تطور
-

 التطور

التطور

بشير الزالق

أهمية الأحافير وتاريخ الأرض في البرهان على التطور

لامارك والتطور: لامارك و اللاماركية Lamarckism

أهمية علم التشريح المقارن في التطور

والاس Wallace وفكرة التطور

أهمية علم الجنين المقارن comparative embryology في التطور

النظرية الداروينية

أهمية الكيمياء الحيوية biochemistery في التطور

النظرية الداروينية الجديدة أو الطفرية

 

 

بدأ الاهتمام بدراسة التطور Evolution على يد الفلاسفة وعلماء الحياة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بيد أن ما دفع الإنسان إلى الاهتمام بهذا الموضوع هو حبه وتوقه لمعرفة الماضي والكشف عن أسراره وخفاياه.

عُرِضَت فكرة التطور في البداية بوصفها آراء فلسفية وأساطير قدمها فلاسفة العصور الوسطى أمثال طالس Thales حينما قال: إن الماء هو المادة التي نشأت فيها الكائنات الحية. أما أرسطو Aristotle فقد وضع آراء في التطور وفلسفة الطبيعة، ولاحظ التغيرات في أشكال الحيوانات وأدرك ترابطها؛ وأن بيضة الدجاح تصبح - في مرحلة معينة - دجاجة، كما أنه لاحظ وجود أشكال انتقالية بين المتعضيات، وأقنعت أفكاره كثيراً من المفكرين في العصور الوسطى.

وقد ازدهر علم المستحاثات في بداية القرن الثامن عشر، فكانت أعمال مارتن ليستر Martin Lister وروبرت هوك Robert Hook، إذ عُدَّت الأحافير (المستحاثات) fossils بقايا حيوانية ونباتية متحجرة (بقايا أحفورية)، بيد أن أعمال العالم ويليام سميث W.Smith كان لها أبلغ الأثر في إثبات أهمية المستحاثات في تمييز الطبقات المتوازية في علم الأرض geology، وأظهر الفائدة من إعادة تأليف تاريخ الأرض.

وكان التحرر من الأفكار الأسطورية والخرافية القديمة في نهاية القرن الثامن عشر، وإسهام أعمال كارل لينيوس Carl Linnaeus الشهيرة في وضع القواعد العلمية المستخدمة في علم تصنيف الكائنات الحية التي ما تزال سارية حتى العصر الحالي. وعلى الرغم من أن لينِّيوس لم يكن يؤمن بوجود التطور، فإن ملاحظته ظهور نباتات جديدة حدا به إلى الاعتراف بوجود تغير وتطور في الكائنات الحية.

واشتُهِر العالم الفرنسي جورج دي بوفون  G.Buffon بأفكار قَيِّمَة عن التطور في كتابه "التاريخ الطبيعي"، الذي أوضح فيه أهمية البقايا الحيوانية في الطبقات الصخرية المتوازية في تحديد العمر النسبي لهذه الكائنات اعتماداً على عمر الطبقات المترسبة، وأضاف أن وجه الأرض يتبدل مناخياً وجغرافياً وأن لهذه العوامل التأثير الكبير في تغير الأنواع على الأرض.

ويُعَدُّ العالم جورج كوفييه G. Cuvier مؤسس علم التشريح المقارن comparative anatomy وعلم الأحافير (المستحاثات) paleontology في فرنسا، لقيامه بتشريح الحيوانات والمقارنة بينها وملاحظته الاختلافات في البنية التشريحية بين الفقاريات؛ إلا أنه لم يكن معتقداً مفاهيم التطور، وعزا انقراض الحيوانات وتعاقب الأنواع إلى الزلازل والكوارث الطبيعية الأخرى (نظرية الكوارث)، بيد أن نظريته باءت بالإخفاق عندما اكتشف حقيقة تسلسل الأنواع الحيوانية والأشكال الوسط. ولكن كل الأفكار السابقة - سواء الفلسفية منها أم العلمية- مَهَّدَت إلى تقديم تفسيرات وبراهين علمية لدعم حقيقة تغير الأنواع على الأرض وبَلْورة النظرية الحقيقية للتطور.

وكان لدراسة هذه التبدلات على الأرض أهمية كبيرة في معرفة تاريخ الحياة التي سادت في الفترات الزمنية الغابرة من عمر الأرض. فمن خلال دراسة التنضدات الأفقية للصخور الرسوبية، حيث تُمَثِّل الطبقات العميقة منها الطبقة ذات الزمن الأقدم، والتي تعلوها الطبقة ذات الزمن الأحدث، والطبقة العلوية هي أكثرها حداثة؛ أوحت للباحثين إمكان تقدير العمر النسبي للأرض، فإذا ما وُجِدَت البقايا نفسها لكائنات حيوانية في طبقتين صخريتين متباعدتين؛ يقال: إن عمر هاتين الطبقتين المتباعدتين هو نفسه بسبب وجود الكائنات نفسها التي كانت سائدة في فترة معينة من الحياة على الأرض.

أهمية الأحافير وتاريخ الأرض في البرهان على التطور

قدمت الدراسات -من خلال بقايا الحيوان التي شكلت ما يعرف بالأحافير (المستحاثات) (قواقع الرخويات مثلاً)- فكرةً عن العمر النسبي لصخور الأرض، ولكن تحديد العمر الحقيقي للأرض اعتمد على دراسة النشاط الفيزيائي والكيميائي للعناصر المشعة، فقد وُجِد أن العناصر المشعة التي تستقر في الصخور تتحول إلى عناصر جديدة بعد تفككها، مثل تفكك البوتاسيوم المشع الوصف: C:\Users\khuzama\Desktop\من يوسف تقانة 9 ايلول مشغول نهائي\المجلد 9 تقانة اخراج تدقيق وتصحيح ايلول\المجلد 9مصحح نهائي ق1+ 2 تم تنزيله على الموقع\من يوسف تقانة 9 ايلول مشغول نهائي\المجلد 9 تقانة اخراج تدقيق وتصحيح ايلول\المجلد 9مصحح نهائي ق1+ 2 تم تنزيله على الموقع\1328\img2.gifوتَحَوُّلِه إلى أرغون الوصف: C:\Users\khuzama\Desktop\من يوسف تقانة 9 ايلول مشغول نهائي\المجلد 9 تقانة اخراج تدقيق وتصحيح ايلول\المجلد 9مصحح نهائي ق1+ 2 تم تنزيله على الموقع\من يوسف تقانة 9 ايلول مشغول نهائي\المجلد 9 تقانة اخراج تدقيق وتصحيح ايلول\المجلد 9مصحح نهائي ق1+ 2 تم تنزيله على الموقع\1328\img4.gif، خلال مدة تقدر بـ 1.26 مليار سنة. وبهذه الطريقة العلمية تمكن العلماء من تحديد عمر الأرض الذي قُدِّر بـ 5.4 مليارات سنة.

وقد تابع العلماء أبحاثهم لمعرفة المراحل الزمنية التي مرت على الأرض، فصنفوا هذه المراحل في مراحل قديمة ومتوسطة وحديثة، فيما عرفوه بالأحقاب الجيولوجية التي أُعطِيَت أسماء يونانية تشير إلى عهود تطور الحياة، وهي حقب الحياة الحديثة (السينيوزوي cenozoic) وحقب الحياة المتوسطة (الميزوزوي mesozoic) وحقب الحياة القديمة (الباليوزوي paleozoic)، ووُضِعَت هذه الأحقاب وتقسيماتها من عصور وأدوار في جدول التقسيم الجيولوجي للأرض (الشكل 1).

الوصف: C:\Users\khuzama\Desktop\من يوسف تقانة 9 ايلول مشغول نهائي\المجلد 9 تقانة اخراج تدقيق وتصحيح ايلول\المجلد 9مصحح نهائي ق1+ 2 تم تنزيله على الموقع\من يوسف تقانة 9 ايلول مشغول نهائي\المجلد 9 تقانة اخراج تدقيق وتصحيح ايلول\المجلد 9مصحح نهائي ق1+ 2 تم تنزيله على الموقع\1328\1328-1.jpg

الشكل (1) جدول الأحقاب الجيولوجية للأرض يُظهِر أسماء الأحقاب والعصور والأدوار، وكذلك يُظهِر أهم الحيوانات التي ازدهرت في كل حقبة منها.

وفي فترة ما قبل الكمبري precambrian من عمر الأرض كانت المتعضيات البدائية من الأشنيات المُفرِزَة للكلس هي السائدة، أما مستحاثات الحيوانات فكانت نادرة لعدم وجود هيكل قاسٍ لديها (الميدوزات والرخويات والقشريات)، وفي حقب الحياة القديمة؛ في العصر الكمبري Cambrian ت504-541 مليون سنة وجدت حفريات لمفصليات الأرجل والرخويات وشوكيات الجلد، وسيطرت في تلك الحقبة القشريات ثلاثيات الفصوص Trilobita بأشكالها المختلفة (الشكل 2)، وعرفت أولى الفقاريات (الأسماك عديمات الفكوك Agnatha ثم لوحيات الأدمة Placodermi فالأسماك العظمية)، ثم ظهرت الزواحف الابتدائية، كما عرفت مفصليات الأرجل مثل ألفيات الأرجل Millipedia والرخويات، ومن النباتات عرفت غابات السراخس الشجرية.

الوصف: C:\Users\khuzama\Desktop\من يوسف تقانة 9 ايلول مشغول نهائي\المجلد 9 تقانة اخراج تدقيق وتصحيح ايلول\المجلد 9مصحح نهائي ق1+ 2 تم تنزيله على الموقع\من يوسف تقانة 9 ايلول مشغول نهائي\المجلد 9 تقانة اخراج تدقيق وتصحيح ايلول\المجلد 9مصحح نهائي ق1+ 2 تم تنزيله على الموقع\1328\1328-2.jpg

الشكل (2) مستحاثة القشري الثلاثي الفصوص.

وازدهرت الزواحف الضخمة في حقب الحياة المتوسطة، ولهذا سُمِّيَ هذا الحقب ﺑ "عصر الزواحف" إذ كان المناخ جافاً وحارّاً، كما انتشرت في هذا الحقب الديناصورات الضخمة والزواحف التي غزت البيئات المختلفة للأرض؛ اليابسة والماء والجو. وكان ظهور الثدييات الصغيرة والأشكال الابتدائية منها في نهاية هذا الحقب.

وفي حقب الحياة الحديثة حدثت تعديلات مناخية، وتشكلت القارّات بشكلها النهائي على الأرض، وتطورت الثدييات، وتنوعت، وانتشرت على اليابسة، في حين تراجعت أعداد الزواحف، وانقرضت الديناصورات، وتُوِّجت هذه الحقب بظهور الحصان والرئيسات Primata والماموث Mammoth. وكان آخر المطاف ظهور الإنسان وتطوره في الدور الرابع من حقب الحياة الحديثة. ويلخص الجدول الجيولوجي للأرض في (الشكل 1) المراحل المهمة من تاريخ الحياة على الأرض، فالسجل الأحفوري للأرض يُقَدِّم واحداً من أهم البراهين والأدلة ذات الشيوع الأكثر في حقيقة التطور.

أهمية علم التشريح المقارن في التطور

يظهر علم التشريح المقارن الذي يقارن البنية التشريحية والوظيفية للكائنات الحيوانية بعضها ببعض وجود تشابه تشريحي يَدُلُّ على انتمائها لسلف مشترك ووجود علاقة قربى تطورية بينها، مع وجود بعض الاختلافات في الشكل الخارجي يُفَسَّر بالاختلاف الوظيفي لها المرتَبِط بنمط التكيف مع البيئة الخاصة بها. فرغم الاختلافات الشكلية في أطراف الفقاريات (زعنفة حوت الدلفين وجناح الطيور والخفاش مثلاً)، فإن هذه الأطراف المختلفة في وظائفها تحتفظ بالترتيب نفسه من العظام، أي الترتيب التشريحي نفسه الموجود عند السلف، وقد عُرِفَ ذلك بمبدأ الأعضاء المتقابلة homologous organs ( الشكل 3).

الوصف: C:\Users\khuzama\Desktop\من يوسف تقانة 9 ايلول مشغول نهائي\المجلد 9 تقانة اخراج تدقيق وتصحيح ايلول\المجلد 9مصحح نهائي ق1+ 2 تم تنزيله على الموقع\من يوسف تقانة 9 ايلول مشغول نهائي\المجلد 9 تقانة اخراج تدقيق وتصحيح ايلول\المجلد 9مصحح نهائي ق1+ 2 تم تنزيله على الموقع\1328\1328-3.jpg

الشكل (3) الترتيب التشريحي لأعضاء متقابلة (أطراف الفقاريات.(

وتقدم الأعضاء المتقابلة برهاناً مهماً على وجود سلاسل تطورية في حياة الكائنات، تبدأ بالأشكال البسيطة، وتنتهي بالأشكال المعقدة، مثل تطور الجملة العصبية عند اللافقاريات والفقاريات، والبنية التشريحية للقلب، والتعقد التدريجي في الرئات من رئات بسيطة لدى الأسماك والضفادع إلى رئات معقدة عند الزواحف والطيور والثدييات. وتشرح "نظرية النَسَب" أصل الأعضاء المتراجعة، مثل تراجع الأطراف عند الحيتان الثديية وتَحَوُّلِها إلى أطراف للسباحة، فهذا التراجع والتغير الوظيفي كان نتيجة تعديلات في الوسط الذي تعيش فيه، حيث لجأت تلك الثدييات إلى العيش في مياه البحار في الحقب الجليدي البارد حينما انخفضت درجة حرارة الأرض انخفاضاً كبيراً وأصبح الغذاء المناسب لها نادراً؛ عندئذٍ لجأت إلى الماء لتوفر الحرارة والغذاء المناسبين لها. وفي هذه المرحلة التطورية كان "للضغط الاصطفائي" الأثر الأكبر في تراجع أطراف المشي عند تلك الثدييات وتحولها وتطورها إلى أطراف سباحة.

أهمية علم الجنين المقارن comparative embryology في التطور

كما يقدم علم الجنين المقارن وقائع علمية مهمة تفسر العملية التطورية للكائنات على الأرض، وتبرهن على أن المراحل المبكرة من التشكل الجنيني لدى الفقاريات متماثلة، مثل تشكل الجيوب والأقواس الغلصمية عند كل أجنة الفقاريات المختلفة؛ لكن هذه الجيوب تكون وظيفية عند الأسماك، وتختفي عند كل الفقاريات الرباعيات الأرجل (الشكل 4)، حيث تتطور الجيوب والأقواس الغلصمية، فتتحول إلى المنطقة الرقبية وأعضاء أخرى مثل القناة السمعية (نفير أوستاش) وتشكيل غدد صماء في منطقة الرقبة مثل الغدة الدرقية والصعترية.

الوصف: C:\Users\khuzama\Desktop\من يوسف تقانة 9 ايلول مشغول نهائي\المجلد 9 تقانة اخراج تدقيق وتصحيح ايلول\المجلد 9مصحح نهائي ق1+ 2 تم تنزيله على الموقع\من يوسف تقانة 9 ايلول مشغول نهائي\المجلد 9 تقانة اخراج تدقيق وتصحيح ايلول\المجلد 9مصحح نهائي ق1+ 2 تم تنزيله على الموقع\1328\1328-4.jpg

الشكل (4) المراحل الجنينية المبكرة والمتأخرة: ظهور الجيوب الغلصمية وتطورها لدى الفقاريات المختلفة.

فالفقاريات ترتبط إذاً بسلاسل تطورية تبدأ بالأسماك التي ظهرت منذ 70 مليون سنة، وتنتهي بالثدييات التي تمثل أعلى درجات التطور. وقد مَكَّنَت الدراسةُ الجنينية للمراحل اليرقية عند اللافقاريات أيضاً من معرفة الموقع التصنيفي الصحيح ودرجة القرابة لبعض اللافقاريات.

وقد لَخَّص إرنست هيكِل E.Haeckel التغيرات التطورية بقانونه الشهير "قانون توالد الأحياء" الذي ينص على "أن التطور الفردي ontogeny يُعيد باختصار تاريخ التطور السلالي phylogeny"، حيث إن الحيوان البالغ يمر بكل مظاهر التغيرات السابقة من تاريخ حياة السلف. أما كارل إرنِست فون بير C.E.Beer  فإنه يُشير في قانونه إلى "أن المراحل المبكرة من تاريخ حياة الحيوانات المختلفة تُظهِر تشابهاً مع بعضها أكثر من المراحل المتأخرة"، وقد فسر العلماء هذا التشابه في المراحل الأولى من التشكل الجنيني لدى الفقاريات بوجود جينات (مورثات) genes متماثلة محمولة على الحمض النووي الدنا DNA تكون مسؤولة عن ظهور الصفات المبكرة المشتركة في المراحل المبكرة لأجنة الفقاريات. أما تنوع الفقاريات وتمايزها فيعود -وفق رأي العلماء- إلى إضافة جينات جديدة، خاصة في الفصائل والرتب والأنواع، أو إمكان حدوث طفرات mutations تصيب الجينات؛ فتؤدي إلى هذا التشعب التطوري وتمايز صفوف الفقاريات المختلفة.

أهمية الكيمياء الحيوية biochemistery في التطور

تقدم دراسات الكيمياء الحيوية Biochemistry برهاناً علمياً مهماً عن التطور على الأرض، فدراسة الطبيعة الكيميائية للخلايا المختلفة التي وُجِدَت على سطح الأرض أثبتت من دون أدنى شك التشابه الكيميائي في مُكَوِّنات الخلايا مثل الحموض الأمينية العشرين وإنزيمات السيتوكروم التنفسية ووجود جزء مشترك من الدنا DNA يحمل الجينات نفسها والمعلومات الوراثية نفسها في كل أنماط الخلايا، والجراثيم والكريات البيض وغيرها. مثلاً السيتوكروم G لدى القرود والأبقار يماثل كثيراً السيتوكروم G عند الأسماك، وهذا دليل على صلة القرابة بين هذه الأنواع من الثدييات، وبصورة مماثلة تَكَشَّف للعلماء -بالدراسة المقارنة للكيمياء الحيوية لبروتينات الدم - وبالدليل الواضح- وجود درجة من القرابة بين الأنواع المختلفة، واستنتاج العلاقات التطورية بين الأنواع المختلفة من الكائنات الحية.
وتقدم الدراسة الكيميائية الحيوية المقارنة لتسلسل الحمض النووي وضع الكائنات الحية في موضعها التصنيفي الصحيح بين سلاسل الكائنات ورَسْم أشجار النسب والتطور بشكلها العلمي الصحيح بعيداً عن الافتراضات الخاطئة.

ويمكن إدراج إسهامات علم الغدد الصم في التطور تحت هذا الدليل الكيميائي الحيوي، فقد لوحظ أن تطور الهرمونات لدى الفقاريات كان موازياً لتطور الأعضاء، فقد عُرِفَ وجود أبسط الهرمونات عند عديمات الفكوك Agnatha. وكذلك رافق تطور الحياة وانتقالها من المياه إلى اليابسة تطور الأطراف للمشي وتغير وظيفي في التنفس من تنفس غلصمي إلى تنفس هوائي بالرئات، ورافق ذلك تطور بالطبيعة الكيميائية للهرمونات لأداء وظائف جديدة للكائنات الحية. فالحياة على الأرض فرضت تطور الهرمونات من هرمونات بسيطة التركيب الكيميائي وجدت عند الفقاريات الدنيا إلى هرمونات معقدة التركيب الكيميائي عند الثدييات، وكان الشكل البسيط للهرمونات تحت إشراف جينة سلفية شَكَّلَت الهرمون عند الفقاريات الدنيا، ثم حدث تضاعف وتغيرات لهذه الجينة السلفية لتشكل هذا التنوع في الطبيعة الكيميائية للهرمونات الذي رافق تنوع أشكال الحياة على الأرض وتطورها. ويبين الشكل (5) مخطط التطور لعائلة مستقبلات الهرمون المطلق لموجهة الغدد التناسلية (GnRH) في الفقاريات Anc GnRHR، جين مستقبلات هرمون إفراز الغدد التناسلية 1R، 2R، والجولتين الأولى والثانية من الازدواجية الكاملة للجينوم في الفقاريات المبكرة 3R، والجولة الثالثة من تكرار الجينوم الكامل في التليوستس المبكر.

الوصف: C:\Users\khuzama\Desktop\من يوسف تقانة 9 ايلول مشغول نهائي\المجلد 9 تقانة اخراج تدقيق وتصحيح ايلول\المجلد 9مصحح نهائي ق1+ 2 تم تنزيله على الموقع\من يوسف تقانة 9 ايلول مشغول نهائي\المجلد 9 تقانة اخراج تدقيق وتصحيح ايلول\المجلد 9مصحح نهائي ق1+ 2 تم تنزيله على الموقع\1328\1328-5.jpg

الشكل (5مخطط التطور لعائلة مستقبلات الهرمون المطلق لموجهة الغدد التناسلية GnRH ... . المربعات الرمادية (×) فقدان الجينات، السهم الأحمر، ازدواجية الجينات المحلية

لامارك والتطور: لامارك و اللاماركية Lamarckism

قدم العالم الفرنسي  جان بابتيست لامارك J.B.Lamrck نظرية كاملة في كيفية تطور المتعضيات وتكون الأنواع في كتابه "فلسفة علم الحيوان" "Zoological Philosophy" عام 1809، وأهم ما وضعه فكرة التحول الشكلي للأنواع، فهو يرى أن النوع غير ثابت بل يتغير تغيراً تدريجياً مع الزمن متحولاً إلى نوع جديد، لهذا أطلق على النظرية  اللاماركية اسم نظرية التحول. واعتقد لامارك أن التطور يجري بزيادة استخدام أحد أعضاء الجسم وتكراره من دون غيره يؤدي إلى زيادة نمو هذا العضو، حيث يرى أن زيادة طول رقبة الزرافة يعود إلى أن الزرافة تمد رقبتها إلى الأشجار لتناول أوراق الشجر؛ لتتغذى بها، وهذا الجهد الذي تبذله كان سبباً في نمو رقبتها وتطاولها ( الشكل 6).

الوصف: C:\Users\khuzama\Desktop\من يوسف تقانة 9 ايلول مشغول نهائي\المجلد 9 تقانة اخراج تدقيق وتصحيح ايلول\المجلد 9مصحح نهائي ق1+ 2 تم تنزيله على الموقع\من يوسف تقانة 9 ايلول مشغول نهائي\المجلد 9 تقانة اخراج تدقيق وتصحيح ايلول\المجلد 9مصحح نهائي ق1+ 2 تم تنزيله على الموقع\1328\1328-6.jpg

الشكل (6) تطاول رقبة الزرافة مع بذل الجهد للوصول إلى الأوراق العالية في الشجرة؛ وفق أفكار لامارك في التطور (نظرية لامارك). 

في هذا المثال توصل لامارك إلى صياغة أفكاره في التطور في قانونين، هما:

- قانون الاستعمال أو عدم الاستعمال: تتحور أعضاء الكائنات الحية نتيجة الاستخدام أو عدمه، فالعضو الذي يعمل يقوى وينمو، في حين أن عدم الاستخدام لبعض الأعضاء يؤدي إلى تراجعه وضموره، ومن ثم زواله.

- تكون التحولات في الأعضاء قابلة للتوريث إلى الأبناء، أي إن الصفات التي يكتسبها الفرد من الطبيعة تحت تأثير الظروف وخلال زمن طويل (فرط الاستعمال أو عدمه) يمكن أن تنتقل وراثياً للذرية؛ إذا كانت مشتركة بين الجنسين.

وألَحَّ لامارك في نظريته على العلاقة القائمة بين الكائن والوسط، كما ألح على الجهد الحيوي الذي تبذله الكائنات؛ لكي تتلاءم مع الوسط، فكان لهذا الإصرار والتمسك بأفكاره هذه السبب الرئيسي وراء إخفاق نظريته وتوجيه الانتقادات القوية لنظريته التي كان على رأسها:
- النقد الموجه حول أثر الاستعمال في نمو الأعضاء والجهد الذي يبذله الكائن، فهي فكرة ضعيفة؛ لأنها تعتمد على إمكان الشعور ببذل الجهد فهذا الأمر لا يكون ممكناً عند الحيوانات والنباتات، ولكن ذلك يمكن أن يكون لدى الإنسان الذي يمارس الرياضة لتنمية عضلات جسمه مثلاً.
إن توريث الصفات المكتسبة للكائن تحت تأثير الوسط قد تعرض لنقد كبير، فقد وجد العلماء مثل العالم فايسمان Weismann أن أي كائن حي يتكون من الجسم soma و الأصل المنشئ Germen، فالصفات التي يكتسبها الكائن في جسمه لا يمكن أن تسجل في ذخيرته الوراثية (أي في الأصل المنشئ) لوجود استقلال تام بين الجسم والأصل المنشئ (حيث تتشكل البيوض، أو النطاف في المناسل)، فلا يمكن لإنسان رياضي أن يُوَرِّثَ عضلاته النامية إلى أبنائه، فهذا أمر بعيد جداً عن الواقع.

أمام كل هذه الانتقادات اللاذعة للنظرية اللاماركية برز على الساحة من يدعم الأفكار اللاماركية مثل داروين الذي أخذ في نظريته الجديدة القبول بتوريث الصفات المُكتَسَبَة وتأثير الاستعمال في نمو الأعضاء، فقد كان داروين لاماركياً جديداً، وحاول أصدقاء لامارك إنقاذ نظريته من الانهيار بإعطاء "فكرة اللاماركية الجديدة" التي صاغها عالم المستحاثات الأمريكي كوب E.D. Cope، كما ظهر لاماركيون جدد فرنسيون عام 1885 مؤيدون لأفكار لامارك، حتى في إنكلترا حيث استمر المؤيدون حتى الثلاثينيات من هذا القرن. ولم تختف اللاماركية الجديدة تدريجيا ًإلا بعد المحاولات العقيمة التي سعت إلى إثبات توريث الصفات المكتسبة تدريجياً.

داروين والداروينية Darwinism

بقي العالم الإنكليزي تشارلز روبرت داروين C.R. Darwin الذي أرسله والده لدراسة الطب في أدنبرة – اسكتلندا - عامين في دراسة الطب إلا أن رغبته كانت ضعيفة في المتابعة، فقد أحب دراسة العلوم حينما كانت الحركة العلمية في أوربا على أشدها (علم المستحاثات و التشريح المقارن و مجالات مختلفة في علم الحيوان والنبات)، وكان لذلك بالغ الأثر في توجه داروين نحو دراسة العلوم بين عامي 1828-1831 (حصل داروين على البكالوريوس من جامعة كامبريدج Cambridge University)، واستفاد من أستاذه شار لييل Ch. Lyell واضِع أسس الجيولوجيا، والذي وضع أفكاراً قَيِّمَة حول تَكَوُّن الأرض وأثر القوى الطبيعية (من زلازل وبراكين) في تغيير معالم الأرض وتغير مناخها وما لذلك من تأثير في الكائنات الحية وتغيرها التدريجي.

وكان لعالم الطبيعة وأستاذ علم النبات جون هنسلو J.Henslow أثر في توجيه الشاب داروين إلى الالتحاق بالرحلة العلمية البحرية إلى جنوب أمريكا على ظهر الباخرة بيغل Beagle التابعة للبحرية البريطانية.

وبَقِيَ داروين إلى قبل مغادرته يرفض مفهوم التطور وهو مع نظرية "عدم تغير النوع". وقد استمرت الرحلة 5 سنوات من عام 1831 إلى عام 1836 زار خلالها كل جزر غالاباغوس Galapagos (أربع عشرة جزيرة)، كما زار جنوب أمريكا.

ولاحظ داروين خلال رحلته التنوع الكبير في مناقير العصافير من حيث الحجم والشكل في الأنواع التي شاهدها على الجزر المختلفة لغلاباغوس، فكان يُدَوِّن ملاحظاته اليومية حولها، وأمكنه تحديد 13 نوعاً من هذه العصافير، وقد عَزا اختلاف شكل مناقيرها إلى اختلاف نمط الغذاء، فقد كان بعض المناقير أكثر ملاءمة للحصول على الرحيق من الأزهار أو تناول البذور الصلبة في بيئات مختلفة، و تكيفت مع الطبيعة التي تعيش فيها من أجل البقاء والتكاثر (الشكل 7). وهكذا وجد داروين أن الحيوانات من أنواع مختلفة تتشابه كلما قصرت المسافة بينها، واقتنع داروين بأن عمليات الطبيعة أدت إلى تطور الأنواع، وجمع المعلومات اليومية التي دَوَّنَها، ثم عاد إلى إنكلترا مقتنعاً بالتطور إلا أنه لم يعرف كيفية حصول التغيرات في الأنواع.

الوصف: C:\Users\khuzama\Desktop\من يوسف تقانة 9 ايلول مشغول نهائي\المجلد 9 تقانة اخراج تدقيق وتصحيح ايلول\المجلد 9مصحح نهائي ق1+ 2 تم تنزيله على الموقع\من يوسف تقانة 9 ايلول مشغول نهائي\المجلد 9 تقانة اخراج تدقيق وتصحيح ايلول\المجلد 9مصحح نهائي ق1+ 2 تم تنزيله على الموقع\1328\1328-7.jpg

الشكل (7) عصفور داروين: تنوع شكل المنقار وفق نمط الغذاء في جزر غالاباغوس المختلفة.

ولم يكن داروين يعتقد أن البيئة كانت تُنتِج الاختلاف داخل مجموعة العصافير. وأعرب عن اعتقاده أن الاختلاف قائم فعلياً؛ ولكن الطبيعة اختارت شكلاً لمجرد كون المنقار أنسب وأفضل للحياة. ولهذا وصف داروين -أواخر عام 1860- هذه العملية باسم "البقاء للأصلح". إن استخدام داروين عبارة "البقاء للأصلح" كثيراً ما أسيء فهمه من الناس، فهم يرون أن "كلمة أصلح" تعني لهم الأقوى و الأذكى والأكثر دهاء من الأفراد. ولكن من وجهة النظر التطورية يكون أصلح الأفراد ببساطة هم الذين لديهم مزيج من الصفات التي تسمح لهم بالبقاء على قيد الحياة وإنتاج المزيد من النسل.

والاس Wallace وفكرة التطور

بقيت فكرة التطور في ذهن داروين سنين متعددة من دون أن تأخذ اسم النظرية الداروينية، ويكاد داروين ألا يكون مكتشفاً لفكرة تطور الكائنات، حيث كانت لدى عالم الطبيعة الإنكليزي ألفرِد والاس A. Wallace فكرة في تفسير تطور الكائنات الحية بوساطة الاصطفاء الطبيعي natural selection، وهي الفكرة التي توصل إليها داروين حينما كان يقوم بتربية الحمام وتدجينه بعملية انتقاء الأنواع خلال عدة أجيال بعد إجراء التزاوج بين أفراد النوع الواحد وعمله في اختيار صنعي للأفضل من الحمام المهجن أو اصطفاءه، كانت مصدر إلهامه لفكرة الاصطفاء الطبيعي التي شكلت النقطة الرئيسة في نظريته.

رغم أن والاس تَقَدَّم بفكرته إلى الجمعية اللينينية Linnean society of London في لندن عام 1858، فإن داروين تُقَدَّم لاحقاً بنصوصه المدعمة بتفاصيل مع كثير من الأمثلة التي مَكَّنَتْهُ من الفوز ونَشْرِ أفكاره في التطور في العام التالي 1859، إذ صدر الكتاب الشهير لداروين تحت عنوان "أصل الأنواع من طريق الاصطفاء الطبيعي" "The Origin of Species by Means of Natural Selection" الكتاب الذي يقع في 500 صفحة ويحتوي على أدلة حقيقة التطور وآليات الاصطفاء الطبيعي، وفيه المبادئ الأساسية في النظرية الداروينية، وهي التالية:

- التغير الناجم عن الطبيعة.

- الصراع من أجل البقاء.

- الاصطفاء الطبيعي أو بقاء الأفضل والأصلح.

النظرية الداروينية

زَوَّد داروين نظريتَه بوثائق تجريبية من المستحاثات (الأحافير) للحيوانات المختلفة، وقد أخذ داروين بأفكار لامارك في التطور بعد أن أدخل عليها تفسيرات وأفكاراً جديدة تدعم حقيقة التطور، وتجنب المواقف السلبية عند سلفه لامارك.

وقد قرأ داروين تأثير الوسط في صفات الكائن الحي بنمطين من التغيرات Variations:

التغيرات المحددة: حيث كل أفراد المتعضيات تخضع إلى تبدل بالأسلوب نفسه، وهذا يحدث إذا أثرت ظروف الوسط بحرفيتها في الجماعة والأفراد.

التغيرات غير المحددة: أي إن تأثير الوسط لا يكون منتظماً في كل الأفراد؛ مما يؤدي إلى تنوع كبير في أشكال الكائنات. وهكذا كان لتأثير الوسط المركز والمكان الأول في النظرية الداروينية.

واستمد داروين فكرة الاصطفاء التي شكلت نقطة انطلاق نجاحه من خبرته في مجال الاصطفاء الصنعي آنف الذكر، لكن الفكرة الأساسية للاصطفاء اقتبسها من عالم الاقتصاد الإنكليزي توماس مالتوس Thomas Malthus الذي نشر مقالاً حول المبادئ السكانية، حيث لاحظ أن أعداد البشر سوف تتضاعف كل 25 سنة ما لم يُحتفظ في الاختيار بينهم بتحديد الإمدادات الغذائية. وفي عام 1838 قرأ داروين مقال مالتوس، وجاء بالقول: علينا أن ندرك أن جميع الكائنات النباتية والحيوانية لديهم هذه القدرة نفسها لزيادة أعدادهم بسرعة ما لم يُحافظ عليها باستمرار في الاختيار (أو الاصطفاء)، ويكون للحيوانات المفترسة والأمراض والقيود في المواد الغذائية والمياه وغيرها من الموارد الضرورية من أجل البقاء دورها الأساسي في الاصطفاء. وكانت هذه الأفكار باعثاً أساسياً لفهم داروين لعملية الانتقاء الطبيعي، وتُثبِت لديه فكرة "الصراع من أجل الحياة"، وعندما يعزُّ الغذاء ولا يتوفر تنشب صراعات بين الجماعات البشرية للحصول على الغذاء والاستمرار في الحياة، ومن ثم يحدث الاصطفاء. ويضرب داروين كثيراً من الأمثلة حول هذا الصراع من أجل الحياة، مثل تنازع الحيوانات اللاحمة على افتراس الحيوانات الأخرى، أو عدم استمرار الأنواع في التكاثر والبقاء بسبب فقدان بيوضها (مثل الأسماك والضفادع) بحيث لا تستطيع متابعة تطورها، أو تموت الأفراد من قلة الغذاء وغيرها، ويقول داروين: إن الأنواع الحية المتغيرة أو القابلة للتغير تكون أكثر تلاؤماً مع البيئة، وهي من ثم قادرة على البقاء وأن الاصطفاء يُبقي الأنسب أو الأصلح في الصراع من أجل الحياة.

ويصنف داروين الصراع على الحياة في ثلاثة أشكال، هي: التنازع مع قوى الطبيعة، وتنازع الأنواع بعضها مع بعض وتنازع بين أفراد النوع الواحد نفسه.

وهكذا يرى داروين ومؤيدوه أن الاصطفاء الطبيعي يُمَثِّل العصا السحرية التي تُشَكِّل الأنماط والأشكال الجديدة القادرة على البقاء.

وقد لاقت النظرية الداروينية عدة انتقادات يمكن إجمالها بالنقاط التالية:

- اقتناع داروين بأن التطور يسير باتجاه واحد، وعدم حدوث تغيرات مفاجئة (منقطعة) مثل الطفرات mutations ؛ لعدم معرفته بعلم الوراثة.

- آمن داروين بتأثير الوسط في تغير الأنواع وتوريث الصفات المُكتَسَبَة، وهي أفكار "لامارك"، لذا وُجِّهَ إليه النقد كما وجه إلى سلفه لامارك.

- لا يمكن تعميم فكرة الصراع من أجل الحياة؛ لأن أسباب الإبادة قد تكون حدوث "كوارث طبيعية"، وموت بعض الأفراد وبقاء أخرى يكون بمحض المصادفة، وليس لكونها قوية أو ضعيفة، في هذه الحالة من الكوارث لا يكون للاصطفاء دور.

- إن الاصطفاء الطبيعي مثل الصنعي لا يمكن أن يكون فعالاً إلا إذا حدثت تبدلات في الأصل المُنْشِئ germen الوراثي (الخلايا التناسلية)، فليس للاصطفاء أي قيمة خَلّاقة، إذ إنه لا يزيد في الصفات السابقة للفرد، وإنما يقوم بِعَزْل الطابع الوراثي أو الطفرات، وهذا ما يخص الاصطفاء الصنعي، وليس الطبيعي.

ولكيلا يخسر داروين ومؤيدو أفكاره في نظرية التطور حاول العلماء تفسير الاصطفاء تفسيراً أفضل معتمدين على علم الوراثة و ما يسمى بالطَفْرِيَّةmutationism، حيث برز ما سُمي بالنظرية الداروينية الجديدة (الطفرية).

النظرية الداروينية الجديدة أو الطفرية

كان لظهور "علم الوراثة" الذي وضع أسسه وقوانينه العالم  جورج مندل  G.J.Mendel عام 1860 الفضل في حل الكثير من المسائل الحيوية والتساؤلات التي طُرِحَت في زمن داروين و نظريته، فالوراثة المندلية تكشف عن قواعد الانتقال الوراثي للصفات الوراثية، وتضع القواعد الأساسية في دراسة آلية التطور، وقد بقيت أعمال مندل مهملة حتى عام 1900؛ حينما قدم عالم النبات الهولندي هوغو دو فري Hugo de Vries أفكاراً جديدة في علم الحياة (البيولوجيا)، هي فكرة "التغير المفاجئ القابل للتوريث" أو الطفرات، وهي تغيرات تحدث على نحو قفزات تتناول الأصل المُنشِئ؛ هذه التغيرات كان داروين قد عجز عن تفسيرها، ولم يؤمن بها. فهذه التغيرات تُسَجَّل في الذخيرة الوراثية، وهي قابلة للتوريث.

وانتهى دو فري إلى نتيجة مهمة، هي أن الصفات الطافرة هي التي " تُكَوِّن أنواعاً جديدة"، وأن الصفات الطافرة تظهر فجأة، ولا تلبث أن تنتشر لدى عدد كبير من الأفراد مرة واحدة، وتُخرِجها من نوع إلى نوع جديد.

وهكذا نفى دو فري وجود دور الاصطفاء الطبيعي في التطور، وقال: إن التطور لا يحدث حدوثاً متدرجاً كما أشار داروين، بل يحدث على نحو قفزات، وهنا تبرز المشكلة بين الداروينية والطفرية: فالأولى تعطي الأولوية في العملية التطورية للاصطفاء الطبيعي، والثانية تعطي الأولوية للطفرات.

وبعد هذا الجدل برز المذهب الدارويني الجديد ليجمع بين فكرة الاصطفاء الطبيعي والطفرات. ويقول هذا المذهب "يتدخل الاصطفاء الطبيعي، فيحافظ على الأفراد الطافرة المواتية التي تتلاءم لِحُسن الحظ مع الظروف البيئية". وهكذا يمكن اختصار الداروينية الجديدة بالنقاط التالية:

- إن الطبيعة المتغيرة باستمرار تقدم من حين لآخر عَيِّنات جديدة مختلفة، منها الضعيف، ومنها القوي، وتعمل لصالح الأقوى والأصلح للحياة، وتُبعِد الضعيف. بعبارة أخرى: تصطفيهم، وتُثَبِّت الصفات الطافرة المناسبة للحياة والاستمرار.

- لا يكون للطفرات العشوائية قيمة في البدء، وهي تُمحى بالاصطفاء الطبيعي، في حين يحافظ الاصطفاء على النوع السليم، ويساعده على البقاء.

- تقبل الداروينية الجديدة بأثر الاصطفاء الطبيعي سبباً في تطور الأنواع و تفسير الخسائر التي تصيب النوع؛ ولكنها تعطي للطفرة القيمة التطورية في عملية التطور، وفق رأي هوغو دو فري.

- يحدث الاصطفاء الطبيعي التوجيهي تجديداً في المورثات، فالمورثات التي كانت مفيدة يوماً ما عندما كان النوع يعيش في بيئة معيّنة قد تصبح أقل فائدة عندما تتغير هذه البيئة، أو تنتقل أفراد النوع للعيش في بيئة جديدة، هنا يقوم الاصطفاء التوجيهي بإحلال مورثات جديدة محل المورثات القديمة، تجعل الكائن متكيفاً مع بيئته الجديدة.

وقد وُجِّهَ النقد للداروينية الجديدة كما وُجِّهَ لغيرها، خاصة ما يتعلق بالطفرات، إذ إن كثيراً من الطفرات غالباً ما تكون ضارة وتُفقِد النوع الخصوبة والاستمرار في الحياة والتطور، كما ظهر في طفرات ذبابة الخل، فليس للطفرات قيمة تطورية مطلقة، وكثير منها له صفة الإماتة، وخاصة عندما تصيب الأفراد متماثلي اللواقح (مرض فقر الدم المنجلي sickle cell anaemia). وعندما تتصف الطفرة بصفة التنحي فيما يخص النمط العادي فيمكن أن يكون لهذه الطفرات حظ قليل في إعطاء أرومة جديدة لعروق ثابتة. ويدافع الداروينيون الجدد عن الطفرات المتنحية بقولهم: إن مثل هذه الطفرات تصيب عدداً صغيراً من الأفراد التي يمكنها أن تكوِّن عروقاً جديدة أكثر ثباتاً؛ أي تصبح مسيطرة. وجدير بالذكر أن ما زال لبعض الطفرات قيمة في التطور، وإن يكن لها بعض السلبيات، فإن قيمتها في التطور لا يمكن إنكارها.

خلاصة القول تُكامِل النظرية الداروينية في شموليتها معطيات الجيولوجيا وعلم المستحاثات والتشريح المقارن والفيزيولوجيا وعلم الوراثة وعلم السلوك وغيرها، وإنها تُحاوِل أن تُظهِر الحالة الحاضرة للعالم الحي على أنها نتيجة تاريخية.

ويُشار هنا إلى تعريف مصطلح التطور بناء على ما أظهره علم الوراثة الجزيئي، وهو التغيرات البسيطة ضمن النوع والتي تنتقل من جيل إلى آخر ولمدة طويلة مؤدية إلى ظهور أنواع جديدة . أو مجموع التغيرات الوراثية الموروثة في الأفراد المكونة للمجتمع الوراثي التي تؤدي إلى تغير في تواتر الأليلات ضمن المجتمع الوراثي في المجتمع.

مراجع للاستزادة:

- بشير الزالق، التطور ونشأة الحياة على الأرض، منشورات جامعة دمشق 1993.

- R. F. Kratz- What Evidence Supports the Theory of Evolution?, Biology Workbook For Dummies, 2015.

- V. Kumar, R. Campbell, A Better Ape: The Evolution of the Moral Mind and How it Made us Human, Oxford University Press, 2022.

- A. Roberts, Evolution: The Human Story, DK 2018.

- ‎J. A. Shapiro, Evolution: A View from the 21st Century, Cognition Press, 2022.

 


- المجلد : المجلد التاسع مشاركة :

بحث ضمن الموسوعة

من نحن ؟

الموسوعة إحدى المنارات التي يستهدي بها الطامحون إلى تثقيف العقل، والراغبون في الخروج من ظلمات الجهل الموسوعة وسيلة لا غنى عنها لاستقصاء المعارف وتحصيلها، ولاستجلاء غوامض المصطلحات ودقائق العلوم وحقائق المسميات وموسوعتنا العربية تضع بين يديك المادة العلمية الوافية معزَّزة بالخرائط والجداول والبيانات والمعادلات والأشكال والرسوم والصور الملونة التي تم تنضيدها وإخراجها وطبعها بأحدث الوسائل والأجهزة. تصدرها: هيئة عامة ذات طابع علمي وثقافي، ترتبط بوزير الثقافة تأسست عام 1981 ومركزها دمشق 1