الأوبرون
اوبرون
Operon - Opéron
مجد الجمالي
يخضع التعبير الجيني gene expression في كل من بدائيات النواة prokaryotes وحقيقيات النواة eukaryotes لعدد من منظومات التحكّم، تسهم جميعها في التعبير النوعي والكمّي للبروتينات على نحو يتلاءم مع وظائف الخلايا واحتياجاتها من المتطلبات التغذوية، ويظهر التنوع والاختلافات الجذرية في آليات التحكّم هذه بين بدائيات النواة وحقيقياتها أن عمليتي انتساخ الرنا RNA وترجمته إلى البروتينات تتمّان بصورة متزامنة في بدائيات النواة نظراً لعدم وجود نواة في الخلايا، على النقيض من حقيقيات النواة التي تتم فيها كلتا العمليتان على نحو منفصل مكانيّاً بسبب وجود نواة تفصلهما، إضافةً إلى عمليات تضفير الإنتروناتintron splicing ودمج الإكسونات exons داخل نوى خلايا حقيقيات النواة قبل تشكيل الرنا المرسال الناضج mature messenger RNA الذي يعبر إلى السيتوبلاسما الخلوية لتتم ترجمته. كما يتّصف الرنا المرسال المنتسخ من متواليات الدنا في بدائيات النواة بكونه متعدد الجينات (polycistronic)polygenic في أغلب الأحيان، في حين يتم نسخ الغالبية العظمى من جينات حقيقيات النواة بشكل وحيد الجين monocistronic) monogenic) نظراً لكون الرنا المرسال الناتج منها بحاجة إلى عدة تعديلات لاحقة للانتساخ post-transcriptional modifications قبل ترجمته في السيتوبلاسما.
يُعدّ الأوبرون operon مكوناً رئيسياً لإحدى أهم آليات التحكم في التعبير الجيني، ويمكن تعريفه بكونه مجموعة من الجينات ذات تحكم مشترك لتعبيرها الجيني ووظائفها المشتركة. ويتألف الأوبرون من ثلاثة مكونات رئيسية هي الجينات البنيوية structural genes وهي تُرمِّز الجينات البنيوية للبروتينات الضرورية للخلية، والجينات الناظمة regulatory genes، وعناصر التحكّم control elements. تقوم الجينات الناظمة بمراقبة التعبير الجيني للجينات البنيوية عبر تغيير حالة ارتباط نواتج البنيوية بعناصر التحكّم بالتعبير الجيني لهذه الأخيرة. وتصنّف عناصر التحكّم في مجموعتين؛ تشمل الأولى عوامل فاعلة مقرونة cis-acting، مثل المشغَل operator، وهي تتحكم بالتعبير عن الجينات المتصلة بها على امتداد جزيء الدنا، أمّا المجموعة الثانية فتتضمّن عوامل فاعلة مفروقة trans-acting، مثل الكاظمة repressor، وهي قادرة على التحكّم بالتعبير الجيني لجينات موجودة على الصبغي نفسه أو على صبغيات أخرى داخل الخلية.
شهد مطلع عام 2011م احتفالية الذكرى الخمسين لاكتشاف نظام الأوبرون في البكتريا من قبل العلماء الفرنسيين فرانسوا جاكوب - جاك مونو - أندريه لووف François Jacob وJacques Monod وAndré Lwoff الذين حازوا جائزة نوبل في الفيزيولوجيا والطب عام 1965 لتمكّنهم من تحديد عناصر التحكم الجيني في اصطناع الإنزيمات، ويُعدّ نجاح اكتشافهم لعناصر التحكّم تلك- أو ما يعرف في الوقت الرّاهن بالأوبرون- اختراقاً مهمّاً مهّد السبيل للعديد من الاكتشافات المثيرة لبعض آليات التحكم بالتعبير الجيني في كل من بدائيات النواة وحقيقياتها، وهناك مثالان عنها؛ أحدهما في بدائيات النواة، والآخر في حقيقيات النواة.
1- أوبرون اللاكتوز lac operon في الإشريكية القولونية: يُعدّ من أكثر الأمثلة وضوحاً عن التحكّم في التعبير عن ثلاثة جينات بنيوية تسهم نواتجها في استقلاب سكر اللاكتوز، وهي إنزيمات galactosidase (z) β و(permease (y
و(transacetylase (a يتم التحكم بهذا الأوبرون عن طريق مُشغِّل (O) يقوم بتثبيط اصطناع الإنزيمات الثلاثة بشكل مقرون بغياب اللاكتوز، وعبر التعبير عن جين (Lac I) التي ترمِّز لكاظمة بروتينية تعمل بشكل مفروق وترتبط بالمشغِّل لتمنع توضع إنزيم بوليميراز الرنا الناسخ لجينات الأوبرون على المعزاز promoter الملاصق للمشغِّل (الشكل1). أمّا بوجود اللاكتوز -ولدى بروز الحاجة إلى التعبير عن الإنزيمات اللازمة لاستقلابه- فإن اللاكتوز يرتبط بالكاظمة ويسبب تغيّراً في هيئتها conformational change، بحيث لا تمكن من الارتباط بالمشغّل، وبالتالي ينتفي تأثيرها الكاظم لانتساخ جينات استقلاب اللاكتوز.
الشكل (1) أوبرون اللاكتوز. أ) بغياب اللاكتوز تتمكّن الكاظمة من الارتباط بالمشغِّل وتثبِّط انتساخ جينات استقلاب اللاكتوز الثلاثة. ب) بوجود اللاكتوز يرتبط بالكاظمة ويمنعها بعد تغيير هيئتها من الارتباط بالمُشغِّل وبالتالي يفسح المجال لإنزيم انتساخ الرنا من الارتباط بالمعزاز الملاصق للمشغِّل وإتمام انتساخ الإنزيمات الثلاثة. |
2- أوبرون التربتوفان trp operon في الإشريكية القولونية: (الشكلان 2 و3)، ويضم خمسة جينات بنيوية (trp-A) إلى (trp-E)، ترمّز بروتينات تسهم في اصطناع الحمض الأميني التربتوفان، ويَتَحكّم في التعبير عنها مُشغِّل ملاصق للمعزاز كما هي الحال في أوبرون اللاكتوز. إلاّ أن الاختلاف الجوهري بين هذين الأوبرونين يكمن في أنّ ارتباط الكاظمة (trpR) بالمُشغّل في حالة أوبرون التربتوفان يحصل بوجود التربتوفان الذي يرتبط بالكاظمة مغّيراً هيأتها بحيث تناسب الارتباط بالمشغّل (الشكل2). وهكذا وعلى النقيض من أوبرون اللاكتوز، فإن وجود التربتوفان يثبِّط انتساخ الجينات التي تسهم في اصطناعه، بحيث لا يكون عمل الجينات البنيوية ضرورياً بوجود التربتوفان بوصفه مصدراً غذائياً للخلية، على حين يستلزم وجود اللاكتوز اصطناع الإنزيمات اللازمة لاستقلابه في حالة أوبرون اللاكتوز.
الشكل (2) أوبرون التربتوفان. أ) لا ترتبط الكاظمة بالمشغّل بغياب التربتوفان ويتم انتساخ الجينات الخمسة الضرورية لاصطناع التربتوفان. ب) ترتبط الكاظمة بوجود التربتوفان بالمشغّل وتثبط انتساخ الجينات الخمسة. |
الشكل (3) توهين الانتساخ بالتربتوفان. أ) أوبرون التربتوفان في جزيء الدنا DNA، وتبدو المناطق القيادية الأربع وشيفرتا التربتوفان في المنطقة الأولى. ب) يكون الرنا المرسال على هيئتين؛ ترتبط في الأولى المنطقتان 3 و 4 بحيث يتوقف الانتساخ بوجود تراكيز عالية من التربتوفان، على حين ترتبط في الثانية المنطقتان 2 و 3 بحيث يستمر الانتساخ بوجود تراكيز قليلة من التربتوفان. |
يمكن النظر إلى الآلية السابقة لعمل أوبرون التربتوفان بوصفه قاطعة switch تعمل وفق نظام إثناني binary تستجيب لوجود التربتوفان (الحالة1)
أو غيابه (الحالة0). غير أن للتربتوفان آلية تحكّم أخرى في انتساخ الجينات الخمسة تسمّى بالتوهين attenuation، وترتبط كميّاً بتراكيز التربتوفان في الخلية وليس فقط بوجوده أو غيابه. ولهذه الآلية عناصر أخرى إضافةً إلى ما ذكر آنفاً تتعلق بالمنطقة السابقة لموقع بدء الانتساخ والمؤلَّفة من أربع مناطق قيادية leader regions تقع بعد 162 نوكليوتيداً من موقع بدء الانتساخ، وتحتوي المنطقة 1 على تتاليين مرمزين للتربتوفان (الشكل3). وهنا لا بد من التذكير بأن كلاًّ من عمليتي انتساخ الرنا المرسال وترجمته تتمّان في آن واحد في بدائيّات النواة، بحيث تبدأ الريباسات ribosomes بترجمة النهاية 5` للرنا المرسال بصورة متواقتة مع انتساخه. وهكذا تؤدي زيادة اصطناع التربتوفان إلى توهين راجع لأوبرون التربتوفان ومنع اصطناع المزيد من هذا الحمض الأميني. وتُعدّ الآليّة السابقة مثالاً على توهين الانتساخ المتواسط بالترجمة translation-mediated transcription attenuation، حيث يؤثّر معدّل الترجمة في بنية الرنا التي تؤثر بدورها في معدّل الانتساخ.
تسير الريباسة ببطء خلف إنزيم بوليميراز الرنا، ويمكن للمتواليات القيادية في الرنا المرسال أن تتخذ هيئتين بحسب تراكيز التربتوفان. فعند وجود تراكيز مرتفعة من التربتوفان ترتبط المنطقتان 3 و4 بعضهما ببعض بحيث يسقط إنزيم البوليميراز عند نهاية هذه البنية ويتوقف الانتساخ. أما بوجود تراكيز منخفضة من التربتوفان فتتوقف الريباسة عند المنطقة 1 المحتوية على شيفرتين للتربتوفان بسبب عدم توفر الحمض الأميني مما يسهم في ارتباط المنطقتين 2 و 3 بعضهما ببعض، وعندها يستمر انتساخ الرنا متبوعاً بترجمته من دون توقف إلى حين عودة ارتفاع تراكيز التربتوفان (الشكل 3). والمثير للاهتمام هنا أن توفر التربتوفان يزيد من سرعة الترجمة مما يؤثر سلباً في الانتساخ، وبالعكس.
على الرغم من ندرة الأوبرونات المعروفة لدى حقيقيات النواة- نظراً لضرورة إخضاع الرنا المرسال للتعديلات اللاحقة للانتساخ كما أسلف- أظهرت التحاليل الجينومية الحديثة تعنقدات clustering لجينات عديدة قد تُمكِّن من تنسيق التعبير عن بروتيناتها. إنَّ واحداً من أهم هذه التعنقدات هو تعنقد الجينات المسؤولة عن أصناف classes معقّد التوافق النسيجي الكبير (Major Histocompatibility Complex (MHC الممتد على طول 7.5 مليون قاعدة نوكليوتيدية في الصبغي البشري 6. يضم هذا التعنقد ما يقارب الـ 282 جيناً مرمّزاً للبروتينات، ويسهم عدد كبير منها في وظيفة تقديم المستضد antigen presentation إلى الخلايا المناعية التائيّة (الشكل4). بيد أن اثنتين من عائلات الجينات gene families المتضَمَّنة في هذا التعنقد لا تتعلّقان مباشرةً بالوظيفة المناعية، وهما عائلتا الهِستون histon والرنا الناقل (transfer RNA (t-RNA، المسؤولتان عن تضاعف الجينات واصطناع البروتينات. تقع جينات هاتين العائلتين عادةً في المناطق ذات الفعالية الانتساخية الكبيرة، مما قد يشير إلى استفادة الجينات المرتبطة بالمناعة على الصبغي السادس من موقعها عبر التعنقد مع عائلتي الهِستون والرنا الناقل بشكل أوبرون كبير ذي تحكّم مشترك، وعلى نحو يزيد كثيراًمن كمية البروتينات المناعية التي ترمّزها تلك الجينات، الأمر الذي لا غنىً عنه لتفعيل جملة المناعة.
الشكل (4) تعنقد أصناف جينات المناعة على الصبغي 6 لدى الإنسان. وهو يضم إلى جانب جينات البروتينات المناعية جينات الهستون وجينات الرنا الناقل (غير المبينة في الشكل، وتقع أيضاً في الصف الأول الموسّع extended class I)؛ مما يسهم في التحكّم المشترك في انتساخ جميع هذه الجينات على نحو يُمكِّن من تسريع الاستجابة المناعية وتعظيمها. |
خلاصة القول: يفيد التعنقد الفيزيائي للجينات- أو لعائلات الجينات- في التحكّم والتنسيق في التعبير عنها سواء بوجود عناصر تسيطر على انتساخ تلك الجينات، وخاصّةً لدى بدائيّات النواة، أو على مستوى التوضّع المشترك في مناطق انتساخ فعّالة في الكروماتين النووي في خلايا حقيقيات النواة. والجدير بالذكر أن العديد من الأبحاث اليوم تهدف إلى دراسة مستوى التنسيق في التعديلات اللاحقة للانتساخ لرنا المرسال الأولي للجينات التابعة للأوبرون نفسه، وسيقدّم ذلك في حال ثبوته برهاناً آخر على التنسيق شديد التعقيد للتعبير الجيني للعديد من جينات حقيقيات النواة. وأخيراً يمكن النظر للأوبرون بوصفه الآلية الخلوية لضمان الفعالية الاقتصادية التي يمكن أن توفِّرها عملية التحكّم المتناغم في التعبير عن عدة جينات في آن واحد، على نحو يَحدّ من التذبذب في مستويات البروتينات المتشابهة وظيفياً.
مراجع للاستزادة: -T. Blumenthal, Operons in Eukaryotes. Briefings in Functional Genomics & Proteomics, 3(3):199- 211, 2004. -R. W. W. Brouwer, O. P. Kuipers and S. Hijum, The Relative Value of Operon Predictions. Briefings In Bioinformatics, 9(5):367-375, 2008. -G. M. Cooper, The Cell: A Molecular Approach. P. 229-235. ASM Press, Washington DC, and Sinauer Associates, Inc., Sunderland, Massachusetts, USA, 1997. -J. François, The Birth of the Operon. Science, 332:767, 2011. -M. Morange, What history tells us. J. Biosci. 30(3):313–316, 2005. -A. E. Osbourn and B. Field, Operons. Cellular and -A. Ralston, Simultaneous Gene Transcription and Translation in Bacteria. Nature Education 1(1), 2008. -K . Sneppen, S . Pedersen, S. Krishna et al., Economy of Operon Formation: Cotranscription Minimizes Shortfall in Protein Complexes. 1(4):1-3, 2010. |
- التصنيف : الوراثة الجزيئية - النوع : الوراثة الجزيئية - المجلد : المجلد الرابع مشاركة :