التشخيص الجزيئي للأمراض الوراثية
تشخيص جزييي امراض وراثيه
Molecular diagnosis of inherited diseases -
التشخيص الجزيئي للأمراض الوراثية
التشخيص الجزيئي للأمراض الوراثية
مجد الجمالي
أنماط الخلل في المادّة الوراثية
التقنيات المستعملة في تحرّي الأنماط المختلفة للخلل في المادّة الوراثية
يبحث علم التشخيص الجزيئي للأمراض الوراثية molecular diagnosis for inherited diseases في الاختبارات التي تستعمل لتحديد مرض أو التأهّب للمرض، من طريق تحليل الحمض الريبي النووي المنقوص الأكسجين (الدنا) Deoxyribonucleic Acid (DNA) أو الحمض الريبي النووي (الرنا) Ribonucleic Acid (RNA) أو البروتين. ويضمّ هذا المجال الاختبارات والأجهزة والكواشف المستعملة في المستشفيات ومخابر التحاليل والمخابر المرجعية ومراكز الأبحاث بهدف تشخيص المرض ومتابعة سيره. وقد ازدهر علم التشخيص الجزيئي الطبي على نحو كبير في العقد الماضي، وأضحى من أكثر المجالات نمواً من حيث حجم الاستثمارات وفرص التوظيف. وحدث هذا الازدهار وبشكل جلي نتيجة المعرفة المتراكمة في العقدين الماضيَيْن والمتعلّقة بالجينوم البشري والجينات والبروتينات، والتي شكّلت أساس البيولوجيا الخلوية والجزيئية ودراسة الأمراض على المستوى الجزيئي. وتطلّب تطوير التشخيص الجزيئي تآزراً بين مختصّي البيولوجيا الجزيئية والكيمياء التحليلية والمعلوماتية الحيوية والهندسة الطبية لفهم الآليات الجزيئية وترجمة هذه المعارف إلى اختبارت تطبيقية ملائمة ومفيدة.
يعتمد تشخيص الأمراض الوراثية على حزمة من الوسائل المتكاملة تبدأ بالقصة العائلية والموجودات السريرية للمرضى، وتمر ببعض الفحوص المخبرية الأولية التي تكشف عن الاضطراب الحاصل في الواسمات الحيوية biomarkers المرافقة للخلل الوظيفي، وتُقدّر الفعالية الإنزيمية لإنزيمات نوعية للمرض، انتهاءً بالتشخيص الجزيئي الذي قد يسهم في تحديد آليات المرض. ويضمّ هذا الأخير تحاليل مختلفة كالتنميط النووي karyotyping للصبغيات والوسائل المتعدّدة لكشف الطفرات والتطبيقات المختلفة لتضخيم الدنا DNA amplification بتفاعل البوليمراز السلسلي التقليدي واللحظي. ويبدو التشخيص الجزيئي أكثر تلك الوسائل حساسية لكشف الأمراض الوراثية، ويمكّن بذلك من الكشف المبكّر عن الخلل الجزيئي؛ ومن ثمّ ربّما يسهم في اتخاذ القرار العلاجي السليم قبل ظهور الأعراض السريرية لدى المرضى.
أنماط الخلل في المادّة الوراثية
هناك العديد من أنماط الشذوذات الجزيئية الموروثة على مستويَيْ الرنا RNA أو الدنا DNA. وتتمثّل غالبية الشذوذات الجزيئية على مستوى الرنا بتغيّر كمّي في التعبير عن الجين بحيث تنخفض أو ترتفع مستويات الرنا المرسال mRNA؛ الأمر الذي يُدرَس عادةً في سياق تحديد نمط التكوين الوراثي genetic genesis الذي قد يرافق حالات مَرَضيّة موروثة لا تتضمّن تبدّلاتٍ في تسلسل الدنا نفسه، بل تعكس مدى انكشاف الجينات لعوامل الانتساخ أو انكفائها عنها نتيجة بنية الكروماتين.
وتُعدّ الطفرات mutations من أهم تلك الشذوذات الجزيئية، حيث تتمثل بتبدّلات دائمة في نوكليوتيدات الدنا. ولطفرات الدنا أنواع عديدة، من أهمّها طفرات الاستبدال substitution mutations التي تستبدل نوكليوتيدات أخرى بنوكليوتيد أو أكثر في تسلسل دنا محدّد. ومن أكثر هذه الطفرات شيوعاً الطفرة النقطية point mutation التي تَستبدِل نوكليوتيداً واحداً فقط؛ مما يؤدي إلى استبدال حمض أميني بآخر في الثلاثية النوكليوتيدية triplet المشفرة. وهناك الطفرة النقطية الصامتة silent point mutation التي تستبدل النوكليوتيد بآخر، لكنها لا تبدّل الحمض الأميني، وليس لها تأثير يذكر. ولا بدّ هنا من الإشارة إلى وجود مصطلح آخر وثيق الصلة بالطفرات النقطية يدعى تعدد الأشكال وحيد النوكليوتيد Single Nucleotide Polymorphisms (SNPs). وعلى الرغم من المفهوم السائد أنّ ما يُفرّق بين الطفرات النقطية والـ SNPs هو ترافق الأولى فقط مع اضطراب في وظيفة البروتين المشفَّر بالجين الطافر مؤدّياً إلى نمط ظاهري مَرَضي؛ فإنّ الفارق الجوهري والحقيقي بينهما هو تواتر frequency حدوث التبدّل النوكليوتيدي في جماعة population ما. فإذا كان تواتر التبدّل النوكليوتيدي أقل من 1% يُعدّ ذلك طفرة، وإذا كان أعلى من 1% يعدّ ذلك تعدداً شكلياً SNP.
وإضافة إلى الطفرة النقطية ذات الشيوع الأكثر بين أنواع الطفرات؛ هناك الطفرات المؤدية إلى غرز (إدخال) insertion أو حذف (خَبْن) deletion عدد من النوكليوتيدات، ويشار إلى الاثنين معاً بمصطلح InDels، وتؤدّي غالباً إلى تغيّر في إطار ترجمة البروتين translation بسبب تبدّل نوع الروامز الثلاثية على مستوى الرنا RNA نتيجة إضافة نوكليوتيد أو أكثر أو حذفه.
التقنيات المستعملة في تحرّي الأنماط المختلفة للخلل في المادّة الوراثية
يمكن الكشف عن الخلل الجزيئي الوراثي باستعمال تقنيات متعددة تُوائِم طبيعة الشذوذات المتحرّى عنها، وخاصة إذا كان الشذوذ على مستوى الدنا أو الرنا، أو كان الشذوذ يعكس تغيّراً في طول قطعة الدنا أو في كمِّ التعبير الجيني، أو في نوع التسلسل إذا كانت هنالك طفرات. وقد سيطرت منذ منتصف القرن الماضي تقنيات قديمة كتشرب ساوذرن Southern blottingوتشرب نورثرن Northern blotting، وهما اللتان يمكنهما أن تكشفا عن طفرات الدنا أو الرنا ومستوياتهما، على التوالي. بيد أن كلتا التقنيتين تَستهلكان وقتاً وجهداً طويلَيْن، وقد اسُتبدل بهما حديثاً الكثير من التقنيات الجزيئية المعاصرة التي أسهمت في تطوّر حقل التشخيص الجزيئي منذ أواخر القرن العشرين حتى الآن، وعلى الأخصّ في كشف نوع الطفرات وتحديده في مجموعة من الأمراض الوراثية.
1- تفاعل البوليمراز السلسلي Polymerase Chain Reaction (PCR)
يُعدّ تطوير تفاعل الـ PCR في ثمانينيات القرن الماضي -والذي سمح بتضخيم قطع معيّنة من الدنا وإنتاج ملايين النسخ منها- من أهم التطورات النوعية على الإطلاق؛ إذ أسهم في الكشف عن الأمراض الوراثية، وتفرّع منه الكثير من التقنيات الأخرى. يعتمد مبدأ التضخيم باختصار على فصل سلسلتي (جديلتي) الدنا الأصليتين واستعمال بادئات primers نوعية للتتالي المراد تضخيمه ترتبط بالتسلسل النوكليوتيدي المتمم complimentary لها بعد فصل جديلتي الدنا الأصليتين وتفكّك الروابط الهدروجينية بين النوكليوتيدات المتقابلة نتيجة الحرارة العالية، ليقوم إثر ذلك إنزيم بوليمراز الدنا DNA polymerase بتركيب سلسلتين متمّمتين لكلّ منهما. ويَحدث التفاعل بشكل متوالية هندسية، لتُنتج ملايين النسخ من القطع في غضون سويعات قليلة.
تُفصل شدف الدنا الناجمة عن التضخيم في تفاعل البوليمراز السلسلي التقليدي conventional PCR باستعمال الرحلان الكهربائي الذي يعتمد على شحنة الدنا السالبة التي تسمح له بالعبور من القطب السالب إلى القطب الموجب عبر القالب (المطرس) matrix المستخدم في الرحلان. وتستعمل منذ البداية هلامات بولي أكريلاميد polyacrylamide التي تسمح بالفصل الجيّد بين شدف الدنا ذات الأطوال المختلفة، حيث يمكن أن تفرّق هذه الهلامات بتراكيز عالية بين قطعتي دنا تختلفان بعضهما عن بعض بنوكليوتيد واحد فقط؛ ومن ثمّ تُمكّن من كشف الإضافة أو الحذف. بيد أن صعوبة تطبيق هذه الهلامات المتطلبة للجهد والوقت من جهة وسُميّة مادة البولي أكريلاميد من جهةٍ أخرى قد حالتا دون الانتشار الواسع لهلامات البولي أكريلاميد بحيث اقتصرت في كثير من الأماكن على مخابر البحث، واستُعيض منها هلامات الأغاروز الأسهل تحضيراً والأقل سُميّةً؛ على الرغم من أنها لا تحقّق قدرة الفصل أو المَيز resolution نفسه. وقد طُوّر لاحقاً الرحلان الكهربائي الشعري capillary electrophoresis، حيث يجري فصل قطع الدنا عبر هلامات معلّقة مسبّقاً في أنابيب شعرية تُحقّق ميزاً عالياً بين شدف الدنا المختلفة في أطوالها. وتُستعمل في الرحلان الكهربائي بأنواعه المختلفة واسمات جزيئية molecular markers أو سُلّم جزيئي ladder مؤلف من شدف من الدنا معروفة الوزن الجزيئي تُمكّن من تعرّف حجم الشدف المضخمة بتفاعل الـ PCR. ويبيّن الشكل (1) مبدأ تفاعل الـ PCR والرحلان الكهربائي لنواتج التفاعل.
أ- الخطوات الثلاث لتفاعل الـ PCR تبدأ بفصل سلسلتي الدنا عند درجة حرارة مرتفعة ثم ربط بادئات نوعية لتسلسل الدنا P1 و P2 الشكل (1-أ) في مواقع النوكليوتيدات المتمّمة لها، ثم يقوم إنزيم بوليمراز الدنا في خطوة الاستطالة بإتمام صنع السلسلتين الجديدتين المتممتين للسلسلتين الأصليتين.
ب- مبدأ الرحلان الكهربائي على الهلامة، حيث تطبّق عينات الدنا المحتوية على عدة شدف من الدنا مختلفة الحجم والمشحونة سلباً قرب القطب السالب، ثم تعبر هذه القطع داخل الهلامة باتجاه القطب الموجب، تنفصل شدف الدنا تبعاً لحجمها، حيث تعبر الشدف الصغيرة جزيئات الهلامة أسرع من الشدف الكبيرة الشكل(1-ب).
ج - رحلان كهربائي لناتجَيْ تفاعل PCR (2,3) مختلفَيْ الحجم، بالمقارنة بنتيجة سلبية (4) لتفاعل الـ PCR الشكل (1-جـ). ويبدو أيضاً السُلّم الجزيئي المعياري (1) ويتألف من قطع من الدنا معروفة الوزن الجزيئي مقدّراً بشفع الأسس النوكليوتيدية (bp) تُرحل تبعاً لحجمها، وتساعد على تقدير حجم شدف الدنا في العينات المجهولة.
الشكل (1) مبدأ تفاعل الـ PCR والرحلان الكهربائي لنواتج التفاعل. |
2- كشف وجود الطفرات من طريق المعاملة الإنزيمية لنواتج تفاعل الـ PCR
من أهمّ التطبيقات المباشرة لتفاعل الـPCR تمييز التغيّر في أطوال نواتج التفاعل نتيجة طفرات الحذف أو الغرز InDel mutations، حيث تبدو قطع الدنا المضخّمة أقصر من الطول المتوقع لشدفة الدنا أو أطول منه. وغالباً ما يكون هذا التطبيق مفيداً إذا كان عدد النوكليوتيدات المضافة أو المحذوفة كبيراً، خاصّة عند استعمال هلامات الأغاروز ضعيفة الفصل أو المَيز في الرحلان الكهربائي. ولأجل ذلك أُدخل لاحقاً تعديل مهم باستعمال إنزيمات القطْع أو التقييد restriction enzymes التي ترتبط بتتاليات نوكليوتيدية محدّدة تُسمّى بمواقع التعرّف recognition sites، وتقطع الدنا عند تلك المواقع؛ مما ينجم عنه عدد من شدف الدنا تساوي عدد مواقع التعرّف زائداً واحداً. فإن كان هنالك موقع تعرّف واحد تنتج شدفتان للدنا، وهكذا. وتؤدّي بعض طفرات الدنا إلى إلغاء موقع التعرّف أو إلى إضافة موقع تعرّف جديد؛ مما ينجم عنه اختلاف في قدرة إنزيم التقييد على قطع تسلسل الدنا التابع لعينة سليمة ومرضية. ويُميّز هنا حالتا متماثل الأليلات (اللواقح) ومتخالفها homo- or heterozygote، حيث يمكن تفريق تلك الحالتين بعضهما عن بعض أوّلاً بتضخيم تسلسل الدنا المراد اختباره بوساطة تفاعل الـ PCR، ومن ثم هضم قطعة الدنا المُضَخَّمة بإنزيم تقييد نوعي لموقع التعرّف المتضمّن مكان وجود الطفرة المحتملة، ثم ترحيل عينات الدنا بعد الهضم وتمييز ما إذا كان التتالي النوكليوتيدي طافراً أو طبيعياً.
ويبين الشكل (2): أ- صورة رحلان كهربائي لنواتج تفاعل PCR تُظهر وجود عصابة واحدة في عينتي أفراد سليمين (1،2)، وعصابتين لدى عينة مريض متخالف الأليلات (3) بسبب إضافة نوكليوتيدات في أحد أليلي الجين الطافر، وبحيث تعكس العصابتان تضخيم تسلسل الأليلين الطبيعي (الأصغر حجماً) والطافر (الأكبر حجماً).
الشكل (2) بعض تطبيقات تفاعل الـ PCR في الكشف عن الطفرات. |
ب - رسم تخطيطي لرحلان كهربائي لنواتج تفاعل PCR بعد هضم القطع المضخَّمة بأحد إنزيمات التقييد الذي يتأثر عمله بوجود طفرة في تتالي موقع التعرّف النوعي له. وتظهر في الصفوف (5،4،2،1) نواتج تعكس حالة متخالف الأليلات لدى أفراد العائلة، حيث يمكّن إنزيم التقييد من قطع تسلسل الأليل الطبيعي منتجاً الشدف صغيرة الحجم، في حين لم يتمكّن من قطع تسلسل الأليل الطافر بسبب وجود الطفرة التي ألغت موقع التعرّف. وتظهر في الصف 3 حالة متماثل الأليلات للأليل الطبيعي، في حين تظهر في الصف 6 حالة متماثل اللواقح للأليل المَرَضي.
ويمكن أيضاً استعمال إنزيمات أخرى غير نوعية كإنزيم النوكلياز nuclease الذي يقوم بقَطْعٍ لا نوعي وغير مرتبط بتسلسل نوكليوتيدي محدّد لسلسلتي الدنا في حال وجود تباين أو عدم تكامل mismatch في أزواج النوكليوتيدات، كما يحصل في حالات تغاير الأليلات heterozygosity. ومن أجل ذلك يُضخّم التسلسل المستهدف في كلا الأليلين؛ الطبيعي والطافر، ثم يُعرّض نواتج الـ PCR إلى حرارة عالية متبوعة بالتبريد؛ لينجم عن ذلك فك ارتباط سلسلتي الدنا المتتامتين مع بعضهما وإعادتهما. بيد أن قسماً من القطع المعاد ارتباطها تتكوّن من مثنويات متغايرة hetero-duplexes تحتوي على عدم تكامل في موقع الطفرة بين النوكليوتيدين المتقابلين نتيجة ارتباط سلسلة من الأليل الطبيعي مع المتمم لها من الأليل الطافر. ويقوم بعد ذلك إنزيم النوكلياز بشطر القطع غير المتكاملة شطراً تاماً، والتي تُدعى المثنويات المتغايرة. وتظهر القطع المشطورة بشكل عصابات صغيرة الحجم على هلامة الرحلان الكهربائي، ليدلّ وجودها على طفرة في أحد الأليلين، في حين يظهر الدنا متماثل الأليلات سواءً بالنسبة إلى الأليل الطبيعي أم المصاب على شكل عصابة واحدة.
ويبين الشكل (3) كشف الطفرات بوساطة القطع بإنزيم النوكلياز. وتُضخَّم قطع الدنا بتفاعل الـ PCR، ثم تعرّض نواتج التفاعل لدرجة حرارة مرتفعة ثم منخفضة لفك ارتباط سلسلتي الدنا وإعادته. في حال وجود طفرة في أحد الأليلين (حالة متغاير الأليلات) تتشكّل المثنويات المتغايرة التي يستهدفها إنزيم النوكلياز في موقع الطفرة أو عدم التتام بين الزوج النوكليوتيدي المتقابل. ويقوم الإنزيم بشطر الدنا في ذلك الموقع؛ لتنتج جزيئات دنا ذات حجوم أصغر من حجم عصابة الدنا الأساسية الممثلة لناتج تضخيم الدنا، في حين تظهر المثنويات المتماثلة سواء للنمط البري أم الطافر على هلامة الرحلان كعصابة واحدة فقط؛ لأنها لا يستهدفها إنزيم النوكلياز بسبب التتام الكلّي بين نوكليوتيدات سلسلتي الدنا.
الشكل (3) كشف الطفرات بوساطة القطع بإنزيم النوكلياز. |
3- كشف وجود الطفرات باستعمال تقنية dHPLC
جرى لاحقاً تطوّر مهمّ في فصل نواتج تضخيم الدنا والحصول على تقنيات ذات ميز عالٍ جدّاً تسمح بالكشف عن استبدال نوكليوتيدي واحد من دون الحاجة للمعاملة بالإنزيمات لشطر الدنا. وقد سمحت تقنية الاستشراب اللوني السائل رفيع الإنجاز الممسّخ denaturing High Performance Liquid Chromatography (dHPLC) بتحسين قدرة الفصل بين المثنويات المتغايرة المتشكّلة في حالة تغاير الأليلات للطفرات. وتعتمد هذه التقنية على اختلاف التآثر بين جزيئات الدنا المثنوية المتماثلة homo-duplexes والمتغايرة مع الطور الثابت في أعمدة الـ HPLC. ويُستعمل في هذه التقنية طوران؛ الأول ثابت stationary، ويتكوّن عادةً من مادة البوليستيرين، والآخر متحرّك mobile يحتوي مادة الأسيتونتريل ومادة أسيتات ثلاثي إتيل الأمونيوم Triethylammonium acetate (TEAA) التي تساعد على ربط الدنا مع الطور الثابت. في ظروف غير ممسّخة non-denaturing، وباستعمال درجة حرارة أقل من °50س تُشطف قطع الدنا تبعاً لحجمها حيث تخرج من عمود HPLC أولاً القطع الصغيرة الوزن الجزيئي في حين تتميّز القطع ذات الحجم الأكبر بزمن احتفاظ retention time أطول في عمود HPLC قبل شطفها خارج العمود؛ لكونها تبقى مرتبطة بالطور الثابت. أما في ظروف ممسِّخة جزئياً partially denaturing؛ فيمكن حتّى التمييز بين قطعتي دنا لهما الحجم نفسه، لكن تختلفان عن بعضهما بزوج نوكليوتيدي واحد نتيجة إحدى طفرات الاستبدال. وتتضمّن خطوات العمل إجراء تفاعل الـ PCR كما السابق؛ متبوعاً بصهر منتجات التفاعل عند درجات حرارة مرتفعة ثم إعادة ارتباطها عند درجات حرارة منخفضة حيث تتشكل وفقاً لذلك مثنويات متماثلة تضمّ سلسلتين سليمتين أو طافرتين؛ إضافةً إلى مثنويات متغايرة تضم سلسلة سليمة وأخرى طافرة. وتتشكّل في المثنويات المتغايرة فقاعات bubbles ناجمة عن ابتعاد سلسلتي الدنا المتغايرتين في موقع وجود النوكليوتيد الطافر، حيث لا تتشكل روابط هدروجينية بين النوكليوتيدات غير المتكاملة، ويؤدي ذلك إلى خفض عدد الشحنات اللازمة للتآثر مع الطور الثابت؛ ومن ثمّ شطف المثنويات المتغايرة بوقت أقل من المثنويات المتماثلة. زيادةً على ذلك، يمكن التمييز بين قمّتين للمثنويات المتماثلة أو المتغايرة، تمثّل كل منهما أحد احتمالي الزوج النوكليوتيدي المتشكّل في مكان الطفرة النقطية، والذي يتمثل بالاختلاف في قدرة ارتباط المثنويات مع الطور الثابت.
ويبين الشكل (4) رسماً تخطيطياً يوضّح استعمال تقنية dHPLC في كشف المثنويات المتماثلة والمتغايرة الناجمة عن الطفرات النقطية وفصلها، حيث تُشطَف المثنويات المتغايرة أولاً، تتبعها المثنويات المتماثلة، ويظهر نوعا المثنويات بشكل قمتين لكل منهما تمثّلان احتمالي زوج المثنويات (النوكليوتيد الثالث من الأعلى). ويُكشف عن قطع الدنا عند شطفها وخروجها من العمود بمقايسة الزيادة في الامتصاص الضوئي للدنا.
الشكل (4) رسم تخطيطي يوضّح استعمال تقنية dHPLC. |
4- كشف وجود الطفرات بوساطة تحليل منحني الانصهار Melting Curve Analysis (MCA)
مع التقدّم الملحوظ في طرائق الكشف والتحليل الجزيئي، تطور ما يُعرف بتفاعل البوليمراز السلسلي اللحظي (في الزمن الحقيقي) real time PCR، والذي مكّن من متابعة تشكّل نواتج تفاعل الـ PCR بالزمن الحقيقي، ومن أهم تطبيقاته المقايسة الكمية للتعبير الجيني وتحديد عدد نسخ الدنا في العينة المدروسة. بيد أن هذه التقنية مكّنت أيضاً من كشف الطفرات بوساطة إجراء تفاعل الـ PCR بوجود إحدى الصبغات المفلورة fluorescent dyes، مثل SYBRgreen وEVAgreen، والتي تعطي فلورة فقط عند ارتباطها بنواتج الـ PCR الثنائية السلسلة، ومن ثمّ تعريض تلك النواتج إلى درجات حرارة متزايدة للكشف اللحظي عن انفصال سلسلتي الدنا وتحوّلهما إلى أحادي السلسلة، والذي يرافقه مع انخفاض حادّ في شدّة الفلورة يمكن تحرّيه باستعمال ليزرات خاصّة. وينجم عن التغيّر في شدّة الفلورة مع الزمن ما يدعى منحنى الانصهار الذي يختلف بحسب التركيب النوكليوتيدي لجزيئات الدنا، ومن ثمّ يمكنه الكشف عن وجود الطفرات التي غالباً ما تؤثّر في شكل منحنى الانصهار. وتعرّف نقطة الانصهار melting point بدرجة الحرارة بحيث يكون عندها نصف جزيئات الدنا ثنائية السلسلة؛ ونصفها الآخر أحادية السلسلة. ويمكن أن تُميّز نقاط انصهار مختلفة لكل من متماثل الأليلات للنمط البري wild type والنمط الطافر mutant type، في حين تظهر للنمط متغاير الأليلات نقطتا انصهار تناسبان نقطتي انصهار كل من النمطين البري والطافر. وهكذا، يمكن بوساطة هذه التقنية الكشف عن وجود الطفرة والتمييز بين النمطين متماثل الأليلات للأليل الطافر mutant allele أو متخالفها.
ويبين الشكل (5) تحليل منحنى الانصهار MCA.
الشكل (5) تحليل منحنى الانصهار MCA. |
أ) تناقص شدّة الفلورة مع ازدياد درجة الحرارة، ويمكن تمييز ثلاثة أشكال للمنحنى؛ شكل النمط البري متماثل الأليلات، وشكل النمط الطافر متماثل الأليلات، وشكل النمط متغاير الأليلات (عند وجود أليل سليم وأليل طافر لدى الشخص).
ب) تختلف نقطة انصهار جزيئات الدنا (درجة الحرارة عند قمّة كل منحنٍ) تبعاً لوجود الطفرة أو غيابها، حيث يمكن أن تُميّز نقطة انصهار للنمط البري تقارب 58°س، ونقطة انصهار للنمط الطافر تقارب 48°س، في حين تظهر في العينات متغايرة الأليلات قمّتان تظهران وجود كلّ من الأليلين البري والطافر.
والجدير بالذكر أنه يتوجّب في كل التقنيات السابق ذكرها استعمال دنا مرجعي -من النمطين البرّي أو الطافر- يمكن تضخيمه وكشفه ومقارنته بنتائج العينات المراد تحليلها وتحليل الطفرات فيها. ومن جهةٍ أخرى يكون تأثير طفرات الاستبدال في جميع التقنيات السابقة أقل من تأثير طفرات InDels؛ مما يجعل من الصعوبة الكشف عن طفرات الاستبدال النقطية إلا باستعمال تقنيات عالية الميز كالتي ذكرت آنفاً. وأخيراً لا بدّ أن يُذَكّر أن جميع التقنيات السابقة تسمح بالكشف عن وجود الطفرات، لكنها لا تمكّن بالضرورة من تحديد نوع النوكليوتيدات التي استبدلت أو أضيفت أو حُذفت من جزيء الدنا، والتي يلجأ لتحديدها إلى اتّباع تقنيات أخرى، من أهمها تقنيّات التهجين وسَلسَلة الدنا.
5- كشف أنواع الطفرات بوساطة تقنيات التهجين hybridization techniques
تجتمع تقنيات التهجين على مبدأ ارتباط جزيئتَيْ دنا متتامتين في التتالي النوكليوتيدي بعضهما مع ببعض، حيث يقابل الأدنين الثيمين، ويقابل السيتوزين الغوانين في كامل التسلسل النوكليوتيدي على الرغم من اختلافها بأنواع الكواشف المستخدمة وطرائق التحرّي، وهو ما يدعى بالتهجين. وتبرز هنا أهميّة ألفة الارتباط binding affinity بين الجزيئتين، والتي ترتبط على نحو مباشر بدرجة التكامل النوكليوتيدي بين التسلسلين؛ وتطبيق شروط غسل قاسية للتخفيف من الارتباطات غير النوعية بين جزيئات الدنا غير المتتامة كلياً في تسلسلاتها النوكليوتيدية.
وتبرز هنا تقانات الاستشراب، والتهجين التألقي في الموضع Fluorescence In Situ Hybrdization (FISH)، والمصفوفات الكبروية (الجهرية) macroarrays والمصفوفات الدقيقة microarrays وجميعها يعتمد على التتام بين مسابر probes تتألف من قطع دنا موسومة ونوعيّة للطفرات المتوقّعة؛ وبين القطع المتممة لها والمحتوية على الطفرة في العينات المدروسة. ومن البديهي أن ثمة معرفة مسبقة بنوع تلك الطفرات التي يُكشف عنها والتي ترشد إلى اختيار المسابر النوعية لتلك الطفرات. وعموماً من الصعوبة بمكان كشف طفرات الاستبدال النقطية بهذه التقنيات نظراً لحساسية هذه الطرائق التي عادةً ما تكون أدنى من قدرة الكشف عن تغيّر في أحد النوكليوتيدات فقط، وتقتصر قدرتها عادةً على كشف الشذوذات الجزيئية متعدّدة النوكليوتيدات، كما هي الحال في طفرات InDels التي يضاف أو يحذف فيها تسلسل نوكليوتيدي قد يصل طوله إلى عشرات النوكليوتيدات وربما مئاتها.
6- كشف أنواع الطفرات بوساطة سَلْسَلة الدنا DNA sequencing
يمكن عدّ سَلسَلة الدنا من التقنيات القديمة المتجدّدة. فمنذ ستينيات القرن الماضي بزغت هذه التقنية التي تحدّد كامل التسلسل النوكليوتيدي للجين، أو جزءاً من الجين؛ ومن ثمّ تكشف ما إذا كان هنالك طفرة تعدد شكلي وحيد النوكليوتيد SNP في التسلسل النوكليوتيدي. وبدأت هذه التقنية باستعمال كواشف موسومة شعاعياً، ومن ثم تطورت في ثمانينيات القرن الماضي لتستعمل بدلاً منها كواشف موسومة بالفلورة، وعدّ ذلك تطوراً مهماً لصعوبات العمل مع المواد المشعة ومخلّفاتها. بيد أن التطور الأهم كان تقنية الجيل التالي للسلسلة Next- Generation Sequencing (NGS) والتي بزغت في بدايات القرن الحادي والعشرين، واعتمدت على تثبيط تفاعل السَّلْسَلة السابق على نحو عكوس؛ وعلى استعمال رقاقات دنا DNA chips خاصّة سمحت بتوفير الوقت على نحو مذهل. وعلى سبيل المثال، وبينما استغرق تحديد التسلسل النوكليوتيدي لكامل الجينوم البشري، والبالغ 3 مليارات نوكليوتيد، لأوّل مرّة نحو 13 سنة (1990-2003)؛ يمكن للجيل التالي للسَّلسَلة أن يقوم بذلك اليوم في أقل من أسبوع واحد! ويعزى ذلك أيضاً إلى التقدّم الهائل في تقنيات التهجين والكشف المؤتمتة، إضافةً إلى تطوير البرمجيات المعقّدة التي تحلل الكم الكبير من البيانات الناجمة عن تفاعل السَّلسَلة.
ولقد أدّى التطبيق الناجح للكثير من التقنيات المذكورة أعلاه إلى الكشف عن ماهيّة الطفرات في الكثير جداً من الأمراض الوراثية كالحثل العضلي muscular dystrophy، والتليف الكيسي cyctic fibrosis، والناعور hemophilia، والثَّالاسيميَّة thalassemia، وغيرها. وأُنشئت لذلك قواعد بيانات ضخمة زاخرة بالمعلومات حول الأمراض الوراثية ونمط وراثتها، ومن أشهرها قاعدتا البيانات على الرابط (OMIM) http://www.ncbi.nlm.nih.gov/omim و (HGMD) على الرابط http://www.hgmd.org، كما أنشئت قواعد بيانات تخص كلّاً من الأمراض الوراثية، وتضم جميع الطفرات المكتشفة في الجينات المرتبطة بالخلل الوظيفي الحاصل في تلك الأمراض. يُذكر منها تلك الخاصة بمورثة قناة الكلوريد chloride channel في داء التليف الكيسي http://www.umd.be/CFTR وجيني عاملي التخثّر الثامن والتاسع في الناعور http://www.hemobase.com/EN وجين الديستروفين dystrophin في الحثل العضلي http://www.umd.be/DMD/W_DMD/index.html. وانعكس الكشف عن الجينات الطافرة في تصميم علاجات مستهدفة تصحّح الخلل الناجم عن ذلك، ومن أشهرها المعالجات الجينية.
وعلاوةً على ذلك استُفيد من التقنيات المتطورة السابقة في تحديد التعددات الشكلية SNPs لكثير من الجينات المرتبطة باستقلاب الأدوية أو ببنية مستقبلاتها الخلوية؛ ممّا شرّع الباب لظهور علم الجينات الدوائي pharmacogenetics الذي يُعنى بدراسة التكوين الوراثي للمرضى ويسهم -بناءً على ذلك- باختيار أنجع المعالجات الفعالة لكل مريض وترسيخ مبدأ الطب الشخصي (الفرداني) personalized medicine.
مراجع للاستزادة: -S. Harada, B.R.Korf, Overview of Molecular Genetic Diagnosis, John Wiley & Sons, Inc., NJ, USA, 2013. - Y. Shimada, K. Yanaga, Molecular Diagnosis and Targeting for Thoracic and Gastrointestinal Malignancy (Current Human Cell Research and Applications), Springer 2017. - P. Snustad, MJ. Simmons, The Techniques of Molecular Genetics, IN: Principles of Genetics, John Wiley & Sons, Inc., NJ, USA, 2012. - A. Wanger, V. Chavez et all., Microbiology and Molecular Diagnosis in Pathology: A Comprehensive Review for Board Preparation, Certification and Clinical Practice, Elsevier; 2017.
|
- التصنيف : الوراثة والتقانات الحيوية - النوع : الوراثة والتقانات الحيوية - المجلد : المجلد الثامن مشاركة :