويجري التشعب بتأثير الاصطفاء الفِئَوي الذي يؤدي إلى بقاء أنواع أو أجناس أو فصائل أو حذفها. ولكن الاصطفاء الفئوي يعتمد على اصطفاء الأفراد في الجماعة.

وعلى الرغم من التشابه المبدئي لعمليات التشعب ضمن النوع -الذي يسمى التطور الصغير، وضمن المجموعة يسمى التطور الكبير- فهما مختلفان جداً: فالأول غير نهائي وعَكوس بسبب إمكان أن تتوحد الجماعتان المتباعِدَتان بالتهجين، أما الثاني فهو نهائي وغير عَكوس، ولا يمكن أن يَتَوَحَّد النوعان أو الجنسان الجديدان المتباعدان من جديد بسبب حاجز العقم الجنسي.

ج- التطور المتوازي: هو تطور مستقيم وفق اتجاه متشابه لاثنتين أو أكثر من المجموعات ذات صلات القرابة والمتشعبة تطورياً من سلف مشترك. ويظهر التوازي في شكلين:

- التوازي المتواقت synchronic: وهو اكتساب الصفات المتشابهة في المجموعات ذات الأصل المشترك والتي تعيش في الزمان نفسه، مثلاً في نهاية السيلوري نشأت مجموعتان من الأسماك العظمية هما ذوات التنفسين Dipneusti وقوسيات الزعانف Crossopterygii التي وُجِدَت في ظروف بيئية متشابهة هي الحياة في الأحواض المائية العذبة الفقيرة بالأكسجِين، فتطورت الرئات المأخوذة من السلف المشترك بشكل متوازٍ في المجموعتين (الشكل 4)، وأدى ذلك إلى نشوء القلب ثلاثي الحُجُرات.

الشكل (4) التطور المتوازي المتواقت:

(أ، ب) الأسماك قوسيات الزعانف، (جـ) الأسماك ذات التنفسين.

- التوازي غير المتواقت asynchronic: وهو تشابه في المجموعات المنحدرة من سلف واحد، ولكن تعيش في أزمان مختلفة، مثل ظهور الأنياب سيفية الشكل في تحت الفصائل المختلفة من السنوريات Felidae (مجموعة القطط) أربع مرات على الأقل في فرعين مستقلين من السنوريات القديمة والحالية (الشكل 5).

الشكل (5) التطور المتوازي غير المتواقت: (أ) السنوريات القديمة، (ب) الحالية.

د- التطور المتقارب convergence: هو تطور مستقيم يؤدي إلى اكتساب الخصائص المتشابهة في المجموعات ذات الأصل التطوري المختلف والتي لا تملك صلة قرابة وثيقة.

ينشأ التشابه المدهش في البنية أو الشكل بين المجموعات بعيدة القرابة نتيجة التكيف المتشابه مع الظروف المتشابهة بفعل التطور المتقارب، مثلاً إن الحياة في الطبقة الشاطئية pelagic zone من ماء المُجَمَّعات المائية المختلفة -بحيرات أو بحار- أدت إلى اكتساب الشكل الطوربيدي للجسم الملائم للسباحة السريعة على أعماق مختلفة عند بعض الأسماك الغضروفية كالقِرش والعظايا السمكية Ichthyosauria (زواحف سمكية الشكل)، والحيتان والدلافين (الشكل 6).

الشكل (6) التطور المتقارب غير المتواقت: (أ) الشكل الطوربيدي السابح عند القرش، (ب) العظايا السمكية، (جـ) حوت الدلفين.

ويوجد التقارب بين جميع الوحدات التصنيفية، مثل تقارب الأنواع على مستوى الفصيلة، والفصائل على مستوى الرتبة، والرتب على مستوى الصف، والصفوف على مستوى الشعبة. ويُعَدُّ الشكل الطوربيدي لسمك القرش والعظايا السمكية والحيتان مثالاً على التقارب بين الصفوف ضمن الشعبة (الشكل 6). كما يُعَدّ الشكل الحيوي للذئب مثالاً لتقارب مجموعتي الثدييات المشيمية placental mammals والجرابيات Marsupialia ضمن صف الثدييات، فقد أدى تشابه العملية التطورية إلى ظهور ذئب تسمانيا الجرابي Thylacinus والذئب العادي المشيمي Canis Iupus. ومثال التقارب بين الفصائل ضمن الرتبة الشكل الحيوي «القافز» الملائم للحياة في الأماكن المفتوحة، مثل آكلات الحشرات القافزة Macroscelides، والقرد النطاط Tarsium tarsius، واليربوع Jaculus jaculus (الشكل 7).

الشكل (7) التقارب المتواقت: (أ) الشكل الحيوي القافز عند الكنغر، (ب) آكل الحشرات القافز، (جـ)القرد النطاط، (د) اليربوع.

ويظهر التقارب بشكل متواقت، وهو اكتساب الخصائص المتشابهة في المجموعات المختلفة التي تعيش في الزمان نفسه، مثل الشكل الحيوي «للذئب» أو «القافز»، أو بشكل غير متواقت، وهو اكتساب الصفات المتشابهة في المجموعات المختلفة التي لا تعيش في الزمان نفسه مثل الشكل الطوربيدي.

لكن التشابه بين المجموعات المتقاربة سطحي وخارجي فقط، فسمك القِرش يشبه الحوت في المظهر الخارجي، ولكن يختلف عنه بالصفات التشريحية، مثل جهاز التنفس والدوران والقحف والجملة العصبية وغيرها، وكذلك بالصفات الفيزيولوجية والكيميائية مثل الدنا DNA وخضاب الدم.

الاتجاهات الرئيسية لتطور الشعب

تدل دراسة تطور الأشكال الحالية والقديمة المتمثلة في جذع شجرة النسب على وجود اتجاهين رئيسين في تطور الشعب، هما: نشوء الاختلاف التكيفي allogenesis ضمن منطقة التكيف adaptive zone الواحدة، ويسمى هذا الاتجاه أيضاً الانتشار التكيفي الشعاعي adaptive radiation، أو التمايز التكيفي idioadaptation، أو نشوء التفرع الشعبي cladogenesis، والثاني هو نشوء الصعود التكيفي arogenesis بالارتقاء إلى منطقة تكيف جديدة.

تعرف منطقة التكيف بأنها مجموع الظروف البيئية التي تشكل الوسط الممكن لحياة المجموعة الواحدة من المتعضيات، وتتعين حدودها الدنيا والعليا بالقِيَم المتطرفة للظروف الحيوية واللاحيوية لمجال تَحَمُّل tolerance هذه المجموعة. وتوجد ثلاث مناطق تكيف أولية، هي العوامل البيئية المختلفة في البيئة المائية والبرية والهوائية، وضمن كل منها مناطق تكيف ثانوية وثالثية نتيجة تباين الظروف المحلية في أقسامها المختلفة، مثلاً تقسم البيئة المائية (منطقةً رئيسية) إلى عذبة ومالحة ومختلطة الملوحة (المُوَيلِحَة) mixohaline، وتقسم المياه العذبة إلى راكدة وجارية (مناطق ثالثية).

أ - نشوء الاختلاف التكيفي: هو تطور مجموعة ضمن المنطقة التكيفية نفسها بنشوء عدد كبير من الأشكال ذات صلةِ قرابةٍ يختلف بعضها عن بعض بصفات التكيف ذات المستوى الواحد.

ويجري تطور المجموعات وفق هذا الاتجاه اعتماداً على الصفات البنيوية والوظيفية العامة للمتعضيات المُكَوِّنَة للمجموعة، مما يجعلها تنشئ علاقات متشابهة مع ظروف الوسط. ويستمر تطور المجموعة ضمن منطقة التكيف مادامت هذه المنطقة قائمة، مثال ذلك نشوء الأشكال الحياتية المتكيفة مع أنماط الحياة المختلفة عند الثدييات آكلات الحشرات، كالأشكال الأرضية مثل القافزة Macroscelides والقنفذ Hemiechinus والزَّبابة Sorex، والأشكال البرمائية مثل زبَّابة الماء Potamogale وفأر المسك Desmana، والأشكال تحت الأرضية والحفارة مثل الخلد (الشكل 8).

الشكل (8) نشوء التمايز التكيفي عند الثدييات التي نشأت من سلف واحد (في وسط الشكل) بالتلاؤم مع الأوساط المختلفة.

وتتميز المجموعات المتشكلة -في حال نشوء الاختلاف التكيفي- بالتلاؤم على مستوى تكيفي واحد، وتكون صفاتها البنيوية والوظيفية العامة متشابهة، لكن يختلف بعضها عن بعض بصفات ناجمة عن التخصص للحياة في ظروف محددة في المنطقة التكيفية أو أجزائها، ويمثل التخصص الشكل المتطرف للاختلافات التكيفية الناجم عن تلاؤم المجموعات مع الظروف الحياتية الضيقة، أي تضيق المنطقة التكيفية.

وتتثبت الصفات ذات الأهمية الخاصة في أثناء التخصص في ظروف ضيقة معينة، ويكون التخصص عميقاً ينال المتعضية بكاملها ويُعوق التطور اللاحق، ويؤدي إلى الانقراض عند تغير الظروف، أو جزئياً ينال بعض الأعضاء فقط، ولا يعوق التطور اللاحق في اتجاهات جديدة. وتُعَدُّ ظاهرة الاحتفاظ بالفتوة neoteny وسيلة خاصة في إلغاء التخصص بحذف المراحل النهائية من النشوء الفردي لاكتساب المرونة التطورية.

ب_ نشوء الصعود التكيفي arogenesis: هو تطور المجموعة الذي يرافقه توسع حاد في منطقة التكيف والانتقال إلى منطقة تكيف أخرى، واكتساب تكيفات مبدئية جديدة تختلف عن المستوى السابق. ويسمى هذا النمط من النشوء أيضاً بالارتقاء التكيفي anagenesis. ويُبَيِّن سجل المستحاثات أن عدداً قليلاً من المجموعات الحيوانية استطاع الانتقال إلى منطقة تكيف أخرى، على حين يسقط كثير من المجموعات الانتقالية وينقرض على الطريق (الفواصل بين المنطقتين)، وتبدأ المجموعة التي وصلت فعلاً بالتطور وفق اتجاه نشوء الاختلاف التكيفي (الشكل 9).

الشكل (9) تمثيل لتطور المجموعة بنشوء الاختلاف التكيفي (ضمن المنطقة)، أو نشوء الصعود التكيفي (من منطقة أخرى).

ويتعاقب -خلال مسيرة التطور- دور نشوء الصعود التكيفي مع دور نشوء الاختلاف التكيفي. مثلاً استطاعت أسلاف الطيور أن تحتل منطقة تكيف جديدة بفضل نشوء الجناح عضواً للطيران وتشكل الرياش والقلب ذي الحجرات الأربع ونمو الدماغ، خاصة المخيخ الذي ينسق الحركة في الهواء والتوازن وثبات درجة حرارة الجسم. وقد أدت هذه التغيرات البنيوية والوظيفية بمجموعات من زواحف الترياسي إلى الصعود التكيفي الذي انتهى بنشوء صف الطيور. أما تكيفات الطيور الصحراوية والجبلية والمائية فهي صفات أكثر خصوصية نشأت نتيحة التطور ضمن صف الطيور بطريق نشوء الاختلاف التكيفي.

إن تطور المجموعات باحتلال منطقة تكيف جديدة لا يحدث دائماً بتعقد البنية، وإنما قد يجري بتبسيطها، أي الانحطاط degeneration الشكلي والفيزيولوجي أي التراجع أو التردي regression. مثلاً تنشأ الأشكال الطفيلية في مختلف فروع شجرة النسب وتمثل 4-5% من عدد الأنواع الحالية، وتكون بعض صفوف اللافقاريات وشعبها طفيلية كلها. وكذلك يرافق نشوء نمط الحياة المتثبت انحطاط شكلي وفيزيولوجي، مثل حالة القميصيات Tunicata.

مراجع للاستزادة:

- محمد مجاهد البطل، تطور المتعضيات الحيواني، جامعة تشرين، 1992.

- كاترين منصور، التشريح المقارن و التطور، جامعة تشرين، 2009.

- D. Harper, Phylogeny, Online Etymology Dictionary, 2013 .

- D. N Reznick, R.E. Reckles, Microevolution & Macroevolution, Nature, 2009

- J. Wilkins, Macroevolution, Its Definition, Philosophy & History, Tolk Origens Archive, 2013

 


- التصنيف : علم الحياة (البيولوجيا) - النوع : علم الحياة (البيولوجيا) - المجلد : المجلد الثامن مشاركة :

بحث ضمن الموسوعة

من نحن ؟

الموسوعة إحدى المنارات التي يستهدي بها الطامحون إلى تثقيف العقل، والراغبون في الخروج من ظلمات الجهل الموسوعة وسيلة لا غنى عنها لاستقصاء المعارف وتحصيلها، ولاستجلاء غوامض المصطلحات ودقائق العلوم وحقائق المسميات وموسوعتنا العربية تضع بين يديك المادة العلمية الوافية معزَّزة بالخرائط والجداول والبيانات والمعادلات والأشكال والرسوم والصور الملونة التي تم تنضيدها وإخراجها وطبعها بأحدث الوسائل والأجهزة. تصدرها: هيئة عامة ذات طابع علمي وثقافي، ترتبط بوزير الثقافة تأسست عام 1981 ومركزها دمشق 1