logo

logo

logo

logo

logo

المعالجات في الطب النفسي

معالجات في طب نفسي

treatments in psychiatry - traitements en psychiatrie



المعالجات في الطب النفسي

 

محمد أديب العسالي

طرائق العلاج النفسي الجماعي أسس تقديم الرعاية الطبية النفسية
المشورة النفسية طرائق المعالجة في الطب النفسي
إعادة التأهيل النفسي العلاجات البيولوجية في الطب النفسي
العلاج الطبي النفسي في المجتمعات العربية المعالجة النفسية
   

لكلمة "معالجة" في الطب النفسي معنى أوسع من معناها في الطب الجسدي؛ ذلك لأن عدم معرفة أسباب نوعية للاضطرابات النفسية يضع الطبيب النفسي في موقف يشبه موقف الطبيب الجسدي قبل نحو مئة سنة، ويوسع مفهوم المعالجة؛ ليشمل جميع التداخلات التي قد تُحسِّن حالة المريض النفسية والعقلية، وتساهم في إعادة تأهيله وفي عودته إلى المجتمع. فهناك تداخلات تستخدم في الاضطرابات النفسية الحادة (مثل الأدوية)، وتداخلات تستخدم بعد انتهاء الاضطراب الحاد (مثل المعالجات النفسية)، وتُشارك بعض التداخلات تداخلات أخرى بغية تحسين استجابة المريض (مثل الأدوية التي تساهم في إعادة ربط المريض بالواقع، فتساعده على الاستفادة من العلاج النفسي ومن برامج إعادة التأهيل). ويُقصد بالتداخل هنا كل الأعمال والإجراءات المستخدمة من قبل مقدمي الرعاية الطبية النفسية لتقديم أفضل ما يمكن من الخدمات المجدية والفعالة لأي شخص يطلب الرعاية الطبية النفسية. وتشتمل التداخلات على كل الأفعال التي قد تفيد الشخص مثل العلاج الدوائي والعلاج النفسي وغيرها من التداخلات التي قد تساعد المريض على استعادة صحته؛ إذ يُعاني طالبو الرعاية الطبية النفسية عادةً مشكلات عيش تفاقم ضائقتهم النفسية، ويجب التعامل مع مشكلات العيش هذه، ولكن طرائق التعامل معها قد تختلف عما هو دارج في الرعاية الصحية؛ فمثلاً، قد تراجع مريضة؛ لأنها "تُفَكِّر كثيراً"، وبعد المقابلة والفحص يجد الطبيب أنها مصابة بالاكتئاب، ويرى أنه من المناسب وصف دواء مضاد للاكتئاب، ولكن المشكلة التي أثارت الاكتئاب عندها هي التعرض للضرب على نحو متكرر في المنزل؛ مما يوجب التعامل مع مشكلة الضرب إضافةً إلى العلاج المضاد للاكتئاب من أجل مساعدتها على استعادة عافيتها. يُستنتج من ذلك أن التداخل الطبي النفسي هو أكثر من مجرد وصف الأدوية، فلكل شخص مجموعة نوعية من الخواص والقيم الشخصية والعائلية والاجتماعية والثقافية والبيولوجية والروحية، ومن الضروري تقييم كل ذلك قبل تحديد التداخلات اللازمة. ورغم أن الاكتفاء بكتابة وصفة دواء قد يبدو أسرع وأسهل؛ فإن التداخل الخاطئ أو الناقص هو إضاعة لجهد الطبيب ووقته وإطالة لا مسوّغ لها لأمد معاناة المريض. كذلك، يجب عدم التسرع بوصف تداخلات غير لازمة تحت أي ضغط، فقد يتعرض الطبيب لضغوط شديدة من قبل عائلة مراهق؛ لكي يصف له دواءً مضاداً للذهان بهدف جعله أكثر تعاوناً حتى لو لم يكن مصاباً باضطراب يتطلب دواءً مضاداً للذهان. يجب على الطبيب في مثل هذه الحالة مساعدة الأسرة على إيجاد طرائق بديلة للتواصل والتعامل مع ابنها؛ فمن المبادئ الأساسية لأي معالجة أن يُعامل أي شخص على أساس أنه فرد يستحق الاحترام.

أسس تقديم الرعاية الطبية النفسية:

يتطلب تقديم الرعاية الطبية النفسية لمن يطلبها في سورية وغيرها من الدول العربية اتباع الأصول المتبعة في أرجاء العالم كافة. فالطبيب (وغيره من المعالجين) يعالج مراجعيه؛ لأنه قد حصل على ثقة أولئك المراجعين وعلى ترخيص من المجتمع بأنه مؤهل وقادر على تقديم تداخلات الرعاية الصحية. ومن الضروري بذل كل جهد ممكن لتأسيس علاقة مع المراجع، بما في ذلك الأشخاص المضطربون نفسياً؛ إذ يمكن غالباً إيجاد قاسم مشترك بين الطبيب والمراجع يعدّ نقطة بداية لتعاون لابد منه لنجاح التداخل، حتى لو كانت شكوى المريض غريبة؛ فقد يعتقد المراجع أنه تحت تأثير الجن أو السحر، ولكنه يقدّر في الوقت نفسه عادةً أنه يواجه مشكلة، ويدرك أنه يعاني تلك المشكلة مهما كانت غريبة، وتعدّ تلك المعاناة نقطة بداية يمكن العمل عليها؛ لتصبح ببساطة اتفاقية بين الطبيب والشخص طالب الرعاية على التداخلات المناسبة. وأهم سبب لفشل الرعاية الصحية هو ميل طالب الرعاية لأن يهمل العلاج، والطريقة المثلى لزيادة التزام الشخص خطة التداخل العلاجي هي بناء شراكة مع الشخص في بدء التداخل والاستمرار باستخدام تلك الشراكة طوال فترة التداخل. ورغم ذلك؛ فإنه من الشائع ألا يلتزم المرضى الخطط العلاجية. وأسباب عدم الالتزام هي نفسها في معظم الحالات، فقد يعاني الشخص - مثلاً-  تأثيرات جانبية مزعجة أو يشعر بالتحسن، فيعتقد أن العلاج عاد غير ضروري؛ ويجب في هذه الحالات ألا يتسرع الطبيب فيغضب من المريض، لأنه لم يلتزم الخطة العلاجية، بل عليه أن يحاول تفهم سبب قطع العلاج وتعديل التداخل العلاجي بناءً على ذلك.

يلاحظ في المجتمع أن المرضى يلجؤون إلى المعالجين الشعبيين والمشعوذين، ويلتزمون تعليماتهم أكثر من لجوئهم إلى الأطباء، ويبدو أن سبب ذلك يكمن في أن المريض يرى أن المعالجين الشعبيين يفهمون مشكلاته على نحو أفضل من طبيب لا يقدم للمريض أكثر من مقابلة لمدة دقيقتين ووصفة دوائية. لذلك من الضروري أن يمنح الطبيب مراجعيه شعوراً بأنه يفهم وجهة نظرهم المتعلقة بسبب ما يعانونه، وأن يوضح خيارات الرعاية الممكنة ويناقشها مع المريض مشجعاً المريض على الاستفسار عنها قبل التوصل إلى وضع توصيات نوعية وخطة تداخل نهائية تحظى بموافقة المريض. فهناك عادةً أكثر من خطة مجدية لتدبير أي مشكلة، ومن الأمثلة البسيطة على ذلك أن شخصاً ما قد يجد أن دواء "كلوربرومازين" مثلاً يسبب له أحاسيس مزعجة، فيطلب تبديله، فلا يجد الطبيب غضاضةً في أن يفسح له المجال لانتقاء مضاد ذهان آخر من بين كل مضادات الذهان المتوافرة؛ المهم هو أن ينظر الطبيب إلى الشخص على أنه شريك يلتزم خطة تداخل متفقاً عليها، وليس مجرد منفذ لتعليمات الطبيب، وفي ذلك ما يدعم التزام الخطة العلاجية وتحقيق نتيجة جيدة.

من الضروري محاولة تأسيس الشراكة العلاجية حتى في الحالات الصعبة، فلو أحضرت الشرطة شخصاً إلى قسم الإسعاف؛ لأنه كان عدوانياً في الشارع، حتى لو كان يصرخ، ويطالب غاضباً بإطلاق سراحه؛ يحتمل أنه يتجاوب مع طبيب يحاول بإخلاص مساعدته على تحديد برنامج يؤدي إلى إطلاق سراحه. أما إذا كان الشخص عاجزاً تماماً عن التعاون؛ فعلى الطبيب محاولة البحث عن قريب للمريض يمكنه تأسيس الشراكة معه، وقد يتطلب الأمر أحياناً استخدام قوة القانون لتعيين وصي يصبح شريك الطبيب في الرعاية الصحية لعلاج الشخص. ومن البديهي أن الحالات الإسعافية - أي حين يكون المريض خطراً جسيماً على نفسه أو على غيره - هي استثناء للقاعدة؛ إذ يجب تفضيل تقديم الحاجة للعلاج الفوري على محاولة الدخول في علاقة شراكة مع المريض؛ كما في أي حالة إسعافية طبية.

على الطبيب تجنب القيام بأي فعل لا يريده المريض؛ إلا إذا كان هناك سبب جوهري للاعتقاد أنه - من دون التداخل- سيؤذي نفسه أو غيره بسبب اضطرابه الطبي النفسي، وقد يكون التزام وجهة النظر هذه غير مريح أحياناً؛ فالطبيب يريد إخبار المريض بما ينوي فعله لمصلحته، والمريض طالب الرعاية مستعد لتقبل نصيحة الطبيب؛ ولكنه قد يرفض بعض التداخلات المقترحة، ولا مانع من أن يرفض المريض بعض التداخلات إذا كان ذلك لا يؤدي إلى إخفاق خطة العلاج، أما إذا رفض الشخص كل ما يقترحه عليه الطبيب؛ فقد يتولد لدى الطبيب ميل إلى ترهيبه وإرغامه على التعاون، ولكن يجب مقاومة نزعة السيطرة على القرار هذه؛ إلا إذا كانت ضرورية لمنع الأذى عن الأشخاص أو الممتلكات. فمن المهم دائماً الحصول على موافقة المريض على ما سيقدم له من رعاية طبية نفسية، ولا تكون الموافقة المستنيرة  informed consent  ممكنة إلا إذا كان المريض مؤهلاً competent لاتخاذ قرارات علاجية؛ وإذا كان قد أُعطي معلومات معقولة عن الخيارات البديلة الممكنة للرعاية؛ وإذا كان حراً من أي ترهيب غير ملائم. ويُعدّ كل البالغين - ومنهم المرضى النفسيون - مؤهلين لاتخاذ قراراتهم العلاجية إلا إذا تم تقييمهم على نحو نوعي، وحكمت المحكمة بأنهم فاقدو الأهلية.

عند اقتراح أي تداخل يجب أن يكون تطبيقه ممكناً، فلا مسوّغ لتصميم تداخل محوره دواء غير متوافر محليا؛ً أو لا يمكن للمريض توفير ثمنه، ولا فائدة من اقتراح أحد أنماط المعالجة النفسية؛ إذا لم يتوافر محلياً معالج مختص بها. كذلك يجب التفكير بكل المعوّقات التي قد تمنع التزام المريض الخطة العلاجية بغية تجنبها أو تخفيفها.

توثيق التداخل:

قد يعتقد بعضهم أن توثيق التداخلات مضيعة للوقت؛ لأن تحسن حالة المريض أو تدهورها سيكون واضحاً للعيان حين يراجع المريض في المستقبل، ولكن يصعب في الواقع تذكر سيرة مرض كل مريض واحتياجاته من دون توثيق جيد، وتبين الدراسات أن احتفاظ المعالج بسجل واضح لكل التداخلات يُحسّن الرعاية المقدمة للمريض، ويسهّل على معالجين آخرين مراجعة التداخلات التي ثبتت فعاليتها أو عدم فائدتها لذلك المريض، ويساعد على نحو خاص الأطباء المناوبين غير المطلعين على حالة المريض في الحالات الإسعافية؛ ولاسيما في المستشفيات المزدحمة التي يتناوب على العمل فيها أطباء مختلفون ومجموعات تمريضية وعلاجية متعددة.

تضمن البحث الأول من بحوث هذا الجزء نموذجاً للمشاهدة الطبية النفسية ينتهي بجدول لتوثيق المشكلات والمداخلات والمتابعة، ويمكن إضافة هذا الجدول إلى ملف المريض واستخدامه لتوثيق التداخلات ولمتابعة تطور الحالة؛ فإذا أُخذت مثلاً حالة شاب أحضرته أمه بسبب غرابة سلوكه وتكرر تورطه بشجارات، وبعد إنهاء التقييم الطبي النفسي والجسدي الشامل؛ يصبح الطبيب جاهزاً لإشراك الشاب بتعريف المشكلات، ومن السهل عادةً إيجاد مشكلتين أو ثلاث مشكلات تشغل بال الشاب. تتضح مثل هذه المشكلات إذا منح الشاب أو والدته الفرصة للتعبير بحرية عن الشكوى الرئيسة؛ فإذا كان المريض يشعر بأنه مسحور مثلاً؛ فليس من الضروري - على الأقل في البداية - إنكار هذا التفسير، بل يجب تحديد مشكلات مشتقة من السلوك (علامات) أو من الشكاوى (أعراض)؛ وليس من التفسير الذي يعطيه أي شخص للأسباب، ويجب أن تكون تلك المشكلات قابلةً للملاحظة وللقياس، فقد يتفق الطبيب مع هذا الشاب على وجود ثلاث مشكلات، هي مثلاً: الشعور بالتهديد من قبل أشخاص مجهولين، وسماع أصوات مُحَقِّرة، والتورط تكراراً بشجارات (الجدول 1).

التاريخ

هدف التداخل

التداخل العلاجي

المتابعة

20/8/2011

تخفيف الأصوات إلى مرة بالأسبوع

كلوربرومازين 400ملغ باليوم

4/9/2011

20/8/2011

تخفيف الشجار إلى أقل من مرة بالشهر

تثقيف حول تأثير الكحول والاضطرابات النفسية

4/9/2011

20/8/2011

الشعور بالراحة مع الآخرين

مناقشة كيفية وضع الحدود مع العائلة

4/9/2011

(الجدول رقم 1) تحديد المشكلات والتداخلات بالاتفاق مع المريض.    

 

خطة التدبير والعلاج   :

بعد تعريف المشكلات يصبح من الضروري تحديد أهداف التداخلات؛ ويجب مناقشة المريض بكل الاستفاضة الممكنة لتحديد أهداف واقعية؛ فلا قيمة بالنسبة إلى الطبيب ولا المريض لاختيار أهداف مستحيلة، كأن يكون الهدف مثلاً عودة طالب إلى دراسته الجامعية خلال شهر؛ وهو ما كاد يخرج من هجمة ذهانية شديدة استمرت بضعة أسابيع. ويفضل دائماً تحديد أهداف يمكن تحقيقها خلال فترة وجيزة لاستخدامها مقياساً لجدوى التداخلات المتفق عليها؛ إذ يهنأ المريض حين تحقيق هدف ما بإنجازه وجهوده وتقدمه، ثم توضع أهداف جديدة، وبالعودة لمثال الشاب المذكور آنفاً؛ يمكن للأهداف الواقعية المتعلقة بالمشكلات الثلاث المتفق عليها أن تكون: الشعور بالطمأنينة مع الغرباء، وتخفيف سماع الأصوات إلى نوبة واحدة كل أسبوع، وتخفيف الشجارات إلى أقل من شجار واحد كل شهر.

بعد مناقشة المشكلات والأهداف مع الشخص؛ يصبح الطبيب جاهزاً لاقتراح التداخلات الممكنة وخطة تنفيذها، فبالنسبة إلى مشكلات الشاب الثلاث المذكورة في المثال؛ تشتمل التداخلات المعقولة على المشاورة النفسية، والمداواة النفسية والنقاش مع العائلة حول ما يمكن إدخاله من تعديلات على ظروف المنزل. توضع بعد ذلك خطة لتطبيق كل تداخل ومراجعته وتعديله؛ مع أخذ المعوّقات المحتملة لتنفيذ تلك الخطط بالحسبان، ومن المهم مراجعة جدوى كل تداخل وكل تطبيق للخطط وتصحيح المسار إن لزم؛ فلا مسوّغ لجعل المريض يتناول أدوية باهظة الثمن، وقد تكون مؤذية إذا لم يكن من الممكن توثيق التقدم باتجاه الأهداف المتفق عليها، ويجب تعديل كل تداخل لا يقود إلى تحقيق الهدف المرجو منه. وبالعودة مرّة أخرى إلى المثال أعلاه، يمكن أن توضع لمشكلات الشاب الثلاث ثلاث خطط؛ تتعلق الخطة الأولى بالمشورة النفسية (وسيأتي ذكرها)، والثانية بوصف دواء مضاد للذهان، والثالثة بالتثقيف النفسي، ولكن ذلك لا يعني الاستفاضة بالشرح ولا الدخول بنقاش شامل، بل تخصيص بضع دقائق فقط لها قيمة لا تقدر بثمن في العلاج؛ إذ يكفي مثلاً أن يؤكد الطبيب تأثيرات الكحول السيئة والآثار المرغوبة للأدوية وتأثيراتها الجانبية، ثم يشار على المريض بتخفيف احتكاكه بالآخرين مبدئياً، ويشجع العائلة على القيام بدور إيجابي في مساعدة المريض تاركاً له ولأهله بعض الوقت لطرح الأسئلة قبل أن يتفق معهم على موعد دقيق للمراجعة. تساعد هذه الملاحظات - إذا نفذت كما يجب - المريض وأهله، وتجعل جهود الطبيب أكثر جدوى.

يمكن توثيق هذه المداخلة المؤلفة من مشكلة وهدف وخطط نوعية (تداخل، تطبيق، مراجعة، تعديل) في جدول (الجدول 1). ويمكن لهذا التوثيق - إذا أجري على نحو جيد في المقابلة الأولى للمريض- أن يخفف على نحو ملحوظ من حجم ملف متابعة المريض وأن يجعل الملف أوضح وأسهل فهماً وأسهل استخداماً في المستقبل؛ إذ لن يتطلب إلا تسجيل ملاحظة وجيزة في كل مراجعة سريرية في المستقبل. وبالمتابعة مع المثال المذكور آنفاً، يُلاحظ أن موعد مراجعة الشاب كان في 4 أيلول، وقد حضر في الموعد مع أمه، فقام الطبيب بالاستفسار عن مدى تحقق الأهداف النوعية بسؤال المريض وأمه عما إذا كانت الأصوات قد تراجعت إلى نوبة واحدة أسبوعياً، وعما إذا كانت الشجارات قد تناقصت إلى أقل من مرّة بالشهر، وعما إذا كان المريض يوافق على القول: إنه أكثر شعوراً بالراحة مع الناس، فإذا وافق كل من المريض وأمه على أن هذه الأهداف قد تحققت، ولاحظ الطبيب أن تأثير الدواء قد بدأ بالظهور؛ ولكن المريض يشعر بتعب صباحي شديد؛ يجب على الطبيب أخذ شكوى المريض بالحسبان وتخفيف جرعة الدواء المسائية. قد ينتقل الطبيب بعد ذلك إلى شرح احتمالات التأثيرات الجانبية طويلة الأمد للأدوية المضادة للذهان مثل خلل الحركة المتأخر، ثم يدخل التعديلات اللازمة على جدول توثيق التداخل (الجدول 2).

التاريخ

هدف التداخل

التداخل العلاجي

المتابعة

20/8/2011

تخفيف الأصوات إلى مرة بالأسبوع

كلوربرومازين 400 ملغ باليوم

4/9/2001 تابع

20/8/2011

تخفيف الشجار إلى أقل من مرة بالشهر

تثقيف حول تأثير الكحول والاضطرابات النفسية

4/9/2001 تابع

20/8/2011

الشعور بالراحة مع الآخرين

مناقشة كيفية وضع الحدود مع العائلة

4/9/2001 يوقف

(الجدول رقم 2) متابعة فعالية التداخلات. يلاحظ أن صفحة التوثيق صُحِّحت في ضوء مراجعة المريض بتاريخ4 أيلول؛ فقد كُتبت كلمة "تابع" في عمود المراجعة بالنسبة للخطط التي ستتابع دون تغيير مع كتابة موعد مراجعة جديد لتلك الخطة، وكتبت كلمة "يوقف" عند الخطط التي تم تطبيق أو تغيير تداخلها أو عُدَّت غير لازمة.

 

البراهين العلاجية:

من البديهي أنه لا فائدة من استخدام أي تداخل إذا لم يكن ذلك التداخل فعالاً؛ إذ يصبح استخدامه مجرد إضاعة للوقت والجهد والمال، وقد يسبب للمريض ضرراً شديداً، وينطبق ذلك على جميع التداخلات الطبية والنفسية والاجتماعية وتداخلات ما يسمى "الطب البديل"؛ فحتى النصيحة غير المجربة قد تكون قاتلةً (يمكن الاطلاع على المزيد في هذا الموضوع في موقع رابطة الطب المسند بالبراهين  .(www.a4ebm.orgويستدل على فعالية أي تداخل علاجي أو عدم فعاليته أو ضرره من البراهين المشتقة من نتائج البحث العلمي، وللبحوث العلمية أنواع منها التجربة المُعَشَّاة randomized trial  التي تقدم أقوى أنواع البراهين العلاجية.

لأي تداخل تأثير لا نوعي يعرف باسم "أثر الغفل" placebo effect  قد يبلغ 30%؛ أي إن نحو ثلث المراجعين بسبب اضطرابات نفسية قد يتحسنون بأي تداخل يقدم لهم. لذلك فإن تسويغ تحميل المعالج والمريض عناء تطبيق تداخل ما- بما يتضمن ذلك من جهد وتكاليف وتحمل للأعراض الجانبية - يجب معه البرهان أن لذلك التداخل تأثيراً أفضل من تأثير الغفل. تتم المقارنة بين التداخل المعني وبين الغفل بتجربة معشاة يقسم المرضى المشاركون فيها إلى مجموعتين باستخدام إحدى طرائق التوزيع العشوائي، ويطبق على إحدى المجموعتين التداخل المعني في حين يطبق الغفل على المجموعة الثانية، وتوضح المقارنة بين حصائل المجموعتين ما إذا كان التداخل المدروس أفضل من الغفل أو لا، ولكن استخدام الغفل ليس إلزامياً، فقد تقارن تجربة معشاة بين تداخل وتداخل آخر؛ كالمقارنة مثلاً في معالجة الاكتئاب بين فعالية الأدوية المضادة للاكتئاب وفعالية المعالجة المعرفية.

لقد أجري الكثير من التجارب المعشاة عبر التاريخ في مختلف أرجاء العالم، ونشرت نتائج تلك التجارب بلغات عديدة في مجلات متخصصة وفي قواعد معلومات إلكترونية، ويمكن للطبيب المهتم إجراء مراجعة منهجية systematic review بحثاً عن كلّ التجارب المعشاة المنشورة، ومن ثم تقييم صلاحية كل منها، ودمج نتائج التجارب الصالحة بتحليل بعدي meta-analysis  يلخص أفضل البراهين المتوافرة عن تداخل ما، ولكن، لما كانت المعلومات العلاجية تتغير باستمرار نتيجة نشر نتائج تجارب معشاة جديدة؛ فإنه يجب على الطبيب تكرار إجراء المراجعة المنهجية المتعلقة بكل تداخل على نحو منتظم. ومن الواضح أن ذلك مرهق وغير عملي، ولحسن الحظ فإنه يوجد تحالف عالمي من عشرات آلاف الأطباء والباحثين يقوم بإجراء المراجعات المنهجية وبتحديثها على نحو منتظم وبنشرها في مكتبة "كوكران" التي تتوافر على الإنترنت في الموقع  www.cochrane.org، وفي ذلك تسهيل لمهمة أي طبيب أو معالج؛ فما عليه إلا الاستفادة من نتائج عمل غيره عن طريق زيارة الموقع المذكور حيث تتوافر خلاصات مراجعات كوكران المنهجية مجاناً، أو زيارة الموقع www.a4ebm.org/abs  حيث تتوافر ترجمة عربية لبعض خلاصات مراجعات كوكران المنهجية. ويفيد تكرار زيارة مثل هذه المواقع في الاطلاع على المعلومات المحدثة؛ وفي الاطلاع على ما تثبت فائدته من تداخلات جديدة، فمثلاً، تعمل كل الأدوية المضادة للاكتئاب عن طريق التأثير في النواقل العصبية ومستقبلاتها، ولكن ظهرت خلال السنوات الماضية معلومات طورت النظرة إلى الخلل الكيميائي الدماغي المرافق للاكتئاب بحيث أصبحت تشمل الاهتمام باللدونة plasticity  العصبية، وتعد بتداخلات مبتكرة تصحح الخلل الدماغي البنيوي إضافةً في تأثيرها على دارات النواقل العصبية، ويفيد تحديث المعلومات العلاجية على نحو متكرر في تعرف مثل هذه التداخلات الواعدة من فور ظهور براهين تثبت فائدتها. ولا تقتصر هذه الملاحظات على التداخلات الدوائية، بل تشمل أيضاً أي تداخل يطبق بغية مساعدة الناس المصابين باضطراب نفسي؛ إذ تحتوي مكتبة كوكران مثلاً على مراجعة منهجية لفعالية الرياضة في علاج الاكتئاب، ولفعالية المسرح النفسي في معالجة الفصام.

المعالجة في الطب النفسي:

يهدف هذا البحث إلى التعريف بالتداخلات العلاجية المستخدمة في الطب النفسي، ويتضمن تعريفاً بالأسس النظرية لكل منها وباستطباباتها وبطرائق تطبيقها وبمدى ملاءمتها للمجتمع، ويشتمل على العناوين التالية:

 - طرائق العلاج في الطب النفسي.

-  العلاجات البيولوجية في الطب النفسي.

-  المعالجة النفسية .

 - طرائق العلاج النفسي الجماعي.

 - المشورة النفسية.

 - إعادة التأهيل النفسي.

-  العلاج الطبي النفسي في المجتمعات العربية.

أولاً- طرائق المعالجة في الطب النفسي:

تستخدم في الطب النفسي علاجات بيولوجية مثل الأدوية والتخليج الكهربائي، وعلاجات نفسية، وطرائق لإعادة التأهيل، وإجراءات اجتماعية، وينتقى لكل مريض من هذه العلاجات ما يناسب حالته المرضية ضمن مقاربة بيولوجية - نفسية - اجتماعية biopsychosocial approach مبنية على اقتناع متفق عليه بأن الاضطرابات النفسية هي على نحو عام نتيجة تداخل تأثير عوامل بيولوجية ونفسية واجتماعية، ويمكن توضيح أهمية هذا التداخل من دراسة الكرب والقوب، مثلاً.

الكرب والقوب:

لمصطلح "كرب" stress استخدام واسع في مجال فهم العلاقة بين الخصائص البيولوجية والنفسية للشخص ومحيطه الفيزيائي والاجتماعي من جهة؛ وبين صحته الجسدية والنفسية من جهة أخرى، أما "القوب"  coping  فهو مقدرة الشخص على التحمل وعلى التأقلم مع متطلبات ظروف مستجدة.

ينجم الكرب عن عوامل تتعلق بالشخص نفسه - مثل السلوك غير المسؤول، والعادات الصحية السيئة، والتوقعات غير المنطقية، والسعي للكمال - أو عن عوامل خارجية مثل الوضع الاقتصادي، والأحداث غير المتوقعة، وعوامل بيئية فيزيائية (مثل مستوى الضجيج، والحرارة، والإضاءة، وانعدام الخصوصية الشخصية)، وعوامل اجتماعية تتعلق بطبيعة العمل وبيئته وبالجو العائلي وتشتمل على كل ما يصنف عادة تحت عنوان "حوادث الحياة" life-events التي تم تحديدها من متابعة مئات الأشخاص لسنوات طويلة ودراسة العلاقة بين إصابتهم بالأمراض وبين ما طرأ من تغيرات إيجابية أو سلبية على علاقاتهم العائلية وحالتهم المالية وظروف عملهم وسكنهم، وقد أعطي كل من تلك الحوادث وزناً يتناسب وشدته، فكانت وفاة الزوج (أو الزوجة) أكثرها تسبيباً للكرب، وعُدَّت شدتها 100، وشملت القائمة ما مجموعه 41 نمطاً من التغيرات التي قد يتعرض لها الإنسان (الجدول 3).

الحادثة الحياتية

العلامة

الحادثة الحياتية

العلامة

وفاة الزوج

100

الحمل

40

الطلاق

73

الصعوبات الجنسية

39

الانفصال عن الزوج

65

إضافة فرد جديد إلى العائلة

39

السجن

63

تغيير في العمل

39

وفاة قريب مقرب

63

تغير الوضع المالي

38

الإصابة شخصياً بمرض أو أذية

53

تغير في عدد الشجارات العائلية

35

الزواج

50

قرض يزيد عن 100 ألف ليرة

31

التسريح من العمل

47

إنهاء دفع أقساط قرض

30

التصالح مع الزوج

45

تبدل المسؤوليات في العمل

29

التقاعد

45

مشكلة مع القانون

29

تغير صحة أحد أفراد الأسرة

44

تحقيق انجاز شخصي مميز

28

العلامة الكلية

 

(الجدول رقم 3) مقياس كرب حوادث الحياة life event stress scale

 

توضع إشارة بجانب كل حادثة من حوادث الحياة الكبيرة الواردة في الجدول وقعت للشخص في الاثني عشر شهراً الماضية، ثم تجمع العلامات للوصول إلى النتيجة الكلية.

وقد بينت دراسات عديدة أن الأشخاص الذين يكون مجموع علاماتهم عالياً على سلم حوادث الحياة معرضون أكثر من غيرهم للإصابة بأعراض مزاجية (مثل نقص الاهتمام بالهوايات وبالمرح، والمزاجية، والتململ، والإحباط، والغضب والاستياء، والغيرة غير المسوّغة، والنزق وصعوبة تحمل الآخرين، وفرط الحساسية وارتكاسات مبالغ بها للحوادث والظروف، والشعور بالانهيار، والقلق، وفرط الخوف من الفشل، ونقص الثقة بالنفس، والاكتئاب، والخمول (أو فتور الشعور)، والرغبة بالبكاء، وبأعراض معرفية (مثل صعوبة التذكر، وصعوبة اتخاذ القرارات، وصعوبة التركيز، وتشتت الانتباه، واجترار الأفكار، وصعوبة استيعاب حديث الآخرين، وسوء المحاكمة، والتفكير بالهرب والنجاة، وصعوبة إيقاف التفكير، وفقدان الموضوعية)؛ وبأعراض سلوكية (مثل فرط الأكل أو نقصه، وزيادة النوم أو نقصه، والعزلة عن الآخرين بمن فيهم المقربون، والتغيب عن العمل أو قضاء أوقات طويلة بالعمل، والإفراط بالتدخين وبتناول المنبهات والكحول والأدوية، وزيادة ممارسة الجنس أو نقصه، والانشغال بعادات عصابية مثل قرض الأظفار وتصفيف الشعر وذرع المكان جيئةً وذهاباً، وطحن الأسنان، والضحك أو البكاء من دون مسوّغ، والصلابة والتسلط على الآخرين، وحدة الطبع، وكثرة المجادلة، والعنف، والمخاطرة غير المحسوبة، والقيادة بعصبية)؛ وبأعراض جسدية (مثل الصداع، والاضطرابات الهضمية، وتوتر العضلات ووجعها، واضطراب النوم، والتعب، وألم الصدر، وخوارج الانقباض وعدم انتظام القلب، وارتفاع ضغط الدم، وزيادة الوزن أو نقصه، وتساقط الأشعار، وضيق النفس، وآفات جلدية، وألم المفصل الفكي الصدغي وأوجاع الأسنان، والتعرق، ونقص المناعة، واضطرابات تناسلية مثل تأخر الطمث). أما على المدى الطويل فقد يؤدي الكرب إلى الإصابة باضطرابات جسدية ونفسية خطرة مثل أمراض القلب، والسرطان، وداء السكري، والبدانة، والاكتئاب، والقهم العصبي، وإدمان العقاقير، والقرحة، ومتلازمة تهيج القولون، وضعف الذاكرة، وسوء معاملة الأطفال والمسنين وسوء المعاملة الجنسية.

لا تصيب هذه الأعراض والاضطرابات كل من يتعرض لحوادث الحياة، بل تختلف الاستجابة الشخصية لمسببات الكرب الواحدة من فرد إلى آخر، وقد بينت الدراسات اشتراك الأشخاص المتأهبين أكثر من غيرهم للتأثر بالكرب بعدة صفات يطلق على مجموعها اسم "الشخصية نمط أ" .type A personality A   ويمتاز الأشخاص ذوو الشخصية نمط أ بتعدد نماذج سلوكهم (أي أنهم يقومون بأكثر من وظيفة أو عمل واحد في الوقت نفسه)، وبالشعور بضيق الوقت، وبعدوانية غير ضرورية وبأهداف غير واضحة. ورغم وجود علاقة قوية بين الشخصية نمط أ وبين الإصابة بنقص التروية القلبية وبأمراض أخرى؛ فإنه من الممكن تعديل خصائص نمط الشخصية هذا؛ وبالتالي الوقاية من الإصابة بأمراض عديدة باستخدام بعض طرائق المعالجة النفسية. والقوب (أو المقدرة على مقاومة الكرب) هو مجموع الجهود السلوكية والمعرفية التي يبذلها الشخص للتوفيق بين متطلباته الشخصية وبين متطلبات البيئة، ويمكن للعلاج النفسي تحسين جدوى هذه الجهود وزيادة المقدرة على القوب؛ وهناك طرائق نفسية لزيادة كل من القوب الفاعل والقوب المنفعل. والقوب الفاعل active coping  هو أن يحاول الشخص تخفيف شدة مسببات الكرب، مثلاً عن طريق تبديل البيئة الفيزيائية أو إعادة تحديد الأدوار فيها أو اكتساب المهارات الاجتماعية اللازمة لتحسين علاقاته الشخصية، أما القوب المنفعل passive coping   فهو محاولة الشخص تخفيف التأثير الضار للكرب فيه عن طريق تعلم تمارين الاسترخاء مثلاً، وللمعالجة الدوائية أيضاً شأن في تدبير أعراض الكرب النفسية والجسدية المذكورة آنفاً.

يتضح من دراسة الكرب والقوب مدى تداخل تأثير العوامل البيولوجية والنفسية والاجتماعية في حدوث الاضطرابات النفسية وفي علاجها؛ مما يوجب على الطبيب وعلى غيره من المعالجين إدخال كل هذه العوامل بالحسبان، وتجنب الانحياز لأحدها على حساب إهمال غيره حين وضع أي خطة علاجية لأي شخص يطلب المساعدة الطبية النفسية؛ إذ يجب أن تشتمل أي خطة علاج على تداخلات بيولوجية وأخرى نفسية وغيرها اجتماعية.

تشتق التداخلات الطبية النفسية من تفسيرات متعددة لأسباب الاضطرابات النفسية، أهمها التفسير البيولوجي والتفسير النفسي والتفسير الاجتماعي؛ وللتفسير النفسي مدارس متعددة، أهمها التحليل النفسي psychoanalysis وعلم النفس المعرفي  cognitive psychology والسلوكية .behaviorism 

1-التفسير البيولوجي للاضطرابات النفسية:

يقول التفسير البيولوجي للاضطرابات النفسية: إن السلوك والفعاليات العقلية المختلفة ما هي إلا نتائج لأحداث عصبية بيولوجية؛ إذ يعتمد السلوك بمختلف مظاهره على تناغم العديد من الحدثيات ضمن الجسم، ويُنَظَّم هذا التناغم من قبل الجملة العصبية بمساعدة جملة الغدد الصم. فتكامل وظائف الجملة العصبية وأعضاء الحواس والعضلات والغدد هو ما يمكّن من وعي البيئة ومن التأقلم معها؛ إذ يعتمد إدراك الحوادث على طريقة كشف الحواس للتنبيهات، وكيفية إدراك الدماغ للمعلومات الواردة من الحواس، أما الدافع خلف معظم أنماط السلوك فهو إشباع الحاجات مثل الجوع والعطش وتجنب التعب والألم. كذلك تعتمد مقدرة المرء على استعمال اللغة وعلى التفكير وحل المشكلات على سلامة دماغه؛ فأساس معظم حدثيات التفكير هو في الحقيقة حدثيات كهربائية وكيميائية تأخذ مجراها في العصبون الذي يشكل الوحدة الأساسية في بناء الجملة العصبية، وفي فهم وظائف العصبون توضيح لسر كيفية عمل الدماغ ولآلية حدوث الاضطرابات النفسية ولكيفية علاجها ببعض التداخلات البيولوجية مثل الأدوية النفسية. وهناك أمثلة على خلل سبل عصبية محددة عند المصابين باضطرابات نفسية نوعية، كالخلل المفترض في سبل الدوبامين في الفصام وفي سبل السيروتونين والنورأدرينالين في اضطرابات المزاج، ويمكن علاج هذه الاضطرابات النفسية عن طريق تصحيح الخلل المرافق لها باستخدام أدوية نوعية.

2-تفسير التحليل النفسي للاضطرابات النفسية:

يرى التحليل النفسي أن لكل سلوك - بما فيه الاضطراب النفسي- سبباً وأن السبب هو عادة حافز لاشعوري يختلف عما يعتقد المرء من أسباب عقلانية، وتوجهه غرائز أساسية (الجنس والعدوانية على نحو مبدئي) تتصارع على نحو دائم مع مجتمع يشدّد على ضبط تلك الغرائز، ويؤدي ضبط الأهل والمجتمع للنزوات الغريزية الفطرية في أثناء الطفولة إلى إزاحة تلك النزوات من الوعي إلى اللاشعور حيث يتراكم الكثير من المعتقدات والمخاوف والرغبات المكبوتة التي تؤثر في سلوك الشخص دون أن يكون واعياً لوجودها، ولذلك فإن السلوك (والاضطراب النفسي) هو نتيجة حدثيات لا شعورية يمكن الاستدلال على وجودها من زلات اللسان ومن الأحلام ومن التداعي الحر للأفكار في أثناء جلسات التحليل النفسي. فالعلاج النفسي التحليلي هو استكشاف مطول لحياة المريض العقلية اللاشعورية بهدف جعل الفرد واعياً لصراعات مثيرة للقلق ولآليات دفاع نفسي ضد هذا القلق؛ مما يساعد على فهم بنية شخصية المريض، ويفيد في تطويرها.

3-التفسير المعرفي للاضطرابات النفسية:

يقول التفسير المعرفي: إن الاضطراب النفسي ينجم عن حدثيات عقلية مثل الإدراك والتذكر والتخطيط واتخاذ القرارات وحل المشكلات واستعمال اللغة والتواصل مع الآخرين، وإنه يمكن التأثير في هذه الحدثيات لمعالجة الاضطرابات النفسية، لذلك يتركز الاهتمام في المعالجة النفسية المعرفية على تحسين مقدرة الشخص على معالجة المعلومات التي ترده  من كل من بيئته الفيزيائية وبيئته الاجتماعية ومن بيئته الداخلية (مثل الذكريات  والأحاسيس الجسدية)، وهي معلومات مهمة يتضمن بعضها معلومات عن العالم الخارجي، ويقدم بعضها الآخر "تلقيماً راجعاً" بخصوص سلوك الشخص نفسه، فيُعلمه مثلاً عن وضعة جسده نسبةً إلى أشخاص مهمين حوله، ويُمكنه من الحكم على أدائه في المناسبات الاجتماعية، ويستفاد من ذلك في تحديد الاضطراب المعرفي المسبب لكثير من الأعراض والعلامات الانفعالية والسلوكية للاضطرابات النفسية وعلاج هذا الاضطراب المعرفي؛ ولاسيما في حالات القلق والاكتئاب.

4-التفسير السلوكي للاضطرابات النفسية:

يرى التفسير السلوكي أن الاضطرابات النفسية هي نتيجة التعلم الذي لا يُشترط أن يكون شعورياً أو إرادياً؛ وأن العلاج ممكن عن طريق التأثير في ما تعلمه الشخص من تجاربه الحياتية. ويقصد بالتًّعَلُّم في هذا السياق أي تبدل ثابت نسبياً في السلوك (بما فيه السلوك الاجتماعي، واللغة وبقية مهارات التواصل، والشعور والتعبير الانفعالي، والمعتقدات والمواقف) يحدث نتيجة لما يحدث في بيئة المتعلم الاجتماعية والفيزيائية عن طريق التكييف التقليدي أو التكييف الفاعل أو التعلم بالمراقبة.

يفسر التكييف التقليدي (أو المنعكسات الشرطية) classical conditioning  - الذي وصفه Pavlov - السلوك الآلي غير الإرادي مثل الاستجابات العاطفية والاستجابات الانعكاسية للمنبهات الفيزيائية الواردة من البيئة المحيطة بالكائن الحي، كما في تجربة كلب باڤلوڤ الشهيرة؛ إذ يصبح سيلان اللعاب استجابة مُكَيّفة  conditioned response  لصوت الجرس ضمن منعكس مُكَيّف (أو منعكس شرطي)  .conditioned reflex وللتكييف التقليدي تطبيقات سريرية، أهمها تفسير كيفية الإصابة بالقلق؛ إضافةً إلى استخدامه في تطوير بعض طرائق المعالجة السلوكية للقلق. أما التكييف الفاعل  operant conditioning   (أو التعلم الآلاتي (instrumental learning الذي وصفه  Skinner؛ فيركز على أنماط السلوك الواقعة تحت سيطرة الشخص والتي يقوم الشخص بتفعيلها (ومنه كلمة الفاعل) للتأثير في بيئته، ويتبدل تواتر حدوث سلوك محدد زيادةً أو نقصاناً بناءً على عواقب ذلك السلوك؛ فإذا أدى سلوك ما إلى نتيجة وخيمة (عقاب)  punishment؛ فإن احتمال تكرره في المستقبل ينقص، أما إذا تلت سلوكاً ما نتيجةٌ مرغوبة (مكافأة)reward ؛ فإن احتمال تكرار ذلك السلوك في المستقبل يزداد، ويقال في هذا المجال: إن نتائج السلوك تعزز احتمال تكرره؛ وقد يكون ذلك التعزيز إيجابياً أو سلبياً، فالحصول على مكافأة هو تعزيز إيجابي positive reinforcement، وتجنب نتيجة مؤذية هو تعزيز سلبي negative reinforcement؛ ففي حالة الإدمان على الهيرويين - مثلاً- يتمثل التعزيز الإيجابي بالحصول على المتعة والنشوة عقب التعاطي، في حين يصبح هدف التعاطي في مراحل لاحقة من الإدمان هو تجنب أعراض السحب المزعجة؛ أي إن التعزيز يصبح سلبياً. تساعد مبادئ التكييف الفاعل أحياناً على توضيح سبب حدوث القلق عند بعض المرضى، ولها تطبيقات عملية في تدريب المهارات بما فيها المهارات الاجتماعية، وفي غيرها من أشكال المعالجة السلوكية.

يتضمن التكييف بشكليه التقليدي والفاعل تماساً فيزيائياً مباشراً مع المتعلم، ولكن قد يحدث التعلم أيضاً عن بعد عن طريق مراقبة المتعلم لحدث ما ولعواقبه، ويعرف ذلك باسم التعلم بالمراقبة observational learning، وله أهمية خاصة في اكتساب السلوك الاجتماعي؛ إذ يُكتسب العديد من المهارات الاجتماعية عن طريق مراقبة شخص آخر يقوم بها دون الممارسة الفعلية لتلك المهارات في أثناء فترة المراقبة، كذلك قد تؤدي مراقبة شخص تظهر عليه انفعالات عاطفية شديدة إلى استجابة انفعالية عند المراقب؛ مما قد يؤدي إلى الإصابة بالقلق، وبالمقابل إن مراقبة شخص هادئ وواثق من نفسه قد يخفف القلق عند من يراقب ذلك الشخص، ويستخدم مثل هذا النوع من التقليد (الاقتداء) modeling سريرياً لمعالجة الاضطرابات الرهابية وللتدريب على المهارات الاجتماعية.

5-التفسير الاجتماعي للاضطرابات النفسية:

يعتمد التفسير الاجتماعي للاضطرابات النفسية على العديد من النظريات الهادفة إلى تحديد تأثير المجتمع في التفكير والعواطف ومظاهر السلوك الأخرى، ومن أكثر هذه النظريات أهمية في الطب النفسي نظرية التعلم الاجتماعي ونظرية المهارات الاجتماعية. تفسر نظرية التعلم الاجتماعي social learning theory تطوّر السلوك السوي والشاذ في ضوء مبادئ التعلم (أو التكييف) التقليدي والفاعل، وفي ضوء التعلم بالمراقبة والاقتداء، وعبر العديد من الحدثيات المعرفية. وتعد نظرية المهارات الاجتماعية social skills أن التفاعل الاجتماعي هو أداء متقن - مثله مثل لعب التنس - يهدف الفرد من خلاله إلى التوصل إلى أهداف محددة، فيصحح سلوكه على نحو مستمر بحسب ما يرده من تلقيم راجع ممن يتفاعل معهم اجتماعياً، ويأتي الكثير من هذا التلقيم الراجع بشكل تواصل غير لفظي، مثل بعض مظاهر الصوت (كالتشديد على بعض الكلمات، وارتفاع الصوت، ورجفان الصوت)، وتعابير الوجه، وهزّ الرأس، ووضعية الجسم، وما إذا كان الشخص المقابل مسترخياً أم متوتراً، ومدى قربه وما إذا كان ملامساً أم لا، وما يقوم به من حركات بيديه لإيصال رسالة ما، وتعبر مظاهر التواصل غير اللفظي هذه عن العواطف والمواقف، وتخدم في تأكيد التواصل اللفظي، وقد تعيض عن الكلام حين يكون هذا غير ممكن أو غير مناسب، بل كثيراً ما تكون أدق وأقوى من التواصل اللفظي بالكلام. وبما أن الحصول على معظم هذا التلقيم الراجع يتم عن طريق حاسة البصر؛ فإن نظرية المهارات الاجتماعية تشدد على دور النظر (أو الحملقة) gaze في ممارسة المهارات الاجتماعية، كما تشدد على دور التعزيز الاجتماعي؛ إذ يؤثر شخص ما في سلوك شخص آخر عن طريق مكافأة سلوكه انتقائياً باستخدام تعابير الوجه، والانتباه، وعلامات الاستحسان. سريرياً، تُعدّ هذه النظرية أن سبب بعض الاضطرابات السلوكية (مثل الانسحاب الاجتماعي والعدوانية) هو عوز المهارات الاجتماعية اللازمة والتي يمكن تعليمها وتعلمها، وقد نجم عن هذا تصميم "طرائق تدريب المهارات الاجتماعية" للمساعدة على تحسين المقدرة على التواصل الاجتماعي مع الآخرين عن طريق التدريب على ممارسة محادثة مناسبة وعلى تفسير الإشارات غير اللفظية وعلى استخدام هذه الإشارات لتعزيز السلوك المرغوب عند الآخرين.

ثانياً- العلاجات البيولوجية في الطب النفسي:

اكتشف تأثير كثير من الأدوية النفسية اتفاقاً، فقد اكتشف تأثير كلوربرومازين المضاد للذهان في أثناء محاولة تطوير عقار للاستخدام في التخدير العام، واكتشف تأثير مثبطات أكسيداز الأمين الأحادي المضاد للاكتئاب في أثناء معالجة التدرن بأحد هذه الأدوية. ثم تراكمت لاحقاً براهين علاجية تجريبية تؤكد فعالية كثير من الأدوية النفسية؛ فقد بينت مراجعة كوكران المنهجية للتجارب المعشاة التي تقارن بين فعالية كل من كلوربرومازين والدواء الغفل في معالجة الفصام أن إعطاء كلوربرومازين يؤدي إلى تحسن 66% من المرضى في 8 أسابيع، في حين يتحسن 41% من المرضى الذين يتلقون الدواء الغفل؛ أي إن فرق الفائدة هو 66-41=25%، والعدد اللازم للعلاج  number needed to treat (NNT) (وهو المقلوب الحسابي لفرق الفائدة) يعادل 4، ويعني ذلك أنه كلما عولج أربعة مرضى بكلوربرومازين بدل الغفل يتحسن مريض آخر إضافةً إلى الذين يتحسنون بالمعالجة بالغفل، وبذلك تبرهن هذه المراجعة المنهجية على أن كلوربرومازين فعال في علاج الفصام، كما توفر قياساً كمياً لمدى فعاليته. وتطبق طرائق تقييم الفعالية نفسها على بقية العلاجات البيولوجية في الطب النفسي مثل طرائق التعديل العصبي التي ما زال معظمها بحاجة إلى براهين علاجية مؤكدة؛ باستثناء المعالجة بالتخليج الكهربائي، أما الجراحة النفسية فقد تضاءل اللجوء إليها كثيراً في العقود الماضية.

المطاوعة :compliance

لا تفيد الأدوية إلا إذا كان المريض قانعاً بحاجته إليها؛ الأمر الذي يوضح الأهمية الخاصة للمطاوعة في الطب النفسي. فالطب النفسي هو الاختصاص الطبي الوحيد الذي يتطلب معالجة عدد كبير من المرضى الذين ليس لديهم أدنى قناعة بأنهم مرضى، ويوجب ذلك أحياناً اللجوء إلى معالجة المريض دون موافقته وتعاونه، وتُعدّ هذه المعالجة القهرية مشكلة في الدول الغربية بسبب القيود المفروضة على معالجة المرضى بتشريعات حماية حقوق الإنسان. أما في معظم البلاد العربية؛ فإن ظروف المعالجة أكثر سلطوية، وتشريعات الصحة العقلية مهملة عادةً، وسلطة الطبيب النفسي ومساعديه مطلقة؛ فالمطاوعة مضمونة في المرضى المعالجين في المستشفى دون النظر إلى التشخيص، ولا تتأثر إلا إذا لم يعطِ الممرضون الدواء للمريض، كذلك فإن المطاوعة مضمونة في مرضى العيادات في أثناء الطور الحاد من الاضطراب النفسي. ولكنها تصبح مشكلة حقيقية بعد انطفاء الطور الحاد؛ لأن فكرة المداواة طويلة الأمد لمرض لا يسبب حالياً أي أعراض هي فكرة غريبة عن عقول الكثير من المواطنين العرب. فإذا أضيف إلى ذلك أن للأدوية تأثيرات جانبية مزعجة، وأن توافر الدواء وتكلفته قد يكونان عبئاً إضافياً، وأن المعتقدات الثقافية قد تدفع المريض لمراجعة معالج شعبي؛ يصبح عدم القناعة بالدواء أمراً مرجحاً؛ رغم أنه قد خفف الكثير من الأعراض، وربما قاد عدم القناعة بالدواء إلى تخفيف الدواء أو إيقافه على نحو مبكر؛ ما يُعرّض المريض لخطر النكس.

1-الأدوية المضادة للذهان  :antipsychotic drugs

اكتشف كلوربرومازين - أول الأدوية المضادة للذهان - عام 1953، وأصبح نواةً لمجموعة من الأدوية المشابهة له كيميائياً تعرف باسم مجموعة الفينوثيازينات، كما شجّع البحثَ عن أدوية أخرى مضادة للذهان لعلاج الفصام والاضطرابات المشابهة، فاكتشف الكثير من الأدوية التي تصنف بحسب تركيبها الكيميائي في عدة مجموعات دوائية هي مجموعة البوتيروفينونات ومجموعة الثيوكزانتينات ومجموعة ثنائي فينيل بوتيل الببيريدينات ومجموعة البنزاميدات المعوضة. تشترك كل هذه المجموعات الدوائية بعدة خصائص، أهمها حصار مستقبل الدوبامين D2 بفاعلية متفاوتة؛ مما دفع للاعتقاد أن فعاليتها المضادة للذهان تعتمد على حصارها لمستقبلات الدوبامين، وأسهم في تطوير نظرية الدوبامين في الفصام. ولكن اكتشف لاحقاً دواء عُدَّ "غير نموذجي" أو "غير تقليدي"؛ لأنه مضاد قوي للذهان، لكن تأثيره في مستقبلات الدوبامين ضعيف جداً، لذلك أطلق اسم "مضادات الذهان النموذجية أو التقليدية" على كل المجموعات الدوائية المذكورة آنفاً، وأصبح الدواء غير النموذجي (وهو كلوزابين) نموذجاً أصلياً لمجموعة من الأدوية سميت "مضادات الذهان غير النموذجية أو غير التقليدية"، ويُعرض فيما يلي بعض الأدوية المضادة للذهان مع التركيز على الأدوية الأكثر استخداماً محلياً:

أ- الفينوثيازينات :phenothiazines الدواء الأول في هذه المجموعة هو كلوربرومازين، ومن أدويتها الأخرى ثيوريدازين وتريفلوبيرازين trifluoperazine وفلوفينازين .fluphenazine يعطى كلوربرومازين بطريق الفم أو العضل، ويندر جداً إعطاء جرعة ضعيفة بطريق الوريد في حالات الهياج الحاد. للكلوربومازين فعالية يعتمد عليها لتهدئة الهياج سواءً كان منشؤه عضوياً أم وجدانياً أم فصامياً، ويستخدم على نحو واسع لعلاج الاضطرابات الذهانية المزمنة، ولجرعاته المستخدمة سريرياً مجال عريض تم تقسيمها في إحدى مراجعات كوكران المنهجية إلى جرعات منخفضة (أقل من 400 ملغ باليوم) وجرعات معتدلة (بين 400 و800 ملغ باليوم) وجرعات مرتفعة (أكثر من 800 ملغ باليوم)، فتبين أن زيادة الجرعة يرافقها زيادة التحسن السريري، ولكن ترافقها أيضاً زيادة تواتر حدوث التأثيرات الجانبية وزيادة احتمال إيقاف المريض للعلاج، لذلك كان من الضروري تعديل الجرعة لكل مريض للحصول على أفضل تناسب بين الفائدة العلاجية وبين التأثيرات الجانبية المتعلقة بالجرعة كالأعراض خارج الهرمية، وهبوط الضغط الانتصابي. ويرافق استخدام كلوربرومازين في حالات نادرة تأثيرات جانبية خطرة وغير متعلقة بالجرعة مثل فقر الدم وندرة كريات الدم البيض المحببة agranulocytosis، واليرقان، والتهاب الجلد الضيائي. كما يزيد كلوربرومازين من فعالية الباربيتورات والكحول وأدوية التخدير.

يعادل ثيوريدازين كلوربرومازين من حيث الجرعة، لكن مفعوله أضعف وتأثيراته الجانبية خارج الهرمية أخف، ولا يستحب استعماله للمصابين بمشكلات قلبية لترافق استخدامه تبدلات في تخطيط القلب الكهربائي (تطاول.(QT  ويعتقد أن لتريفلوبيرازين تأثيراً منشطاً للمرضى البليدين والمنعزلين، على عكس بقية الفينوثيازينات ذات التأثير المركن، كما يعتقد أنه فعال نوعي في علاج التفكير الاضطهادي والهلوسة المستفحلة، وهو فعال في علاج الحالات الذهانية  الحادة والمزمنة بجرعات صغيرة نسبياً، وترافقه تأثيرات خارج هرمية شديدة. ورغم توافره بأشكال معدة للحقن؛ فإن الشكل الصيدلاني المتوافر والمستخدم في سورية هو الحبوب التي تعطى بجرعة 5-40 ملغ باليوم. أما فلوفينازين فيستخدم مستحضره مديد التأثير (fluphenazine decanoate) حقناً عضلياً منذ وقت طويل في الطب النفسي في علاج الصيانة طويل الأمد؛ ولاسيما حين تكون المطاوعة غير مضمونة؛ إذ يمكن للأهل التأكد من إعطاء الحقنة العضلية مرة كل 2-4 أسابيع، ويساهم انخفاض ثمن الحقنة في استمرار استعمالها لسنوات.

ب- البوتيروفينونات :butyrophenones النموذج الأصلي لهذه المجموعة الدوائية هو هالوبيريدول، وهو مضاد ذهان عالي الفاعلية بجرعات منخفضة؛ إذ إن 5 ملغ هالوبيريدول تعادل 100 ملغ كلوربرومازين، ويستخدم هالوبيريدول في علاج المرضى المصابين باضطرابات ذهانية حادة؛ بإعطائه حقناً عضلياً، ويحتمل حين استخدامه ارتفاع حدوث تأثيرات جانبية خارج هرمية؛ ولكنه أقل تسبباً في النعاس وهبوط الضغط الشرياني من معظم الفينوثيازينات. وتتوافر منه حقن عضلية مديدة التأثير (haloperidol decanoate)  للاستخدام في علاج الصيانة الهادف إلى منع النكس على المدى الطويل.

ج- الثيوكزانتينات :thioxanthenes النموذج الأصلي للثيوكزانتينات هو فلوبنثيكزول، ويتوافر بشكل حبوب، لكن الاستخدام الأكثر شيوعاً في الممارسة الطبية النفسية المحلية هو بشكل حقنة مديدة التأثير (flupenthixol decanoate) تتوافر بجرعة 20 ملغ و40 ملغ تعطى حقناً عضلياً كل 2-4 أسابيع. ومن أدوية هذه المجموعة زكلوبنثيكزول الذي يتوافر بشكل حقنة عضلية مديدة التأثير (zuclopenthixol decanoate)؛ وبشكل حقنة عضلية سريعة التأثير   (zuclopenthixol acetate)تستخدم علاجاً أولياً في الاضطرابات الذهانية الحادة؛ ولاسيما التي يرافقها هياج.

د- البنزاميدات المعوضة :substituted benzamides تضم هذه المجموعة عدداً كبيراً من الأدوية ذات الاستخدامات     المختلفة، منها ستة أدوية مضادة للذهان، هي  amisulpride، و nemonaprideو remoxiprideوsulpiride  و sultopride  و tiapride، ولكن لا يتوافر منها محلياً إلا سلبريد الذي يصنع محلياً، ويتم تسويقه لمعالجة الاضطرابات الهضمية، في حين يرخص في أوربا واليابان لمعالجة الفصام فقط، وهو غير مرخص في أمريكا وكندا. يعطى سلبريد بجرعات عالية (أكثر من 600 ملغ باليوم)  في الاضطرابات الذهانية الحادة، وتبلغ جرعة الصيانة 600 ملغ باليوم، وتأثيراته الجانبية خفيفة، وتبين إحدى مراجعات كوكران المنهجية أن سلبريد أفضل من كلوربرومازين في تحسين الاكتئاب المرافق للفصام.

هـ - ثنائي فينيل بوتيل الببيريدينات :diphenylbutylpiperidines تضم هذه المجموعة أربعة أدوية يصنع منها محلياً بيموزايد pimozide، وهو دواء ذو فاعلية مرتفعة جداً، أعلى من فاعلية هالوبيريدول؛ إذ يعادل 1 ملغ منه نحو 60 ملغ كلوربرومازين. وإضافةً إلى فائدته في معالجة الاضطرابات الذهانية؛ فإنه يستعمل في علاج متلازمة تورت Tourette’s syndrome  والعرّات المزمنة، وهو يسبب تأثيرات جانبية خارج هرمية وتطاول QT في تخطيط القلب الكهربائي، ونادراً ما يستخدم كلوبيموزايد أو فلوسبيريلين محلياً، ولكن يستخدم أحياناً بنفلوريدول ذو الفاعلية المرتفعة جداً ومدة التأثير الطويلة جداً؛ إذ يدوم تأثير الجرعة الفموية المفردة عدة أيام، وترافقه تأثيرات جانبية خارج هرمية شديدة.

 (1)-مضادات الذهان التقليدية مديدة التأثير: من المؤكد أن متابعة المعالجة الدوائية المضادة للذهان تقي من نكس الفصام والاضطرابات الذهانية المشابهة، ولكن نقص مطاوعة المرضى - بسبب انعدام البصيرة إضافةً إلى أسباب أخرى - يدفع المرضى إلى إيقاف الدواء على نحو مبكر؛ مما دفع إلى البحث عن أدوية مديدة التأثير يسهل مراقبة التقيد بها. وأدى هذا البحث إلى إيجاد مجموعة ثنائي فينيل بوتيل الببيريدينات؛ ولاسيما بنفلوريدول الذي يعطى بجرعة أسبوعية وحيدة مقدارها 10-60 ملغ؛ وإلى إضافة حمض دسم لتركيب بعض مضادات الذهان لجعلها محاليل زيتية بطيئة ومديدة التأثير، ويتوافر منها محلياً حقن عضلية مديدة التأثير لكل من فلوبنثيكسول (flupenthixol decanoate)، وفلوفينازين (fluphenazine decanoate)، وهالوبريدول .(haloperidol decanoate) ويتوافر زكلوبنثيكسول بشكل محلول مائي معتدل فترة التأثير (zuclopenthixol acetate) ومحلول زيتي مديد فترة التأثير .(zuclopenthixol decanoate)

(2)-مضادات الذهان غير التقليدية :atypical antipsychotics قُدِّمت مضادات الذهان غير التقليدية (أو الجيل الثاني من مضادات الذهان) على أنها أكثر فعاليةً وأقل إحداثاً للتأثيرات الجانبية (ولاسيما الأعراض خارج الهرمية) من مضادات الذهان التقليدية، ولكن تبين بعدئذٍ أن ذلك لم يكن مسنداً ببراهين متينة؛ مع استثناء وحيد هو كلوزابين clozapine  الذي تتوافر براهين قوية على أنه أكثر فعاليةً من الأدوية التقليدية ومن الأدوية غير التقليدية. لقد دفع الاعتقاد أن مضادات الذهان غير التقليدية تمتاز من مضادات الذهان التقليدية بقلة إحداثها للتأثيرات الجانبية إلى تفضيل استخدامها خطاً أول لمعالجة الفصام والاضطرابات المشابهة مع أن تكلفة العلاج بها أعلى بكثير؛ ولكن تبين لاحقاً أن لمضادات الذهان التقليدية تأثيرات جانبية استقلابية خطرة تشمل البدانة وداء السكري وفرط كولستيرول المصل وشحومه.

لا تتوافر محلياً مضادات الذهان غير التقليدية التالية: كويتيابين  quetiapine، وزبراسيدون ziprasidone، وزوتيبين    zotepine، وأريببريزول aripiprazole، ولكن استخدام كل من أولانزبين  olanzapine ورسبريدون risperidone أصبح شائعاً بعدما تم تصنيعهما محلياً وتوافرهما بثمن مقبول، وهما يستخدمان لمعالجة الاضطرابات الذهانية الحادة؛ وللوقاية من النكس. تبلغ جرعة أولانزبين اليومية الوسطية 5-20 ملغ، ومن تأثيراته الجانبية النعاس وزيادة الوزن واضطراب استقلاب السكر مع ميل لحدوث الداء السكري، وتبلغ جرعة رسبريدون المعتادة نحو 4-6 ملغ/اليوم، ومن تأثيراته الجانبية النعاس، وفي حالات أقل أعراض خارج هرمية واضطرابات الدورة الطمثية بسبب فرط برولاكتين المصل.

يصنع كلوزابين الآن محلياً، وهو النموذج الأصلي لمضادات الذهان غير التقليدية، ويتبين من إحدى مراجعات كوكران المنهجية لمؤلفين سوريين أن كلوزابين أفضل من مضادات الذهان التقليدية في تحسين الصورة السريرية للفصام (العدد اللازم للعلاج 6) [ر. الفحص والتشخيص في الطب النفسي] وفي الوقاية من نكس الفصام (العدد اللازم للعلاج 21)، وتصبح فعالية كلوزابين العلاجية أوضح في حالات الفصام المعند على العلاج (العدد اللازم للعلاج 4)؛ إذ يستجيب للعلاج بكلوزابين ربع المرضى المصابين بفصام معند على مضادات الذهان التقليدية. ويتبين من مراجعة كوكران منهجية أخرى أن فعالية كلوزابين أفضل من فعالية زوتيبين؛ وقد تكون أفضل أيضاً من أولانزبين وكويتيابين ورسبريدون وزبراسيدون.

تبين البراهين المتوافرة أن كلوزابين أقل إحداثاً لارتفاع تركيز برولاكتين المصل والتأثيرات الجانبية خارج الهرمية من مضادات الذهان التقليدية؛ ولكنه أكثر إحداثاً للنعاس والإلعاب وارتفاع الحرارة وزيادة الوزن وتحريض نوب اختلاجية واعتلالات دموية (أخطرها نقص الكريات البيض في حالات نادرة). وقد أدى حدوث وفيات باستعماله ناجمة عن نقص الكريات البيض إلى وضع شروط نوعية لوصفه في دول عديدة، منها سورية، حيث يشترط: وصف كلوزابين فقط لحالات الفصام المعند على الأدوية الأخرى، ومراقبة تعداد الكريات البيض بانتظام، ووصف كلوزابين حصراً من قبل أطباء مختصين بالطب النفسي.

فترة العلاج:

يختلف طول الفترة الزمنية التي يحتاج المريض إلى الاستمرار في أثنائها على تناول الدواء المضاد للذهان - تقليدياً كان أم غير تقليدي - باختلاف التشخيص؛ ففي بعض الاضطرابات الحادة يمكن إيقاف العلاج بعد فترة قصيرة من زوال الأعراض الذهانية؛ في حين يغلب أن يحتاج المصابون بالفصام إلى الدواء عدة سنوات؛ وأحياناً طوال العمر. ومن المهم شرح ذلك للمريض ولذويه بوضوح؛ لأن عدم فهم المنطق خلف المداواة طويلة الأمد في ظروف لا يعاني المريض فيها أي أعراض هو أهم أسباب عدم المطاوعة، ويمكن إغناء هذا الشرح بمعلومات كمية (رقمية) تقدمها مراجعات كوكران المنهجية؛ منها مثلاً مراجعة أجراها أطباء سوريون لتوضيح الفرق بين متابعة العلاج وبين قطع العلاج من حيث نكس مرض الفصام، وكان العدد اللازم للعلاج 4 على المدى القصير والمتوسط والطويل (أي إنه كلما تابع أربعة مرضى العلاج لسنوات؛ تتم الوقاية من نكس إلى آخر إضافةً إلى الوقاية المصحوبة باستخدام الغفل).

التأثيرات الجانبية:

هناك أربعة أنماط من التأثيرات الجانبية العصبية التي يشيع ترافقها واستخدام الأدوية المضادة للذهان التقليدية تنجم عن حصار مستقبلات الدوبامين في النوى الدماغية القاعدية، وهي الباركنسونية الدوائية، وخلل التوتر dystonia وتعذر الجلوس akathisia وخلل الحركة المتأخر tardive dyskinesia، وقد كان إنقاص وقوع هذه التأثيرات الجانبية أحد أهم إنجازات تطوير مضادات الذهان الجديدة "غير التقليدية".

-  الباركنسونية الدوائية: هي تأثير جانبي شائع الحدوث في المعالجة بمضادات الذهان التقليدية؛ ولاسيما مرتفعة الفاعلية  highpotency مثل هالوبيريدول وبيموزايد، وتتضمن حركة بطيئة تشبه حركة الرجل الآلي، ومشية واسعة القاعدة، وتعابير وجهية جامدة تشبه القناع، ورجفاناً قصدياً في اليدين وأجزاء أخرى من الجسم، وهي عكوسة تخف أو تزول بخفض جرعة الدواء، ويمكن علاجها بمضادات الأستيل كولين المضادة لداء باركنسون مثل بنزهكزل benzhexol بجرعة 2-15 مغ/اليوم (ويجدر التنبيه هنا على خطأ يرتكبه بعضهم بمحاولة علاج الباركنسونية الدوائية بأدوية داء باركنسون الأخرى مثل  LDopa؛ لأنه لا يوجد نقص دوبامين في الباركنسونية الدوائية).

 - خلل التوتر: هو تقلص عضلي مفاجئ في الوجه والعنق قد يتظاهر بدوران الرقبة المفاجئ، أو بشكلة عيون للأعلى، أو بتصلب اللسان وبروزه؛ مما يشكل حالة مزعجة ومؤلمة للمريض، كما أنها مزعجة ومنذرة لذويه، وهي سبب شائع لعدم المطاوعة مع المداواة. يستجيب هذا العرض للمداواة بمضادات الأستيل كولين المضادة لداء باركنسون، ويمكن في الحالات الحادة إراحة المريض على الفور عن طريق الحقن الوريدي البطيء بـ 5-10ملغ ديازبام بيد طبيب خبير.

 - تعذر الجلوس: هو حالة يعاني فيها المريض دافعاً لا يقاوم لتحريك القدمين للأعلى وللأسفل (لذلك يسمى هذا العرض الجانبي أحياناً: متلازمة تململ القدمين)، وتتحسن الحالة بخفض جرعة الدواء المضاد للذهان أو بوصف دواء مضاد لباركنسون أو بكليهما. يحدث تعذر الجلوس خلال أسبوع أو أسبوعين من بدء المداواة بأحد مضادات الذهان.

-  قد لا يشاهد خلل الحركة المتأخر إلا بعد أن يثابر المريض على تناول الأدوية المضادة للذهان عدة أشهر أو سنوات، ويتظاهر بحركات مص الشفتين قد تتطور لتشمل حركات أخرى مثل المضغ ومد اللسان وحركات لي العنق والجذع، وهي حركات مزعجة لمن يعانيها ولمن ينظر إلى المريض، ولا تستجيب للمعالجة بمضادات داء باركنسون، وقد تتحسن بإيقاف مضاد الذهان أو تبديله. وتبين مراجعات كوكران المنهجية عدم توافر براهين علاجية لعشرات الأدوية التي جربت لعلاج خلل الحركة المتأخر.

إضافةً إلى هذه التأثيرات الجانبية العصبية؛ يؤدي حصار مستقبلات الدوبامين النخامية بمضادات الذهان إلى فرط برولاكتين الدم؛ وبالتالي إلى التثدي وإدرار الحليب وعدم انتظام الدورة الطمثية أو انقطاع طمث عكوس. كما يسبب العديد من مضادات الذهان تأثيرات جانبية كولينرجية تتضمن جفاف الفم والإمساك والأسر (الاحتباس) البولي وتشوش الرؤية وخلل وظيفة الانتصاب.

هناك تأثير جانبي نادر جداً لمضادات الذهان، هو متلازمة مضادات الذهان الخبيثة neuroleptic malignant syndrome  التي تحدث حين بدء العلاج أو حين رفع الجرعة أو حين تبديل مضاد ذهان بآخر، ويزداد خطر الإصابة بها باستخدام جرعات عالية من مضادات الذهان؛ ولاسيما ذات الفاعلية المرتفعة، وتشتمل أعراضها على صلابة جسم مفرطة؛ ولاسيما فوق البطن، وحرارة مفرطة الارتفاع، وتغيم الوعي، وهي حالة سريعة الترقي قد تنتهي بالوفاة خلال 24 ساعة، والسبب الشائع للموت فيها هو الوهط القلبي الدوراني، وقد تترك أذية دماغية دائمة عند الذين ينجون منها. تعالج هذه المتلازمة بالإجراءات التمريضية الداعمة وبإعطاء ناهض (مُقَلِّد) agonist دوبامين مركزي مثل بروموكريبتين bromocriptine  ومرخٍ عضلي محيطي مثل دانترولين .dantrolene 

2-الأدوية المضادة للاكتئاب:

تتضمن هذه الفئة العديد من الأدوية متنوعة البنية الكيميائية وآلية التأثر، يجمعها تأثيرها المحسن للمزاج ولبقية أعراض الاكتئاب، ومع بعض الاستثناءات النادرة - مثل أغوميلاتونين (وهو ناهض لمستقبلات الميلاتونين)- فإن معظم مضادات الاكتئاب شائعة الاستعمال تعمل أساساً بتيسير النقل العصبي السروتونيني أو النورأدريناليني أو كليهما معاً، إما عن طريق زيادة إطلاق هذه المواد في الفاصل المشبكي؛ وإما عن طريق إنقاص تخريبهما وإبطائه، أو إنقاص استردادهما إلى العصبونات. ولكن لابد قبل التعرض للأدوية المضادة للاكتئاب من التذكير بأن الدواء ما هو إلا شكل واحد من أشكال العلاج المستخدمة في الطب النفسي، وأنه قد لا يكون ضرورياً في بعض الحالات التي قد تستفيد أكثر من أحد أشكال المعالجة النفسية، كما يمكن أحياناً تضخيم الاستجابة العلاجية بمشاركة العلاج الدوائي والعلاج النفسي. أما عند اللجوء إلى الدواء؛ فلابد من تذكر بعض القواعد الأساسية في المداواة النفسية قبل تحديد الدواء الموصوف وجرعته وفترة تناوله. فمن الضروري مراقبة كل المرضى لكشف أي ميول انتحارية والوقاية منها؛ ولاسيما في الأسابيع الأولى للمعالجة، فقد يتطلب بدء التحسن بالمعالجة الدوائية أسبوعين أو أكثر؛ مما يتطلب اللجوء إلى المعالجة بالتخليج الكهربائي في حالات الاكتئاب الشديدة؛ ولاسيما المصحوبة بخطر انتحار شديد. ولما كان المرضى يحاولون الانتحار بتناول كميات كبيرة من الأدوية الموصوفة؛ فإنه يجب عدم تزويد المريض بكمية كبيرة من الأقراص، كما يفضل حين يكون خطر الانتحار كبيراً تجنب وصف ثلاثيات الحلقة القديمة والاستعاضة منها مشتقاتها الأحدث ذات السمية الأقل بالجرعات العالية، أو اللجوء إلى أدوية أسلم مثل مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية .(SSRIs) 

يوصى بوصف مضاد اكتئاب واحد بالجرعة الصحيحة فترة كافية؛ وبعدم مشاركة عدة أدوية مضادة للاكتئاب بالوقت نفسه، فقد تكون هذه المشاركة خطرة، ولا يوجد أي دليل على أنها تخفف من التأثيرات الجانبية. كذلك ينصح عدم استعمال المستحضرات الصيدلانية التي تحتوي على مزيج من دواء مضاد اكتئاب وآخر مزيل للقلق  anxiolytic؛ وذلك بسبب ضرورة تعديل الجرعة المناسبة لكل شخص؛ ولأن مضادات الاكتئاب تعطى باستمرار أشهراً عديدة في حين يجب وصف مزيلات القلق لفترة قصيرة من الزمن فقط.

يجب عادة استمرار المعالجة عدة أسابيع قبل ظهور التحسن السريري، ويجب بعدها الاستمرار بالمعالجة لبضعة أشهر؛ فالسحب المبكر للعلاج يرافقه النكس. يمكن في علاج الهجمة الأولى للاكتئاب تخفيف الجرعة تدريجياً وإيقاف العلاج بعد 6-12 شهراً أو أكثر من التحسن. أما حين علاج هجمة اكتئاب متكرر ومعاود؛ فقد يجب استمرار العلاج الوقائي بجرعة فعالة عدة سنوات. ويفضل في نهاية العلاج تخفيف الجرعة تدريجياً مدة 4 أسابيع قبل قطع العلاج؛ فقد يؤدي وقف العلاج فجأة عقب تناول دواء مضاد للاكتئاب (خصوصاً مثبطات أكسيداز الأمين الأحادي) على نحو منتظم مدة 8 أسابيع أو أكثر إلى ظهور أعراض سحب تشمل أعراضاً هضمية مثل الغثيان والقياء والقهم؛ إضافة إلى الصداع والدوام (الدوخة) والقشعريرة والأرق؛ وأحياناً الهوس الخفيف (تحت الهوس) hypomania والهلع والتململ الحركي الشديد. وأخيرا: إن كل الأدوية المضادة للاكتئاب قد تسبب نقص صوديوم الدم؛ ولاسيما في المسنين، قد يكون ناجماً عن اضطراب إفراز الهرمون المضاد للإدرار، لذلك يجب تقصي نقص الصوديوم حين يرافق المعالجة المضادة للاكتئاب نعاس أو تخليط أو اختلاج.

تصنيف الأدوية المضادة للاكتئاب:

تصنف الأدوية المضادة للاكتئاب بطرائق مختلفة، فقد تصنف بحسب صيغتها الكيميائية أو بحسب أحد تأثيراتها الرئيسية، وسبب هذه الاختلافات حقائق تاريخية تتعلق بكيفية اكتشاف التأثير العلاجي للأدوية المضادة للاكتئاب؛ فقد اكتشف تأثير بعض هذه الأدوية بالمصادفة في حين تم صنع بعضها بهدف الحصول على تأثير دوائي محدد (الشكل 1).

وبذلك يمكن تصنيف الأدوية المضادة للاكتئاب على الشكل التالي:

أ- المثبطات اللا انتقائية لاسترداد الأمين الأحادي (وهي مضادات الاكتئاب ثلاثية الحلقة) tricyclic antidepressants  ومضادات الاكتئاب متغايرة الحلقة  .heterocyclic antidepressants

تضم هذه المجموعة الأدوية ثلاثية الحلقة القديمة (مثل إيميبرامين وأميتربتلين وكلوميبرامين) وأدوية مشابهة ثنائية الحلقة أو رباعية الحلقة (مثل مابروتيلين). لهذه الأدوية تأثير فعال في الاكتئاب، وهي أقوى فعاليةً حين تكون أعراض الاكتئاب نوبية وذات بدء واضح مسبوق بفترة من المزاج الطبيعي، ويستفيد منها على نحو خاص المرضى الذين يعانون أعراضاً بيولوجية للاكتئاب مثل اضطراب النوم وفقد الشهية للطعام والخمول ونقص الرغبة الجنسية ونقص التمتع بالحياة، في حين تخف فائدتها في المرضى المزمنين بأعراض "عصابية" غير وصفية للاكتئاب (أي المصابين باكتئاب جزئي (أو خلل مزاج) .(dysthymia

(الشكل) تطور المداواة المضادة للاكتئاب من أدوية اكتشفت صدفة إلى مجموعات دوائية صممت بناء على أسس نظرية.

NA=noradrenaline, AC=acetylcholine, DA=dopamine, H=histamine, S=serotonin, MAOIs=monoamine oxidase inhibitors, SSRIs=serotonin selective reuptake inhibitors, TCA=tricyclic antidepressants, RIMA=reversible inhibitors of monoamine oxidase A-type.

 

 

تكمن الفوارق التي تميز هذه الأدوية بعضها من بعض أساساً في تأثيراتها الجانبية؛ وفي نسب تثبيط كل منها لاسترداد كل من السيروتونين والنورأدرينالين إلى العصبونات؛ فبعضها - مثل مابروتيلين - يثبط على نحو رئيس استرداد النورأدرينالين، في حين أن لبعضها الآخر، مثل كلوميبرامين، تأثير أقوى في استرداد السيروتونين.

لهذه الأدوية عمر نصفي طويل يسمح بإعطائها بجرعة يومية واحدة؛ في المساء عادةً، وقد يستفاد حينها من تأثيرات بعضها الجانبية المركنة والمسببة للنعاس (مثل أميتربتلين وكلوميبرامين ودوثيبين ودوكسيبين ومابروتيلين وميانسيرين وتريميبرامين) في الحالات التي يرافقها القلق أو الهياج، في حين يفضل إعطاء المريض المنعزل واللامبالي أدوية أقل تركيناً مثل أموكسابين أو ديسيبرامين أو إيمبرامين أو لوفيبرامين أو نورتريبتلين أو فيلوكسازين، أو البروتريبتلين الذي يمتاز بفعل منبه. تنجم التأثيرات الجانبية لهذه الأدوية عن حصارها- بنسب متفاوتة - لمستقبلات الأستيلكولين  الموسكارينية (فتسبب جفاف الفم والإمساك والاحتباس البولي، وتشوش الرؤية نتيجة اضطراب المطابقة، والزرق، وتسرع القلب،   واضطراب الاستعراف والهذيان؛ ولاسيما عند المسنين، وسوء الوظيفة الجنسية)؛ وحصارها لمستقبلات الأدرينالين a1 (فتسبب النعاس وهبوط الضغط الانتصابي واضطراب الاستعراف وسوء الوظيفة الجنسية) ولمستقبلات الهستامين H1 (فتسبب النعاس وزيادة الوزن)، كما أنها تؤثر في وظائف الغشاء الخلوي مسببةً نوباً اختلاجية صرعية (مابروتيلين خاصة)؛ واضطراباً في نظم القلب وفي النقل الكهربائي القلبي (أميتربتلين خاصة)، ولها تأثيرات جانبية أخرى تشمل الاندفاعات الجلدية، والوذمة، ونقص الكريات البيض (ميانسيرين خاصة)، وارتفاع الإنزيمات الكبدية.

تظهر التأثيرات الجانبية في بداية العلاج، وتميل إلى الزوال مع الوقت، لذلك يجب تشجيع المرضى على الاستمرار بالمعالجة، ويمكن تخفيف التأثيرات الجانبية بالبدء بجرعة خفيفة تزاد تدريجياً، ولهذا البدء المتدرج أهمية خاصة في المسنين؛ لأنهم معرضون لهجمات من الدوام أو الإغماء الناجم عن تأثير هذه الأدوية الخافض للضغط الشرياني، كذلك يجب الانتباه لنقص صوديوم الدم في المسنين.

توفر الصناعة الدوائية المحلية كلاً من أميتربتلين وكلوميبرامين وإيمبرامين ومابروتيلين، والأكثر استخداماً من هذه المجموعة هو أميتربتلين amitriptyline الذي يُعدّ مثالاً نموذجياً لمضادات الاكتئاب ثلاثية الحلقة ومشابهاتها، وهناك براهين بحثية على فعاليته؛ إذ يرافق استخدامه تحسن نحو 3 من كل 4 مرضى مصابين بالاكتئاب؛ إذا استخدم بطريقة مناسبة. يقال عادةً: إن الجرعة الفعالة هي بين 120 و150 ملغ/اليوم، ولكن يلاحظ أن كثيراً من المرضى يتحسنون على جرعات أخفض من ذلك. ترفع الجرعة تدريجياً عادةً من 25 ملغ/اليوم وبزيادة 25 ملغ كل يومين حتى بلوغ الجرعة الفعالة، ويعطى عادةً بنهاية اليوم للاستفادة من تأثيره الجانبي المركن في تحسين النوم. ويستطب أيضاً في سلس البول الليلي في الأطفال، (يعطى للأطفال بعمر 7-10 سنوات بجرعة 10-20 ملغ، وللأطفال بعمر 11-16 سنة بجرعة 25-50 ملغ وقت النوم). ويجب الحذر من وصفه عند وجود مرض قلبي (ولاسيما اضطرابات النظم)، أو تأذٍّ كبدي، أو اعتلال درقي، أو ورم القواتم pheochromocytoma، أو زرق مغلق الزاوية، أو البرفيرية، أو سوابق صرع أو هوس أو انقطاع البول  .anuriaكذلك يجب الحذر عند الكهول في أثناء الحمل والإرضاع، والتخدير العام؛ إذ يزداد خطر اضطرابات النظم وانخفاض الضغط. هذا، ويسبب أميتربتلين نعاساً قد يؤثر في الفعاليات التي تحتاج إلى مهارة خاصة (مثل قيادة السيارات)، كما أنه يعزز تأثير الكحول، ويُعدّ مضاداً للاستطباب في احتشاء العضلة القلبية الحديث وعند وجود اضطراب بنظم القلب (ولاسيما حصار قلب) وفي أثناء هجمة الهوس وفي الاعتلال الكبدي الشديد.

يختلف كلوميبرامين clomipramine عن أميتربتلين بأنه أكثر حصراً لاسترداد السيروتونين منه لاسترداد النورأدرينالين، ويستطب كلوميبرامين في الاكتئاب والرهابات والاضطراب الوسواسي القهري، وله ما للأميتربتلين من التأثيرات الجانبية والمحاذير ومضادات الاستطباب، ويعطى عن طريق الفم بجرعة بدئية مقدارها 25 ملغ باليوم، تزاد تدريجياً بحسب الحاجة إلى جرعة قصوى مقدارها 250 ملغ يومياً.

يعتقد أن لبعض مضادات الاكتئاب رباعية الحلقة تأثيراً على النورأدرينالين وتأثيراً نوعياً في السيروتونين (NaSSAs) noradrenergic and specific serotonergic antidepressants، ويتوافر منها محلياً ميرتازابين mirtazapine، واستطباباتها هي استطبابات بقية أدوية هذه المجموعة، وقد تتميز بتأثيرات جانبية أخف.

ب- المثبطات الانتقائية لاسترداد الأمين الأحادي: وتضم:

(1)-مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية (SSRIs) selective serotonin reuptake inhibitors مثل سيتالوبرام وإسيتالوبرام وفلوكسيتين وفلوفوكسامين وباروكسيتين وسيرترالين، وهي أدوية مضادة للاكتئاب تمتاز من مضادات الاكتئاب ثلاثية الحلقة بأنها أقل تركيناً وأقل سميةً للعضلة القلبية وأضعف حصاراً للمستقبلات الموسكارينية، ولكن لها تأثيرات جانبية هضمية (إسهال وغثيان وقياء)، كما قد تسبب الصداع والتململ والقلق، وقد تثير نوبة الصرع.

تعد مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية الخيار الأول لعلاج الاكتئاب في معظم أرجاء العالم بسبب النمط التفضيلي لتأثيراتها الجانبية على نحو رئيس، وتفيد أيضاً في الوقاية من تكرر نوب الهلع وفي معالجة الاضطراب الوسواسي القهري.

توفر الصناعة الدوائية المحلية جميع أدوية هذه المجموعة، وأقدمها فلوكسيتين fluoxetine الذي يفيد في علاج الاكتئاب الذي يرافقه القلق أو لا يرافقه، ويعطى بجرعة يومية واحدة مقدارها 20 ملغ، وترفع الجرعة تدريجياً في الاضطراب الوسواسي القهري إذا لم يستجب للدواء بعد عدة أسابيع إلى 60 ملغ يومياً، ويمكن استخدامه للأطفال، وهو جيد التحمل؛ مما يحسن مطاوعة المريض، وقد يعاني بعض المرضى تأثيرات جانبية، أهمها الغثيان والصداع والأرق والنزق والإسهال. يشيع أيضاً استخدام سيرترالين sertraline محلياً، ويعطى بجرعة يومية وحيدة من 50-100ملغ/اليوم، وهو فعال في معظم أنماط الاكتئاب بما فيها الاكتئاب المزمن والاكتئاب المصحوب بأعراض ذهانية. ويستخدم باروكسيتين paroxetine  بجرعة مقدارها 20 ملغ/اليوم، ويمكن رفع الجرعة حتى 50 ملغ/اليوم عند اللزوم، وتأثيراته الجانبية معتدلة؛ إذ يشكو المرضى أحياناً الصداع والغثيان والدوخة والإسهال، ويجب أن يتم إيقافه - مهما كان استطبابه - دائماً بحذر لمنع ظهور ما يمكن حدوثه أحياناً من أعراض الامتناع .withdrawal 

(2)-مثبطات استرداد السيروتونين والنورأدرينالين (SNRIs) serotonin and noradrenaline reuptake :inhibitors  مثل فنلافاكسين venlafaxine  ودولوكستين duloxetine  اللذين يتم تصنيعهما محلياً في سورية، ودسفنلافاكسين .desvenlafaxine  وقد بدأ استخدام فنلافاكسين أول أدوية هذه المجموعة عام 1994، ويعتمد تأثيره المثبط للاسترداد على جرعته؛ فالجرعات التي تقل عن 150 ملغ باليوم تثبط استرداد السيروتونين فقط، في حين تثبط الجرعات التي تزيد على 150 ملغ باليوم استرداد كل من السيروتونين والنورأدرينالين، وقد يثبط بجرعات أعلى من 300 ملغ باليوم استرداد الدوبامين أيضاً. دسفنلافاكسين هو مستقلب فعال لفنلافاكسين، ويعتقد أن له تأثيراته نفسها، ولكن البراهين المتوافرة توحي أنه أقل فعاليةً من دولوكستين ومن فنلافاكسين. يستطب دولوكستين لعلاج الاكتئاب واضطراب القلق المعمم والآلام العصبية، وهو مضاد استطباب في الكحوليين والمصابين بأمراض كبدية مزمنة.

(3)-مثبطات استرداد الدوبامين النوعية، وتضم دواء واحداً، هو بوبروبيون bupropion الذي يتم تصنيعه محلياً، ويمتاز من بقية الأدوية المضادة للاكتئاب بأنه يرتبط ارتباطاً نوعياً بناقل الدوبامين، ويثبط استرداد كل من الدوبامين والنور أدرينالين، كما أن له تأثيراً مناهضاً antagonistic لمستقبلات الأستيلكولين النيكوتينية، وقد سُوِّق أولاً بوصفه مضاد اكتئاب؛ ولكن وجد بعدئذٍ أنه فعّال في المساعدة على التوقف عن التدخين، وهو مضاد فعال للاكتئاب منفرداً أو مضافاً إلى مضادات اكتئاب أخرى. ومن تأثيراته الجانبية خفض عتبة الاختلاج وتحريض نوب الصرع؛ ولكنه يمتاز من بقية مضادات الاكتئاب بأنه لا يسبب زيادة الوزن ولا اضطراب الوظيفة الجنسية، بل قد يرافق استخدامه نقص الوزن وتحسن الرغبة الجنسية.

ج- مثبطات أكسيداز أحادي الأمين :(MAOIs) monoamine oxidase inhibitors وتضم هذه المجموعة أيزوكاربوكسازيد isocarboxazid وترانيل سيبرومين tranylcypromine وفينيلزين phenelzine، وهي أدوية فعالة في معالجة الاكتئاب؛ ولكنها قليلة الاستعمال بسبب خطورة تداخلها مع الأدوية المُحاكية للودي sympathomimetic والأغذية المحتوية على التيرامين.

تستطب مثبطات أكسيداز الأمين الأحادي في حالات الرهاب، وفي الاكتئاب؛ ولاسيما الذي ترافقه أعراض غير نموذجية مراقية أو هستريائية، ويمكن تجريبها في كل مريض لا يستجيب للمعالجة بمضادات الاكتئاب الأخرى. وكما في كل الأدوية الأخرى يجب تذكر أن الأثر العلاجي قد يتأخر ثلاثة أسابيع أو أكثر، ويفضل سحب هذه الأدوية بالتدريج في نهاية فترة العلاج. إن آلية التأثير الرئيسة لهذه الأدوية هي منع تخريب النورأدرينالين والسيروتونين، وذلك عن طريق الارتباط ارتباطاً غير عكوس بأكسيداز الأمين الأحادي (MAO) الذي يؤكسد تلك المواد إضافةً إلى أمينات أحادية أخرى ترد مع الطعام والأدوية. ويمكن لهذا التداخل الدوائي- الدوائي أو الدوائي - الطعامي أن يكون مهدداً للحياة. والتأثيرات الجانبية الأكثر شيوعاً للأدوية المثبطة لأكسيداز الأمين الأحادي هي هبوط الضغط الانتصابي واحتباس السوائل ونقص سكر الدم.

يندر توافر مثبطات أكسيداز الأمين الأحادي محلياً، ولكن يُذكَر مثالاً عليها فينيلزين الذي يستطب في الاكتئاب بجرعة 15 ملغ ثلاث مرات يومياً (مرضى المستشفيات 30ملغ ثلاث مرات يومياً) تخفف لاحقاً تدريجياً لأقل جرعة صيانة ممكنة (قد تكون 15 ملغ كل يومين)، ولا يوصى به للأطفال.

د- المثبطات العكوسة لأكسيداز أحادي الأمين نمط أ :(RIMAs) reversible inhibitors of MAO A-type وهي مجموعة حديثة من الأدوية المضادة للاكتئاب، منها موكلوبيميد moclobemide وبروفارومين brofaromine يعتقد أنها لا تتداخل مع التيرامين ولا مع مقلدات الودي؛ مما يجعلها أسلم من أدوية المجموعة السابقة.

يصنع من هذه الأدوية محلياً موكلوبيميد، ويستعمل في علاج الاكتئاب بجرعة 300 ملغ يومياً تعدل بحسب الاستجابة زيادةً أو نقصاناً إلى ما بين 150-600 ملغ يومياً مجزأة على ثلاث جرعات تؤخذ بعد الأكل، ولا يوصى به للأطفال، ويعطى بحذر في حالات الهياج والانسمام الدرقي وتأذي الكبد الشديد وفي أثناء الحمل والإرضاع، ويُعدّ مضاد استطباب في حالات الهذيان الحادة وفي ورم القواتم، ومن تأثيراته الجانبية: اضطراب النوم، والدوام، والغثيان، والصداع، والتململ، والهياج، ونادراً ارتفاع إنزيمات الكبد ونقص صوديوم الدم.

هـ- طلائع الأمينات الأحادية: المستعمل منها سريرياً هو التربتوفان؛ طليعة السيروتونين، وهو غير متوافر محلياً.

و- أدوية تعمل على مستقبلات السيروتونين، منها ناهضات مستقبل السيروتونين 5HT2  مثل ترازودون trazodone ونيفازودون nefazodone، ومناهضات مستقبل السيروتونين 5HT1A   مثل بوسبيرون .buspirone 

تستخدم مضادات الاكتئاب على نحو واسع، وينصح عادةً استخدام مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية خطاً أول في معالجة الاكتئاب، وتتوافر براهين علاجية على فعالية هذه الأدوية، كما تحتوي مكتبة كوكران على عدد من المراجعات المنهجية التي تقارن بين مختلف مضادات الاكتئاب والتي يتم تحديثها على نحو منتظم؛ فمثلاً: تبين مراجعة منهجية لتجارب معشاة تقارن بين مضادات الاكتئاب وبين الدواء الغفل في الرعاية الصحية الأولية فعالية كل من مضادات الاكتئاب ثلاثية الحلقة (العدد اللازم للعلاج 9) ومثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية (العدد اللازم للعلاج 7)، ويبين عدد من المراجعات المنهجية أن فعالية مختلف مضادات الاكتئاب متشابهة، مع فوراق في التأثيرات الجانبية؛ إذ يكثر مع فلوفوكسامين - مثلاً- الغثيان والقياء؛ ومع سيرترالين الإسهال.

3-الأدوية المثبتة للمزاج  :mood stabilizers

تندرج تحت عنوان "الأدوية المثبتة للمزاج" مجموعة من الأدوية ذات التأثير المنظم للمزاج، لذلك فإن استطبابها الرئيس هو اضطراب المزاج ثنائي القطب، وأكثر أدوية هذه المجموعة استخداماً هو الليثيوم وبعض مضادات الاختلاج مثل فالبروات valproate، وكاربامازبين carbamazepine، ولاموتريجين  .lamotrigine

أ- الليثيوم :lithium هو أحد عناصر الجدول الدوري، ويتوافر صيدلانياً بشكل ملح الكربونات أو السترات، وهو يطرح من الجسم عن طريق الكلية، وتظهر آثار منه في اللعاب وفي العرق، وهو مادة سامة والفرق بين جرعته العلاجية وجرعته السمية ضيق جداً، ويوجب ضيق المجال العلاجي لليثيوم مراقبة تركيزه المصلي على نحو منتظم، ويقع المجال العلاجي بين 0.5 و1.5 ميلّي مكافئ/لتر، ويتأثر التركيز المصلي بالتجفاف وبالمواد التي تسبب نضوب الصوديوم مثل المدرات التي قد ترفع التركيز المصلي مسببةً التسمم بالليثيوم. يعطى الليثيوم بجرعة ابتدائية صغيرة ترفع تدريجياً حتى بلوغ التركيز المصلي العلاجي، وتبلغ الجرعة الفعالة عادةً ما بين 900 و1800 ملغ باليوم.

يستخدم الليثيوم في علاج الهوس وتحت الهوس (الهوس الخفيف)، ويتأخر ظهور تأثيره 5-7 أيام في الهجمة الهوسية الحادة؛ مما قد يوجب إشراكه أولاً بأدوية مضادة للذهان. ولكن الاستخدام الأكثر شيوعاً لليثيوم هو علاج الصيانة طويلة الأمد لاضطراب المزاج ثنائي القطب؛ إذ يؤخذ عدة سنوات وأحياناً مدى الحياة للوقاية من تكرر هجمات كل من الهوس والاكتئاب، ويفيد في الوقاية من التكرار حتى في الاكتئاب أحادي القطب. التأثيرات الجانبية الأكثر شيوعاً للمعالجة بالليثيوم هي البوال (تعدد البيلات) والعطاش وتخريش المعدة والرعاش وزيادة الوزن. والليثيوم مشوه للجنين، ويجب تجنبه في أثناء الحمل، كما لا يعطى لأي شخص لديه قصور بوظائف الكلية، ويجب فحص وظائف الكلية دورياً لكل الذين يعالجون بالليثيوم، أما قصور الدرق فليس مضاد استطباب في أجزاء كثيرة من العالم بسبب توافر المعالجة الدرقية المعوضة. في المستويات السمية لليثيوم (أعلى من 2 ميلّي مكافئ/لتر) قد يحدث الرنح وقلة البول أو انقطاعه والقياء والإسهال والنوام .lethargy

المشكلة الرئيسة لاستخدام الليثيوم في المجتمعات النامية - ولاسيما في المناطق الريفية - هي الحاجة إلى  تكرار الفحوص المخبرية لفحص وظائف الكلية وللتأكد من أن مستوى الليثيوم في المصل هو ضمن المجال العلاجي، والحاجة إلى فحص وظائف الغدة الدرقية وللعلاج الدرقي المعوض أحياناً، لهذه الأسباب - ورغم أن الليثيوم يستخدم في كثير من المدن - فإن استخدامه ليس منتشراً في المجتمعات النامية انتشاره في الدول الصناعية.

ب- مضادات الاختلاج :anticonvulsants فالبروات الصوديوم هو مضاد اختلاج يستخدم تقليدياً لعلاج الداء الصرعي الصغير، وله تأثيرات مضادة للهوس ومثبتة للمزاج تجعله مفيداً في علاج الهوس والهوس الخفيف وفي علاج الصيانة لاضطراب المزاج ثنائي القطب، وتبلغ جرعته اليومية نحو 500 -1000ملغ/اليوم، وقد يسبب انزعاجاً هضمياً، ونعاساً ورعاشاً؛ وأخطر من هذا وأندر سميةً كبدية والتهاب المعثكلة.

وكاربامازبين دواء آخر معروف في علاج الصرع؛ ولاسيما صرع الفص الصدغي، ويفيد في علاج الهوس وفي الوقاية من تكرر نوب اضطراب المزاج ثنائي القطب، حيث يعطى بجرعة ابتدائية مقدارها 100-200 ملغ مرتين باليوم، تزاد تدريجياً بمقدار 200 ملغ/اليوم كل 3-4 أيام حتى بلوغ الجرعة المعتادة وهي 600-1200 ملغ/اليوم، ويمكن زيادتها في بعض الحالات إلى 1600 ملغ/اليوم. الخطر الأهم للعلاج بكاربامازبين هو الاعتلالات الدموية، وهناك أيضاً خطر خفيف لالتهاب الكبد، وقد تظهر الاعتلالات الدموية بشكل نقص الكريات البيض أو فقر الدم اللامصنع؛ لذلك يجب إجراء تعداد دم أسبوعياً طوال فترة تعديل الجرعة في بدء العلاج، ويطلب تعداد الدم على نحو منتظم ومتكرر حتى بعد تلك الفترة وبعد بلوغ الجرعة الفعالة. ومن الشائع استعمال هذا الدواء في المجتمعات العربية، وقد يكون ذلك بسبب تكلفته المنخفضة نسبياً وتوافره.

أما لاموتريجين فهو دواء جديد نسبياً، وهو مضاد اختلاج وجدت له تأثيرات واعدة بوصفه مثبتاً للمزاج، وتبلغ جرعته الوسطية 200 ملغ باليوم عندما يعطى منفرداً، وتبلغ جرعته العظمى 100ملغ باليوم عندما يعطى مساعداً لفالبروات.

4-البنزوديازبينات  :benzodiazepines

ينتمي إلى فئة مشتقات البنزوديزبين عدد من الأدوية المتشابهة التي يختلف بعضها عن بعض بأعمارها النصفية، وتنتقى لاستخدامات متنوعة اعتماداً على هذا الاختلاف؛ فلها مجتمعةً خواص منومة ومضادة للقلق ومضادة للاختلاج، تحدثها عن طريق تضخيم فاعلية  (GABA) gamma-aminobutyric acid؛ وهو ناقل عصبي مثبط يوجد في عدة مناطق من الدماغ. من هذه الأدوية: ديازبام، وكلورديازبوكسايد، وفلورازيبام، ولورازيبام، وأوكسازيبام، وتريازولام، وكلونازيبام، ويصنع الكثير منها محلياً، كما أصبح بعضها شائع الاستعمال (أو سيئ الاستعمال) عند المدمنين في المجتمع.

يستخدم ديازبام diazepam لعلاج القلق الناجم عن أمراض عضوية أو عن اضطرابات ظرفية أو حالات عصابية، وقد يخفف عرضياً من حالات الهلع والرهاب ومن أعراض سحب الكحول وغيره من العقاقير، والجرعة المعتادة هي 2-5 ملغ تعطى 2-3 مرات باليوم، وتستخدم جرعات أعلى من ذلك كثيراً في بعض الحالات. وأكثر تأثيراته الجانبية شيوعاً هي التعب والنعاس والدوام والرنح، ويشاهد تأثير عجائبي عند بعض المرضى ولاسيما الأطفال يتظاهر بالتململ والقلق والسلوك العدواني، وقد يحدث اعتياد دوائي على ديازبام (وعلى غيره من مشتقات البنزوديازبين) في الاستخدام المديد؛ ولاسيما بجرعات مرتفعة، وقد يقود السحب المفاجئ في هذه الحالات إلى التململ والانزعاج والنوب الاختلاجية.

لنترازيبام nitrazepam فترة تأثير أقصر من فترة تأثير ديازبام تجعله مفيداً في علاج الأرق وأقل تسبيباً للأثر الصباحي المتبقي، في حين تزيد  فترة تأثير كلونازبام clonazepam على فترة تأثير ديازبام، وقد طغى استخدام كلونازبام بوصفه مضاد اختلاج إضافةً إلى وظيفته المضادة للقلق.

5-الجراحة النفسية وطرائق التعديل العصبي:

الجراحة النفسية، أو الجراحة العصبية للاضطرابات النفسية؛ هي نوع من الجراحة العصبية المثيرة للجدل وللخلافات بدأها في العصر الحديث الطبيب السويسري Gottlieb Burckhardt عام 1880، وطور منها الطبيب البرتغالي Egas Moniz  في ثلاثينيات القرن العشرين طريقة بضع الفص الجبهي التي نال بسببها جائزة نوبل عام 1949. ولكن هجرت هذه الطريقة، واستبدل بها دواء كلوربرومازين في خمسينيات القرن العشرين. استخدمت بعد ذلك طرائق أخرى للجراحة النفسية، وهناك حالياً تنظيم صارم لهذه الجراحة؛ إذ أصبح إجراؤها نادراً وفي مراكز متخصصة قليلة العدد، وانحصر استخدامها بحالات الاضطراب الوسواسي القهري المعندة على العلاجات الأخرى كافة والمسببة لإعاقة شديدة تستمر سنوات طويلة. تجرى الجراحة النفسية بالتعاون بين الطبيب النفسي والجراح العصبي باستخدام طرائق التوضيع التجسيمي stereotactic  تحت التخدير العام، ويتم فيها بضع منطقة دماغية محددة أو قطعها جراحياً أو باستخدام التشعيع أو التجميد أو التخثير الحراري. وأكثر العمليات شيوعاً حالياً هي بضع المحفظة capsulotomy، وبضع التلفيف الحزامي cingulotomy، وقطع السبيل تحت النواة المذنبة tractotomy، وبضع الفص الحوفي .limbic leucotomy  يتحسن نحو ثلث المرضى على نحو واضح بعد العملية، وهناك عواقب مهمة محتملة للجراحة العصبية مثل النوب الاختلاجية، وسلس البول، ونقص الحافز والدافع، وزيادة الوزن، ومشكلات معرفية ومزاجية؛ أما الوفيات والأذيات العصبية الشديدة؛ فقد قلت بعد تطوير طرائق الجراحة العصبية وتحسينها.

يتحول الاهتمام بالجراحة النفسية حالياً من البضع أو القطع الجراحي الهادف لتخريب بعض نسج الدماغ إلى تنبيه الدماغ العميق (DBS) deep brain stimulation عن طريق زرع مسارٍ كهربائية ضمن الدماغ بهدف تنبيه مناطق دماغية محددة.

يُعدّ التنبيه الدماغي العميق واحداً من عدة طرائق تستخدم لعلاج الاضطرابات النفسية التي لا تستجيب لطرائق المعالجة المعتادة؛ فمع توافر العديد من الخيارات العلاجية الدوائية والنفسية، ما زالت هناك اضطرابات نفسية معندة على هذه العلاجات؛ فنحو ثلث المصابين بالاكتئاب - مثلاً- لا يستجيبون للعلاجات المتوافرة حالياً، ولا يتحمل كثير من المرضى التأثيرات الجانبية لهذه العلاجات الدوائية؛ ولاسيما المسنين والحوامل والمصابين بأمراض جسدية مرافقة. هناك حاجة قديمة ومستمرة، وسعي حثيث؛ إلى ابتكار طرائق علاجية جديدة قليلة التأثيرات الجانبية تخفف من وطأة اضطرابات نفسية مزمنة مثل الاكتئاب وتطويرها. ويصنف التنبيه الدماغي العميق مع طرائق التعديل العصبي neuromodulation techniques  التي تشتمل أيضاً على طريقة جراحية غازية أخرى هي تنبيه العصب المبهم (VNS) vagus nerve stimulation؛ وعلى طرائق غير غازية؛ لكنها تجرى تحت التخدير العام والإرخاء العضلي، هي المعالجة بالتخليج الكهربائي والمعالجة بالنوب المغنطيسية (MST) magnetic seizure therapy؛ وعلى طرائق ألطف وأكثر سلامةً وأماناً لا تحتاج إلى تخدير هي التنبيه المغناطيسي المتكرر عبر القحف (rTMS) repetitive transcranial magnetic stimulation، والتنبيه بالتيار المباشر عبر القحف (tDCS) transcranial direct current stimulation  (الجدول 4).

المحاذير

التطبيق

التداخل

الطريقة (وتاريخ بدئها)

اضطراب ذاكرة عابر، آلام عضلية، صداع

تقنية مخلجة تطبق تحت التخدير العام والإرخاء العضلي 2-3 مرات بالأسبوع، 6- 12 جلسة

تمرير تيار كهربائي منخفض الشدة عبر القحف لإحداث نوبة اختلاجية علاجية

التخليج    الكهربائي (ثلاثينيات القرن الـ20)

اضطراب ذاكرة عابر، آلام عضلية، صداع

تقنية مخلجة تطبق تحت التخدير العام والإرخاء العضلي 2-3 مرات بالأسبوع، 6- 12 جلسة

تطبيق حقول مغناطيسية متناوبة بسرعة عبر القحف لإحداث فعالية اختلاجية أكثر بؤرية

النوب المغناطيسية (مطلع القرن الـ 21)

صداع، ألم وجهي خفيف، حكة في أثناء التحريض، ونادراً نوبة اختلاج

 

تقنية غير غازية ولا تحتاج لتخدير. 10 إلى 30 جلسة يومية خلال 2 إلى 6 أسابيع حسب البرنامج المتبع

تطبيق نبضات مغناطيسية تمرر من خلال فروة الرأس والجمجمة لإحداث تحفيز ثانوي موضع للمناطق القشرية المستهدفة بهدف إحداث تعديلات طويلة الأمد في الاستثارة القشرية

التنبيه المغناطيسي المتكرر عبر القحف (بداية تسعينيات القرن الـ 20)

مضاعفات الجراحة، بحة وتغير في الصوت، ألم بلعومي، اضطراب بلع

 

تقنية جراحية غازية

زرع مسرى كهربائي في العنق حول العصب المبهم الأيسر تغذيه بطارية تزرع في جدار الصدر، ينبه المناطق تحت القشر بنبضات كهربائية متقطعة عبر العصب المبهم

تنبيه العصب المبهم (نهاية تسعينيات القرن الـ 20)

صداع خفيف وحكة في منطقة المسرى

تقنية غير غازية وآمنة نسبياً ولا تحتاج لتخدير. 5-10 جلسات يومية تستمر الجلسة نحو 20 دقيقة

وضع مسريين على الفروة لتمرير تيار كهربائي ضعيف يؤدي إلى رفع أو خفض استثارة القشرة الدماغية تبعاً لقطبية التيار

 

تنبيه الدماغ بالتيار المباشر

(ستينيات القرن الـ 20، واهتمام متجدد في الأعوام الماضية)

مضاعفات الجراحة، صرع، دوخة، اضطراب الكلام والحركة، نزق وتغير المزاج

تقنية جراحية غازية تتم تحت التخدير، ويتم التنبيه حسب برامج تتبع الاستجابة السريرية

تزرع مساري ضمن الدماغ عن طريق التوضيع التجسيمي توصل بمحفز نبضي مبرمج يزرع تحت جلد الصدر أو البطن

التنبيه الدماغي العميق (2005)

(الجدول رقم 4) طرائق التعديل العصبي المستخدمة في علاج الاضطراب الاكتئابي

 

تستخدم المعالجة بالتخليج الكهربائي في معظم دول العالم؛ بما فيها الدول العربية، وهي أقدم طرائق التعديل العصبي، بدأ استخدامها في ثلاثينيات القرن العشرين، وتمت حديثاً الموافقة على استخدام التنبيه المغنطيسي المتكرر عبر القحف وتنبيه العصب المبهم، وما زالت باقي طرائق التعديل العصبي خاضعة للبحث العلمي. أما من جهة البراهين العلاجية المتوافرة؛ فإن إحدى مراجعات كوكران المنهجية تبين أنه لا يوجد برهان قوي على فائدة التنبيه المغنطيسي المتكرر عبر القحف في معالجة الاكتئاب، ورغم موافقة إدارة الدواء والغذاء الأمريكية على استخدام تنبيه العصب المبهم لعلاج الاكتئاب؛ فإن هذا الاستخدام مازال مثار جدل. ويبدو أن طريقة التعديل العصبي الوحيدة التي تتوافر براهين مقنعة على فعاليتها هي المعالجة بالتخليج الكهربائي؛ إذ تتوافر عدة تجارب معشاة تقارن بين المعالجة الحقيقية بالتخليج الكهربائي وبين المعالجة الموهمة بالتخليج الكهربائي (والتي يتعرض المريض فيها لجميع إجراءات المعالجة بالتخليج الكهربائي ما عدا التمرير الكهربائي)، وتقدم نتائج تلك التجارب وغيرها براهين على فائدة المعالجة بالتخليج الكهربائي في علاج الاكتئاب. أما آلية التأثير الدقيقة فما زالت موضع جدل، وتشير أحدث البراهين إلى أن التخليج الكهربائي يزيد حساسية مستقبلات النورأدرينالين، ويزيد من تحرير النورأدرينالين وتَقَلّبه turnover، فتصبح محصلة التأثير هي زيادة النقل العصبي النورأدريناليني.

المعالجة بالتخليج الكهربائي :(ECT) electroconvulsive therapy

تتضمن المعالجة بالتخليج الكهربائي تمرير التيار الكهربائي عبر الدماغ، وقد بدأ استخدامها قبل نحو 80 سنة، وعولج بها ملايين المصابين باضطرابات نفسية؛ إذ طبقت أولاً في علاج الفصام، ولكن خف استخدامها في الفصام على نحو كبير، وأصبح استطبابها مقتصراً على حالات محددة من الاكتئاب. طبقت المعالجة بالتخليج الكهربائي في البداية على المرضى؛ وهم بحالة اليقظة؛ مما كان يسبب نوباً اختلاجية مزعجة لمن يراقبها وعواقب ناجمة عن التقلصات العضلية العنيفة، كعض اللسان وتأذي الأسنان وكسور العظام الطويلة والفقرات. أدى ذلك إلى إثارة الكثير من الجدل في الأوساط العلمية وبين العامة حول التأثيرات الضارة المحتملة للمعالجة بالتخليج الكهربائي، وقد نوقش ذلك في بعض الحالات بوصفه موضوعاً لحقوق الإنسان، واتخذ بعض الأطباء موقفاً معادياً للتخليج الكهربائي، كما تكوّن في كثير من الدول رأي عام مضاد له بين بعض المرضى وأهلهم وعامة الناس، ومازالت بعض الأفكار غير العلمية تخيف المرضى من هذه الطريقة العلاجية. من المؤكد أن معظم هذه المخاوف غير مبنية على حقائق؛ فلا يوجد برهان على خلل معرفي دائم نتيجة المعالجة بالتخليج الكهربائي، وتبقى هذه المعالجة إحدى أسلم المعالجات المعروفة في الطب النفسي وأكثرها فعالية؛ شريطة استخدامها باستطبابها المناسب وضمن معايير دقيقة؛ مما يوجب على الطبيب تخصيص بعض وقت الجلسة لتثقيف المريض حول ما يجب أن يتوقعه بغية تأكيد نعومة سير المعالجة والنقاهة التالية لها؛ إذ يجب دائماً الحصول على موافقة المريض المستنير، أو موافقة الوصي عليه في الحالات الإسعافية أو حين يكون المريض غير ذي أهلية.

أدى الجدل المذكور آنفاً إلى تحسين طريقة تطبيق المعالجة بالتخليج الكهربائي، فصنعت أجهزة تبدل شكل التيار الكهربائي، وتسمح بالتحكم الدقيق بجرعة التيار الكهربائي التي تمر عبر الدماغ، كما طُوِّر تطبيق المعالجة، فأصبحت تجرى في غرفة عمليات تحت التخدير العام والأكسجة وبعد إعطاء مرخٍ عضلي محيطي يمنع تقلص العضل (المعالجة المعدلة بالتخليج الكهربائي  .(modified ECTأدت هذه التعديلات إلى اختفاء معظم عواقب المعالجة بالتخليج الكهربائي بحيث أصبحت تأثيراتها الجانبية مقتصرة على الصداع وعلى اضطراب معرفي عابر؛ ولاسيما في الذاكرة التي قد تضطرب لبضعة أيام بعد المعالجة. ينجم الاضطراب المعرفي العابر عن تمرير التيار الكهربائي عبر نصف الكرة المخية السائد في المعالجة ثنائية الجانب bilateral، وقد طورت طريقة لتجنب ذلك الاضطراب، هي المعالجة بالتخليج الكهربائي أحادية الجانب .unilateral ECT  عملياً يخدر المريض تخديراً عاماً بمخدر وريدي قصير فترة التأثير (الأكثر استخداماً محلياً هو thiopental، ويستخدم بعضهم propofol أحياناً)، ويحقن وريدياً مع جرعة من مرخٍ عضلي (الأكثر استخداماً محلياً هو (succinylcholine، ثم يطبق التيار الكهربائي على الرأس باستخدام مسريين رطبين يوضع كل منهما على أحد الصدغين في المعالجة ثنائية الجانب بالتخليج الكهربائي، أما في المعالجة أحادية الجانب التي تطبق على نصف الكرة الدماغية غير السائد؛ فيوضع مسرى فوق الأذن، ويوضع المسرى الثاني أعلى قليلاً من الخط الواصل بين زاوية العين وفوهة مجرى السمع الظاهر.

يتبين من عديد من التجارب المعشاة وغيرها أن مجرد تخدير المريض وإرخاء عضلاته وتمرير التيار الكهربائي عبر دماغه لا يكفي للحصول على تأثير علاجي، وأن حدوث الاختلاج الصرعي هو شرط لا بدّ منه لحدوث التحسن السريري. كانت ملاحظة حدوث الاختلاج سهلةً قبل تعديل طريقة تطبيق التخليج الكهربائي، أما بعد البدء باستخدام التخدير وإرخاء العضل؛ فأصبح من الضروري إيجاد طرائق خاصة للتأكد من حدوث الاختلاج. تحتوي بعض أجهزة المعالجة الحديثة على جهاز تخطيط دماغ يعمل على نحو متزامن مع تطبيق المعالجة بالتخليج الكهربائي، فيؤكد حدوث الاختلاج، أما في حال عدم توافر مثل هذا الجهاز؛ فيمكن تطبيق رباط ضاغط على ذراع المريض أو ساقه لمنع وصول المرخي العضلي على نحو يمكن معه ملاحظة النوبة الاختلاجية مباشرةً في الطرف المعزول.

الاستطباب الرئيس للمعالجة بالتخليج الكهربائي هو الاكتئاب الجسيم؛ ولاسيما عند وجود أفكار انتحارية ومحاولات انتحار أو عند طغيان الأعراض البيولوجية مثل الامتناع عن الأكل والشرب على نحو يهدد الحياة، وتمتاز المعالجة بالتخليج الكهربائي في هذه الحالات بأنها أسرع تأثيراً من الأدوية المضادة للاكتئاب، وقد تكون أكثر فعاليةً منها على نحو طفيف. وهناك استطباب آخر للمعالجة بالتخليج الكهربائي هو الفصام الجامودي. أما بالنسبة إلى مضادات الاستطباب؛ فليس هناك مضاد استطباب مطلق لاستخدام المعالجة بالتخليج الكهربائي؛ والحمل ليس مضاد استطباب، بل إن المعالجة بالتخليج الكهربائي أسلم من الأدوية المضادة للاكتئاب في أثناء الحمل، ولكن يجب الحذر في المصابين بأمراض قلبية أو رئوية أو بورم دماغي أو بغيره من أسباب فرط الضغط داخل القحف.

يصف بعض الأطباء عدداً محدداً من جلسات التخليج الكهربائي لكل مريض قبل بدء العلاج، ويراوح العدد الموصوف عادةً بين 6 و12 جلسة وأكثر من ذلك أحياناً، ولكن هذه الممارسة غير مسندة بأي براهين علاجية؛ فبعض المرضى يتحسنون بعد جلسة المعالجة الأولى، لذلك ربما كان من الأفضل إعادة تقييم حالة كل مريض بعد كل جلسة وتقرير ما إذا كانت الجلسة التالية ضرورية أو لا؛ ولاسيما أن إحدى التجارب المعشاة أوضحت أنه لا فائدة ترتجى من إجراء جلسة إضافية بعد تحسن أعراض المريض. كما أن بعض المرضى يحتاج إلى معالجة صيانة بالتخليج الكهربائي، إذ قد يتطلب منع النكس عندهم إجراء جلسات شهرية أو نصف شهرية فترة ستة أشهر أو أكثر.

تستخدم المعالجة بالتخليج الكهربائي في سورية وغيرها من الدول العربية بشكلها المعدل عادةً؛ ولكن للأسف ما زال يطبقها بعضهم بشكلها القديم غير المعدل بسبب عدم توافر اختصاصي تخدير للمساعدة على تطبيقها؛ مع ما يرافق ذلك نظرياً من ارتفاع في خطر العواقب المؤذية.

ثالثاً- المعالجة النفسية  :psychotherapy

للمعالجة النفسية أشكال عديدة كالمعالجة النفسية التحليلية والمعالجة السلوكية والمعالجة المعرفية، وتقدم بعض أشكالها على نحو فردي وبعضها على نحو جماعي من قبل معالج مدرب تدريباً نوعياً. يقوم بعض الأطباء بتقديم المعالجة النفسية؛ ولكن مجرد رغبة الطبيب بتقديم أحد أشكال المعالجة النفسية وممارسته لتلك المعالجة لا يكفي، ولا يجعل منه معالجاً نفسياً؛ بل لابد من تدريب سريري تخصصي في إحدى طرائق المعالجة النفسية تحت إشراف معالجين نفسيين خبراء لاكتساب الخبرة والمهارة اللازمة؛ تماماً كما يتدرب الأطباء في مجال أي اختصاص طبي داخلي أو جراحي، ويوجد في الدول العربية - بما فيها سورية - معالجون نفسيون خبراء يمكن للأطباء الاستفادة من خبراتهم كما يستفيد منها من يراجعهم طالباً المساعدة.

وفي حين يراجع الأطباءَ "مرضى"؛ فإن مراجعي المعالج النفسي ليسوا بالضرورة مصابين باضطراب نفسي، بل قد يراجعون فقط؛ لأنهم يعانون بعض المشكلات الحياتية المتنوعة، كما أنه لا يوجد خط واضح يفصل السلامة النفسية عن الاضطراب النفسي، وليس من السهل التمييز بين "المريض" وبين "السليم" حين مقابلة الشخص للمرّة الأولى. لذلك فإن المعالجين النفسيين يصفون من يراجعهم على أنه "زبون"client  ، وستُستعمل في هذا البحث كلمة "مريض" أو كلمة "زبون" اعتماداً على السياق الذي ترد فيه.

يعتمد العلاج النفسي الفردي أساساً على تواصل لفظي بين الزبون وبين المعالج؛ وعلى تطوير تحالف علاجي بينهما بهدف تحريض المريض على التعبير عن مخاوفه ومشاعره وخبراته بحرية دون الخوف من التعرض للانتقاد أو للمحاسبة من قبل المعالج، مع تعاطف المعالج وتفهمه للزبون ومساعدته على تطوير طرائق أكثر فاعلية في التعامل مع مشكلاته. أي إن المعالجة النفسية ليست مجرد طريقة - أيّ طريقة - لمساعدة الناس؛ فمشاركة الهموم مع صديق أو قريب ليست معالجة نفسية؛ لأن المعالجة النفسية يجب أن تقدم من قبل شخص (معالج نفسي) مدرب تدريباً خاصاً، ويستخدم طرائق نوعية في التعامل مع المشكلات البشرية، ويبقى موضوعياً؛ فلا ينحاز لجانب، ولا يتحدث من تجاربه الشخصية، ولا يعطي نصائح مباشرة؛ بخلاف الصديق أو القريب. يبدو للوهلة الأولى أن تعريف المعالج هذا ينطبق أيضاً على رجال الدين وعلى المعالجين الشعبيين؛ لأنهم مدربون، ويستخدمون طرائق نوعية في مساعدة الناس، ولكن يكمن اختلافهم عن المعالجين النفسيين في أن المعالج النفسي وزبونه ليسا ملزمين بالاشتراك بالمعتقدات الدينية نفسها أو الأعراف والتقاليد؛ لكي تكون المعالجة فعالة. فمثلاً: إذا كان الشخص غير مؤمن بالجن أو بالسحر قد لا يستفيد من معالج شعبي، والشخص الملحد لن يستفيد من زيارة رجل دين، أما المعالج النفسي فلا يعتمد على قوى غيبية في شرح السلوك البشري ولا في معالجته، ولا تتداخل مواقفه الشخصية ودينه ومعتقداته وآراؤه بدوره المهني كمساعد، ولا بقيم الشخص طالب المساعدة ومعتقداته؛ فالأمر المهم في المعالجة النفسية هو العلاقة المتبادلة، والاقتناع الوحيد المهم هو الثقة بالمعالجة وبالنتيجة الايجابية.

مفاهيم أساسية:

تتألف المعالجة النفسية من معالج وزبون وحدثية المعالجة، فالمعالج النفسي هو شخص يحمل شهادة تؤهله لتقديم المساعدة المهنية، ويعمل بموجب التزامات مهنية وأخلاقية وقانونية، ويجب أن تتوافر لديه صفات شخصية معيّنة ومهارات، مثل التحمل والتشاعر (الإحساس بمشاعر الآخرين)، لا بدّ منها لتيسير التواصل ولتأسيس علاقة حميمة rapport  جيدة. والزبون هو الشخص الذي يطلب المساعدة للتغلب على مصاعب نفسية أو على أعراض اضطراب نفسي، وتتألف حدثية المعالجة النفسية من ثلاثة مكونات رئيسة، هي: دافع الزبون، وتقنية العلاج التي يستخدمها المعالج، وعلاقة المعالج - الزبون. فلكي تكون للمعالجة النفسية أي فائدة؛ يجب أن يميز الزبون ضيقه وأن يكون مندفعاً باتجاه تخفيف ذلك الضيق. ويمكن لتقنيات العلاج على نحو عام أن تتبع أحد نموذجين: نموذج طبي ونموذج إعادة تثقيف. يتعامل النموذج الطبي مع الاضطرابات النفسية بطريقة تعامل الطب مع الاضطرابات الجسدية نفسها، فيوجه المعالجة باتجاه تخفيف أعراض الاضطراب النفسي وعلاماته، ولكن تواجه هذا النموذجَ صعوبات تنجم عن أن الاضطراب النفسي ليس كينونة معزولة تؤثر فقط في جزء من الجسم أو في بعض مظاهر حياة المريض فحسب، كما لا يستوعب النموذج الطبي حالات تقع خارج حدود الطب؛ ولكن لها الأهمية نفسها من أجل الرفاهة النفسية والصحة النفسية (مثل مشكلات تربية الأولاد ومشكلات العلاقات بين البشر وغير ذلك). أما نموذج إعادة التثقيف فهو نموذج أوسع يشتمل على المشكلات الشخصية والصعوبات الاجتماعية إضافةً  إلى التشخيص، لذلك فهو يهدف إلى إحداث تغيير أوسع يتضمن كلاً من التغيير الشخصي والتغيير السلوكي، ويقصد بالتغيير الشخصي إعادة ترتيب جذرية لبنية شخصية المريض ولأنماط تفاعله مع الآخرين، وترافق هذه العملية عادةً تفهم الذات؛ مما يقود إلى النمو الانفعالي والتطور الشخصي. وبذلك فإن نموذج إعادة التثقيف لا ينظر إلى الأفراد الذين يطلبون المساعدة النفسية على أنهم مرضى يعانون أعراضاً تقليدية للاضطرابات النفسية؛ بل على أنهم أشخاص يحتاجون إلى النمو والتطور والتغلب على مآزقهم.

المكون الثالث من مكونات الحدثية العلاجية هو علاقة المعالج - الزبون التي تؤكد معظم مدارس المعالجة النفسية أنها جوهر المعالجة، ولا تختلف المدارس بعضها عن بعض إلا بدرجة التشديد على تلك العلاقة. فترى مدرسة التحليل النفسي أن مشاعر الزبون تجاه المعالج هي تكرار لمشاعر سبق له أن وجهها باتجاه والديه أو باتجاه أشخاص آخرين في ماضيه، وتؤكد مدارس أخرى أهمية المواجهة والحوار بين الزبون والمعالج النفسي ضمن جو علاجي دافئ متساهل يحدث "هنا والآن". وعلى نحو عام؛ فإن العلاقة العلاجية النفسية هي علاقة فريدة من نوعها بين العلاقات البشرية؛ لأنها توفر للزبون شخصاً يستمع إليه، ويعامله باحترام وتقدير، فيشعره بأنه مقبول بغض النظر عما يقوله؛ وبأنه حر في التعبير عن مشاعره وأفكاره ورغباته.

يجدر بالأطباء الذين يمارسون المعالجة النفسية تطوير مهارات إضافية في تعاملهم مع مرضاهم، فلعلاقة الطبيب بالمريض - إضافة إلى أوجهها العلمية والتقنية - أوجه إنسانية وأخلاقية بدأ الاهتمام بها مع قسم أبقراط ومازال مستمراً. فلا شك في أن أساس تقديم الرعاية الطبية هو وجود علاقة اجتماعية بين الطبيب والمريض، وهي علاقة متبادلة لكل من طرفيها دور يؤديه فيها ومسؤوليات يتحملها؛ فيؤدي المريض "دور المرض" sick role  الذي يتصف بما يلي:

1-التحلل من الفعاليات والمسؤوليات الاجتماعية المعتادة، إذ يسمح للمريض مثلا بالتغيب عن العمل.

2-عدم لوم المريض على مرضه وعدم مطالبته بأن يعالج نفسه، فالمريض بحاجة لرعاية طبية.

3-أن يطلب المريض العون الطبي المؤهل.

5-أن تكون لدى المريض الرغبة في الشفاء، وأن يتعاون مع الطبيب المعالج.

أما دور الطبيب فهو تشخيص الأمراض الحادة والمزمنة والعمل على تخفيف آلام المريض وتحسين أدائه والسعي للتوصل إلى الشفاء التام؛ إن كان ممكناً وتقديم العلاج الملطف في الأمراض التي ليس منها شفاء؛ كذلك على الطبيب أن يأخذ بالحسبان تأثر المريض بالألم وبملازمة السرير وبالحمية وبالتأثيرات الجانبية للأدوية وبالدعث الناجم عن المرض أو عن العلاج وبالأعباء المالية للمرض وبخطر الوفاة، وعليه أيضاً أن يتفهم شخصية المريض وتأثيرها في طرائق تفاعله مع الكرب الناجم عن المرض. كما أنه لا بد من الانتباه لتأثير المرض في أدوار المريض الاجتماعية وفي علاقاته في الأسرة والعمل والمحيط الاجتماعي؛ فقد تتغير الأدوار في المنزل، وقد تختلف طرائق التخاطب والتواصل، وقد يميل المريض إلى العزلة، كما قد يميل الأصدقاء إلى الانسحاب، كذلك قد يحد المرض من إمكانية العمل، وقد يؤثر في التعامل الاجتماعي. يؤدي الانتباه لهذه النقاط إلى تمتين العلاقة بين الطبيب والمريض، ويحتاج ذلك إلى خبرة تكتسب بالتدريب، وتساعد الطبيب على أن ينظر إلى المريض على أنه كائن بشري؛ وليس مجرد خلل فيزيولوجي، وأن يؤسس معه علاقة مبنية على:

1-الثقة، حيث يمارس الطبيب الطب بما يحقق مصلحة المريض على النحو الأمثل.

2-زرع الأمل وتخفيف الشكوك والمخاوف من دون تضليل المريض أو خداعه.

3-التشاعر (المشاركة الوجدانية) empathy؛ حيث يفترض الطبيب أنه مكان المريض؛ مما يساعده على فهم مشاعر المريض.

4-التواصل؛ أي إعطاء المريض الفرصة للتعبير عن مخاوفه.

تنطبق هذه التوصيات على الاختصاصات الطبية كافة، ولها أهمية استثنائية في ممارسة الطب النفسي؛ ولكنها تختلف عن العلاقة العلاجية النفسية كما سيرد لاحقاً في هذا البحث.

طرائق المعالجة النفسية:

للمعالجة النفسية طرائق تتبع التفسيرات المتنوعة لأسباب الاضطرابات النفسية التي ورد ذكرها في مطلع هذا البحث، وسيُستعرض فيما يلي كلّ من المعالجة بالتحليل النفسي، والمعالجة السلوكية، والمعالجة المعرفية، والمعالجة السلوكية المعرفية.

1-المعالجة النفسية بالتحليل النفسي :psychoanalytic psychotherapy

لمصطلح "تحليل نفسي" معنيان؛ فهو أولاً إطار نظري يتم من خلاله تفسير الحياة العقلية والإمراض النفسي وأسبابه، وهو ثانياً طريقة علاجية مشتقة من صياغات فرويد النظرية التي غايتها مساعدة الزبون على إعادة تنظيم نفسه وفهمها، وعلى إدراك صراعاته اللاشعورية؛ بغية تحقيق إحكام وتكامل أكثر جدوى وصحة، ويرافق ذلك عادةً اختفاء الأعراض وزيادة الاستقلالية وتحسن تحمل الكرب.

يعتمد التحليل النفسي على تحقيق فائدة علاجية من خلال الإصغاء للزبون ضمن علاقة متسامحة وواضحة وأمينة ومبنية على الثقة ومؤطرة بحدود مهنية تحدد بصرامة توقيت التواصل بين الزبون والمعالج ومكانه وكيفيته، وتركز على احتياجات الزبون؛ وليس على احتياجات المعالج. ويطلق على التحليل النفسي أحياناً اسم "المعالجة النفسية الدينامية" dynamic psychotherapy؛ لأنه يعدّ أن لدى الزبون قوى دينامية ترغب بالتغيير وقوى دينامية -  قد تكون لاشعورية - مقاومة للتغيير، كما يعدّ أن هناك صلة بين أمور تعرض لها الزبون سابقاً وبين ما يحدث في حياته الحالية؛ وأن تأثير تلك الأمور يتكرر ضمن العلاقة العلاجية، فيعكس المريض على نحو لا شعوري ماضيه - ولاسيما طفولته - على علاقته الحالية بالمعالج؛ وذلك بسبب وجود رغبة في تعميم بعض خبراته على نواحٍ أخرى من حياته. يعتمد التحليل النفسي في محاولته كشف محتوى اللاشعور عند الزبون على التداعي الحر للأفكار (متضمناً زلات اللسان) وعلى تفسير الأحلام. يطلب المعالج من الزبون في التداعي الحر الإخبار عن كل ما يخطر بباله من دون انتقاء أو محاكمة أو تقييم، ويطلب منه قول أي شيء يخطر له مهما بدا غبياً أو غير مهم، على افتراض أنه كيفما بدأ الزبون حديثه؛ فإنه سينتهي إلى إنتاج مواد مهمة أو بعض عناصر مشكلته، وينتبه المعالج لزلات لسان الزبون، فيعدّها مؤشراً على مواد لاشعورية مهمة. يقوم المعالج أيضاً بتفسير أحلام الزبون اعتماداً على افتراض أن الأحلام تسمح للمواد اللاشعورية المكبوتة بالظهور على نحو مكثف ورمزي ومُقنّع يصعب على الحالم تمييزه وفهمه، ولكنه يمكن المعالج من كشف مواد لاشعورية وفهمها عن طريق تحليل محتوى الأحلام وتأويل ما تتضمنه من رموزٍ ومعانٍ مخفية في ضوء خبرات الزبون السابقة.

يتحدث الزبون في أثناء جلسات التحليل النفسي بما يراه مهماً مفسحاً المجال أمام التداعي الحر لأفكاره ومفرغاً مشاعر مكبوتة في جو آمن، ويصغي المعالج إلى حديث الزبون باذلاً جهده لاستنتاج ما وراء ذلك الحديث، ثم يستنبط مما فهمه من أقوال الزبون تأويلاً يربط تلك الأقوال بمواد لاشعورية وبخبرات قديمة، وقد يوافق الزبون على تأويل المعالج أو لا يوافق. يرافق تقبل الزبون للتأويلات الصحيحة عادةً انفعالات مكثفة تُعّد حاسمةً من أجل الشفاء، أما إذا لم يحظَ التأويل بالموافقة؛ فيجب على المعالج إيجاد تأويل بديل، ويتطلب ذلك تأويل كثير من أقوال الزبون لمساعدته على إدراك ميله غير المتعمد لتحريف الحقائق؛ وعلى أن يتعلم تدريجياً كيف يرى الوقائع كما هي لا كما يخشى أن تكون أو كما يتمنى أن تكون. ولكن هذا التغيير ليس سهلاً، وقد يقاومه الزبون رغم أنه دخل العلاج بإرادته، ولا يصعب فهم ذلك عندما يُعرف أن المعالجة تعني كشف أعمق الأسرار والمشاعر والأفكار المخفية؛ فقد يشعر الزبون بالرعب من احتمال أن يرفضه المعالج أو أن يسيء فهمه أو أن يصمه بخلل العقل. المقاومة resistance هي مفهوم آخر من مفاهيم فرويد؛ ويقصد بها تحكم اللاشعور بمناطق حساسة يصعب على المريض الخوض فيها بسبب صراعات لاشعورية، وتحدث عادةً في مطلع التحليل النفسي، وتختفي عاجلاً أو آجلاً بحسب الجو العلاجي والعلاقة الحميمة التي أنشأها المعالج. وهناك نوع آخر من المقاومة (أو الخوف من التغيير) التي لا يعيها الزبون؛ فرغم رغبة الزبون الواعية بأن يرتاح من المعاناة والأعراض المزعجة؛ هناك أيضاً رغبة لاشعورية بالتمسك بالأعراض؛ لأن تلك الأعراض تمثل طرائق مألوفة للقَوْب coping ولتلقي الحنان والرعاية (مكسب ثانوي)، فمثلاً: قد يمنح الصداعُ الطالبَ عذراً يسوّغ رسوبه بالامتحان؛ حيث يطغى انشغال الوالدين بصداع ابنهما عن اهتمامهما بامتحانه. يوجه المعالج انتباه المريض إلى المقاومة عند حدوثها، ويقترح عليه التأويلات المناسبة لتفسيرها في ضوء صراعات لاشعورية يتم العمل من خلالها والتعامل معها على نحو متتابع كلما ظهرت بغية اكتساب المريض للبصيرة insight (أي الفهم المتدرج للذات؛ فالتفريغ واكتساب البصيرة يسيران جنباً إلى جنب). تضفي ظاهرة المقاومة - إضافةً إلى ظاهرة الإنقال transference - أهمية خاصة على العلاقة العلاجية في التحليل النفسي؛ إذ يُعتمد طوال فترة التحليل النفسي على تحليل العلاقة بين الزبون والمعالج وعلى ما تتضمنه تلك العلاقة من مقاومة وإنقال. والإنقال هو المشاعر التي يطورها الزبون تجاه المعالج في أثناء جلسات التحليل النفسي، وهي مشاعر ذات صلة مهمة بالغرائز المكبوتة وبالصراعات اللاشعورية؛ فالزبون لا يدرك المعالج كما هو، بل يستخدمه ليسقط عليه مشاعر وأفكاراً كانت موجهة سابقاً تجاه والديه أو تجاه بعض تجاربه السابقة، وعلى الرغم من طبيعته اللاشعورية؛ يسمح تطوير الإنقال للزبون بتكرار استجاباته الطفولية وباسترجاع ذكرياته وخبراته وجلبها إلى الشعور، وقد يكون الإنقال إيجابياً أو سلبياً بناءً على نوعية المشاعر التي يعبر عنها الزبون تجاه المعالج؛ إذ يمكن للزبون أن يعجب بالمعالج أو يعبر عن انجذاب جنسي إليه، أو أن يدرك المعالجَ على أنه والد جيد أو مثال لصديق (إنقال إيجابي)، كما يمكنه أن ينتقد المعالجَ وأن ينافسه أو أن يبدي الغضب والعداوة تجاهه (إنقال سلبي)، ويُعدّ تأويل المعالج لمظاهر الإنقال هذه أحد المظاهر المفتاحية للتحليل النفسي، حيث يُعدّ تطوير الإنقال أمراً مرغوباً وضرورياً في التحليل النفسي التقليدي. وكما يطور الزبون مشاعر إنقال تجاه المعالج؛ قد يطور المعالج مشاعر تجاه الزبون (إنقال معاكس) counter transference؛ فقد يعبر المعالج عن الغيرة أو الغضب أو فرط التخوف أو الملل تجاه الزبون، ولكن - وعلى خلاف الإنقال - تُعدّ تظاهرات الإنقال المعاكس خطأً علاجياً يعرض المعالجة بمجملها لخطر جسيم؛ لأنه يعني أن المعالج عاد غير مسيطر على الظرف العلاجي. وكما هي الحال عليه بالنسبة إلى تظاهرات الإنقال؛ على المعالج التنبه لتظاهرات الإنقال المعاكس عند حدوثها وتأويلها وربطها بخبراته القديمة. وينصح عادةً أن يخضع المعالج لتحليل نفسي شخصي في أثناء فترة تدريبه، فقد يساعده ذلك على زيادة وعيه لنقاط ضعفه ولنقاط قوته على نحو يمكنه من التعامل مع الظروف العلاجية بطرائق أكثر موضوعية،ً ويجنبه التعرض لتأثيرات الإنقال المعاكس الضارة. هذا، وقد تمر علاقة الزبون - المعالج بمرحلة يخيب فيها أمل الزبون بالمعالج؛ ولكن مع استمرار ثقته به على نحو يجعله يتابع العلاج. تحدث هذه المرحلة في أثناء التحليل النفسي الجيد عندما يتنبه الزبون  أن المعالج ليس كائناً كاملاً ومتفرغاً له تماماً، مما يسبب "اكتئاباً مرحلياً" يتجاوزه الزبون عندما يتقبل نواقص المعالج وقيوده؛ مما يزيد من قدرته على التعامل مع عالمه الداخلي على نحو واقعي؛ إذ لا يمكن التعامل مع ذلك العالم من خلال مفاهيم معزولة بعضها عن بعض تماماً مثل إما سيء وإما جيد؛ إما حق وإما باطل؛ إما أسود وإما أبيض، بل لا بدّ للزبون من أن يتقبل ذلك الجزء الملتبس ذا الأخلاقيات الرمادية غير الواضحة في باطنه.

يتضح مما سبق أن تأسيس علاقة الزبون بالمعالج والعمل عليها ليس أمراً سهلاً، ولكن قد يكون إنهاؤها أصعب؛ فهي تمثل استمرارية الحياة والحب، وإنهاؤها يعدّ خسارةً يصعب القوب معها، وذلك أمر لا يغيب عن ذهن المعالج منذ اللحظة الأولى لبدء العلاج. يحدد المعالج عادةً عدد الجلسات العلاجية بعقد يدعى "التحالف العلاجي"، ويوضح أهمية إنهاء العلاج أو "لحظة الانفصال" وتوقيته وكيفيته.

يختار التحليل النفسي التقليدي زبائنه بانتقائية شديدة، فالزبون يجب ألا يكون صغير السن أو مسناً، أو مدمناً الكحول أو العقاقير أو الطعام، ويجب أن يكون متعلماً وذكياً وقادراً على مراجعة نفسه، ولديه تشكيلة من آليات الدفاع النفسي المرنة، وألا يكون موصوماً باضطراب الشخصية أو غير متأقلم اجتماعياً، وألا يكون معرضاً لكروب أو تغيرات خارجية مهمة في وقت دخول المعالجة. ويستغرق التحليل النفسي وقتاً طويلاً من المعالجة المكثفة بعدة جلسات أسبوعية لعدة سنوات عادةً؛ مما يجعل من الصعب التأكد من أن التغيرات التي قد تطرأ على المريض هي نتيجة اكتسابه للبصيرة أو نتيجة عوامل أخرى مثل مرور الوقت والتقدم بالعمر أو تغير ظروف الحياة المادية والاجتماعية. والطريقة المثلى للتأكد من ذلك هي التجربة السريرية المعشاة، بيد أن طول فترة التحليل النفسي تجعل من الصعب إخضاعه للتجربة المعشاة. ولكن - وعلى الرغم من هذه الصعوبة - يحاول بعض المعالجين والأطباء تقييم فعالية التحليل النفسي في علاج اضطرابات نفسية محددة، فمثلاً: تحتوي مكتبة كوكران على مراجعة منهجية لجميع التجارب المعشاة لاستخدام التحليل النفسي في علاج الفصام، ويتضح من تلك المراجعة أن البراهين المتوافرة لا تدعم استخدام المعالجة النفسية الدينامية للمرضى المصابين بالفصام والمقبولين في المستشفيات النفسية.

معالجات نفسية تحليلية دينامية أخرى: طورت عن المعالجة التحليلية النفسية التقليدية معالجات دينامية نفسية أحدث تختلف بعدة طرائق؛ فقد تم أولاً توسيع محتوى ظاهرة الإنقال، وأصبحت لا تعدّ ظاهرة تحدث في أثناء المعالجة فقط، بل أصبحت ترى على أنها تعمل في أثناء الحياة اليومية، ويمكن ملاحظتها بسهولة في العلاقات الشخصية كلما تشكلت لدى المرء مشاعر مكثفة تجاه شخص ما من دون سبب ظاهر. ويشجع هذا المعنى المعدل للإنقال على التعامل مع خبرات الزبون الفعلية على نحو يزيح بؤرة تركيز المعالجة من الاهتمام بماضي الزبون إلى الاهتمام بما يحدث "هنا والآن" here .and now  كما تم توسيع ظاهرة الإنقال المعاكس، فبدل "روجرز" من نمطية المعالج الأليف والمبهم في التحليل النفسي التقليدي معتقداً أن إيجابية المعالج ودفأه هما عاملان علاجيان مهمان؛ فالمعالج في المعالجة الروجرزية هو شخص لديه احترام إيجابي غير مشروط للزبون، تؤثر شخصيته في عملية تغير الزبون، ويعلن أن علاقة الزبون- المعالج أساسية في المعالجة. وحدث تعديل ثالث يخص بيئة العلاقة العلاجية، فالمعالجة النفسية التحليلية هي معالجة لفظية تنهى عن أي تواصل غير لفظي في حين تسمح أحدث المعالجات للمعالج بإبداء علامات فيزيائية للدعم الإيجابي، مثل الابتسام أو التربيت على الكتف، وتصبح البيئة العلاجية بكاملها غير لفظية في معالجات مثل الدراما النفسية psychodrama؛ ولكن يستمر استخدام التواصل اللفظي في تبادل الأفكار وفي مراجعة ما تم عمله في أثناء الجلسة العلاجية وتحليله. يمكن تخفيف الاتكال على التواصل اللفظي في تطبيق طرائق المعالجة النفسية هذه عندما لا تكون المعالجة النفسية التقليدية ممكنة، كما في حال الأشخاص ضعيفي التعليم، والذين لا تتوافر لديهم مهارة التعبير شفهياً عن النفس، والمعوقين عقلياً.

أدت هذه التغييرات إلى تغير دور كل من المعالج والزبون، فأصبح كل منهما فعالاً وعملياً أكثر؛ فالزبون يستكشف ويجرب أنماط سلوك جديدة، والمعالج يخترع ظروفاً تساعد على التغير، ويؤثر تأثيراً آنياً ومباشراً في الحدثية العلاجية وفي حاصلها. وبما أن معظم المعالجات التي تم تطويرها (مثل الدراما النفسية ومعالجة Gestalt والتحليل التفاعلي) تركز على النواحي الانفعالية والتجريبية، وليس الحدثيات اللاشعورية؛ فقد أمكن دمجها بالاستراتيجيات المعرفية - السلوكية (تدريب المهارات الاجتماعية، تدريب حل المشكلات، إعادة البناء المعرفي، المعالجة المعرفية للاكتئاب) وتطبيقها في المعالجة الزواجية والمعالجة العائلية. فمثلاً: يهتم التحليل التفاعلي transactional analysis بأسلوب حياة المريض وبطرائق تفاعله مع الآخرين؛ مما يجعل من المفيد جداً العمل على نحو جماعي عن طريق إشراك معالج نفسي أو اختصاصي اجتماعي نفسي، أو بقية أفراد العائلة، كما في علاج العائلة family therapy حيث يُعدّ فهم ديناميكية العائلة عاملاً مهماً في كشف الصراعات وفي رؤية المشكلات من زوايا مختلفة، وتُعدّ شخصية الطبيب من أهم وسائل العلاج الفعالة في إزالة الصراعات وفي تخفيف المشاعر المكبوتة.

المعالجة النفسية الوجيزة والعلاج النفسي الداعم: يُعدّ العلاج النفسي الداعم أبسط أشكال العلاج النفسي وأكثرها استخداماً، ويفترض بالطبيب تقديمه لكل مرضاه في كل مراجعة، فيناقش معهم أعراضهم وما تعنيه تلك الأعراض لهم وأنواع المساعدة التي يحتاجون إليها للتغلب على أعراضهم. وقد يوجه الطبيب المريض نحو حل مشكلة محددة يبدو أنه يتجنب التعامل معها عن طريق التركيز على تجارب المريض الحالية والمعزولة "هنا والآن"، فيشجع الطبيب المريض على الحديث بحرية عن نفسه وعن مشكلاته من دون السعي إلى استكشاف الخلفية اللاشعورية لتلك المشكلات؛ ومن دون محاولة ربطها بخبرات المريض السابقة؛ ومن دون محاولة تبصير المريض بالأسباب المحتملة لمصاعبه؛ ومن دون محاولة تعرية دفاعات المريض النفسية، بل يتم في هذا النوع من العلاج دعم دفاعات المريض بغية زيادة ثقته بنفسه، وتخفيف اتكاله على الآخرين، وتشجيعه على أن يكون مسؤولاً عن تصرفاته. وقد يجعل الطبيب العلاقة العلاجية أكثر رسميةً باتباع طريقة "المعالجة النفسية الوجيزة" التي تنفذ من خلال جلسة أسبوعية واحدة، ولا يزيد زمن العلاج الكلي فيها على بضعة أسابيع أو أشهر، ويتم فيها تحديد ما سيتم التعامل معه من مشكلات على نحو مسبّق، كما توضع لها أهداف تحدِّد عملياً نوعَ المساعدة التي يحتاج إليها المريض اعتماداً على مبدأ "هنا والآن"، مع منح المريض وقتاً بين الجلسات؛ ليفكر بما نوقش وليتفحص تفاعلاته الداخلية، ويمكن بنهاية هذه المعالجة الحكم على فعاليتها بناءً على مدى تحقيقها للأهداف المقررة لها سلفاً. يهدف تحديد فترة المعالجة وأهدافها إلى تجنب جعل المريض سلبياً ومتكلاً على الطبيب.

2-المعالجة السلوكية:

تفترض المعالجة السلوكية أن السلوك مُتَعلّم، لذلك يمكن إبطال تعلمه؛ فمعظم المخاوف التي يُعانيها البالغون - مثلاً- هي نتيجة ما يتعلمونه (كالخوف في بعض الظروف الخطرة أو قبل بعض المناسبات الاجتماعية)، وقد وضعت عدة نظريات لشرح آلية التعلم هذه ولتفسير كيفية اكتساب المخاوف المرضية مثل الرهابات، ولتسويغ استمرار تلك المخاوف لفترات طويلة جداً؛ فالخوف من ركوب الطائرة يستمر عادةً سنوات طويلة. تقول نظرية المرحلتين two-stage theory التي وضعها العالم مورر :Mowrer إن اكتساب المخاوف يتم بمرحلتين؛ تفسر المرحلة الأولى منهما باستخدام التكييف التقليدي، ويتم فيها تأسيس الخوف نفسه، أما المرحلة الثانية؛ فتفسر باستخدام مفاهيم التكييف الفاعل، وتقود إلى تجنب التنبيه المخيف. فالخوف المعمم هو استجابة فيزيولوجية يمكن إثارتها على نحو تلقائي ومن دون أي تعلم مسبّق عن طريق التعريض لمنبهات بسيطة مثل الألم أو الضجيج الشديد المفاجئ، ووفق مبادئ التكييف التقليدي يُعدّ الألم تنبيهاً غير مكيفٍ والخوف استجابةً غير مكيفة، وأي تنبيه إضافي مرافق للألم سيصبح مع الوقت تنبيهاً مكيفاً كافياً لإحداث "خوف مكيف". أما في المرحلة الثانية؛ فمن المتوقع ازدياد احتمال تكرر كل سلوك يخفف الخوف (تعزيز سلبي)؛ وبذلك فإن الشخص سيستمر في تجنب المنبه المكيف؛ مما سيحرمه من احتمال التعرض له، وبالتالي من احتمال انطفاء الاستجابة المكيفة. مثلاً: قد يتولد عند الطفل خوف من النار على النحو التالي: حين يلعب طفل قرب النار قد يتعرض للحرق (تنبيه غير مكيف)، فيشعر بالخوف (استجابة غير مكيفة)، وبعدها قد يصبح مجرد النظر إلى النار (تنبيه مكيف) كافياً لإثارة الخوف (استجابة مكيفة)، ويحاول الطفل تخفيف الخوف المكيف عن طريق تجنب الوجود في مكان تشتعل فيه النار، فيعزز تخفيف الخوف هذا سلوك التجنب الذي سيزداد تواتر حدوثه. وقد طور العالم إيسنك Eysenck نظرية المرحلتين عادّاً أن الرهابات تكتسب بطريقة اكتساب استجابات الخوف "الطبيعية"، أي عن طريق الترافق بين تنبيه غير مكيف مسبب للخوف وبين تنبيه مكيف؛ مما يقود إلى سلوك تجنبي. أي إنه عَدّ الأعراض العُصابية أمثلةً على استجابات متعلّمة؛ وإن كانت غير صحية، وأن الفرق الوحيد بين الرهابات والخوف الطبيعي هو أن الخوف الطبيعي هو صحي وتلاؤمي ومفيد لبقيا الشخص وسلامته، في حين ليس لتجنب الأشياء المسببة للرهاب أي هدف مفيد. وبذلك فإن التعلم بالتكييف المباشر هو آلية اكتساب معظم الرهابات السريرية، والطريقة المثلى لمعالجة الرهابات هي المعالجة السلوكية التي تستخدم مبادئ التعلم لمحي الاستجابات الرهابية من خلال إزالة التحسس المنهجية مثلاً.

خطط (استراتيجيات) التداخل في المعالجة السلوكية:

تهدف خطط (استراتيجيات) التداخل في المعالجة السلوكية إلى إحداث تغيير سلوكي، ويقصد بذلك إزالة بعض الأعراض النوعية التي دخل الزبون المعالجة من أجلها. وبخلاف التحليل النفسي الذي يركز على عالم الفرد الباطني وعلى الصراعات اللاشعورية؛ تركز المعالجة السلوكية على السلوك الجلي الممكن ملاحظته؛ وفي حين نشأ التحليل النفسي من الخبرة مع أشخاص مضطربين نفسياً كنظرية سريرية لتفسير تلك الاضطرابات؛ نشأت السلوكية من محاولة شرح مبادئ السلوك الطبيعي اعتماداً على التعلم الذي يحدث عبر التكييف الشرطي والفاعل والاقتداء. لذلك فإن المعالج النفسي السلوكي لا يفترض وجود ظاهرة الإنقال لا كضرورة علاجية ولا كشرط مسبّق للعلاج، بل يفترض أن الزبون يريد التخلص من سلوك غير متأقلم وأن هدف المعالجة هو تعليمه كيفية تحقيق ذلك؛ فللعلاقة العلاجية أهمية ضئيلة، والمهم فعلاً هو تغيير نمط الاستجابة غير المتأقلم عن طريق تطبيق خطط (استراتيجيات) تنتج تغييراً سلوكياً. ولكن ذلك لا يلغي على نحو مطلق أهمية علاقة المعالج بالزبون، فكل أشكال المعالجة النفسية الفردية تتضمن تفاعلاً شديد الخصوصية والسرية بين شخصين يصعب إنكار أهمية علاقتهما المتبادلة، ومع أن هذه العلاقة ليست لها الأهمية الكبرى كما في المعالجة بالتحليل النفسي؛ فإنها تبقى موجودة في المعالجة السلوكية كنوع من الشراكة الحميمية المبنية على الثقة وحسن الظن.

الشرط المسبّق لتطبيق طرائق المعالجة السلوكية هو التقييم والتحليل السلوكي، وخلاف ما في التحليل النفسي حيث يركز التقييم على الزبون وخصائص شخصيته وصراعاته النفسية الباطنة؛ يركز التقييم في المعالجة السلوكية على مشكلة المريض متبعاً الخطوات التالية:

أ- توضيح تفاصيل المشكلة الراهنة: يقوم المعالج السلوكي بتقييم مشكلة الزبون عن طريق مراقبة سلوكه المعتاد في العيادة مثلاً، وعن طريق أداء الأدوار، وباستخدام مفكرة المشكلات اليومية والاسْتِبْيانات questionnaires المعيارية وسلالم القياس، وتنتهي هذه المرحلة إلى وصف المشكلة النوعية (مثل التجنب الرهابي) وشدتها وتواترها وتأثيراتها في الزبون.

ب- تحديد مثيرات المشكلة وعواقبها: تهدف هذه المرحلة إلى كشف المنبهات المثيرة للمشكلة والعوامل التي تعزز استمرارها وتكررها مؤثرةً في تواتر نمط السلوك المراد تغييره وشدّته، فمثلاً يحتمل أن تستمر الأعراض الرهابية عند امرأة تتلقى الكثير من انتباه زوجها ورعايته بسبب مخاوفها الرهابية.

ج- صياغة المشكلة: يقوم المعالج النفسي في هذه المرحلة بجمع كل المعلومات المتوافرة في صياغة سلوكية تقدم فرضية أو أكثر لتفسير المشكلة، ولكي تكون الصياغة مفيدة؛ يجب الحصول على معلومات إضافية كتعرّف مستوى أداء الزبون اليومي الراهن مقارنةً بمستوى أدائه المتوقع، والطرائق التي يستخدمها الزبون عادةً للقوب مع المشكلات السلوكية، وطبيعة شبكة الزبون الاجتماعية، وغايات الزبون من المعالجة.

د- صياغة البرنامج العلاجي: يقوم المعالج بتحديد طرائق المعالجة التي يبدو أنها الأنسب لمشكلة الزبون، وتخطيط كيفية تطبيقها. ويستفاد من ذلك في تقييم مدى دقة صياغة المشكلة؛ لأنه يتوقع عادةً أن يتغير السلوك على نحو سريع في معظم الحالات.

هـ- الرصد المستمر: لا يعني وضع الصياغة السلوكية أنها غير قابلة للتغيير؛ فقد يخفق الزبون في إظهار تغير مرغوب، أو تبرز ظروف جديدة تثير مشكلات جديدة، أو لا يجد الزبون دعماً من محيطه، فينكس على نحو فجائي. لذلك يجب تكرار فحص صياغة المشكلة حتى لو كانت المعالجة مرضية، ويجب رصد فرضية المعالجة وطرائقها ونتيجتها على نحو مستمر وبفواصل منتظمة، ويتم ذلك في الممارسة المعتادة بعد عدة أسابيع (8-12 أسبوعاً) من تطبيق التداخل باستخدام الأدوات ذاتها التي استخدمت في التقييم الأولي للحالة.

للقيام بتحليل سلوكي مفصل أهمية كبيرة رغم أنه يتطلب وقتاً قد يبلغ عدة ساعات، فكلما زادت دقته وصحته، وكلما ازداد وضوح المشكلة؛ أصبح التداخل السلوكي أكثر فعاليةً.

طرائق المعالجة السلوكية:

لطرائق المعالجة أهمية كبرى في المعالجة السلوكية، فهي طرائق دقيقة وموجهة بالمشكلة ومشتقة من نظرية التعلم، وهدفها الأولي تغيير السلوك، ولما كان تطبيق الطرائق السلوكية أمراً بسيطاً نسبياً؛ فإنها تبدو جذابة جداً. ولكن يجدر التكرار أن جميع طرائق المعالجة النفسية تحتاج إلى تدريب سريري نوعي، وأنه لا يجب تطبيق أي من طرائق المعالجة السلوكية إلا بعد تقييم كامل وتحليل سلوكي شامل يمكّن المعالج من وضع الخطة (الاستراتيجية) العلاجية الأكثر فعاليةً.

تعتمد بعض طرائق المعالجة السلوكية على تعريض الزبون لما يسبب له القلق إما بالخيال وإما بالواقع المعاش بهدف تخفيف ذلك القلق، وتكون أكثر فعالية حين تطبق فعلياً في ظروف الحياة الواقعة. تشتمل طرائق المعالجة بالتعريض على إزالة التحسس المنهجية والإغراق واقتداء المشارك والارتجاع البيولوجي (أو التلقيم الحيوي الراجع)، وهي علاجات فعالة في الاضطرابات القلقية المعممة والاضطرابات الهلعية واضطرابات الكرب التالي للرضح، وتُعدّ إزالة التحسس المنهجية الخيار العلاجي الأول في تدبير اضطرابات القلق الرهابي، كما تفيد طرائق التعريض أيضاً في المشكلات التي تنشأ في الجو الطبي، مثل الخوف من الدم أو من المحاقن أو من التحال أو غيره من الإجراءات الطبية، وقد يكون لها شأن مهم في تحضير الأطفال للاستشفاء والمرضى للجراحة والحوامل للولادة.

تفيد المعالجة السلوكية أيضاً في علاج اضطراب الوسواس القهري، وفي إعادة تأهيل المرضى النفسيين وفي إعادة التأهيل القلبي، وفي تعديل العادات الصحية؛ ولاسيما في الزبائن المعرضين للخطر كالمصابين بفرط الضغط الشرياني أو البدانة أو المدخنين ومدمني الكحول، أو في اضطراب الوظائف الجنسية، والألم المزمن، وبول الفراش عند الأطفال، وغيرها.

وفيما يلي عرض سريع لهذه الطرائق السلوكية، ولطرائق المعالجة السلوكية المستخدمة في علاج الاضطراب الوسواسي القهري، وفي تدريب المهارات الاجتماعية وتدريب الحزم، وفي تعديل السلوك.

أ- إزالة التحسس المنهجية :systematic desensitization تُعدّ إزالة التحسس المنهجية من أوائل خيارات المعالجة السلوكية، وقد طورها Wolpe لمعالجة الارتكاسات القلقية التي عدّها نماذج سلوكية مُتَعلَّمة، وانطلق في تطويرها من مبدأ "التكييف المعاكس"؛ فاستجابة جديدة تتصف بالهدوء لظرف كان سابقاً يثير القلق ستؤدي إلى إضعاف التعلم السابق. تطبق إزالة التحسس المنهجية بخطوات تتضمن الخطوة الأولى منها تعليم الزبون طرائق الاسترخاء، ويمكن في هذا المجال استخدام عدد من طرائق الاسترخاء التي تساعد الزبون على تخفيف التوتر، منها التأمل والاسترخاء العضلي المترقي. بعد أن يتقن الزبون الاسترخاء؛ تُبنى هرميةٌ للظروف المخيفة أو المكربة، فيطلب من الزبون تحديد كل الظروف التي تسبب له الانزعاج بوضوح، ثم ترتيب تلك الظروف وجدولتها بحسب شدة القلق التي يثيرها كل منها، فمثلاً، وضعت مريضة لم تتمكن من الاستحمام على نحو طبيعي منذ سنوات القائمة التالية لمثيرات خوفها: (1) سكب الماء على الرأس (الأكثر تسبيباً للقلق)، (2) سكب الماء على باقي أجزاء الجسم، (3) إغلاق باب الحمام وهي داخله، (4) خلع الملابس في الحمام، (5) دخول الحمام، (6) فتح باب الحمام قبل دخوله، (7) عقد النية على الاستحمام،  (8) التفكير بضرورة الاستحمام، (9)- رؤية شخص آخر يخرج من الحمام.

بعد إكمال قائمة الظروف المسببة للقلق؛ يطلب من الزبون الاسترخاء في حين يتم تعريضه لبنودها بدءاً من الظرف الأقل تسبيباً للقلق، وعندما يصبح الزبون قادراً على البقاء مسترخياً في الظرف الذي كان يثير القلق لديه سابقا؛ ينقل المعالج إلى الظرف التالي في القائمة حتى تتم إزالة تحسس الزبون تدريجياً بصورة يصبح معها قابلاً لمواجهة الظرف في قمة القائمة دون أي قلق. يمكن تطبيق إزالة التحسس المنهجية في الواقع الحقيقي المعيش أو في عيادة المعالج، ولكن التطبيق في الواقع أكثر فعالية،ً ويوصى به كلما كان ممكناً؛ من دون أن يعني ذلك أن المعالج يجب أن يرافق الزبون عند تعرضه لجميع الظروف المثيرة لقلقه، بل يمكن لقريب أو صديق أو زوج المساعدة ومرافقة الزبون في جلسات التعريض.

ب- الإغراق :flooding يختلف عن إزالة التحسس المنهجية بأن الزبون يعرض على الفور للظرف الأكثر إثارةً للقلق (الذي يخاف منه أكثر) بدل اتباع التدرج الهرمي، وقد يطبق ذلك بالخيال أو بالواقع، ويجب أن يتم تطبيقه بحذر شديد في المرضى القلقين جداً.

ج- تقليد (اقتداء) المشارك :participant modeling تستخدم هذه الطريقة السلوكية على نحو رئيس لتخفيف الخوف من الحشرات والحيوانات (الكلاب، الأفاعي، العقارب،…إلخ)، وتطبق في الواقع حيث ينظم التعرض للحيوان "المخيف" بخطوات صغيرة يؤدّي فيها المعالج دور القدوة؛ ليظهر للزبون تفاعلاً غير مؤذٍ مع ذلك الحيوان، وتتضمن الخطوات تثقيف الزبون بخصوص الحيوان وبخصوص مخاوفه، ثم توضيح أن مخاوفه مبالغ بها، ثم اقتداء الاستجابة مثل حمل المعالج للحيوان "المخيف" بيده مظهراً أن العواقب التي يخشاها الزبون لم تحدث، ثم الأداء المشترك مثل اقتراب الزبون والمعالج معاً من الحيوان "المخيف"، ثم الممارسة الموجهة ذاتياً مثل ممارسة الزبون للتفاعل وحده مع الحيوان "المخيف" في ظروف شديدة التنوع.

د- الارتجاع البيولوجي (التلقيم البيولوجي الراجع) :biofeedback يشتمل الارتجاع البيولوجي على طرائق موجهة لمساعدة الزبون على ضبط المظاهر الفيزيولوجية للقلق، وتمتاز هذه الطرائق بأنها تزود الزبون بمعلومات مباشرة وآنية وموضوعية حول وظائفه الفيزيولوجية (مثل نظم تخطيط الدماغ الكهربائي والنشاط العضلي وسرعة ضربات القلب) في حالة الاسترخاء وفي حالة القلق، ويمكن لهذه المعلومات أن تخدم أيضاً بوصفها مرشداً مفيداً للمعالج في أثناء التدريب على الاسترخاء. يتم التدريب على الارتجاع البيولوجي فقط في المستشفى أو في مخابر متخصصة، ويستخدم لمعالجة العديد من الاضطرابات، وقد أعطى أفضل النتائج في حالات الصداع التوتري والصرع وفرط الضغط الشرياني الأساسي ولا نظمية القلب.

هـ- طرائق المعالجة السلوكية المستخدمة في علاج الاضطراب الوسواسي القهري: تفسر السلوكية الاضطراب الوسواسي القهري بطريقة تفسيرها للرهابات، فتقول: إن الفرد يطور خوفاً نوعياً (مثل الخوف من الوسخ أو الخوف من الأذى أو الخوف من التسبب بالموت) لا يختلف عن الخوف الرهابي إلا بنمط الاستجابة؛ ففي حين يتجنب الفرد في الرهاب الظرف المخيف؛ يقوم المصاب بالاضطراب الوسواسي القهري بفعل ذرائعي (مثل غسل اليدين أو فحص المدفأة أو الصنبور) بهدف تخفيف الخوف، ولما كانت الأفعال القهرية تخفف الخوف؛ فإنها تعمل على تعزيز الاضطراب تعزيزاً سلبياً. وتهدف طرائق المعالجة السلوكية للاضطراب الوسواسي القهري إلى إنهاء القلق المُبَطِّن للاضطراب وإطفاء السلوك أو الطقوس الناشزة. تستخدم طريقة منع الاستجابة response prevention في علاج السلوك القهري، فيطلب من الزبون ألا يقوم بالسلوك القهري، مثلاً ألا يغسل يديه مدة يوم، وتستخدم طرائق التعريض مثل إزالة التحسس المنهجية أو الإغراق لتخفيف القلق الذي قد يرافق الامتناع عن القيام بالسلوك القهري. وتستخدم طريقة إيقاف الأفكار thought stopping  لمنع تكرر الأفكار الوسواسية، فيطلب المعالج من الزبون أن يركز على أفكاره الوسواسية، ثم يصرخ المعالج فجأةً: "قف!"، ويكرر ذلك لتعليم الزبون على مقاطعة الأفكار المقحمة، ويمكن للزبون متابعة ممارسة إيقاف الأفكار وحده بأن يهمس لنفسه: "قف!" أو يفكر بذلك، فيمكنه مثلاً تخيل إشارة "قف".

و- طرائق ضبط النفس :self-control methods تستخدم طرائق ضبط النفس لتعديل بعض العادات الصحية السيئة؛ ولاسيما عند زبائن معرضين لخطر الأمراض القلبية، مثل المدخنين والكحوليين والمصابين بفرط الضغط الشرياني أو بالبدانة. تعلم طرائق ضبط النفس الزبون مساعدة نفسه؛ مما يعني أن للزبون دوراً فاعلاً وأنه هو من يجب أن يتحمل تبعة تغيير نمط حياته، لذلك فإن التقييم مهم جداً. ففي تدبير البدانة - مثلاً- من الضروري توضيح أن الغاية هي تحديد مناطق محتملة للتغيير السلوكي وأنه ليس ضرورياً تحديد سبب المشكلة، وتتضمن طرائق ضبط النفس في تدبير البدانة تعديل نمط تناول الطعام، مثل مضغ الطعام عدداً محدداً من المرات، وتجنب التعرض للمأكولات المشهية، وتناول الوجبات في ظروف منبهة نوعية، وتجنب تسوق الطعام في أثناء الجوع، والرصد الذاتي لتناول الطعام ولوزن الجسم. ويمكن تطبيق منع الاستجابة لمقاطعة عادة الأكل في غياب الجوع، حيث يجب على الزبون ألاّ يأكل كلما توافر الطعام، وقد يمارس الزبون ذلك خارج الجلسات العلاجية، مثل الذهاب إلى محل حلويات وعدم شراء شيء، ويمكن إرفاق ذلك بمكافأة ذاتية تعزز السلوك المرغوب، مثل شراء شيء آخر غير الطعام (كبطاقة دخول للسينما).

ز- تدريب المهارات الاجتماعية وتدريب الحزم :social skills training and assertiveness training تروج هذه البرامج للسلوك المرغوب، وتفيد على نحو خاص في تدبير القلق الاجتماعي، ويستفيد من تدريب الحزم الزبائن الذين تتوافر لديهم المهارات اللازمة للتعبير عن أنفسهم على نحو ملائم في الظروف الاجتماعية؛ لكنهم يخشون استخدامها (رهاب اجتماعي)، في حين يستفيد من تدريب المهارات الاجتماعية الأفراد الذين تعوزهم المهارات اللازمة للنجاح في الظروف الاجتماعية؛ أي إن تدريب الحزم هو برنامج لتخفيف القلق على نحو رئيس، وتدريب المهارات الاجتماعية هو على نحو رئيس برنامج تثقيفي، ويهدف كل منهما إلى تحسين  فعالية الزبون في العلاقات مع الآخرين، ويمكن تطبيق كل منهما على نحو جماعي في جماعة علاجية تظهر الظروف الاجتماعية التي يتوجب فيها على الزبون  أداء مهاراته الاجتماعية أمام آخرين وتلقي ملاحظاتهم.

يطبق تدريب المهارات الاجتماعية عادةً على المرضى المضطربين نفسياً الذين يعانون الوحدة والعزلة الاجتماعية، فيتم تعليمهم كيفية تمييز الايماءات الاجتماعية وتفريقها، ومهارات التواصل.

ح- تعديل السلوك :behavior modification تعتمد طرائق تعديل السلوك على تطبيق خطط (استراتيجيات) التكييف الفاعل، مثل مكافأة السلوك المرغوب وتعزيزه، وأكثر طريقة شهرةً هي طريقة "الاقتصاد الرمزي" token economy  التي تفيد على نحو خاص في إعادة تأهيل المرضى النفسيين المقيمين في المصحات النفسية، حيث يكسب المريض علامةً كلما أَتَمّ مهمة أو كلما تصرف على نحو مناسب، ويمكنه استبدال العلامات التي يجمعها بمعززات متنوعة (مثل الطعام أو السجائر)، ويمكن متابعة توظيف الاقتصاد الرمزي في بيئة المريض الاجتماعية (بيت، مدرسة، عمل) بعد مغادرة المريض المستشفى بهدف تأسيس أنماط سلوكية مرغوبة أو تعديل استجابات محددة.

والإقصاء "أو الوقت المستقطع" time out طريقة أخرى لتخفيف تواتر حدوث سلوك غير مناسب (مثل العدوانية) في المصحات النفسية، فبدلاً من توجيه الاهتمام إلى المريض ومحاولة إقناعه بالتوقف عن السلوك غير المرغوب؛ ينقل إلى غرفة أخرى أو إلى الحمام، ويمكن للوقت المستقطع أن يكون طريقة ضبط نفس مفيدة تُعلم المريض القوب مع غضبه عن طريق إخراج نفسه من الظرف المكرب، فيطلب إلى المريض - مثلاً- الخروج من المنزل والسير في الطريق حين الشعور بالغضب.

يمكن استخدام طريقة الوقت المستقطع مع الأطفال في البيت أو في المدرسة، كما يمكن استخدام طرائق تعزيز مشابهة في علاج سلس البول الليلي عند الأطفال، إما عن طريق تعزيز السلوك المرغوب بطريقة بطاقة النجوم star chart؛ وإما عن طريق معاقبة السلوك غير المرغوب باستخدام المنبه. ففي طريقة بطاقة النجوم يكسب الطفل نجمة لكل ليلة جافة لا يحدث فيها سلس بولي، ويمكنه استبدال النجوم التي يجمعها بمعززات مادية (كأن تشتري له أمه شيئاً يرغب به) أو معنوية (كأن يرافق والده في نزهة خاصة). أما طريقة المنبه فتحتاج إلى جهاز خاص يتفعل إذا بال الطفل في أثناء الليل، ويوقظ الطفل الذي يتلقى حينها "عقاباً"؛ هو تبديل ملابسه وشراشف سريره بنفسه.

تستخدم بعض طرائق تعديل السلوك لتعليم الأطفال - بما فيهم المصابون بالتخلف العقلي - اكتساب مهارات جديدة باستخدام طرائق النحت أو الحث أو السّلْسَلة التي تهدف إلى تعليم الطفل سلوكاً جديداً ومن ثم تعزيز ذلك السلوك. فالنحت shaping (ويعرف أيضاً باسم طريقة التقريبات المتتالية (method of successive approximations هو تعزيز سلوك ينحت تدريجياً لتقريبه من السلوك النهائي المرغوب؛ فمثلاً: عند تعليم طفل متخلف عقلياً النطق؛ يعزز المعالج أولاً أي صوت يصدر عن الطفل، وبعد أن يصبح الطفل قادراً على إصدار الأصوات؛ يصبح المعالج انتقائياً، فيعزز منها فقط أقربها إلى أصوات الكلام، ويستمر "النحت" بهذه الطريقة حتى الحصول على حروف وكلمات مميزة. تطبق الأمهات مثل هذه الطريقة على نحو تلقائي (وإن كان أقل منهجيةً) عن طريق الانتباه الانتقائي وتعزيز الأصوات المشابهة للكلام الصادرة عن أطفالهن. والحثّ prompting هو توجيه المتعلم باتجاه القيام بسلوك ما عن طريق حثه لفظياً أو فيزيائياً؛ فيقود المعالج المتعلم عبر الحركات اللازمة لأداء السلوك المرغوب، ويسحب الحث تدريجياً عندما يصبح ذلك السلوك ثابتاً. أما السلسلة chaining فهي تجزئة سلوك معقد إلى سلسلة من الأفعال البسيطة، ثم تعزيز أول هذه الأفعال حتى يصبح حدوثه موثوقاً، فيحول التعزيز إلى تعزيز تسلسل أول فعلين معاً؛ أي يصبح تتابع حدوث أول فعلين ضرورياً قبل التعزيز، وبمتابعة هذه الطريقة؛ تضاف الأفعال التالية في السلسلة على نحو متتابع حتى يتم تعلم السلسلة بكاملها وأداء السلوك المطلوب. مثلاً: لتعليم طفل الأكل وحده باستخدام الملعقة؛ يُبدأ بتعزيز مجرد إمساكه بالملعقة، وعندما يجيد ذلك يصبح التعزيز واجباً فقط؛ إذا أمسك بالملعقة، ووضعها في الصحن، وهكذا إلى أن يتقن الطفل إطعام نفسه.

3-المعالجة المعرفية  :cognitive therapy

تشتق المعالجة المعرفية من التفسير المعرفي الذي يرى أن الاضطراب النفسي هو امتداد مضخم لاستجابات سوية؛ وأن التعبير عن الاضطراب النفسي يتم بثلاثة أشكال من الاستجابات المتزامنة: استجابات معرفية، واستجابات مزاجية، واستجابات سلوكية (الجدول 5).

الاضطراب النفسي

الاستجابة المزاجية

الاستجابة المعرفية

الاستجابة السلوكية

اكتئاب

حزن

خسارة، ضياع، فقدان

انطواء وعزلة

هوس

فرح

كسب

انطلاق وانفتاح

قلق

خوف

خطر

تجنب

زور

غضب

اضطهاد

عدوانية

(الجدول رقم 5) أشكال الاستجابات النفسية

 

تعتمد المعالجة المعرفية على تحديد الاستجابات المعرفية المسببة للاستجابات المزاجية والسلوكية بغية التعامل معها ومعالجة الاضطراب النفسي الناجم عنها. ويمكن توضيح ذلك من مراجعة نظرية بيك Beck المعرفية الخاصة بالاكتئاب، فقد قال بيك: إن الاكتئاب هو نتيجة "ثالوث معرفي" مؤلف من نظرة سلبية تجاه كل من الذات، والمستقبل، والعالم وما يجري فيه من حوادث؛ فالإخفاقات هي نتيجة عدم الكفاية وكراهية الآخرين، والمستقبل هو مجرد امتداد لتعاسة الحاضر. تقود هذه النظرة إلى إدراك لاعقلاني، أو تحريف معرفي cognitive distortions يسبب الاكتئاب. وهناك ثمانية أنواع من التحريف المعرفي، هي:

أ- التجريد الانتقائي :selective abstraction هو التركيز على حدث مفرد وتجاهل أحداث أخرى مثل التركيز على توبيخ الرئيس وتجاهل مديحه، أو التركيز على تفصيل معزول عن سياق حدوثه، فيرى المريض خطأه؛ ولكن ينسى أن ذلك الخطأ كان نتيجة منطقية لظروف موضوعية.

ب- الاستدلال الكيفي (الاعتباطي) :arbitrary inference وهو التوصل إلى استنتاج لا تسوغه الوقائع في ظروف مبهمة، مثل استنتاج المريض أن جاره يكرهه؛ لأنه مرَّ بجواره ولم يحيِّه.

ج- الشخصنة :personalization وهي الميل للربط بين الشخص نفسه وبين أحداث خارجية؛ من دون مسوغ منطقي، كأن يعدّ نفسه مسؤولاً عن أخطاء لا علاقة له بها.

د- الاستقطاب :polarization أي التطرف الفكري المطلق بحيث تنعدم الحلول الوسط، فيصنف البشر إلى جيد وسيئ، ويرى الأمور على أنها إما بيض وإما سود؛ ولا يجد بينها أي أمر رمادي.

هـ- التعميم :generalization أي التوصل إلى نتيجة تُعمّم على كل المواقف انطلاقاً من حادثة محددة، مثل أن يرسب الشخص في امتحان؛ فيعدّ نفسه مخفقاً دائماً، ورؤية الأشياء من منظور "دائماً أو أبداً" مثل اعتقاد مريضة أن سلوك زوجها سيئ دائماً، ولن يتغير أبداً.

و- التوقعات الملحة :demanding expectations هي الاعتقاد وجود أنظمة وقواعد لا بد من اتباعها. مثل الاعتقاد أن الابن يجب ألاّ يناقش انتقادات أمه، وإصابة الأم بالاكتئاب؛ لأن ابنها جادلها بموضوع ما.

ز- التهويل أو التفكير الكارثي (الكارثية) :catastrophizing أي القفز دائماً إلى أسوأ الاستنتاجات الممكنة للظرف، فتُبنى استنتاجات مصيرية على حدث تافه.

ح- المحاكمة العاطفية (الانفعالية) :emotional reasoning هي المحاكمة العقلية المبنية على المشاعر، وليس على الحقائق، مثل اعتقاد الشخص أن "مشاعره لا تخطئ" رغم عدم وجود برهان على صحة ما توصله إليه تلك المشاعر من استنتاجات.

تنجم عن التحريف المعرفي أفكار تلقائية automatic thoughts، وتهدف المعالجة المعرفية للاكتئاب إلى تعرّف أفكار المريض التلقائية وإلى فحصها عقلانياً وتعديلها بهدف إلغاء تأثيرها المعطل لمقدرة المريض على التكيف مع الواقع، وتعديل ما ينجم عنها من ردود فعل انفعالية مفرطة وغير ملائمة، ويتم ذلك من خلال أربع خطوات عملية، هي: اكتشاف الأفكار التلقائية، وتحديد الآثار الضارة للأفكار التلقائية في المريض (عن طريق حفظ المريض مفكرة يكتب فيها أفكاره وما رافقها من مشاعر ومن تصرفات)، وأن تستبدل بالأفكار التلقائية أنماط فكرية أكثر واقعيةً وتكيفاً، وتعزيز المعالج للتغيرات الإيجابية في طرائق تفكير المريض. وقد توظف بعض الطرائق السلوكية للمساعدة على تحسين مستوى أداء المريض ودرجة انخراطه في نشاطات ممتعة تُبين له أنه ليس عاجزاً أو بلا قيمة، فتفيد في تخفيف شعوره بالاكتئاب.

تطبق المعالجة المعرفية للاكتئاب خلال فترة محدودة من الوقت (عادةً من اثنتي عشرة جلسة أسبوعية)، ويكلف المريض حفظ مفكرة يكتب فيها أفعاله وما رافقها من أفكار ومشاعر، ويراجع المعالج والمريض هذه المفكرة في أثناء جلسة العلاج الأسبوعية التي تستمر عادةً نحو 45 دقيقة. يتم في أثناء جلسات العلاج تطبيق الطرائق التالية:

(1)- شرح تعليمي عن الاستعراف وكيفية تأثيره في الوجدان والسلوك.

(2)- جدولة فعالة لما يجب أن يقوم به المريض ولما يقوم به فعلا: تهدف هذه الجدولة إلى التغلب على ابتعاد المريض المكتئب عن الانخراط بالنشاطات بسبب اعتقاده أنه إما سيفشل وإما أنه لن يتمتع بالمحاولة. يجدول المعالج والزبون يوم الزبون ساعةً بساعة، ويحفظ الزبون قائمتين من النشاطات: واحدة للنشاطات الملزم بها والثانية للتي نفذها فعلاً، وعندما يقارن الزبون القائمتين يجب أن يجد ارتجاعاً إيجابياً وراحة؛ لأنه قد تمكن من تنفيذ الخطة اليومية.

(3)- الإلزام بمهام متدرجة: يطلب من المريض تقييم النشاطات من ناحية التمكن والتمتع وجدولتها في خطته اليومية مع إعطاء علامة لكل فعالية بحسب درجة شعوره بأنه تمكن منها، وتمتع بها، فتقدم كل مهمة منفذة تعزيزاً للسلوك المرغوب، وذلك ليس مهماً للمريض فحسب؛ بل أيضاً للمعالج الذي يستفيد منه في تحديد النشاطات التي يجب أو لا يجب التشجيع عليها.

(4)- تحديد الأفكار التلقائية عن طريق رصد النفس: يطلب من المريض كتابة كل ما يمكنه من أفكاره المزعجة خارج جلسة العلاج أو أن يسجل الحوادث أو الظروف التي تولد الأفكار الاكتئابية؛ مما يساعد المريض على أن يصبح أكثر وعياً بالترابط بين الأفكار والمشاعر.

(5)- اختبار الأفكار التلقائية وفحص واقعيتها: بعد أن يتعلم الزبون كيفية تمييز طرائق التفكير والأفكار النوعية التي تثبت الاكتئاب، يخضع كل فكرة منها لفحص واقعيتها بغية المساعدة على تصحيحها، وذلك عن طريق التساؤل عن البرهان الداعم لكل فكرة تلقائية والتفكير بإيجاد طرائق أخرى لفهمها، وتقدير ما إذا كانت فعلاً بتلك الدرجة من السوء؛ حتى لو كانت صحيحة.

4-المعالجة السلوكية المعرفية  :cognitive behavioral therapy

تنبه الكثير من المعالجين السلوكيين لأن التغير السلوكي غير كافٍ للمعالجة الفعالة وأنه يجب أن يرافقه تبدل في نمط التفكير (الاستعراف)، فمثلاً، قد يساعد استخدام الخطط (الاستراتيجيات) السلوكية المريض المكتئب على أن يصبح أكثر نشاطاً في الأعمال اليومية، ولكن لا يمكن توقع التحسن طويل الأمد من دون تعديل الأفكار المسببة للاكتئاب؛ فبدلاً من عدِّ البشر متلقين سلبيين للبيئة (كما هو الحال في السلوكية)؛ يجب أن ينظر إليهم على أنهم مساهمون فعالون في ترتيب البيئة وفي إثارة التنبيهات التي تردهم من البيئة (النظرة المعرفية)، وقد أصبح من الشائع مشاركة طرائق المعالجة المعرفية مع طرائق المعالجة السلوكية فيما يعرف بالمعالجة السلوكية المعرفية التي تستخدم بنجاح في تدبير مختلف الاضطرابات النفسية. فبالنسبة إلى القلق مثلاً؛ قد تعالج التظاهرات الفيزيولوجية (مثل تسارع نظم القلب والتنفس، وارتفاع ضغط الدم، وزيادة التوتر العضلي) بطرائق الاسترخاء، وتعالج التظاهرات السلوكية (مثل سوء أداء المهام الحركية النفسية، وتجنب الظروف المحدثة للقلق، ونقص النشاط الهادف) باستخدام إزالة التحسس التدريجي، وتعالج التظاهرات المعرفية (مثل الشعور بالخوف، وسوء التركيز، وانشغال التفكير بمخاوف وصفية مثل توقع الإخفاق) بطريقة تعديل الأفكار التلقائية. فالتنبيه العصبي المستقل (الودي) يسبب الأعراض نفسها مهما كان سببه، وتتطلب تسمية الانفعال المسبب له (خوف أو غضب أو غيره) تفسيراً من الشخص نفسه، ويعتمد هذا التفسير أفكاراً مبنية على التجارب السابقة والظروف الاجتماعية الراهنة؛ فقد تطلق على التنبيه الودي نفسه تسميات مختلفة من قبل مرضى مختلفين، وذلك بحسب سوابقهم وتوقعاتهم والمضمون الاجتماعي لما يمرون به… إلخ. ويمكن تعليم المرضى تعديل أفكارهم وإعادة تفسير مشاعرهم وتسميتها باستخدام مبادئ المعالجة المعرفية أو المعالجة السلوكية المعرفية.

توظف طرائق المعالجة المعرفية السلوكية في تعليم الناس مهارات قوب فعالة تساعدهم على اكتساب السيطرة على حياتهم، وتفيدهم حين التعامل مع الظروف الصعبة، بأن يعطى الزبون دوراً فعالاً بدل أن يكون مستسلماً منفعلاً للرعاية والعلاج الموصوف من قبل طبيب أو معالج. وتوفر هذه الطرائق علاجاً لمشكلات متعددة تتضمن الاضطرابات القلقية، والاضطرابات الوسواسية - القهرية، والاكتئاب، واضطرابات الأكل، والاضطرابات الألمية، وسوء الوظيفة الجنسية،   والانفعالات والأفكار المزعجة مثل اللوم والذنب والغضب وانخفاض احترام الذات، والقوب مع مختلف أزمات الحياة، والوقاية من بعض الاضطرابات والأمراض المتعلقة بالسلوك مثل داء عوز المناعة البشرية المكتسب .(AIDS) ومن تطبيقات المعالجة السلوكية المعرفية: تدريب حل المشكلات، وإعادة البناء المعرفي، وتدريب التعزيز الذاتي.

أ- تدريب حل المشكلات  :problem solving training

تستخدم هذه الطريقة استخداماً واسعاً في مشورة الأزمات وفي المشورة الزواجية والمشورة العائلية كما سيرد في بحث المشورة النفسية، وتتألف من خمس خطوات أو أطوار، هي:

(1)- تمييز المشكلة.

 (2)- تعريف المشكلة وأهداف التداخل عن طريق صياغة المشكلة بمصطلحات جلية يمكن العمل عليها، ويمكن تسهيل تعريف المشكلة عن طريق محاولة الإجابة عن بعض الأسئلة مثل "أين تكمن المشكلة؟"، "ما هي المشكلة؟"، "ما الذي يثبت المشكلة؟".

(3)- وضع حلول بديلة وخطة عمل، فيطلب مثلاً من الزبون جدولة مختلف الخيارات الممكنة للتعامل مع المشكلة، ثم تستكشف المشكلة في ضوء احتياجات الزبون ونمط حياته وقيمتها، ويفحص كل خيار من حيث مدى ملاءمته وإمكانية تطبيقه وما قد ينجم عن تطبيقه من فوائد ومكاسب؛ وأيضاً من مخاطر وخسائر. تتم بهذه الطريقة مساعدة الشخص على تقييم الخيارات المتاحة ورفض ما كان منها غير كافٍ أو بلا طائل والإبقاء على الحلول التي يجدها مريحة ومناسبة له.

(4)- اتخاذ قرار بانتقاء الحل وتنفيذ خطة العمل. بعد انتقاء الحل الذي يعتقد الشخص أنه الأفضل بالنسبة إليه؛ توضع خطة لتطبيق ذلك الحل، وتقسم الأفعال اللازمة لبلوغ الهدف إلى خطوات أو مهام منفصلة تساعد على رصد التقدم نحو حل المشكلة، ويستفاد من إنهاء كل خطوة أو مهمة بنجاح في استمرار دفع الزبون وفي تعزيز سلوكه.

(5)- تقييم نتيجة خطة العمل. قد يتطلب الأمر بعد هذا التقييم تعديل خطة العمل، أو تكرار حدثية حل المشكلة واتخاذ القرار.

ب- إعادة البناء المعرفي  :cognitive restructuring

تهدف طرائق إعادة البناء المعرفي إلى تعليم مهارات القوب، ففي حين تساعد الخطط (الاستراتيجيات) السلوكية الزبون على القوب مع القلق بوساطة الاسترخاء، تُعلّم طرائق إعادة البناء المعرفي الزبون كيفية القوب مع مختلف كروب الحياة ومع مختلف الانفعالات السلبية. من هذه الطرائق المعالجة الانفعالية المنطقية rational emotive therapy  المشتقة من فرضية أن الانفعالات البشرية تنجم عن التفكير والتعبير اللفظي عن الذات، أو ترافقها مباشرةً؛ وأن الاضطراب الانفعالي ينجم عن أفكار غير منطقية مثل اعتقاد الشخص أن كل إنجازاته يجب أن تكون مثالية الكمال؛ لكي يعدّ نفسه غير مخفق، أو الاعتقاد أن استحسان الآخرين وحبّهم ضروريان؛ لكي يشعر بقيمة نفسه (مثلاً: "يجب أن يحبني الجميع؛ وإلا فأنا بلا قيمة"). تهدف المعالجة الانفعالية المنطقية إلى تصحيح الاضطرابات الانفعالية عن طريق تغيير نمط تفكير الشخص وإبعاده عن بعض المعتقدات غير المنطقية الوصفية، والمهمة الكبرى للمعالج هي مواجهة الشخص بأفكاره غير المنطقية وبأقواله المحبطة لذاته، ويتم ذلك عن طريق إطلاع الشخص على حقيقة أن أفكاره غير المعقولة تجعله غير سعيد، ومن ثم تعليمه كيفية تصحيحها، فيقوم المعالج بمواجهة تلك الأفكار المحبطة وغير المنطقية وتكذيبها وإنكارها؛ وبتأويلها تأويلاً مباشراً؛ وبتشجيع الزبون على إعادة تقييمها؛ فيطلب من الزبون أن يفكر بصوت مرتفع بصورة يمكن معها للمعالج مساعدته على تقييم الافتراضات غير الواقعية وتعديلها، كما يشجع الزبون على تطبيق هذه الطريقة في ظروف الحياة الحقيقية.

ج- تدريب التعزيز الذاتي  :self-reinforcement training

يؤدي عدم مكافأة الشخص لنفسه على إنجازاته إلى انخفاض احترام الذات وإلى الشعور بالاكتئاب، ويهدف تدريب التعزيز الذاتي إلى زيادة اهتمام الشخص بأقواله وأفعاله، وإلى تعليمه أن يكافئ نفسه ويمدحها كلما قام بأداء مقبول.

رابعاً- طرائق العلاج النفسي الجماعي:

- علاج الجماعة  :group therapy

علاج الجماعة أو العلاج النفسي الجماعي هو شكل من أشكال المعالجة النفسية يقوم فيه معالج واحد أو أكثر بمعالجة مجموعة صغيرة من الناس تعامل كجماعة، وتطبق فيه عادةً معالجة تحليلية نفسية جماعية تستخدم سياق الجماعة وحدثيات الجماعة كآلية للتغيير عن طريق إحداث علاقات بين أفراد الجماعة واستكشافها واختبارها؛ ولكن علاج الجماعة ليس بالضرورة تحليلياً؛ فقد يستخدم فيه أي شكل من أشكال المعالجة النفسية بما في ذلك المعالجة السلوكية المعرفية، فهناك مثلاً جماعات نشاطات، وجماعات دعم، وجماعات حل مشكلات، وجماعات التعبير غير اللفظي مثل المسرح النفسي والعلاج بالموسيقا أو بالرقص.

ينصب الاهتمام في علاج الجماعة على العلاقات المتبادلة بين أفراد جماعة من الناس، وليس على العلاقات الفردية كما هو الحال في العلاج النفسي الفردي؛ إذ يشارك أفراد الجماعة العلاجية بعضهم بعضاً في معايشة مشكلاتهم وفي تحديد العوائق والصعوبات التي يواجهها كل منهم في تعامله مع بقية أفراد الجماعة، ويكون كل فرد من أفراد الجماعة محط نقد  بقية أفراد الجماعة وتشجيعهم ودعمهم؛ مما يزيد من قدرته على تحديد العوائق والصعوبات التي يواجهها في بناء علاقاته الشخصية على نحو عام. عملياً تتشكل الجماعة من معالج واحد أو أكثر ومن عدد صغير (نحو 12 فرداً) من أفراد متقاربي السن يفضل أن يكون عدد الذكور بينهم مساوياً لعدد الإناث. يناقش المعالج مع أفراد الجماعة مختلف الموضوعات بحرية تامة بوصفه واحداً منهم من دون أن يوجههم أو أن يتحكم مباشرةً بمجرى النقاش؛ إلا أذا تاه الحوار في مواضيع ليس لها جدوى. أما بقية أفراد الجماعة؛ فيفترض أن يقوم كل منهم بأداء "دور نفسي" يهدف إلى حل مشكلاته في أثناء جلسة العلاج الجماعي، ولكن يشعر أفراد الجماعة عادةً بقلق يمنعهم من أداء الدور النفسي المطلوب؛ فغالباً ما يتجنب المرضى أداء ذلك الدور بطرائق مختلفة كالتزام الصمت طوال فترة جلسة العلاج الجماعي، أو الحديث عن أمور لا علاقة لها بموضوع الحوار كأحوال الطقس مثلاً. وتكمن مهارة المعالج في تسخير القلق الموجود داخل الجماعة من أجل الحصول على أفضل أداء للدور النفسي من قبل أفراد الجماعة العلاجية، وكلما زادت الثقة بين أفراد الجماعة زاد التلاحم بين أفرادها؛ مما يشجعهم على أداء دورهم النفسي الذي يهدف إلى التغلب على المشكلات الفردية.

بدأ تطوير علاج الجماعة في النصف الأول من القرن الماضي، وتزايد استخدامه بعد الحرب العالمية الثانية بسبب كثرة المصابين باضطرابات نفسية مثل "تعب المعارك" وقلة عدد المعالجين، وقد قام كثير من الأطباء والمعالجين النفسيين بدراسة ظواهر علاج الجماعة، ويعد يالوم Yalom أول من حدد العناصر العلاجية في علاج الجماعة، وهي:

1-الشمولية  :universalityأي أن يميز أعضاء المجموعة أن معاناتهم شائعة وتحظى باهتمام إنساني عام عن طريق مشاركة الخبرات والمشاعر بينهم؛ مما يساعد كلاً منهم على التخلص من الإحساس بالعزلة؛ وعلى التأكد من مشروعية خبراته على نحو يزيد من احترامه نفسه.

2-الإيثار  :altruismفالجماعة تتيح الفرصة أمام مساعدة آخرين والتمتع بالمقدرة على العطاء؛ مما يزيد من احترام الذات، ويساعد على تطوير مهارات تواصل وأنماط تأقلم مفيدة.

3-زرع الأمل  :instillation of hopeإذ تتشكل الجماعة من أعضاء في مراحل مختلفة من التطور والشفاء، ويفيد وجود أعضاء بمراحل متقدمة في تشجيع أعضاء ما زالوا يصارعون أعراضهم والهامهم.

4-نشر المعلومات imparting information؛ إذ يفيد أعضاء الجماعة بعضهم بعضاً بما يملكونه من معلومات حول العلاجات والخدمات المتوافرة لهم مثلاً.

5-تلخيص تصحيحي لخبرات العائلة الأصلية corrective recapitulation of the primary family experience؛ إذ يُوظِّف أعضاء الجماعة - في المعالج وفي باقي أعضاء الجماعة - مشاعرهم تجاه والديهم وإخوتهم، وذلك هو شكل من الإنقال خاص بعلاج الجماعة، وتساعد تأويلات المعالج على تفهم تأثير خبرات الطفولة في شخصية كل من أعضاء الجماعة؛ مما قد يعلمهم تجنب تكرار نماذج غير مجدية من التفاعلات القديمة في العلاقات الراهنة.

6-إحداث طرائق للاختلاط الاجتماعي development of socializing techniques؛ إذ توفر بيئة الجماعة وسطاً آمناً وداعماً لأعضائها للمخاطرة بتوسيع مخزونهم من أنماط السلوك الاجتماعي ومن المهارات الاجتماعية.

7-سلوك المحاكاة :imitative behavior فيطور أعضاء الجماعة مهاراتهم الاجتماعية عن طريق مراقبة سلوك المعالج وبقية أعضاء الجماعة وتقليدهم والاقتداء بهم للقيام - مثلاً- بمشاركة المشاعر الشخصية وإبداء الاهتمام ودعم الآخرين.

8-التعاضد (التماسك) :cohesiveness  ويعتقد أنه العنصر العلاجي الأول الذي تشتق منه بقية العناصر المذكورة آنفاً، فالناس بحاجة إلى حسّ الانتماء، ولا يحدث التطور الشخصي إلا في سياق التفاعل مع آخرين، وتمنح الجماعة المتعاضدة (المتماسكة) كل أعضائها شعوراً بالانتماء والتقبل والشرعية.

9-عوامل وجودية :existential factors تعلم الشخص أن عليه تحمل مسؤوليات حياته وعواقب قراراته.

10-التنفيس :catharsis وهو تفريغ الضيق الانفعالي عن طريق التعبير الحر وغير المشروط عن العواطف، ويتخلَّص أعضاء الجماعة من مشاعر العار والذنب المزمنة حين تتاح لهم الفرصة للتحدث عن تجاربهم أمام مستمعين متعاطفين.

11-التعلم من الآخرين interpersonal learning؛ إذ يزداد وعي الفرد لذاته عبر التفاعل مع بقية أعضاء الجماعة وما يتلقاه منهم من ترجيع feedback يخص سلوكه وتأثيره في الآخرين.

12-تفهم النفس :self-understanding يتداخل هذا العنصر مع التعلم من الآخرين؛ ولكن يقصد به تحقيق مستويات أعلى من تبصر الفرد بمنشأ مشكلاته وبالدوافع اللاشعورية الكامنة خلف سلوكه.

يمكن لعلاج الجماعة أن يشكل جزءاً من المجتمع العلاجي في المستشفيات النفسية أو المستشفيات النهارية، حيث قد يشتمل - إضافةً إلى المعالجة الكلامية - على معالجات تعبيرية مثل المسرح النفسي والعلاجات الفنية والمعالجة بالرقص، كما يمكن تقديم علاج الجماعة على نحو منفرد.

هناك براهين واضحة على فعالية علاج الجماعة في تدبير الاكتئاب، وفي علاج ضحايا سوء المعاملة الجنسية والمحاربين القدماء المصابين باضطراب الكرب التالي للرضح، وهناك براهين أضعف على فائدة علاج الجماعة في تدبير اضطراب الشخصية الحدية.

-  المعالجة العائلية  :family therapy

رغم أن من يراجع الطبيب أو المعالج النفسي قد يكون شخصاً واحداً؛ يتبين في بعض الأحيان أن المشكلة ليست محصورةً بالشخص نفسه، بل هي نتيجة لطريق العمل والتفاعل ضمن عائلته؛ مما يجعل من الضروري تقييم كل العائلة بهدف تغيير أدائها؛ فقد يفيد تحسين أداء العائلة كلاً من الشخص طالب المعالجة والعائلة كلّها.

يهدف تقييم العائلة إلى استكشاف الأداء الراهن في العائلة ونقاط قوة العائلة ونقاط ضعفها وكيف بدأت المشكلة، واستناداً إلى هذا التقييم يمكن التخطيط للعائلة؛ لكي تتغير إلى الأفضل أو لكي تعيد تأطير مشكلاتها، وتتضمن أهداف التقييم:

1-تحديد مشكلة العائلة التي يجب التعامل معها. فقد تخفي الشكوى الرئيسية شكاوى أعمق، وقد يرغب بعض أفراد العائلة في حرف الانتباه عنهم وتوجيهه باتجاه أفراد آخرين من العائلة.

2-تقييم التفاعلات والعلاقات ذات الصلة بالمشكلة ضمن العائلة.

3-فهم الدور الذي تؤديه المشكلة في حياة العائلة.

لا يمكن الفصل التام بين تقييم العائلة وبين التداخل؛ إذ لا تقتصر مهمة التقييم على تحديد المشكلة، بل تتضمن أيضاً إشغال كل العائلة بالمعالجة، وقد يكون ذلك صعباً؛ لأن بعض العائلات تقاوم التغيير. فقد يكون في استمرار المشكلة فوائد مهمة تقع خارج نطاق إدراك العائلة، مثلاً: قد يستفيد الوالدان من التركيز على ابنهما المراهق ومن تقديمه على أنه مشكلة العائلة في تجنب التعامل مع خلافاتهما الزوجية الجدية. لذلك من الضروري أن يبقى المعالج على اتصال مستمر مع كل فرد من أفراد العائلة طوال فترة الجلسة، وأن يلاحظ كل أنماط التواصل اللفظية وغير اللفظية المستخدمة وأن يرصد حدثية المعالجة، ولما كان من المستحيل على معالج منفرد القيام بكل هذه المهام في الوقت نفسه؛ يتم عادةً دعم المعالج بمعالجين مشاركين.

تنفذ المعالجة العائلية في غرفة كبيرة تحتوي على كراسيّ مرتبة بشكل دائرة وعلى طاولة صغيرة في المركز عليها بعض ألعاب الأطفال وأدوات الرسم، وتزود غرفة المعالجة عادةً بمرآة وحيدة الاتجاه تمكن المعالجين المشاركين من المراقبة والتدخل في أثناء الجلسة عند الحاجة، أما إذا لم تتوافر مرآة وحيدة الاتجاه؛ فيمكن لمعالج مشارك (أو معالجين مشاركين) الحضور في غرفة المعالجة. من المهم جداً مشاركة كل أفراد العائلة بجلسات التقييم والمعالجة، ورغم أن بعض المعالجين يشعرون بالقلق حول مشاركة الأطفال الصغار في الجلسات؛ لأنهم يتطلبون الكثير من الانتباه؛ فإنه من الضروري وجود جميع أفراد العائلة بما فيهم الرضع، بل قد يدعى إلى جلسات المعالجة أشخاص آخرون يبين تقييم المعالج أن لهم صلة بفهم مشكلة العائلة، وذلك مهم على نحو خاص في حالة العائلة الممتدة؛ فرغم أن وجود الأعمام والأخوال قد لا يكون ضرورياً في أثناء التقييم؛ لا بد من مشاركتهم في خطة المعالجة.

تبنى التداخلات العلاجية على فهم كيفية عمل العائلة، ويتطلب ذلك الفهم والتداخل أن يكون المعالج مرناً ومبدعاً، فيندمج مع ظروف الجلسة العلاجية، ويتفهمها، ويتجاوب معها، كما يعمل على تحديد نمط العائلة وبنيتها وخطتها (استراتيجيتها) من طريق تحديد أمور متنوعة مثل تعرّف الشخص المسيطر في العائلة، وكيفية التعبير عن عدم الموافقة، والشخص المستضعف في العائلة. ولكن يجب على المعالج دائماً أن يتجنب الانجراف ليؤدي دوراً في نظام العائلة، وألا يحاول حماية من يراه ضعيفاً، وألا يطلق أحكاماً أو يعطي نصائح؛ فقد يعيق ذلك الانجراف التغيير ضمن العائلة.

هناك ثلاث مدارس رئيسية للمعالجة العائلية؛ تركز المقاربة الجهازية systemic approach على أهمية الحركات الجلية والخفية للعائلة عبر مراحل التطور، وتركز المقاربة البنيوية structural approach على أهمية بنية العائلة وتنظيمها وأدوارها وحدودها، وتركز المقاربة الاستراتيجية strategic approach على التواصل وعلى الاستجابات اللفظية وغير اللفظية لأفراد العائلة بعضهم ببعض وللمعالج. تحتاج ممارسة أي من هذه الطرائق إلى تدريب نوعي تحت إشراف معالجين خبراء، فهناك دائماً مخاطر وصعوبات قد يقع فيها حتى المعالج الخبير بتطبيق المعالجة العائلية، منها مثلاً:

1-مشكلة توفير حماسة كل أفراد العائلة ومشاركتهم في المعالجة النفسية.

2-احتمال تعريض بعض أفراد العائلة للخطر عند اشتمالهم بمعالجة عائلية مكثفة؛ إذ يتطلب تكثيف الانتباه الموجه لأي فرد من أفراد العائلة مصاب بالاكتئاب أو باضطراب ذهاني أو لديه أفكار انتحارية؛ فقد يلزم مثل هؤلاء الأفراد بمعالجة فردية تقي من تدهور محتمل.

3-خطر تفكك العائلة نتيجة تغيير وضعها الراهن، ولكن انتهاء المعالجة إلى تفكك العائلة أو الطلاق لا يعني بالضرورة أن المعالجة كانت مخفقة؛ فربما كانت المعالجة العائلية ضرورية لكي يميز الزوجان أن إنهاء الزواج ليس إخفاقاً بل خيار، ولكي يتقبلا الطلاق كبداية كما هو نهاية.

خامساً- المشورة النفسية  :counseling

من الصعب وضع حد فاصل بين المعالجة النفسية وبين المشورة النفسية (أو الإرشاد النفسي)، فلكل منهما الهدف نفسه، ألا وهو إحداث تغيير في السلوك بوسائط نفسية، وتؤدي وحدة الهدف هذه إلى جعلهما يشتركان أيضاً بخواص كثيرة مثل توفير بيئة تسهل على الزبون فتح قلبه وعقله، وإفساح المجال أمام التفريغ الانفعالي، وتشجيع الزبون على توضيح مشكلاته، وتحديد أهدافه وتعلم طرائق أكثر نفعاً للقوب مع المتغيرات البيئية. وتتألف البيئة التمكينية empowering environment  في كل منهما؛ من شخص مهني (مشاور أو معالج نفسي) وزبون (شخص أو عائلة) يحتاج إلى المساعدة، ويشترط أن يتمتع المعالج أو المشاور بمعارف ومهارات مهنية ضرورية وببعض السمات الشخصية (مثل الدفء والتعاطف والتحمل) التي توفر بيئة آمنة ومأمونة وموثوقة للزبون، كما أن شهادة كلية الطب ليست ضرورية، وليست كافية لممارسة أي منهما، بل يتطلب كل منهما دراسةً وتدريباً خاصاً.

هذا ما تتشابه به المعالجة النفسية والمشورة النفسية، أما الفوارق بينهما فهي نظرية أكثر منها عملية، منها أن المعالجة النفسية تهتم بالعوامل التي يفترض أنها تساهم في ظهور السلوك المضطرب، في حين لا تهتم المشورة بالبحث عن جذور الاضطراب وأسبابه، بل تركز على إيجاد طرائق للتغلب على المشكلات الحالية؛ وليس على كيف بدأت ولماذا؟ ينجم عن ذلك اختلاف في الاهتمام بموضوع "بصيرة" الشخص بمشكلاته، ففي حين تنطلق المعالجة النفسية من تمييز الأسباب الكامنة خلف مشكلات الشخص وتأويلها وإدراكها؛ تركز المشورة على نحو رئيس على تغيير السلوك بدلاً من فهم الزبون. فإذا أُخذت مثلاً مشكلة شاب يواجه صعوبات في العمل وفي الحفاظ على وظيفة؛ فإن المعالجة النفسية التحليلية تمكن الزبون من فهم سلوكه الفعلي في ضوء تجاربه السابقة، وتساعده على إيجاد رابط بين والده الصارم المتسلط وبين عدم مقدرته على الدفاع عن نفسه على نحو يؤثر في أدائه في العمل وفي تفاعله مع الآخرين، أما المشورة فتركز في هذه الحالة على الشكوى الرئيسية (كيفية المحافظة على الوظيفة) عن طريق استكشاف الخيارات الممكنة التي تساعد ذلك الشاب على تحقيق غاياته من دون إضفاء أهمية كبرى على فهم العلاقة العاصفة مع والده بوصفها سبباً محتملاً لمشكلته.

توفر المشورة إطار عمل يتعلم الزبون من خلاله كيفية مساعدة نفسه بأن تمكنه من السيطرة على مختلف مشكلات الحياة. فعندما يجب على الشخص تعلم القوب مع أزمة ما؛ يمكنه استخدام نمط القوب ذاته في التعامل مع أزمات مستقبلية. تختلف المشورة عن المعالجة النفسية بأن الزبون هو الذي يحدد المشكلة، ويختار خطة العمل من بين عدة بدائل، في حين يختار المعالج طريقة المعالجة في المعالجة النفسية، ولا يكتفي باختيار المقاربة العلاجية (معرفية، سلوكية، تحليلية) فحسب، بل يختار أيضاً أنسب طريقة لمشكلات الزبون من بين الطرائق المتوافرة. يفرض ذلك التساؤل عن المسؤولية التي يبدو أنها الفرق الأهم بين المعالجة النفسية وبين المشورة؛ إذ تقع مسؤولية تحديد المشكلة وخطة العلاج وأهداف المعالجة على عاتق المعالج في المعالجة النفسية، في حين يتحمل الزبون في المشورة مسؤولية الأفعال والقرارات التي يشعر بأنها صحيحة ومناسبة له.

المهارات الأساسية:

تتعلق المهارات الأساسية للمشاور بالملاحظة وبالتواصل، وهما أمران لا يمكن أن يكونا منفصلين أو مستقلين أحدهما عن الآخر؛ لأن التواصل مبني على مهارات الملاحظة، وباجتماعهما معاً يمكنهما المساهمة باستقبال رسائل الزبون وفهمها والاستجابة لها. تتضمن الملاحظة الفعالة والدقيقة الإصغاء الموضوعي الفاعل لكل من العناصر اللفظية وغير اللفظية في المقابلات مع الآخرين، ويتضمن التواصل الفعال الملاحظة كأساس لتبادل المعلومات، كما يتوقع من المشاور أن يتفهم الشخص المحتاج إلى المساعدة؛ مما يوجب أن يكون للمشاور هوية ودور مهني متحرر من تأثير معتقداته الشخصية ومواقفه وأحكامه المسبّقة؛ فالتمكن من مساعدة الآخرين يتطلب أن يعي المشاور خصائصه الذاتية وأن يعرف نفسه على نحو كافٍ لتمكينه من أن يكون صادقاً مع زبائنه بغض النظر عن عرقهم أو لونهم أو خلفيتهم الاثنية أو جنسهم أو عمرهم.

لا يقتصر الإصغاء الفعال على مجرد الاستماع إلى ما يقوله الزبون فحسب، بل يتضمن أيضاً التيقظ للتلميحات اللفظية وغير اللفظية، وللأخيرة أهمية كسابقتها. ويمكن للشخص تعلم أن يصبح أكثر حساسيةًَ للتلميحات غير اللفظية التي يطلق عليها عادةً اسم "لغة الجسم" للدلالة على أن للجسم شأناً مهماً في التواصل؛ إذ يمكن لجسم الشخص أن "يتكلم" بطرائق عديدة، مثل "التكلم" عبر تعابير الوجه أو الإيماءات النوعية أو حركة الجسم العامة أو "سلوك العين"، وهناك أهمية خاصة لملاحظة اختلاف تعابير جسم الزبون عن أقواله، كأن يقول: إنه مرتاح في حين يوحي توتر عضلات وجهه وتهدج صوته عكس ذلك، مما يوجب تنبه المشاور إلى ضرورة التساؤل عما يحدث، فهل يحاول الزبون كبت مشاعره؟ وهل هذا الوقت مناسب لمساعدته على تنفيس تلك المشاعر؟ ويجب حين تؤخذ لغة الجسم بالحسبان الانتباه لمضامينها الثقافية، فقد يفسر غض النظر على أنه دليل على الارتباك؛ مع أنه قد يكون مسألة تأدب واحترام؛ فيفترض بالأنثى في بعض أنحاء المجتمعات المحافظة ألا تنظر مباشرةً إلى الذكر حتى حين تخاطبه.

يتطلب الإصغاء الفعال التشاعر شرطاً مسبّقاً ضرورياً لتأسيس علاقة حميمة؛ ولكن ذلك لا يعني انفعال المشاور بمشاعر مثل الغضب أو الأسف من أجل المريض، كما لا يعني أن يحاول المشاور إظهار الاهتمام عن طريق التصرف كأب أو صديق، فليس ذلك ما يحتاج إليه الزبون في حقيقة الأمر، وبالمقابل، فإن التشاعر يروج لمناخ من التفهم والثقة عندما يضع المشاور نفسه مكان الزبون، ويتقبل مؤقتاً طريقة تفكيره، ويطلع على واقعه، ويتفهم عالمه. يُمَكِّن ذلك المشاور من أن يفهم ويشعر "كما لو" كان هو الزبون، ولكن دون أن يفقد بصيرته بـ"كما لو" مطلقاً، ويمكنه عكس هذا النوع من التفهم بعبارات بسيطة تظهر أنه يعي ما يقوله الزبون، مثل "لا بدّ أنك شعرت بالإهانة" أو "لقد مررت حقاً بأوقات صعبة"؛ مما يجعل الزبون يشعر بأن المشاور صادق وبأن ما يقوله ليس مجرد ارتجاع فارغ أو جملة مؤدبة أو تملق.

الاستجواب questioning هو إحدى طرائق التواصل ذات الوظيفة المهمة إما في بدء تبادل المعلومات وإما في نهايته، تبين عدة دراسات أن لدى طلاب الطب عجزاً شديداً في طرائق الاستجواب؛ وأن التدريب الطبي المعتاد لا يبدو نافعاً في التغلب على ذلك العجز. لذلك يجب على الطبيب الانتباه أن طرائق الاستجواب تختلف باختلاف سبب المقابلة أو التواصل؛ فتختلف الأسئلة الموجهة في مقابلة مخصصة لجمع المعلومات عن الأسئلة المطروحة في مقابلة تهدف إلى التوضيح أو الاستكشاف أو تشجيع التحدث. وهناك عدة أنواع من الأسئلة، مثل السؤال المفتوح (الذي يبدأ عادةً بـ ماذا أو أين أو كيف)، والمغلق (الذي يجاب عليه فقط بنعم أو لا، مثل: "هل تشعر بالندم على فعلتك؟")، والمباشر (لا بد أنك تكره أختك)، وغير المباشر (أرغب بسماع مشاعرك تجاه أختك)، والموجه (تأخذ الدواء مرتين باليوم، أليس كذلك؟)، والمتجاوب (أود أن أعرف المزيد عن ألمك). وعلى المشاور إيجاد توازن بين جميع أنماط الأسئلة معتمداً على الاستجواب باستخدام "ماذا" و"كيف" و"أين"، مع تذكر أن الأسئلة المغلقة والموجهة والمباشرة لا تفيد في إغناء المعلومات، ويجب تجنبها ما أمكن. كما أن الأسئلة المفتوحة التي تبدأ بـ"لماذا؟" هي عادةً غير منتجة؛ لأنها موجهة إلى استكشاف الأسباب الكامنة التي قد لا يكون المريض واعياً لها، فسؤال مريض وسواسي "لماذا يصر على تفقد ما إذا كانت الأبواب موصدة"؛ أو مريض رهابي "لماذا يخاف من شيء غير مؤذٍ"، يجاب عليه عادةً بعبارة "لا أعرف".

لا توجد وصفة جاهزة لاستجواب مثالي؛ لأن طبيعة الاستجواب وطريقته تتعلق بأهداف المقابلة وبدرجة مهارة المشاور؛ فقد يصعب تجنب الأسئلة المغلقة إذا كان الهدف جمع المعلومات، وقد يصعب توجيه أسئلة مباشرة في مطلع المقابلة، ولكن قد يكون استخدام الأسئلة المغلقة والمباشرة أكثر فائدةً بالنسبة إلى زبون قلق ومرتبك؛ لأنه قد يعاني من مشكلات في التعبير عن نفسه، والقاعدة الذهبية هي تجنب توجيه أسئلة تتضمن عدة أفكار.

التداخلات:

يقصد بالتداخلات مهارات التواصل الأكثر نوعيةً من الملاحظة والإصغاء، مثل التوضيح clarification، والعكس  reflection، والمجابهة confrontation، والتلخيص summarization، والتأويل interpretation، والطمأنة  reassurance، وتوظيف الصمت على نحو ملائم.

-  يستخدم التوضيح عند الحاجة للتأكد من إحدى نواحي المواد التي قدمها الزبون، ولا يستخدم فقط لخدمة المشاور، بل أيضاً لمساعدة الزبون على توضيح أهمية بعض أقواله، فحتى لو فهم المشاور ما قاله الزبون على نحو تام؛ قد يستفيد الزبون من مطالبة المشاور له ببعض التوضيح مستخدماً عبارات مثل: "آسف لم أفهم ما قلت، هل يمكنك قوله مرّة ثانية؟"، "هل يمكنك إعطائي مثالاً عما قلته الآن؟"، "هل يمكنك إخباري أكثر عن شعورك عندما صرخ زوجك بوجهك؟".

-  يقصد بالمجابهة مواجهة الزبون مباشرةً ببعض معتقداته أو مظاهر سلوكه المكررة والتي ليس سهلاً التخلص منها أو تغييرها، ولا يجب استخدام هذا التداخل لمواجهة زبون لديه هلوسة بأن هلوسته غير موجودة في الواقع أو بأنها غلط، بل تفيد المجابهة في إلقاء الضوء على أمور متكررة قد لا يكون الزبون واعياً لها، أو يحاول الزبون تجنبها أو إنكارها؛ لمساعدته على تحسين فهم مشاعره وأفكاره وسلوكه. ولكن الارتكاس للمجابهة قد يكون عكس المتوقع، فقد لا يكون الزبون جاهزاً لتقبل ما قيل، وقد يصبح غاضباً أو يشعر بالإهانة أو بأنه قد أسيء فهمه. لذلك يجدر التنبيه على أن التعامل مع هذا النمط من التداخل صعب، ولا يجلب دائماً النتيجة المرجوة، ولا يجب استخدامه إلا من قبل مشاور خبير، ومن الأمثلة على المجابهة: "لدي بعض الأخبار السيئة، أظهرت نتيجة تحليل الدم أنك مصاب بالإيدز"، "أخبرتني أنك بحاجة ماسة إلى رؤية طبيبك الجراح، ثم لم تحضر بحسب الموعد"، "تفكر بأن تأخذ ذلك العمل، ولكن هل أنت فعلاً قادر على تحمل مسؤولياته؟".

-  التلخيص هو تجميع الأفكار والمشاعر التي عبر عنها الزبون في أثناء الجلسة في جملة موجزة، ويمكن القيام بذلك في مطلع الجلسة أو في أثنائها أو في نهايتها كنوع من مراجعة النقاط الرئيسة في مشاعر الزبون وأفكاره أو تكثيفها، وبذلك يسهل هذا التداخل التوضيح والتمييز والتفهم، ومن الأمثلة عليه قول المشاور: "كيف تشعر بخصوص ما أخبرتني به اليوم؟"، "هل تخبرني ماذا استفدت من جلسة اليوم؟"، "إذا لم تخني ذاكرتني فقد كنا نناقش علاقتك بإخوتك في جلستنا السابقة، أليس كذلك؟".

 - العكس هو إرجاع ما عبر عنه الزبون إليه، ويجب أن يتم بكل ما أمكن من الدقة واللطف، فهو ليس مجرد طريقة لتركيز انتباه الزبون على أمور مهمة مثل المشاعر والخبرات فحسب، بل أيضاً طريقة لإظهار القبول والتشاعر؛ مما يزيد من حرية الزبون، ويشجع استقصاءً إضافياً للمشاعر. مقارنةً بالتلخيص، يركز العكس على عبارات الزبون وملاحظاته الآنية، مثلاً: إذا قالت زبونة: "أريد فعلاً أن أجعل زوجي يشعر بالتحسن، ولكنه يتصرف وكأنه يكرهني؟"؛ قد يقول المشاور: "يتصرف وكأنه يكرهك؟".

 - تمثل الطمأنة نوعاً من الارتجاع الإيجابي الذي يمنح الزبون الأمل والدعم والتشجيع، فهي تركز دائماً على العناصر أو الحصائل الإيجابية المتفائلة في حياة المريض أو على كليهما معاً، وتستخدم في الظروف التي يعبر فيها الزبون عن الخوف أو اللوم أو الذنب أو غيرها من المشاعر المزعجة، فبالتركيز على النواحي الإيجابية التي قد لا يكون الزبون قد أخذها بالحسبان بسبب غرقه بالمشاعر التشاؤمية؛ قد تفيد الطمأنة في تخفيف الضيق، مثلاً: يقول الزبون: "لقد كانت هذه هي القشة التي قصمت ظهر البعير. لم يعد يمكنني التحمل أكثر"، فيقول المشاور: "أفهم أنك تمر بأوقات صعبة، ولكنك متأقلم معها على نحو جيد. فأنت تعتني بأمك، وقد حصلت على ترقية في وظيفتك مؤخراً"، ومن الضروري توخي الحذر الشديد هنا لإبقاء هذا التداخل ضمن إطار واقعي.

-  الاستخدام المناسب للصمت يعني أن صمت الزبون ليس دائماً سلبي التأثير في سير المشاورة. يرتعب كثير من المبتدئين في المهن النفسية من الصمت، فيعدونه علامة على أنهم ليسوا جيدين بما يكفي، وقد يلومون أنفسهم على ذلك المأزق غير المريح، كما يخشى كثير من الزبائن الصمت لاعتقادهم أن توقف المحادثة هو ظرف خارج عن نطاق سيطرتهم، ولكن حتى لو زاد الصمت من شعور الزبون بالتوتر والقلق وعدم الأمان، وحتى لو شعر المشاور بأنه مخفق؛ فإنه يبقى ممكناً استخدام الصمت كتداخل لفتح نقاش حول المشاعر والأفكار والتوقعات؛ فمن الخيارات التي قد يلجأ إليها المشاور لتشجيع استقصاء سبب الصمت قوله: "أتعجب ماذا يحدث الآن؟"، "أشعر بأن شيئاً ما يحدث، هل ترغب بمشاركته معي؟"، كما قد يكون الصمت علامة على أن موضوع النقاش قد استنفد أو أن نهاية الجلسة قد اقتربت، وعندها قد يكون من المناسب القول: "ربما قد قلنا كل ما لدينا اليوم"، أو "هل ترغب بإضافة أي شيء؟"، ويجدر بالذكر أيضاً أن الزبون قد يحتاج إلى استراحة بعد نقاش مشحون انفعالياً وبعد التعبير عن الانفعالات أو توضيحها أو تلخيصها، ولكن - حتى حينها - يجب على المشاور إظهار أنه موجود مع الزبون ومن أجله ولمساعدته على الشعور بأنه مقبول ومفهوم، ويمكنه التعبير عن دعمه للزبون بجمل مثل: "لابأس بأن تبقى صامتاً. أنا معك. يمكنك المتابعة عندما تصبح جاهزاً". وبما أن الصمت قد يعدّ مشكلة للمشاور؛ فإنه من الحكمة أن يستكشف المشاور مشاعره الشخصية حول الصمت قبل أن يفكر بمساعدة الآخرين.

تطبق المشورة النفسية في حالات عديدة ومتنوعة، وفيما يلي تعريف بمشورة الأزمة مع تنويه بأزمة قد يتعرض لها أي طبيب أو معالج عند انتحار أحد مرضاه، ويلي ذلك تعريف بالحداد وبمضاعفاته وبمشورة الحداد.

مشورة الأزمة  :crisis counseling

الحياة هي عملية تكيف مستمرة مع الأحداث والظروف، وقد يواجه الإنسان أحداثاً وظروفاً يعجز عن التعامل معها، فتشكل أزمة تتطلب تعلم طرائق جديدة ونافعة للقوب معها، والأزمة هي حالة خطرة جداً تتطلب اهتماماً آنياً وفعلاً عاجلاً، وتضع الأزمة الفرد المار بها بحالة صدمة وضيق يرافقها عادةً القلق والاكتئاب، وقد تُصحب بالأفكار الانتحارية. وتنجم الأزمة عن عوامل وحوادث عديدة مثل الوفاة أو الطلاق أو الاعتداء الجنسي أو تفكك العائلة أو فقد العمل أو المرض أو الهجرة إلى بلد آخر…إلخ. تهدف مشورة الأزمة إلى مساعدة المعرضين لمثل هذه العوامل والحوادث باستخدام مبادئ أساسية، هي البقاء في الحاضر "هنا والآن"، واستكشاف المشاعر الراهنة وتسهيل التعبير عنها، واستيضاح ماذا يريد الزبون، وفحص المستويات الأربعة لليأس (وهي مستوى اليأس غير المُدرك من قبل المصاب به، ومستوى اليأس الذي يعيه صاحبه، ومستوى رؤية النفس من منظور الضعف الذاتي وانعدام القيمة، ومستوى السعي إلى تخفيف اليأس دون جدوى؛ فتتصلب النفس ضد أي مساعدة)، والبحث عن علامات الاضطراب وعن نقاط القوة، واستطلاع أسوأ توقعات الزبون، وانتقاء منطقة للعمل عليها، والاتفاق على ما سيتم عمله من أجل حل الأزمة، واستطلاع أنظمة الدعم الاجتماعي المتوافرة للزبون.

يكون الزبون المأزوم عادةً مشلولاً بمشاعر مكثفة وغير قادر على اتخاذ القرارات؛ مما يتطلب تفكيراً عميقاً بمن يجب إخباره، وكيف ولماذا، وبمن سيعتني بالزبون وبأطفاله وبمنزله، وبمقدرة الزبون على التعامل مع المسائل المالية وغيرها، وبالتغييرات التي يجب حدوثها للمحافظة على سلامة الزبون، ويجب مناقشة كل البدائل الممكنة مع الزبون والأسباب الدافعة لقبول كل منها أو رفضه.

توجه المرحلة البدئية في مشاورة الأزمة باتجاه "تنفيس" الانفعالات؛ مما يسبب بعض الراحة، ويكون دور المشاور في هذه المرحلة دعم الزبون وتقبل ما يصدر عنه. ويفسح تنفيس المشاعر القوية المجال أمام قنوات أخرى للتواصل، فيصبح الزبون قادراً على إخبار المزيد عن أزمته، وعندها تصبح مهارات التواصل مهمة، فيستخدم المشاور التداخلات النوعية مثل التوضيح والطمأنة والعكس بهدف تسهيل فهم الزبون لأزمته ومساعدته على رؤية طرائق بديلة للقوب، ويساهم ذلك مساهمةً مهمة في اكتساب الزبون السيطرة على حياته وفي زيادة ثقته بنفسه.

تعمل مشورة الأزمة يداً بيد مع حل المشكلات، ففي حين تهتم مشورة الأزمة بـ"هنا والآن"؛ يركز حل المشكلات على التدبير الحاضر والمستقبلي للمشكلة، حيث يقود المشاور الزبون عبر عدة مراحل يستكشف في أثنائها حلولاً متنوعة اعتماداً على احتياجاته ومعتقداته ومواقفه والعواقب الممكنة لكل خطة عمل متوقعة، ويساعد المرور عبر مراحل حل المشكلة الزبون على الشعور بأنه قد انتقى الخيار الصحيح، واتخذ القرار المناسب، كما أن التجربة بكاملها مفيدة من ناحية نمو كل من الزبون والمشاور وتطور هما.

الخطوات الرئيسة في حل المشكلات هي تحديد المشكلة وتعريفها، ثم اقتراح خطط (استراتيجيات) قوب بديلة (حلول وخطط عمل)، ثم استطلاع كل حل بديل نسبةً إلى الاحتياجات النوعية والقيم والمعتقدات والمخاطر المحتملة والفوائد والعوائق الممكنة، ثم اختيار أحد الحلول لاعتماده وتنفيذه، ثم تحديد الخطوات السلوكية التي يجب القيام بها لتنفيذ الحل المعتمد، ثم تنفيذ خطوات الحل المعتمد خطوة خطوة، وأخيراً تقييم الحاصل للتأكد من أن الاختيار كان موفقاً.

انتحار المريض:

يُعدّ انتحار المرضى أحد أهم الأزمات التي قد يتعرض لها العاملون في الرعاية الصحية، والأطباء ليسوا محصنين ضد الحداد المرضي والاكتئاب التالي للحداد عند مرورهم بمثل هذه الأزمات؛ مما يوجب عليهم التنبه لدرجة تأثرهم بالفقد، ليس من أجل سلامتهم وتوازنهم النفسي فحسب؛ بل أيضاً من أجل استمرار مقدرتهم على العناية بمرضاهم. تُعدّ الاضطرابات النفسية أهم أسباب الانتحار؛ إذ توجد عند أكثر من 90% من مجمل المنتحرين، لذلك فإن انتحار المريض هو من أهم الأخطار المهنية بالنسبة إلى الأطباء النفسيين؛ ولاسيما الذين يعالجون اضطرابات نفسية شديدة ومزمنة؛ فقد أظهرت الدراسات أن أكثر من نصف الأطباء النفسيين قد فقدوا على الأقل مريضاً واحداً، وأن العديدين منهم قد فقدوا أكثر من مريض واحد نتيجة الانتحار. ويبدي الأطباء في حالات الفقد هذه - مثلهم في ذلك مثل باقي البشر - ردود فعل شخصية متنوعة؛ فيشكو بعضهم النزق وانخفاض المزاج واضطراب النوم، وتحدث عند عديدين مظاهر حداد مرضي مثل الشعور بالذنب أو بالمسؤولية عن الوفاة، ورغبة بتكرار شرح ما حدث أو بمناقشة موضوع الموت، ومشاعر قوية من الرفض، وغضب على المتوفى، وخزي حول طريقة الموت. وقد تتفاقم هذه التظاهرات نتيجة الخوف من المقاضاة أو من العقوبات المسلكية، إضافةً إلى ضرورة مقابلة أفراد عائلة المتوفى انتحاراً لمساعدتهم على تجاوز الأزمة؛ فعلى الطبيب على نحو عام أن يقابل أفراد العائلة بعد الانتحار؛ إلا إذا وجدت أسباب تمنع ذلك، وأن يقدم لهم الدعم النفسي وأن يشرح لهم مفهوم الانتحار لمساعدتهم على تخفيف مشاعر الارتباك والشعور بالذنب والغضب، وربما شاركهم طقوس الجنازة والدفن؛ إذا رغب شخصياً بذلك.

أما الطبيب المتأثر نفسه؛ فقد يلقى الدعم من عائلته وأصدقائه وزملائه، ويجد بعضهم الراحة بالصلاة وبالتصدق على الفقراء، وينصح دائماً التفكير باستشارة زميل من الأطباء النفسيين الموثوقين وذوي الخبرة بغية تنفيس الانفعالات والحصول على دعم معنوي وتطوير ردود فعل إيجابية، وربما احتاج الأمر إلى تداخل مشورة الأزمة أو مشورة الحداد.

مشورة الحداد:

الحسرة أو الأسى grief هي الاستجابة الانفعالية والمعرفية والسلوكية لموت قريب أو صديق، أو لخسارة مادية أو معنوية بما في ذلك خسارة وظيفة جسدية أو أحد أعضاء الجسم (مثل بتر ذراع)، والحداد mourning هو الطقوس أو المراسم الخاصة المتبعة للتعبير عن الفقدان أو الخسارة. وتفاعل الأسى أو الحداد هو حالة إسعافية قد تواجه أي طبيب. فقد تحدث عند مريض شُلَّ أو بُتِرَ أحد أطرافه، كما قد تشاهد عند أقرباء مريض تُوفِّي في أي قسم من أقسام المستشفى وأصدقائه وعند الناجين من الكوارث والحوادث. للطبيب دور مهم في تسهيل تفاعل الأسى الطبيعي في كل هذه الحالات، وقد يؤدي إهمال هذا الدور إلى معاناة غير ضرورية وإلى احتمال إطالة تفاعل الحداد.

يتعافى معظم الناس تماماً من تفاعل الحداد؛ ولكنه يصبح مَرَضِيّاً في قلّة منهم، فيسبب مضاعفات نفسية وجسدية مهمة كالشكاوى الجسدية المتعددة. ويمر تفاعل الحداد الطبيعي بثلاثة أطوار هي:

1-طور الصدمة والخدر الشعوري وعدم تصديق الخبر، ويستمر من دقائق إلى ساعات أو أيام، ويُسيطر فيه إنكار denial  حدوث الفقد كآلية دفاع نفسي. وقد تشاهد بعض الأعراض الجسدية مثل جفاف الفم وخفقان القلب والأرق.

2-الطور الثاني هو طور الحزن، ويتظاهر بمشاعر متناقضة مختلطة مثل الغضب والحزن والبكاء والشعور بالوحدة وقلة النوم وقلة الطعام وضعف التركيز ورؤية الفقيد بالأحلام، وأحياناً حالة من الهلوسة الكاذبة يرى فيها الشخص فقيده أو يسمع صوته؛ لكن مع إدراك الشخص أن هذه الصورة أو الأصوات غير حقيقية، ولا تنفي موت المتوفى. وقد يشعر المحزون بأن الحياة لا تستحق العيش؛ مما يجعل صعباً تمييز هذا الطور من الاكتئاب. يستمر الطور الثاني من عدة أسابيع إلى ستة أشهر دون أن يؤثر عادةً في الواجبات والمهام الشخصية، ويتم خلاله تقبل حقيقة الفقد.

3-الطور الثالث هو طور اختتام الحداد، ويستمر حتى السنة، وهو طور تأقلم ينتهي بالتعافي وبتقبل أمر الله وقضائه، ومن ثم تتم إعادة تنظيم الحياة للتمكن من الاستمرار من دون الفقيد ومن العودة للنشاطات المعتادة على نحو تدريجي. ويبقى المحزون معرضاً لتفاعل الذكرى السنوية anniversary reaction الذي يتظاهر بمعاودة أعراض شبيهة بأعراض تفاعل الحداد حول الذكرى السنوية للفقد؛ ولاسيما إذا كان الفقيد طفلاً.

يبدي البشر تفاوتاً كبيراً في شدة الحداد الطبيعي ومدته بناءً على معتقداتهم الدينية والثقافية، وعلى ما تفرضه عليهم العادات والتقاليد، وعلى كيفية العودة للحياة المعتادة وتوقيتها، وعلى شخصية المحزون وعمره وصحته وثقافته ودرجة إيمانه، وما لديه من موارد وما يتلقاه من دعم اجتماعي، وما سبق له أن مر به من فقد مادي ومعنوي، وطبيعة علاقته بالمتوفى، ونمط الوفاة؛ فالوفاة المتوقعة لأسباب طبيعية تختلف عن الموت غير المتوقع لأسباب مفاجئة مثل الانتحار أو الحوادث أو القتل.

قد تكون فاجعة الوفاة من أكثر تجارب الحياة مرارة وألماً، فقد ترافق الشوق للفقيد بمشاعر متناقضة تشمل الشعور بالصدمة والحزن والأسف، والإحساس بالضياع والتعاسة والوحدة وفقدان الحماية والغضب؛ لأن المتوفى "تخلى" عن المحزون، والشعور بالذنب نتيجة الإحساس بالتقصير أو نتيجة تذكر مواقف سيئة تجاه الفقيد؛ وقد يرافق ذلك تبدد الشخصية وذكريات وتخيلات تقتحم الوعي، وأعراض عصبية ودية، وصعوبة التركيز، وضعف الاهتمام بنشاطات الحياة اليومية. وقد يحلم المحزون بفقيده، أو يشعر بحضوره، ويفتش عنه، كما قد تحدث أهلاسات بصرية وسمعية للفقيد.

تكون مشاعر الحداد مستمرةً في البداية، ثم تأخذ شكلاً نوبياً تحرضه منبهات ذات علاقة بالفقيد، ثم تختلط تلك المشاعر بمشاعر إيجابية مثل الهدوء والسكينة وتقبل القضاء والقدر؛ مما يسهل الانتقال من مرحلة الحزن الحاد إلى مرحلة الحداد المكتمل خلال الأشهر القليلة التي تلي الوفاة؛ فيستوعب المفجوع معنى الموت وحقيقته، ويعود إلى النشاطات والعلاقات السارة وإيجاد طرائق جديدة تساعده على إكمال مسيرة حياته؛ دون انشغالات فكرية ملحة ودون إعاقة؛ ولكن أيضاً دون نسيان الفقيد؛ فقد يحافظ المحزون على تواصله مع الفقيد عن طريق الاحتفاظ بما يذكره به من كتابات أو ملابس أو غيرها من الممتلكات الخاصة، وأيضاً عن طريق الصلاة والدعاء وزيارة القبر.

تتوج رحلة الحداد الشاقة هذه بتأقلم جيد في معظم الحالات، ولا تتوافر أي براهين على أن الحداد الطبيعي يحتاج إلى شكل معيّن من المعالجة أو إلى تدخل مختص؛ إذ يكفي الدعم المقدم من قبل العائلة والأصدقاء وأحياناً رجال الدين، أما في البلاد الصناعية التي أصبح مثل هذا الدعم قليل التوافر فيها؛ فيتم التعويض من قبل جماعات أهلية تضم أناساً تعرضوا لحالات وفاة متشابهة مثل وفاة طفل أو الوفاة انتحاراً.

وتعتمد المساعدة المقدمة لتسهيل الحداد الطبيعي على المبادئ التالية:

1-مساعدة الشخص على تقبل حقيقة الفقد عن طريق تشجيعه على التعبير عن المشاعر التي تساوره مثل الغضب والذنب والحزن، بالسؤال مثلاً: "ما الذي تفتقده بخسارة المتوفى؟".

2-تقييم شبكة الدعم الاجتماعي للشخص، وتوظيف الأهل والأصدقاء في تسهيل تفاعل الحداد عن طريق تشجيعهم على التحدث مع المحزون عن المتوفى.

3-تسهيل العيش من دون المتوفى عن طريق المساعدة بحل المشكلات الاجتماعية والمالية المترتبة على الوفاة. مع نصح المحزون عدم اتخاذ قرارات مصيرية متسرعة.

4-لا فائدة عادةً من التطمينات البسيطة مثل "من خلّف ما مات" و"الحياة يجب أن تستمر"، بل يحتاج تفاعل الحداد إلى بعض الوقت. ويمكن تسهيل الانسحاب العاطفي من المتوفى عن طريق تشجيع تشكيل علاقات جديدة.

5-يخشى بعض المحزونين من الجنون؛ لأنهم سمعوا صوت المتوفى مثلاً؛ مما يوجب طمأنتهم بأن مثل تلك التجارب طبيعية.

6-يمكن تشجيع معظم المحزونين على العودة إلى نشاطاتهم المعتادة مثل العمل خلال 3-6 أسابيع من الفقد.

الحداد المرضي:

يصعب على الأطباء على نحو عام تمييز الحداد الطبيعي من الحداد المرضي والاكتئاب التالي للحداد؛ مما قد يحرم المريض من العلاج بناءً على افتراضات خاطئة مفادها أن المحزون يجب أن يتحسن بقوة إيمانه أو إرادته أو شخصيته أو بفعل دعم أهله وأصدقائه. ومن المؤسف أن الحداد لا يدرس في معظم كليات الطب ولا في برامج تدريب الأطباء للاختصاص؛ مما يدفع إلى الاستعانة بالموروث الشعبي وبمفاهيم قد تكون مؤذية بدلاً من الاعتماد على الحكمة المسندة بالبراهين التجريبية حين التعامل مع هذه المشكلة الإنسانية العامة التي قد تعترض ممارسة أي طبيب. فقد يكون الحداد الطبيعي مؤلماً ومنهكاً؛ ولكنه عادة محتمل ومحدد لذاته ولا يتطلب علاجاً، أما الحداد المرضي والاكتئاب التالي للحداد؛ فقد يزمن مسبباً حالة خطرة من العجز ومؤثراً تأثيراً كبيراً جداً في إيقاع الحياة ونوعيتها، بل قد يهدد الحياة نفسها؛ إن لم يعالج.

الحداد المرضي هو حالة حداد لا تكتمل، وتستمر وقتاً طويلاً مسببةً إعاقةً صحية ومهنية واجتماعية كبيرة تستوجب تشخيصاً وتداخلاً طبياً. ويحدث الحداد المرضي في 10% من حالات الحداد؛ إذ يخفق المحزون في تقبل أمر الوفاة وفي تجاوز مرحلة الحزن الحاد التي قد تستمر لفترة غير محددة، وتصحب بهجمات متكررة من انفعالات مؤلمة، مع استمرار إنكار حدوث الوفاة وشعور بالغضب والمرارة، ومع تطفل أفكار تتعلق بموضوع الموت وتجنب علني لكل ما يذكر بالفقيد. يجد المحزون نفسه سجين حلقة متكررة تصبح محور حياته، وتتمحور حول مشاعر حنين شديد واشتياق للمتوفى وانشغال ذهني به، حيث يعتقد أن حياته قد انتهت وأن حزنه سوف لن ينتهي؛ بل قد لا يرغب بأن تنتهي فترة الحداد؛ لأنها كل ما تبقى له من الفقيد، وقد يشعر بأن التمتع بالحياة هو خيانة للفقيد، فيقوم بتصرفات مبالغ فيها مثل الانشغال بأحلام يقظة وإعادة ترتيب حاجات الفقيد وقضاء أوقات طويلة قرب قبره، والشعور بالنفور من الناس؛ ولاسيما الذين كانوا مقربين من الفقيد. يُصحب الحداد المرضي باضطرابات النوم المزمنة، وباضطراب نظام الحياة اليومية، وبزيادة خطر الإصابة بالسرطان وبأمراض القلب وبفرط الضغط الشرياني وبتعاطي العقاقير وبالأفكار والمحاولات الانتحارية.

تدمج مشاورة الحداد تقنيات المعالجة السلوكية المعرفية بتقنيات المعالجة النفسية التقليدية، وتتضمن تركيزاً وإعادة مرور متكررة على فترة الوفاة؛ وتشجيعاً على إعادة الاندماج التدريجية بالنشاطات والمواقف التي يتجنبها الشخص؛ وعلى مناقشة الأهداف الشخصية. وتأخذ مشاورة الحداد شكلاً مماثلاً لشكل مشاورة الأزمة يتألف من مرحلة الأزمة (الصدمة، الإنكار، القلق، الغضب، الحزن، الشعور بالضياع)، ومرحلة الإحكام (تطوير خطط (استراتيجيات) القوب)، ومرحلة التقبل (تعلم الزبون تقبل الفقد، وتوليد إحساس جديد بالذات، وتطوير مهارات قوب متأقلمة)، وتقدم البراهين العلاجية المتوافرة سنداً لفعالية "مشورة الحداد" في معالجة الحداد المرضي، أما الأدوية المؤثرة في المزاج والمعالجات النفسية المدرسية (الكلاسيكية)؛ فتأثيرها ضعيف في الحداد المرضي، وحتى حين تفيد الأدوية على نحو جزئي؛ يفضل دعمها بمشورة الحداد؛ إذ تبين البراهين العلاجية المتوافرة أن أفضل التداخلات الممكنة في الحداد المرضي هو مشاركة الأدوية المضادة للاكتئاب مع مشورة الحداد.

الاكتئاب التالي للحداد:

يتبين من دراسات متابعة طويلة الأمد لأرامل ولأطفال فقدوا آباءهم ولآباء فقدوا أطفالاً تزايد حدوث الأعراض الاكتئابية لعدة سنوات بعد الوفاة؛ وأهم تلك الأعراض: انخفاض المزاج والبكاء المتكرر وفقد الشهية للطعام ونقص وزن الجسم واضطراب النوم، إضافةً إلى التعب وفقد الاهتمام بالمحيط والتململ والضجر والنزق والشعور بالذنب، وعلى نحو أقل التفكير بالانتحار والهلوسة (مثل الإحساس بلمسة المتوفى أو سماع صوته أو رؤيته أو شم رائحته) والتعرف الخاطئ إلى غرباء على أنهم الشخص المتوفى. يتحسن معظم هذه الأعراض خلال سنة؛ ولكن يستمر البكاء وانخفاض المزاج والشعور بالوحدة وبالضجر والتململ واضطراب النوم، وتستمر هذه الأعراض سواء أكان المريض رجلاً أم امرأة؛ متديناً أم لا، أو كان الموت مفاجئاً أم متوقعاً، أو كان الترمل بعد زواج ناجح أم مخفق. وبتطبيق المعايير التشخيصية للاكتئاب الجسيم تبين أن ربع المحزونين يعانون الاكتئاب الجسيم مدة شهرين، ويستمر الاكتئاب مدة سنتين عند 15% من المحزونين، ويصبح مزمناً عند 7% منهم، ويزداد احتمال الإصابة بالاكتئاب الجسيم التالي للوفاة عند وجود سوابق اكتئابية. تستوجب هذه الحالات علاجاً مماثلاً لبقية حالات الاكتئاب الجسيم أو الشديد.

سادساً- إعادة التأهيل النفسي:

الاضطراب النفسي والإعاقة:

يرافق الاضطرابات النفسية - ولاسيما الشديدة - منها اضطراب مجمل حياة الشخص، ويمتد تأثيرها ليخلخل استقرار عائلة الشخص ومحيطه الاجتماعي؛ فللشخص عندما يكون متمتعاً بصحة نفسية جيدة مقدرة على تمييز نقاط قوته ونقاط ضعفه؛ وعلى التمتع بالحياة وبالحوادث اليومية؛ وعلى ممارسة طيف من النشاطات القيّمة التي يسعى من خلالها إلى التطور مثل تكوين علاقات مفيدة مع آخرين من الجنسين داخل نطاق أسرته وخارجها، والعمل مع آخرين في مراكز سلطة متعددة، وتقبل النقد البناء، ومدح الآخرين وإطرائهم، والاستجابة لظروف وحوادث متنوعة حتى لو لم تكن متوقعة بمرونة ومن دون أن يفقد السيطرة. وتتعزز الصحة النفسية باتّباع نمط حياة متوازن موزع بين العمل والنشاطات اليومية ونشاطات الترفيه والراحة؛ بغية تحقيق مستوى أداء مثالي. أما عند الإصابة باضطراب نفسي؛ فقد تبدو على الشخص اللامبالاة وانعدام الحافز ونقص الانتباه والتركيز وتدهور الأداء الاجتماعي والتعليمي والمهني، وقد تكون هذه الظواهر أعراضاً وعلامات للاضطراب النفسي ذاته؛ أو عواقب ثانوية تالية لإزمان علاج الاضطراب النفسي وإهماله أو لمعتقدات وسوء فهم ثقافي يحرم المريض من الدعم الاجتماعي، ويفاقم مشكلاته.

تستخدم عادةً ثلاثة مصطلحات لوصف مختلف الإعاقات المرضية؛ فالضعف أو الاعتلال impairment هو خلل وظيفي على مستوى أحد أجهزة الجسم أو أعضائه، والعجز disability هو الضرر الواقع على أداء الشخص في مهام الحياة اليومية مثل عدم المقدرة على عيش حياة مُرضية أو على القيام بعمل نوعي، ويستخدم مصطلح إعاقة handicap في الطب النفسي عادةً لتعريف الناس المصابين بمحدودية معرفية. وينجم العجز في الاضطرابات النفسية عن تضافر عاملين؛ أولهما الاعتلالات الطبية النفسية psychiatric impairments، كالخلل الوظيفي الذي يؤدي إلى إصابة المريض بأعراض إيجابية (مثل الهلوسة والضُلال في الفصام) تعوق أداءه الطبيعي؛ أو بأعراض سلبية (مثل الخمول وانعدام الدافع في الفصام) تؤثر تأثيراً جدياً في مقدرته على العمل؛ أو بنساوة (في الخرف مثلاً) تجعله غير قادر على تأدية نشاطات العيش اليومي. أما العامل الثاني فهو التأذي الاجتماعي الناجم عن صعوبة قوب العائلة مع المريض وعن نبذ المريض وتمييز المجتمع ضده على نحو يحرمه من فرص العمل، ويزيد من فقره.

أهمية إعادة التأهيل:

عرف John Wing إعادة التأهيل الطبية النفسية على أنها عملية تقلل من الاعتلال الطبي النفسي ومن التأذي الاجتماعي المرافق له؛ عن طريق مساعدة المريض على استخدام مواهبه وعلى الشعور بالنجاح في أدواره الاجتماعية على نحو يزيد من ثقته بنفسه ومن احترامه لذاته؛ مما يعني أن الاضطراب النفسي يرافقه سوء أداء في مجالات نفسية أو اجتماعية أو كليهما معاً، وأن سوء الأداء هذا هو حالة عكوسة يمكن تحسينها عن طريق إعادة تأهيل المريض لتمكينه من تحقيق أعلى مستوى أداء ممكن؛ مما يمنح المريض شعوراً بقيمته الذاتية، ويفيد في دمجه بوصفه فرداً مقبولاً في عائلته وعضواً منتجاً في مجتمعه، وينطبق ذلك على نحو خاص على المعوقين باضطرابات نفسية خطيرة مثل الفصام واضطراب المزاج ثنائي القطب والاضطرابات النفسية العضوية والإعاقة العقلية. فتكرر دخول المستشفيات في الفصام مثلاً هو نتيجة طبيعة المرض نفسه؛ ونتيجة أن المرض يسبب أنماطاً من العجز تجعل من الصعب على المريض القوب مع كروب الحياة اليومية، وقد تخفف إعادة التأهيل معدل تكرار دخول المستشفى عن طريق مساعدة المريض على التعايش مع البيئة خارج المستشفى.

تبدأ جهود إعادة التأهيل منذ لحظة قبول المريض في المستشفى، وتستمر بعد مغادرته وعودته إلى عائلته، لذلك فإن وضع برنامج إعادة التأهيل يتطلب تقييماً اجتماعياً للمريض؛ وتقييماً مهنياً لإمكانياته ولاحتياجاته:

1-التقييم الاجتماعي:

تتطلب إعادة التأهيل تقييماً شاملاً للمريض ولعائلته ولبيئته الاجتماعية ولظروف عمله، ويقوم بهذا التقييم اختصاصي اجتماعي لا تقتصر مهمته على تحديد عوامل اجتماعية قد يكون لها شأن مهم في حدوث المرض واستمراره، بل تمتد مهمته لتشمل أيضاً تحليلاً أكثر تعقيداً للدينامية النفسية لبنية مجتمع المريض - وخصوصاً عائلته - حيث يتضمن عمل الاختصاصي الاجتماعي نشاطات متنوعة مثل:

أ- جمع معلومات عن المريض وعن بيئته وأدواره الاجتماعية وعن أدائه وتفاعله مع الآخرين.

ب- تحديد احتياجات المريض المادية مثل المسكن والطعام والملبس وغيرها.

ج- تحديد مشكلات المريض العائلية والمهنية والمجتمعية.

د- تحديد مشكلات المريض في التواصل الاجتماعي.

هـ- التداخل العلاجي في العلاقات الاجتماعية المرضية، كالإسهام في تدبير العزلة الاجتماعية؛ وفي تفادي جعل المريض ضحية للخلافات العائلية؛ وكذلك في توجيه أزواج المدمنين.

و- الدراسة الاجتماعية للحالة: وهي تقنية علاجية يدرب من خلالها الاختصاصي الاجتماعي مريضه على كيفية التعامل مع مشكلاته وربطها مع واقعه الاجتماعي.

ز- تقديم استشارات مباشرة حول مشكلات اجتماعية محددة، مثل المشكلات المالية والعائلية.

ح- المساهمة في متابعة المرضى وفي الوقاية من نكس الاضطرابات النفسية.

2-التقييم المهني:

تتطلب مساعدة المريض على تقديم أفضل ما يمكنه من أداء أن يتم أولاً تقييم نقاط ضعفه ونقاط قوته، ويوفر هذا التقييم خط بدء لأداء المريض تشتق منه أهداف إعادة التأهيل، كما يشكل قياساً موضوعياً للحكم لاحقاً على مدى تحقيق تلك الأهداف. ويتطلب وضع خطة إعادة تأهيل شاملة تقييم كل مما يلي:

أ- المهارات المعرفية: مثل مقدرة الشخص على حل مشكلات الحياة اليومية.

ب- المهارات الحركية: مثل صعوبات الحركة التي تعوق النشاطات اليومية.

ج- مهارات التواصل: مثل المقدرة على التعبير عن الاحتياجات وعن الغضب وعن بقية العواطف.

د- نشاطات العيش اليومي: مثل المقدرة على تنظيم مهام النظافة الشخصية اليومية وإتمامها.

هـ- الراحة: كيفية قضاء أوقات الفراغ.

و- المهارات والعلاقات الاجتماعية: كيفية التفاعل مع الآخرين مثل أفراد العائلة والأصدقاء وزملاء العمل.

ز- المهارات المهنية: مثل المهارات اللازمة لتوظيف ناجح.

ح- الغايات والحوافز ودوافع الشخص الذاتية.

وتُقَرَّر بناءً على هذا التقييم مجموعة متكاملة من الأهداف لبرنامج إعادة التأهيل ترتب على المحاور الثلاثة التالية:

أ- تطوير المهارات والأداء: عن طريق التعليم والممارسة وتعزيز المهارات مثلاً.

ب- تحسين احترام الذات والتعبير عن النفس: عن طريق تدريب المهارات الاجتماعية مثلاً.

ج- تعديل البيئة: باستخدام التداخلات العائلية مثلاً.

فريق إعادة التأهيل:

يتضح مما سبق أن إعادة التأهيل هي مهمة فريق متعدد التخصصات يعمل؛ لكي يسترجع المريض نمط حياة وظيفياً؛ إذ تتطلب المداواة للمساعدة على تخفيف أعراض اضطراب المزاج والتفكير، وتتطلب المراقبة التمريضية لملاحظة تأثيرات الأدوية وللمساعدة على تهدئة المريض، وتتطلب - بعد خمود الأعراض الحادة - خطة لإعادة بناء حياة المريض ولمساعدته على أن يعود منتجاً من جديد. ويتطلب القيام بذلك تعاون كل من:

1-الأطباء الذين يقدمون التشخيص والتداخلات العلاجية النفسية والدوائية المناسبة.

2-الفريق التمريضي النفسي الذي يرصد تناول المريض للدواء وتطور حالته في أثناء وجوده في المستشفى، ويوفر بيئة علاجية في جناح المستشفى، وقد يتابع تقييم حالة المريض ورصده بعد التخريج من المستشفى عن طريق ممرض مُجتمَع زائر.

3-معالجين نفسيين يعملون على فهم تفرد المريض ومشكلاته الخاصة وإحكامه الشخصي، ويقومون بالقياس النفسي وبتقديم التداخلات العلاجية النفسية المتخصصة.

4-باحثين اجتماعيين يساعدون على تخفيف مخاوف العائلة وعلى إعادة استقرار المريض؛ ولاسيما عندما تتطلب تداخلات إضافية مثل المساعدات المادية.

5-معالجين مهنيين يركزون على تحليل الأعمال التي قد يقوم بها المريض، مثل تناسق حركات أصابعه على لوحة مفاتيح الحاسوب أو المهام المعرفية اللازمة لقيادة سيارة، فيحددون ما يحتاج إليه المريض من تأهيل؛ لكي يحقق أعلى مستوى أداء ممكن عند القيام بعمل محدد، ويخططون برنامج التداخل الذي يساعد المريض على تحقيق رغباته الشخصية باستخدام نقاط قوته، ثم يعيدون تقييم تأثير البرنامج في سلوك المريض أو أدائه.

6-عائلة المريض التي لها شأن مهم في إعادة التأهيل بعدة طرائق تراوح بين تبديل موقفها من المرض النفسي؛ وبالتالي تخفيف كرب المريض؛ وبين دعم محاولات المريض لإيجاد دور اجتماعي مفيد.

7-المريض نفسه هو المساهم الأساسي في حدثية إعادة التأهيل، ومشاركته في تخطيط برنامج إعادة التأهيل تحسن مطاوعته والتزامه البرنامج.

أدوات إعادة التأهيل:

تهدف إعادة التأهيل إلى تمكين المريض من القيام بفعاليات هادفة؛ مما يوجب التعرف إلى استخدام المواد والأدوات وتطويعها؛ ومما يوضح دور المعالج وأهمية علاقته بالمريض، وهي علاقة مماثلة للعلاقة العلاجية النفسية، وتوجب على المعالج أن يكون واعياً للديناميات المتأصلة في العلاقة العلاجية النفسية.

يقوم المعالج بتحليل متأنٍّ لعمل ما بغية تعرّف الخطوات (استعراف، تركيز،…إلخ) اللازمة لنجاح تنفيذ ذلك العمل، ثم يوافق بين تلك الخطوات وبين أهداف المريض، والتوافق الجيد بين العمل وبين أهداف المريض هو ما يجعل ذلك العمل علاجياً، وإلا فإنه يبقى مجرد إشغال وقت. ومن الأعمال التي قد تستخدم علاجياً:

1-فعاليات عملية: مثل تخطيط أعمال بنيوية ومتابعتها كأعمال الخشب والجلد والبطاقات وغيرها من الحرف اليدوية، والتجول في المجتمع على نحو يساعد على تطوير الوعي بالمجتمع وبما يقدمه من فرص، ومهام تتعلق بالعيش اليومي (مثل التخطيط للأكل وتنفيذ وجبة طعام، والاعتناء بالنظافة الشخصية، وإصلاح الملابس)، وطرائق تدبير الكرب التي تعلم الشخص المحافظة على صحته النفسية عن طريق الاسترخاء أو اتباع نمط حياة صحي أو غيرها.

2-فعاليات اجتماعية: مثل القيام بأعمال تمنح الشخص فرصة لعرض رؤيته لظرف ما ولمحاولة إيجاد رؤية بديلة لذلك الظرف (وهذه إحدى طرائق تطوير مهارات اجتماعية ملائمة)، وسرد القصص للسماح بمشاركة التجارب مع الآخرين وتحسين المهارات الاجتماعية، وتدريب المهارات الاجتماعية بغية تطوير مقدرة الشخص على التفاعل مع الآخرين وعلى زيادة وعيه بمشاعرهم وبردود أفعالهم.

3-فعاليات إبداعية: مثل الرسم الذي يسمح للشخص بالتعبير عن مشاعره وعواطفه التي لا يمكن التعبير عنها بطرائق أخرى، والأفعال الموجهة بالحركة والموسيقا.

تطبيق برامج إعادة التأهيل:

يمكن تطبيق برامج إعادة التأهيل فردياً أو جماعياً، ويقصد بالتطبيق الفردي أن يعمل المريض بمفرده مع المعالج، ويطبق ذلك للمرضى العسيرين وذوي مستوى الأداء الضعيف، أما إعادة التأهيل الجماعية؛ فتطبق لمرضى لهم أهداف متشابهة، وتفيد على نحو خاص حين يكون الهدف تطوير مهارات العلاقات ومهارات التواصل؛ وحين تكون موارد المريض الشخصية محدودة.

إعادة التأهيل في المستشفى:

تبدأ أولى محاولات إعادة تأهيل المريض في معظم الأحيان منذ لحظة وصول المريض إلى مستشفى طبي نفسي؛ ففي حين يتم توفر استقرار المريض على الأدوية؛ تبذل جهود موازية لتغيير إدراك المريض لما حدث ولكيفية تفاعله معه بغية تخفيف سوء الأداء.

تختلف أهداف إعادة التأهيل في القبول الحاد والوجيز عنها في القبول المزمن والمديد. فالهدف في القبول الحاد لعدة أيام أو أسابيع هو استقرار المريض وعودته إلى بيئته المعتادة بأسرع وقت ممكن، وتبدأ برامج إعادة التأهيل بعد تخفيف الأعراض الحادة عند المريض إلى مستوى يمكنه من التعاون على نحو معقول مع برنامج إعادة التأهيل. أما في القبول المديد لمصابين باضطرابات نفسية مزمنة تتطلب العيش في بيئة مضبوطة لفترة أطول من الوقت أو لا يمكن تدبيرهم في المنزل؛ فتتغير أهداف إعادة التأهيل بحسب احتياجات المريض المتجددة، وقد تشتمل على تطوير مهارات العيش اليومي أو مهارات العمل أو تدبير أوقات الفراغ.

المجتمعات العلاجية:

تُعدّ المستشفيات النفسية أماكن مرعبة لمعظم الناس بسبب طرائق التعامل التقليدية المتبعة فيها والتي تحط من شأن المرضى، فتجعلهم بلا أسماء ولا هوية، وتفقدهم صفتهم البشرية، ويؤدي عدم الانتباه لأهمية شأن العوامل الاجتماعية في الاضطرابات النفسية إلى زيادة توتر المريض واضطرابه وإلى تزايد احتمال حدوث السلوك العنيف، كما يؤدي مع مرور الوقت إلى أن يصبح المريض مذعناً وفاقداً للنشاط ولروح المبادرة؛ ولاسيما إذا كان محروماً من الزيارات ومن النشاطات والبرامج الترفيهية والتعليمية.

لقد تنبهت معظم الدول في القرن العشرين أن هدف القبول في المستشفى لا يجب أن يقتصر على إلزام المرضى بأنظمة إدارية ومعايير سلوكية لم توضع أصلاً لخدمة المريض، كما تبين أن مجرد ترك المريض وحيداً دون إشغاله بأي نشاط يؤدي إلى تدهور وضعه الصحي النفسي، فيؤدي مثلاً إلى اشتداد الهلوسة السمعية في المصابين بالفصام. لذلك فقد أدخلت سياسة الباب المفتوح في معظم المستشفيات النفسية، وأقر بأن المجتمع الذي يحيا فيه المريض يمكن أن يكون له تأثير سلبي أو إيجابي في تطور حالة المريض؛ مما دفع إلى تطوير بيئة الكثير من المستشفيات لجعلها مجتمعات علاجية تحفظ خصوصية المرضى، وتحضرهم للعودة إلى العالم الخارجي. ويقصد بمصطلح "مجتمع علاجي" مقاربة جماعية للاضطرابات النفسية المزمنة تتبنى مبادئ علاج الجماعة والأعمال المهنية ومبادئ المعالجة السلوكية مثل الاقتصاد الرمزي والوقت المستقطع؛ إضافةً إلى التشديد على حرية تبادل الأفكار والتواصل بين الأطباء والممرضين، وتشجيع النقاش بين المرضى ومعالجيهم.

من الواضح أن تطوير بيئة المستشفى النفسي وتحويلها إلى مجتمع علاجي هو أمر شاق يخلق مشكلات واحتياجات إضافية، ويتطلب جهوداً مضنية، ولكن قد يسهل بذل تلك الجهود إذا كانت ستؤدي إلى تخفيف بؤس المرضى وتعاستهم ومنحهم شعوراً بالأمل والحياة والحركة والنشاط؛ فمعظم المرضى النفسيين المزمنين يقضون حياتهم في صمت كئيب، وأي محاولة لتغيير ذلك الواقع هي تداخل علاجي مهم.

إعادة التأهيل خارج المستشفى:

ما زالت خدمات إعادة التأهيل النفسي في معظم الدول العربية معدومةً أو ضعيفة جداً وغير ممولة؛ مما يحمّل عائلة المريض كامل مسؤولية إعادة التأهيل بعد الخروج من المستشفى بسبب عدم توافر خدمات اجتماعية نفسية من نوع المستشفى النهاري day hospital وبيوت منتصف الطريق half-way homes وبيوت الجماعة group homes وورشات العمل المحمية .sheltered workshops يتطلب ذلك تكثيف الجهود لزيادة مقدرة المريض ورغبته بالمساهمة الفعالة في برامج مصممة بحسب احتياجاته، وليس بحسب تشخيص مرضه، وبحسب احتياجات عائلته؛ فلا بدّ من تعاون العائلة وإسهامها في برنامج إعادة التأهيل؛ ولاسيما إذا كان المريض معدوم الدافع. تمنح هذه الملاحظة إعادة التأهيل دوراً تثقيفياً لا يقتصر على عائلات المرضى فحسب، بل يمتد ليشمل المجتمع بكامله؛ فالمواقف الاجتماعية من المرضى النفسيين هي أسباب مهمة للإعاقة الناجمة عن الاضطرابات النفسية، لذلك يجب أن يكون الدفاع عن المريض هدفاً لبرامج إعادة التأهيل. يحتاج المصابون باضطرابات نفسية إلى من يدافع عنهم بغية إعادتهم مواطنين منتجين، وإحدى الطرائق الممكن اتباعها في هذا المجال هي تثقيف المجتمع لتخفيف الوصمة ومواقف التمييز ضد الاضطرابات النفسية باستخدام وسائل الإعلام والملصقات وأنماط أخرى من التثقيف الصحي، وقد يدرب العاملون في الرعاية الصحية الأولية للقيام بعمل مهم في التثقيف وفي رفع وعي الشعب وفي مساعدة المصابين باضطراب نفسي على مساعدة أنفسهم بوسائط متنوعة مثل جماعات المساعدة الذاتية.

توضع لبرامج التأهيل في المنزل أهداف واضحة وواقعية تعلم المريض كيف يكون فرداً بناءً في عائلته، وترشد العائلة إلى كيفية إعادة دمج المريض في تركيبتها، وتوضح التغييرات التي قد تطلب إدخالها على طريقة العيش بغية تمكين المريض وبقية أفراد العائلة من متابعة حياتهم؛ فقد يكلف المريض مثلاً أعمالاً محددة في المنزل تصاغ بشكل قائمة شطب؛ مع الإصرار على أن يقوم بها المريض حتى لو بدا أنه من الأسهل أن يقوم بقية أفراد الأسرة بخدمته، ومع ملاحظة أن إعادة التأهيل هي حدثية دينامية فاعلة تتطور أهدافها بتطور حالة المريض.

تعدّ برامج إعادة التأهيل في الدول التي أحدثت مثل هذه البرامج أن من أهدافها توفير البيئة اللازمة؛ لكي يقدم المريض أداءه المثالي، وقد وُفرت في كثير من تلك الدول بيئات إعادة تأهيل مرحلية تصل بين القبول في المستشفى وبين العودة إلى المنزل، مثل المستشفى النهاري وبيوت منتصف الطريق وورشات العمل المحمية.

يفيد المستشفى النهاري المريض الذي عاد غير محتاج إلى الحدود التي تفرضها المستشفيات، ولكن ما زال بحاجة لبرنامج علاجي يساعده على اكتساب مهارات لازمة للقيام بأعماله اليومية؛ أي المريض الذي أصبح مستقراً؛ ولكن مازالت وظائفه مختلة في البيت وفي المجتمع. وتشتمل المهارات التي يمكن تطويرها أو تحسينها في المستشفى النهاري على التواصل والتفاعل الاجتماعي والمهارات المتعلقة بالعمل. وتستخدم بيوت منتصف الطريق أو بيوت الجماعة للمريض الذي لا يستطيع العيش مع عائلته لأسباب مختلفة، أو الذي لا يمكنه العيش منفرداً من دون دعم، فتوفر له بيئة منزلية بنيوية تمكنه من الأداء من دون بيئة المستشفى؛ ولكن تحت إشراف مستمر على نشاطات العيش اليومي، ويتخذ المريض من بيت منتصف الطريق قاعدةً ينطلق منها للمشاركة في برامج علاج نهارية أو للعمل في ورشات عمل محمية أو في سوق العمل التنافسي. و"لورشات العمل المحمية" عدة مستويات؛ فقد يؤسس بعضها ضمن المستشفيات التي تقدم الرعاية لفترات طويلة من الوقت، فتجذب عقود عمل خاصة من سوق العمل، وتمنح المرضى أجوراً ضئيلة على إنجاز تلك العقود، والغاية من مثل هذا البرنامج إتاحة الفرصة لتعلم مهارات تتعلق بالعمل ضمن المستشفى وممارستها. يمكن تعليم هذه المهارات أيضاً في ورشات عمل محمية تؤهل المرضى للعمل في وظائف دائمة، وتتوضع ضمن مؤسسات تدريبية، أو في دور المسنين وسكن العجزة ومدارس الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة ومؤسسات الإصلاح التي تحتوي على وحدات تتعامل مع الجانحين المصابين باضطرابات نفسية. كما يمكن لأي مؤسسة خدمية أو اقتصادية في المجتمع إدارة ورشات محمية تقدم فرص عمل لأشخاص ذوي إعاقات نوعية محددة، ويُعدّ ذلك نوعاً من إعادة التأهيل مبنياً على مبادئ العلاج المهني (أو العلاج بالعمل). فقد لوحظ منذ سنوات طويلة أن للعمل شأناً في جذب انتباه المريض وفي تخفيف سلوكه المضطرب؛ وأنه من الممكن الاستفادة من العلاج المهني لتهدئة مريض قلق عن طريق تركيز اهتمامه على بعض الأعمال الفنية أو الحرفية؛ ولإحياء المتعة عند مريض مكتئب وقليل النشاط، كما يمكن تكليف مريض مصاب بتلف دماغي مهامَّ تطور إمكاناته المتبقية، وتمنحه شعوراً بالفخر والرضا. وكما في جميع تداخلات الطب النفسي؛ يقوم المعالج المهني أولاً بتقييم قدرات المريض وإمكاناته، ويحدد مهاراته الأصلية التي يجب تطويرها والمهارات الجديدة التي يجب مساعدته على اكتسابها؛ كما يحدد الشروط الواجب توفيرها في بيئة العمل لتمكين المريض من العمل ضمنها. يوضع بعد ذلك برنامج عمل يومي يهدف إلى إعادة تأهيل المريض وتدريبه على التقيّد بالوقت وبالمهام بغية إعداده للعودة إلى بيته ومجتمعه، ولكي يكون العلاج المهني مفيداً؛ يجب أن يكون واقعياً ومتنوعاً وأبعد ما يكون عن الصورة التقليدية المتمثلة بشك الخرز أو بصنع سلال غير مفيدة، فيمكن مثلاً مساعدة ربة المنزل على تطوير بعض مهاراتها عن طريق تزويد قسم العلاج المهني بوحدة للطبخ. ويمكن تعليم المرضى المزمنين مهارات جديدة تزيد من ثقتهم بأنفسهم، ثم توظيفهم في مصانع أو ورشات توفر لهم برنامج عمل يومي ودخلاً مالياً.

سابعاً- العلاج الطبي النفسي في المجتمعات العربية:

صُحِبت صعوبة فهم أسباب الاضطرابات النفسية عبر التاريخ بتعريض المصابين بها لأنواع شتى من التداخلات، وما يزال يُصادف مرضى توصف لهم عقاقير وأعشاب وزيوت وبخور وحجابات وحجامة وعسل يحتوي مواد مجهولة وأوراق يُشرب منقوعها، ويتقبل المرضى مثل هذه الوصفات بحماسة كبيرة، وقد يتحسن بعضهم نتيجة الإيحاء أو تأثير الغفل؛ ولاسيما في بعض الاضطرابات التحويلية، ولكن سرعان ما يخيب أمل معظم هؤلاء المرضى، فيبدؤون بالتساؤل عن مدى جدوى ما وصف لهم. تبين هذه الوقائع أهمية تثقيف المرضى بضرورة توفر براهين علاجية مشتقة من نتائج البحوث العلمية؛ ولاسيما التجارب المعشاة، حتى لتداخلات ما يسمى الطب البديل. فمثلا: الطب الأيورفيدي Ayurvedic medicine  هو طب هندي يستعمل منذ العام 1000 قبل الميلاد لمعالجة الاضطرابات النفسية، ويستخدم تداخلات متنوعة، منها مجموعة أعشاب تسمى Brahmyadiyoga، وقد قورنت فعالية مجموعة الأعشاب هذه في علاج الفصام بفعالية الدواء الغفل في بعض التجارب المعشاة؛ وبفعالية أدوية مضادة للذهان في تجارب أخرى، وتبين مراجعة كوكران منهجية لكل التجارب ذات الصلة أن مجموعة الأعشاب المذكورة هي أكثر فعالية من الدواء الغفل، وأقل فعاليةً من الأدوية المضادة للذهان في معالجة الفصام.

اهتم الأطباء العرب والمسلمون في عصور ماضية بالطب النفسي وبتشخيص بعض الاضطرابات النفسية وعلاجها، ولكن هناك انقطاعاً تاريخياً بين ممارساتهم تلك وبين الطب النفسي المعاصر في المجتمعات العربية. فمعظم ممارسات الطب النفسي الحالية في المجتمعات العربية هي ممارسات منقولة عن مجتمعات أخرى؛ ولاسيما المجتمعات الغربية؛ إذ يتبنى الأطباء النفسيون العرب أنظمة تشخيص أنتجتها ثقافات أخرى رغم عدم التأكد من أن فئاتها التشخيصية تنطبق تماماً على العرب المصابين باضطراب نفسي، وإن كانت هنالك حالياً محاولة جدية لإدخال الثقافة العربية في الطبعة الحادية عشرة من التصنيف العالمي للأمراض، والتي يتوقع صدورها في العامين القادمين. أما بالنسبة إلى العلاج؛ فلم يقم الأطباء العرب بمحاولات مثيلة لتلك التي قام بها أطباء صينيون وهنود مثلاً لفحص فعالية التداخلات الشعبية المستخدمة لعلاج الاضطرابات النفسية في بلادهم، والتي تشمل الأعشاب واليوغا والاسترخاء وغيرها من التداخلات؛ ولم يجرِ حتى الآن تقييم علمي موضوعي للتداخلات الشعبية العربية التي توصف للمصابين باضطرابات نفسية؛ مما يترك المجال مفتوحاً أمام استغلال هؤلاء المرضى لغايات تجارية أو من قبل مشعوذين.

تُبين الإحصائيات العالمية أن ما يقرب من ربع سكان العالم يتعرضون لاضطراب نفسي مرّة واحدة على الأقل في حياتهم، كما تُبين أن الاضطرابات النفسية الكبيرة مثل الفصام واضطراب المزاج ثنائي القطب والاكتئاب الجسيم والوسواس القهري وتوحد الطفولة والخرف - بما فيه داء ألزهايمر- تصيب مجتمعة ما يقرب من عشر سكان الأرض مهما اختلفت أعراقهم وثقافاتهم؛ فمرض الفصام مثلاً هو أسوأ مرض يصيب الجنس البشري؛ بحسب تصنيف منظمة الصحة العالمية، وهو يصيب واحداً بالمئة (1%) من سكان المجتمعات كافة، أي عشرة آلاف شخص من كل مليون نسمة. ويحتاج تقديم الخدمات الصحية لهذا الكم الهائل من البشر إلى مجموعات عمل (كوادر) مهنية متخصصة مؤهلة علمياً (أكاديمياً) ومدربة سريرياً، وتشتمل على أطباء نفسيين وممرضين نفسيين ومعالجين نفسيين واختصاصيّين اجتماعيين واختصاصيّي إعادة تأهيل نفسي، ويتطلب إعداد هذه المجموعات تدريباً نظرياً وعملياً متخصصاً؛ فلا يمكن أبداً أن يتوقع أن يكون طالب طب خبيراً بالجراحة بناءً على رغبته الشخصية ومعلوماته النظرية فقط، بل لا بد له من أن يكتسب المهارات السريرية والخبرة اللازمة على نحو تدريجي، بدايةً من مراقبة التداخلات الجراحية، ثم مساعدة الجراحين، ثم العمل منفرداً تحت إشراف جراح خبير، ثم العمل دون إشراف أحد. لهذا التسلسل الأهمية ذاتها بالنسبة إلى المعالجة النفسية؛ فلا يمكن الاكتفاء بطرائق التعليم والتعلم المدرسية المعتادة في اكتساب مهارات المعالجة النفسية، بل لا بد من التدريب تحت إشراف مدرب خبير، ويخلق ضرورة التدريب تحت الإشراف صعوبة كبيرة؛ لأن المعالجة النفسية حدثية خاصة بالطبيب والمريض، ووجود شخص ثالث معهما - سواء أكان متدرباً أم مشرفاً- يغير على نحو جذري الظرف العلاجي الكلي. ويمكن التغلب على هذه الصعوبة عن طريق استخدام بعض مساعدات التعليم والتعلم، مثل استعمال دارة تلفزيونية مغلقة أو مرآة وحيدة الاتجاه، أو اللجوء إلى تسجيل الجلسة العلاجية تسجيلاً صوتياً أو تلفزيونياً، ولكن تبقى قيمة هذه المساعدات محدودة لأسباب عديدة، مثل التثبيط المفروض بهذه المساعدات على انفتاح الزبون أو المعالج وتلقائيته، والخيار الأفضل هو تصميم برنامج تدريبي يقدم إطاراً نظرياً مرجعياً وتوجيهاً نحو مشكلات المعالجة النفسية وطرائقها، كما يوفر إشرافاً على عدد محدد من الحالات يكفي لاكتساب الخبرة. وطبعاً لا يشترط أن يكون المعالج النفسي طبيباً، بل قد يكون مؤهلاً بشهادة علم النفس السريري ومدرباً تحت الإشراف كما ورد سابقاً.

ما زالت برامج التدريب على المعالجة النفسية غائبةً عن معظم الدول العربية؛ بما فيها سورية، ومع استمرار غياب البرامج التدريبية؛ ما زال الأطباء الراغبون بتعلم المعالجة النفسية يعتمدون على تقبل إحدى نظرياتها ومن ثم استخدامها قاعدة لتطوير طرائق علاجية عقلانية وثابتة المبدأ. ولكن التعلم لا ينتهي هنا، بل إن تلك هي البداية فقط، فهناك خطر الوقوع بمشكلة تقبل مقاربة وحيدة وتطبيق طرائقها على نحو آلي من دون أي تقييم ناقد، مما قد يجعل المعالجة النفسية نوعاً من العقيدة. لذلك يجب دائماً التنبه أنه لا توجد مدرسة منفردة أو مقاربة وحيدة لديها الجواب التام والنهائي، كما يجب اعتماد التعلم المستمر بعقل منفتح وبطريقة موجهة تجريبياً؛ فهناك تجارب معشاة تفحص فعالية جميع أشكال المعالجة النفسية وجدواها، وبهذا الانفتاح فقط يمكن للطبيب المعالج تطوير مقاربته الفريدة في مساعدة أولئك الذين يحتاجون إلى المساعدة. هذا بالنسبة إلى الأطباء النفسيين، أما بالنسبة إلى المعالجين النفسيين من غير الأطباء فالمشكلة أكثر تعقيداً؛ إذ لا يتوافر قسم علم نفس سريري في أي من الجامعات السورية، ومثل سورية في ذلك مثل معظم الدول العربية، ناهيك عن عدم وجود برنامج تدريبي سريري يساعد الخريجين على اكتساب الخبرة والمهارة الضروريتين، بل إن التدريس في أقسام الإرشاد النفسي الموجودة في بعض الجامعات يقتصر على الطرائق المدرسية التقليدية، ويفتقد للتدريب السريري تحت إشراف معالجين خبراء. يضاف إلى ذلك أن مدارس التمريض لا تدرس التمريض النفسي؛ وأنه لا تتوافر برامج تدريبية لخريجي علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية على التعامل مع المصابين باضطرابات نفسية؛ وأن مفهوم إعادة التأهيل النفسي ما زال مفهوماً غريباً نوعاً ما عن المجتمعات العربية على نحو عام.

 هناك تقبل عام في المجتمعات العربية لأهمية المقاربة البيولوجية - النفسية - الاجتماعية التي شاع استعمالها في الغرب، ولكن يندر تطبيق هذه الممارسة عملياً في المجتمعات العربية، بل تعالج الغالبية العظمى من الناس المصابين باضطراب نفسي في المجتمعات العربية بالأدوية، وربما كان الاقتصار على استخدام الأدوية أكثر انتشاراً في البلاد العربية من بقية العالم لأسباب ثقافية ولأسباب أخرى، أهمها ندرة وجود مختصين بطرائق المعالجة الأخرى؛ مما يؤدي إلى أن يكون العلاج الطبي النفسي محصوراً بالأطباء النفسيين على نحو تام تقريباً، ولما كانت معظم العيادات مزدحمة على نحو يمنح الأولوية للتفكير في كيفية إيجاد التداخل الممكن تنفيذه بأقصر فترة زمنية ممكنة؛ وأن معظم العلاجات الأخرى تتطلب احتكاكاً مع المريض مدة أطول من كتابة الوصفة؛ فإن الاعتماد على نحو كلي تقريباً على الأدوية غير مستغرب.

الأدوية ذات التأثير النفسي:

هناك مشكلات ملازمة لاستعمال الأدوية النفسية في البيئة العربية يجب الإقرار بوجودها وتعريفها؛ منها مشكلات عامة مثل تكلفة الدواء وتوافره ومطاوعة المريض بأخذ الدواء، ومنها مشكلات خاصة ببعض الأدوية، مثل الحاجة لمعايرة التركيز المصلي لبعض الأدوية وتكرار تعداد كريات الدم البيض عند العلاج بكلوزابين؛ مما يفرض تكاليف وإزعاجات إضافية أو يدفع للمخاطرة باستخدام الدواء دون اتخاذ الاحتياطات الضرورية.

تكلفة الأدوية النفسية وتوافرها:

ينتمي معظم المواطنين العرب إلى فئة ذوي الدخل المحدود، وتقع نفقات معظم الخدمات الصحية على عاتق المريض؛ مما يجعل العلاج الطبي منافساً لضرورات الحياة الأخرى على الموارد المحدودة. لذلك فكثيراً ما يلجأ المرضى إلى حلول وسط مثل أخذ الدواء في الطور الحاد من المرض بغية التغلب على ازعاج المرض (الذي يشعر به المريض نفسه، أو الناس حوله، أو كلاهما)، ثم الميل إلى التوفير عن طريق خفض جرعة الدواء أو إيقافه نهائياً على نحو مبكر من فور تخلص المريض من معظم أعراض مرضه البدئية. تواجه هذه المشكلة على نحو أوضح عندما توصف أدوية مستوردة مرتفعة الثمن تضاعف تكلفة العلاج على نحو مخيف.

تتوافر في معظم الدول العربية - وفي سورية خاصة - صناعة دوائية توفر جزءاً كبيراً من الحاجة للأدوية النفسية، ويمكن تصنيف الأدوية المنتجة في سورية - مثلاً- في مجموعتين كبيرتين؛ تضم المجموعة الأولى منهما أدوية محمية ببراءة اختراع patent، وتضم المجموعة الثانية أدوية جنيسة generic، وتنتمي معظم الأدوية المنتجة في سورية إلى المجموعة الثانية التي تمتاز بأن أسعارها تقل كثيراً عن أسعار الأدوية المحمية ببراءة اختراع.

يفترض أن للأدوية الجنيسة جرعات الأدوية المحمية المماثلة لها واستطباباتها وفعاليتها، وتأثيراتها الجانبية نفسها وطرائق إعطائها، ولكن ذلك الافتراض لا يمنع كثيراً من الأطباء والمرضى عن التساؤل عن نوعية الأدوية الجنيسة، وما إذا كانت جودتها تعادل فعلاً جودة مثيلاتها من الأدوية المحمية ببراءة اختراع، وما إذا كان انخفاض تكلفتها دليل انخفاض جودتها وفعاليتها.

من المعروف أن انخفاض تكلفة الأدوية الجنيسة يعود على نحو أساسي إلى أن مصنعيها يتجاوزون المصاريف الهائلة التي تنفق على البحث والتطوير والترويج للأدوية المحمية ببراءة اختراع، كما يتجنبون خطر سحب الدواء من الأسواق بسبب ظهور تأثيرات جانبية ومحاذير لم تكن متوقعة؛ فهم يستفيدون من سوق تم فتحه أمامهم من قبل آخرين، ولكن ذلك يجب ألا يعفي مصنعي الأدوية الجنيسة من ضرورة تأكيد جودة منتجاتهم، لذلك فإن دولاً عديدة تشترط أن يكون الدواء الجنيس معادلاً لمثيله المحمي من حيث التكافؤ الحيوي bioequivalency (أي أن يوصل الدواء الجنيس إلى الجسم كمية المادة الفعالة التي يوصلها الدواء المحمي ذاتها) والتوافر الحيوي bioavailability (أي أن يتم امتصاص الدواء الجنيس بسرعة امتصاص الدواء المحمي). ولكن الاقتصار على هذين الشرطين يتجاهل ضرورة توفير برهان سريري يقارن بين الدواء الجنيس والدواء المحمي، فهو يتجاهل أن الأدوية الجنيسة قد يكون شكلها ولونها وطعمها مختلفاً، فيثير القلق عند المريض؛ وأن سواغها أيضاً قد يختلف على نحو يؤثر في فعالية الدواء، أو يسبب آثاراً جانبية أو تداخلاً مع أدوية أخرى يتناولها المريض. يضاف إلى ذلك أن لدى الكثير من المواطنين مخاوف تتضمن أن الأدوية الجنيسة أقل فعاليةً من الأدوية المحمية؛ لذلك يجب تناولها بجرعات أعلى ولوقت أطول، وأنها أقل أماناً وأكثر إحداثاً للتأثيرات الجانبية؛ وأنها تصنع في منشآت غير مثالية. لذلك فإن الاتجاه العالمي السائد حالياً هو تشديد شروط ترخيص الأدوية الجنيسة؛ لتشمل تقديم براهين علاجية مشتقة من تجارب معشاة تقارن بينها وبين مثيلاتها المحمية. يمثل هذا الاتجاه فرصةً كبيرةً أمام الصناعة الدوائية السورية؛ إذ يفتح أمامها أسواقاً عالمية - حتى في الدول المتقدمة - إذا دعمت منتجاتها ببراهين علاجية تؤكد جودة منتجاتها وفعاليتها. ولكن - وللأسف - ما زالت الصناعة الدوائية السورية تدار بعقلية تجارية لا تدرك أهمية البحث العلمي، ولا تسمح بتمويل دراسات التكافؤ الحيوي والتوافر الحيوي والتجارب المعشاة. يرافق ذلك عملياً استمرار انخفاض الثقة بالدواء المحلي واستمرار لجوء كثير من الأطباء والمرضى لأدوية مستوردة، أو حتى مهربة - وأحياناً مزورة - مرتفعة التكاليف، واستمرار توافرها غير مضمون، في حين أن استمرارية توافر الدواء هي شرط أساسي في معالجة اضطرابات مزمنة مثل بعض الاضطرابات النفسية.

المعالجات النفسية:

يقوم بعض المعالجين النفسيين الخبراء - والذين تدربوا وتخرجوا في جامعات أجنبية مرموقة - بتقديم خدمات معالجة نفسية مبعثرة بسبب عدم وجود أنظمة تنظم عملهم، وتمنحهم ترخيص مزاولة المهنة اللازم في معظم الدول العربية. هناك محاولات متعددة لتصحيح هذا الوضع غير الطبيعي ولتطوير المعالجة النفسية في المجتمعات العربية، ومن الضروري أن تركز تلك المحاولات على تبني المعالجات النفسية التي أثبتت التجارب المعشاة فعاليتها وجدواها والتي تناسب ثقافة المجتمعات العربية.

المعالجات التحليلية النفسية:

يبدو أن المعالجات التحليلية النفسية غير مناسبة للمجتمعات العربية لأسباب عدة، فقد أخفق العديد من الدراسات المجراة في أوربا وشماليّ أمريكا في إظهار فائدة واضحة للمعالجات التحليلية النفسية في أي اضطراب نفسي محدد؛ إضافةً إلى وجود عدة أسباب تجعل من تطبيق المعالجة التحليلية النفسية التقليدية أمراً صعباً في المجتمعات العربية. أولاً- تحتاج المعالجة النفسية التحليلية إلى عدة سنوات من التدريب المكثف، ومن المعالجة الشخصية للمتدرب؛ ليصبح مؤهلاً لممارسة التحليل النفسي، ومثل هذه البرامج التدريبية غير متوافرة في معظم البلاد العربية، ثانياً- يعمل هذا النمط من العلاج النفسي بمعايير قاسية لانتقاء الزبائن؛ مما يحد من إمكانية تطبيقه، ثالثاً- تحد الثقافة المحلية من ملاءمة التحليل النفسي للبيئة العربية؛ فقد اشتقت الأسس النظرية للتحليل النفسي ومحدداتها الثقافية من أوربا القرن التاسع عشر، ولا يمكن عدّ صياغتها للتطور البشري وللغة الرموز والتعابير المجازية أمراً كونياً ينطبق على جميع المجتمعات. ففي ثقافة المجتمعات العربية اعتقاد شائع أن أسباب كل المشكلات والمتاعب تقريباً يقع "خارج" شخصية الفرد، لذلك فنادراً ما يتوافر دافع كافٍ لاستكشاف النفس وتشريحها عند فرد يعتقد أن سلوكه واضطرابه النفسي هو من عمل الجن أو السحر.

يضاف إلى ذلك أن طول مدة هذه المعالجة وصعوبتها وارتفاع تكاليفها يضعف من احتمال تحقيقها لاحتياجات معظم الناس في المجتمعات العربية؛ فمن غير المتوقع أن يختار الأطباء النفسيون والمعالجون النفسيون وغيرهم من العاملين في مجال الصحة النفسية هذه الطريقة في ممارستهم اليومية بسبب ندرة توافر هؤلاء المختصين في معظم الدول العربية.

ورغم توافر البراهين التي توحي أن المعالجات التحليلية النفسية البديلة قد تكون أكثر فعالية من التحليل النفسي في علاج بعض الاضطرابات النفسية؛ فإن إمكانية تطبيقها في المجتمعات العربية تبقى ضعيفة بسبب صعوبة تأقلم ثقافة المرضى مع مفاهيم التعبير غير اللفظي ودور التجارب المتنوعة في زيادة الوعي وفي استكشاف خيارات متنوعة؛ ولاسيما عند العمل مع المراهقين والشباب، كما يصعب تفهم بعض المفاهيم الأساسية التي لها شأن في كل الاحتكاكات السريرية بين مقدمي الرعاية الصحية ومرضاهم والمتعلقة بعلاقة الزبون-المعالج، مثل الإنقال.

المعالجة النفسية السلوكية:

تفترض السلوكية أن السلوك مُتعلَّم، وتهدف المعالجة السلوكية إلى تعديل التعلم أو إبطاله، لذلك فهي تركز على الوقت الحاضر وعلى السلوك الحالي، وتقارب السلوك مقاربةً شديدة النوعية مبنية على مبادئ التعلم المكتشفة تجريبياً من أجل تغيير السلوك غير المتأقلم. يعدل السلوك غير المتأقلم بوسائل مباشرة، وتشدّد المعالجة السلوكية على التغيير البيئي؛ وليس على تغيير عوامل شخصية ضمن الفرد، ويتم اختيار طرائق المعالجة السلوكية اعتماداً على تقييم سلوكي؛ وليس على افتراضات تشخيصية حول السلوك المضطرب. وتتميز برامج العلاج والتداخلات المبنية على السلوكية بأنها ليست مستهلكة للوقت؛ لأن التغير السلوكي يظهر سريعاً؛ وأنه من السهل رصد حاصل المعالجة؛ لأن التقييم المستمر هو شرط متأصل في التحليل السلوكي.

تطبق المقاربة السلوكية في ثقافات متنوعة؛ لأن مبادئ التعلم كونية، ويُسَهِّل فهم كيفية عمل السلوك والخواص  التفصيلية للتنبيه وللمعززات وضعَ خطط علاجية تناسب مرضى من مختلف الثقافات والمستويات التعليمية. يضاف إلى ذلك أن المعالج السلوكي هو من يتخذ القرار بخصوص التغيير السلوكي الذي يرغب بإحداثه، وهو الذي يطبق بمهارة إجراءات نوعية لإحداثه، ويمكن تشبيه ذلك بالمقاربة التي يستخدمها المعالجون الشعبيون؛ لذلك فإن المعالجة السلوكية قد تكون تجربة مألوفة للناس في المجتمعات العربية. يؤخذ على المعالجة السلوكية أنها تبسيطية وميكانيكية، وتهمل الحدثيات المعرفية، وتعجز أحياناً عن المحافظة على سلوك أُسِّسَ حديثاً؛ فاستبدال الأعراض أمر شائع؛ إذ قد تعاود الأعراض الظهور على نحو مختلف بعد انتهاء المعالجة. ولكن يبقى التركيز على تطوير المعالجة السلوكية في المجتمعات العربية أمراً مناسباً ومرغوباً للأسباب المذكورة آنفاً؛ ولأن التجارب المعشاة تقدم براهين قوية على فعالية المعالجة السلوكية في كثير من الاضطرابات النفسية.

المعالجة المعرفية السلوكية:

يجب الحذر عند إضافة المكون المعرفي إلى المعالجة السلوكية في المجتمعات العربية، فقد يؤدي تعديل الأفكار إلى تعريض الزبون للخطر. فمثلاً: يمكن عدّ اعتقاد الشخص أنه تحت تأثير قوى خارجية (مثل الجن أو السحر) طريقة للقوب أو آلية دفاع نفسي مشتقة من الثقافة المحلية، وقد يؤدي تغيير هذه البنية المعرفية إلى زيادة اضطراب المريض.

هناك براهين قوية على فعالية المعالجة السلوكية المعرفية في تدبير الكثير من الاضطرابات النفسية، لذلك فإنه من غير المنطقي أن يحرم المرضى في المجتمعات العربية من فوائدها، ويمكن عند تطبيق الخطط (الاستراتيجيات) المعرفية السلوكية في هذه المجتمعات التركيز على نحو أساسي في البداية على المكون التعليمي؛ لأنه يقدم للزبون تفسيراً بديلاً وفهماً مختلفاً لمشكلاته، ويمكن لهذا الفهم أن يسهل توظيف الاستراتيجيات العلاجية المعرفية فيما بعد.

المعالجة العائلية:

بنيت المعالجة العائلية أساساً على مفهوم تفاعلي يقول: إن أفراد العائلة يؤثر بعضهم في مشاعر بعض وأفكاره وسلوكه؛ أي إن الأعراض والاضطرابات النفسية ليست ملكية حصرية لفرد يقال إنه مريض، بل هي نتيجة خلل في وظيفة العائلة بكاملها، وتبدو المعالجة العائلية قيّمة لعدة أسباب؛ فهي اقتصادية لأنها تقدم علاجاً لعدة أفراد في الوقت نفسه، وقد تكون سريعة وفعالة، وتتأقلم مع ظروف العائلة، وقد يكون لها قيمة إضافية في المجتمع العربي حيث يمر الكثير من العائلات بمرحلة انتقالية من نمط التقاليد الريفية إلى نمط العائلة النووية nuclear family الحضرية، وقد تواجه "العائلة الانتقالية" خلال حدثية الانتقال من طراز العائلة الممتدة إلى طراز العائلة النووية صعوبات في القوب مع الأدوار والقيم والقوانين الجديدة التي تؤثر في العلاقات والتفاعل بين أفرادها؛ وفي العلاقات والتفاعل بين العائلة بوصفها وحدة متكاملة وبين بقية العالم. تسهل مساعدة كل العائلة على التأقلم مهمة نمو كل فرد من أفرادها وتطوره، والقيمة المهمة للمعالجة العائلية في المجتمع العربي هي إمكان تطبيقها لحل الصراعات بين الأجيال أو للوقاية منها؛ ولاسيما الصراعات المشاهدة بين المراهقين والشباب من جهة وبين أهاليهم من جهة ثانية؛ إذ يتعرض المراهقون والشباب لتأثيرات متناقضة تفرض عليهم في كل من البيت والمجتمع والمدرسة أو مكان العمل؛ مما يفتح مجالاً واسعاً  للصراع بينهم وبين أهاليهم، ويمكن للمعالجة العائلية تسهيل حدثية التَّفَرُّد (الافتراد) individuation والانفصال separation وتحمل المراهق والشاب لمسؤولية حياته الشخصية، كما يمكنها دعم استقرار العائلة وتكاملها عن طريق الإقرار بوجود التناقضات واحترامها.

تطوير العلاج الطبي النفسي في المجتمعات العربية:

هناك تفاوت صارخ في مجال الرعاية الصحية النفسية بين الاحتياجات وبين الإمكانات والخدمات المتوافرة في معظم الدول العربية، ويتطلب ردم هذه الفجوة تجميع الإمكانات المبعثرة المتوافرة في مركز تدريبي يخرّج مختصين، ويُعدّ نواة لتوسيع خدمات الصحة النفسية، وفي ذلك استفادة من خبرات الدول التي أحدثت خدمات صحية نفسية نوعية. يتم التعليم الأكاديمي والتدريب السريري لمجموعات الصحة النفسية في تلك الدول عادةً في معاهد للطب النفسي؛ فقد تنبهت الدول الكبرى للتحدي الخطير الذي تشكله الاضطرابات النفسية في زمن مبكر، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية سباقة في تأسيس أول معهد وطني للطب النفسي عام 1949 بهدف إجراء بحوث علمية تفيد في حل المشكلات النفسية - الاجتماعية، وقد أدت تلك البحوث إلى زيادة فهم العقل والدماغ والسلوك؛ وإلى ثورة في التشخيص والعلاج والوقاية من الاضطرابات النفسية؛ وإلى تأسيس معاهد للطب النفسي في دول أخرى مثل بريطانيا وكندا والهند والصين وباكستان.

 

الباكستان

سورية

الاستقلال

1947

1947

اعتقاد بأن للأمراض النفسية علاقة بالسحر والدين

نعم

نعم

علاجات يقوم بها مداوون بالرُّقَى ودجالون

نعم

نعم

المستشفيات النفسية عند الاستقلال

3

2

معهد الطب النفسي

نعم (روالبندي عام 1986)

كلا

عدد كليات الطب في الجامعات

18

6

وحدات للطب النفسي متعددة الاختصاصات في كليات الطب

نعم (18)

كلا

تبني مفهوم الفريق متعدد الاختصاصات

نعم

كلا

تدريب الإداريين من وزارات الصحة والدفاع والتربية في مجال الصحة النفسية

نعم

كلا

التمريض النفسي اختصاص مستقل

نعم

كلا

تدريب سريري لخريجي علم النفس السريري

نعم

كلا

تدريب نفسي سريري لخريجي علم الاجتماع

نعم

كلا

دراسات عليا في اختصاصات الطب النفسي الفرعية

نعم

كلا

تقييم المعارف والمواقف والخرافات المتعلقة بالمرض النفسي

نعم

كلا

إعداد نماذج للرعاية تناسب وتلبِّي الاحتياجات المحلية

نعم

كلا

استخدام طرائق مبتكرة لتحفيز المجتمع، كمخاطبة التجمُّعات الدينية، وإنشاء لجان مجتمعية للصحة النفسية

نعم

كلا

توعية المعالجين بالرُّقَية الشرعية

نعم

كلا

(الجدول رقم 6) الخدمات الطبية النفسية في سورية وفي الباكستان.

 

تشتمل معاهد الطب النفسي على مخابر للعلوم العصبية والنفسية الأساسية وعلى شعب سريرية، ويتم فيها تعليم العلوم الأساسية والتدريب على العلوم السريرية تحت إشراف فردي مباشر، ويهدف هذا التعليم والتدريب إلى تخفيف عبء الاضطرابات النفسية عن طريق:

1-تكامل العلوم العصبية مع العلوم السلوكية لفهم الاضطرابات النفسية.

2-تحديد الأسباب الجينية والبيئية للاضطرابات النفسية.

3-تطوير اختبارات تشخيصية صالحة وموثوقة للاستخدام في المجتمع المحلي.

4-تطوير علاجات أكثر فعاليةً وأماناً بالنسبة إلى المواطنين المحليين.

5-المساهمة في نشر الوعي المجتمعي بالأمراض النفسية وطرائق علاجها.

لتأسيس معهد للطب النفسي فوائد إضافية يمكن تلخيصها بمقارنة بين دولتين تتشابهان بمعتقداتهما الثقافية تم في إحداهما (باكستان) تأسيس معهد للطب النفسي، ولم يُؤسَّس في الثانية (سورية) مثل ذلك المعهد، مع مقارنة الوضع الراهن للخدمات الصحية النفسية في كل منهما (الجدول 6).

يُمكن البدء بتطوير الطب النفسي في المجتمعات العربية عن طريق إنشاء "معهد وطني للطب النفسي" يشرف عليه أطباء نفسيون مؤهلون وأساتذة في علم النفس وفي علم الاجتماع بهدف تقديم التدريب السريري لكل المهنيين اللازمين لتشكيل فرق نفسية متعددة الاختصاصات، مثل طلاب الطب وأطباء الدراسات العليا، وطلاب مدارس التمريض والمعاهد الصحية، وطلاب الإرشاد النفسي وعلم النفس السريري، والمرشدين الاجتماعيين النفسيين. يقوم هذا المعهد أيضاً بتدريب الأطباء على اختصاصات الطب النفسي الفرعية مثل الطب النفسي للأطفال أو للبالغين أو للشيوخ أو لمعالجة الإدمان وغيره، كما يقوم بتدريب المعالجين النفسيين للتخصص بأحد أنواع العلاج النفسي مثل العلاج التحليلي أو السلوكي أو المعرفي.

يقوم المعهد المقترح أيضاً بإدخال مفهوم فريق العلاج النفسي متعدد الاختصاصات، وبتدريب جميع (كوادر) الطب النفسي على العمل ضمن فريق علاجي نفسي متعدد الاختصاصات؛ إذ لم يلقَ مثل هذا التدريب الاهتمام اللازم بعد في سورية وفي معظم الدول العربية الأخرى؛ رغم الحاجة الماسة إليه ورغم شيوع الاضطرابات النفسية التي تتطلب خدمات نوعية. كما يقوم هذا المعهد بتشجيع البحث العلمي السريري والميداني وبتطوير أدوات بحث علمي وطرائق علاج مناسبة للمجتمعات العربية، ومن الواضح أن الوصول إلى هذه الغايات يحتاج إلى تعاون جهات عديدة، ويستغرق وقتاً طويلاً.

 

   

 

 


التصنيف : الأمراض النفسية
النوع : الأمراض النفسية
المجلد: المجلد العاشر
رقم الصفحة ضمن المجلد : 197
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 1047
الكل : 58491252
اليوم : 63766