logo

logo

logo

logo

logo

أمور قانونية وأخلاقية في الطب النفسي

امور قانونيه واخلاقيه في طب نفسي

legal and ethical issues in psychiatry - questions légaux et éthiques en psychiatrie



أمور قانونية وأخلاقية في الطب النفسي

 

عبد المسيح خلف

القضايا الأخلاقية والقانونية من الزاوية الشخصية والطبية الإدارية
القضايا الأخلاقية والقانونية من الزاوية المدنية
القضايا الأخلاقية والقانونية من الزاوية الجرمية الجزائية
   

شعرت الإنسانية منذ زمن بعيد بإحساس عميق وغامض تجاه "الجنون" وكأنه شرٌّ فريد؛ شيء غريب بطبيعته وخطورته خلق ارتكاساً بدئياً وأولياً من الخوف في المجتمعات كافة. وقد تبين لعامة الناس - بالحس السليم - أن "الجنون" يجعل الفرد مختلفاً عن الآخرين؛ لأنه قد يؤذي غيره أو يؤذي ذاته أو يؤذيهما معاً، وقد يجعل المصاب به عرضة ليستغل شخصه أو تستغل ممتلكاته، وكان الاستنتاج المنطقي والأخلاقي لهذا الحس السليم هو التالي: كما أن للمجتمع الحق في حماية ذاته من المصاب بهذا الاضطراب؛ فإن من واجبه أيضاً - وفي الوقت ذاته - الدفاع عنه وحمايته من نفسه ومن الآخرين. كل ما سبق يشير إلى أن تداول مفردة "الجنون" كان سابقاً لأي طب عقلي، وعبّر أولاً عن رأي عام وروح قضائية قبل أن يعبّر عن رأي علمي وروح طبية، والقراءة المتأنية للفكر الإسلامي تبرز أن "الجنون" لم يعد أبداً خطيئة أو تلبساً شيطانياً كما كان سائداً طوال العصور الوسطى في أفكار الغرب؛ وما هو إلا مرض؛ وهذا المفهوم يدعو إلى التسامح في التعامل مع المصاب بنقص في عقله؛ وبالتالي يصبح غير مسؤول (يحكم الشرع بأنه غير مكلّف)، وقد أمر القرآن الكريم بحماية الضعفاء وبتأسيس القوامة المفروضة على غير القادرين، وكذلك حذر المؤمنين - وفي مناسبات عدَّة - من إصدار حكم متسرع وخاطئ عن "الجنون".

وفي عصر النهضة في أوربا، ومع ظهور أنظمة اجتماعية تعترف بحقوق الإنسان؛ أخذت الظاهرة العقلية المرضية تتطور وتغتني في أبعادها الطبية والأخلاقية والاجتماعية؛ الأمر الذي قاد إلى بحث العلاقة بين المرض العقلي ومعطية المسؤولية وحقوق كل من الفرد والمجتمع، وأدى ذلك إلى ظهور المرض العقلي بوصفه غرضاً لعلم خاص واعتراف بأن هذا الاضطراب ينقص حرية الإنسان؛ وبالتالي مسؤوليته، وكان ذلك في القرن السادس عشر. ومع تطور مفهوم الدفاع  الاجتماعي في العلوم الجزائية والتشريعات القانونية؛ قامت دول عديدة تدريجياً بوضع نصوص قانونية ضابطة لمسؤولية المريض العقلي الجزائية، وكذلك لأهليته المدنية وقواعد الاستشفاء والمعالجة القسرية (من دون موافقة المريض)، كما سُنَّت قوانين ونظم ضابطة لصرف الأدوية المؤثرة عقلياً، وشروط معالجة مدمني المخدرات وأصول رعاية القاصرين المرضى والأحداث الجانحين؛ بما يتفق مع ثقافة المجتمع وقيمه وأخلاقياته.

ومع التقدم العلمي في النصف الثاني من القرن الماضي بدأ الطب النفسي يأخذ مكانة متصاعدة في آلية عمل كل المجتمعات؛ إذ لوحظ تزايد دعوة الأطباء النفسيين والباحثين النفسيين إلى مختلف المؤسسات الصحية، والإدارية، والتربوية والقضائية لشرح - وأحياناً المشاركة - في حل مشاكل من مختلف الأنواع في قضايا حيوية تتعلق بحقوق الإنسان وحريته من جهة، وحقوق المجتمع الذي يعيش فيه وسلامته العامة من جهة أخرى، وأضحى الطب النفسي- الشرعي اختصاصاً فرعياً من الطب النفسي قائماً بذاته في عدد من الدول، وغرضه تطبيق المعارف الطبية النفسية على مسائل قضائية وإدارية تطرحها سلوكيات بعض المرضى العقليين ودرجة تأثيرها في النظام العام ومخالفتها للقانون.

تُلزم العلاقة الوثيقة بين الطب النفسي والعلوم الإنسانية الطبيبَ النفسي الخروج من حدوده الطبية الخالصة؛ ليأخذ بالحسبان المصلحة العامة للمجتمع من دون التخلي عن معالجة منحرفيه ولمصلحتهم أيضاً، ويجعله هذا الموقع هدفاً للانتقاد حول أسس معارفه وشرعية أفعاله من زاوية أخلاقية؛ فلا عجب إذاً أن يجد الطبيب النفسي نفسه بتماس المحاكم والمحامين والمؤسسات الإدارية والقضائية. لقد تصاعدت القيمة الأخلاقية لفردية الإنسان، وتعاظمت أهمية استقلاليته الذاتية وحريته على نحو جوهري في العالم الحالي، وأصبحت تُعدّ عاملاً أكثر أهميةً بالنسبة إلى الطب النفسي من المسائل المطروحة بتقدم العلوم الطبية في مجالات أخرى مثل مواضيع الخلايا الجذعية ونقل الأعضاء وزرعها. ونظراً لوجود تباين في تطور التشريعات المعمول بها وتفسيراتها التطبيقية التي قد تختلف بحسب المكان والزمان؛ فإنه من المهم جداً للطبيب النفسي والممارس العام أن يكون على بيّنةٍ ومعرفة بالقوانين والنظم المتعلقة بعمله وفي منطقة ممارسته لمهنته.

القضايا المطروحة عديدة ومتنوعة، لكن تجمعها كلها:

أولاً- مسألة المعالجة والاستشفاء القسري.

ثانياً- قضية تقييم الأهلية المدنية والحاجة إلى تعيين قيّم شرعي.

ثالثاً- مسألة تقييم المسؤولية الجزائية.

رابعاً- مشكلة قياس الخطورة.

وهي جميعها تمس حرية الشخص وسلامة المجتمع. ويمكن مقاربة دراسة أهم القضايا الأخلاقية  ethical والشرعية  forensic  في الطب النفسي من ثلاث زوايا: الزاوية الشخصية والطبية الإدارية، وزاوية القضايا المدنية، وزاوية القضايا الجزائية.

أولاً- القضايا الأخلاقية والقانونية من الزاوية الشخصية والطبية الإدارية:

1-الثقة التي يوليها المريض للطبيب وسرّ المهنة:

العلاقة بين الطبيب والمريض من الأمور الجوهرية في اختصاصات الطب كافة، وتحتل هذه العلاقة وضعاً مميزاً وفريداً في الطب النفسي؛ فالمقابلة التي تتم بين المريض والطبيب النفسي هي أكثر من مجرد محادثة حوارية بهدف استقصاء معلومات ترشد إلى التشخيص؛ لأنها تزخر بشحنات عالية من المشاعر، وحين يشعر المريض أن لدى طبيبه رغبةً صادقة في تفهم مشكلته ومساعدته؛ فإن ذلك يزرع دعائم الثقة به مما يشجعه على أن يتحدث بصراحة ويبوح إليه حتى عن أدق تفاصيل مشكلاته الشخصية؛ أما إذا لم يشعر بالارتياح إلى طبيبه، وشعر بأن هذا الأخير غير متفهم لمعاناته أو أبدى موقفاً ناقداً له ولتصرفاته؛ فإن ذلك قد يجعله يُحجم عن الإفصاح عمّا في نفسه، ويهرب في حديثه إلى العموميات السطحية. هذا ما يفسر امتناع بعض المرضى عن التعبير عن بعض أمورهم الخاصة في المقابلة الأولى مع الطبيب، فلا يفصحون عنها إلا في الجلسات التالية بعد أن يكون المريض قد اختبر موقف الطبيب، وأودعه ثقته. ونتيجة لهذه الثقة التي بُنيت عليها العلاقة العلاجية يقع على عاتق الطبيب تبعات أدبية؛ فالمعلومات التي جناها الطبيب بوساطة العلاقة العلاجية ينبغي أن تبقى سراً وألا تستخدم إلا بغرض تحسين صحة المريض النفسية؛ والحفاظ على هذه السرية   confidentiality هو أحد أهم واجبات الطبيب النفسي تجاه مرضاه، وتتعاظم قيمة هذه القضية بسبب ما يرتبط بالاضطراب النفسي من "وصمة" stigma تلتصق بالمريض بوصفه فرداً، وقد تتجاوزه في بعض المجتمعات؛ لتمس عائلته أيضاً، لذلك يجب على الطبيب أن يوضح للمريض أن كل المعلومات التي يدلي بها ستبقى سرية تامة. ومن الناحية المبدئية على الطبيب أن يطلب موافقة consent المريض إذا أراد أن يتحدث عن مشكلته إلى أي شخص آخر يكون موضع ثقته ، سواء أكان من أقاربه أم أصدقائه أم المهنيين الصحيين الذين يريد الطبيب أن يشاركهم في رعاية مريضه.

ويصعب أحياناً التوفيق بين سرّ المهنة وبين المصلحة العامة، ويجوز للطبيب النفسي أن يتخطى هذه السرية في الحالات التالية:

أ- في حالة الدفاع عن نفسه: للطبيب الحق بإفشاء السر المهني أمام المحاكم في قضية توجه إليه فيها اتهامات.

ب- إذا كان هناك احتمال حدوث ضرر جسدي أو نفسي للمريض أو لشخص ثالث؛ إذا استمرت هذه السرية: كأن يعلم الطبيب النفسي - في أثناء معالجته مريضاً ما - أن لدى هذا الأخير عدوانية تجاه شخص ثالث وأنه يترصد المناسبة؛ ليرتكب جريمة خطرة. في مثل هذا الموقف تقع على عاتق الطبيب مسؤولية قانونية تلزمه كسر السرية لحماية الطرف الثالث، وعليه في هذه الحالة أن يُقدم حق المجتمع في الحماية على الضرورات الأخرى؛ وهذا ما يعرف في التشريع القضائي في بعض الولايات المتحدة الأمريكية بقانون تاراسوف  .Tarasoff rule وينص التشريع السوري على أنه يمكن للطبيب إفشاء معلومات "المقصود بها ارتكاب جناية أو جنحة" (المادة 65 بينات)، كما نصت المادة /26/ أصول جزائية على وجوب إخبار النيابة العامة بوجود اعتداء على حياة أحد الناس أو ماله. في الممارسة السريرية على الطبيب النفسي في مثل هذه الظروف أن ينصح المريض ويحاوره قدر الإمكان حول طبيعة الإجراء الذي سيقوم به، فإذا اعتقد الطبيب أن خطر ارتكاب الجريمة عند المريض خطر داهم؛ فأفضل ما يمكن إجراؤه السعي إلى قبول المريض في المستشفى، أما إذا كان العنف هو مجرد احتمال كامن، ولكنه ليس وشيك الوقوع؛ فإن أفضل إجراء هو تحذير الضحية المستهدفة بعد مناقشة الأمر مع المريض، أو إعلام جهة قانونية؛ لتتكفل بذلك. وإذا كان إفشاء السر المهني - من دون موافقة المريض - هو تصرفاً مربكاً اجتماعياً، ويُعدّ صدمة وقطيعة في صدقية العلاقة العلاجية التي قد تستغرق من الطبيب النفسي وقتاً طويلاً لترميمها؛ فإن بعض المرضى ربما يشعرون بالراحة وبالتأثير الرادع لهذا الإجراء، وينثنون عن تنفيذ تهديداتهم بعد علمهم أن الضحية المقصودة قد تم تحذيرها.

ج- الشهادة أمام القضاء: يحق للمريض صاحب السرّ أن يطلب من الطبيب أن يفشي سرّه أمام القضاء (المادة 66 قانون البينات السّوريّ). كما يحق للمريض أن يطلب تقريراً يتضمن المعلومات التي أسرَّها للطبيب، وعلى هذا الأخير أن يوثِّق أن التقرير أُعطي للمريض شخصياً وبناءً على طلبه؛ إذا كان ذا إرادة حرّة وإدراك سليم، أما إذا كان ناقص الأهلية أو عديمها؛ فلا بدَّ من صدور الإذن بإفشاء السر من وليه.

د- إذا اقتضت ضرورات المعالجة والعمل الطبي ذلك:

(1)- يجوز إفشاء سر المهنة للوصي أو الولي فيما يتعلق بالمريض القاصر أو غير المدرك.

(2)- لذوي المريض إذا كان في ذلك فائدة في المعالجة، وكانت حالة المريض النفسية لا تساعده على إدراك ذلك.

في حالة تقديم خبرة طبية قضائية بناءً على طلب خطي من قبل القضاء يسمح للطبيب أن يذكر السوابق المرضية للشخص المفحوص والتي تتعلق بغرض الخبرة.

(3)- في حالات محددة تنظمها تشريعات خاصة يمكن تجاوز السر المهني بعد أن يتنازل المريض خطياً عن حق السرية:

(4)- في بعض الحالات المرضية التي تستدعي العلاج النفسي الجماعي.

(5)- إذا كان هناك طرف آخر يدفع الأجور العلاجية والأتعاب الطبية؛ مع توخّي الحذر في التعامل مع التطورات الحديثة وأتمتة الولوج إلى الملفات الطبية من قبل مؤسسات التأمين الصحي، والسعي لإبقاء المعلومات في دائرة الأطباء.

(6)- في أغراض البحوث العلمية: المرضى النفسيون معرضون على نحو خاص ليكونوا موضوعاً للبحوث، وهو ما يوجب اتخاذ التدابير اللازمة لحماية تفردهم واستقلالهم وإنسانيتهم والتأكد من تعذر الاستدلال على هويتهم الشخصية. والبحث العلمي الذي لا يتم وفقاً للقواعد العلمية هو عمل غير أخلاقي، ولهذا السبب يجب أن يكون البحث العلمي معتمداً من لجنة مؤسساتية مناسبة ونزيهة تحكم على الأبعاد الأخلاقية للبحوث.

2- إعلام المريض عن وضعه والحصول على رضاه وموافقته على المعالجات:

يتمثل أحد أهم أوجه التطور الحديث في الطب النفسي في جعل المريض شريكاً في العملية العلاجية، وتركه قدر المستطاع يتخذ قرارات حرّة بناءً على معلومات صحيحة. يُقدم الطبيب النفسي- من الناحية الشكلية، وفي لقائه مع المريض - خدمات بحسب قواعد أخلاقية ومعايير تقنية، لكنه - من الناحية الموضوعية - يقوم بعملية شرح الحالة المرضية، ويُحرِّض المريض على أن يفهم ذاته وأن تتضح لديه أبعاد الاضطراب الذي يعانيه. لذلك يجب على الطبيب النفسي أن يتابع على الدوام التطور العلمي ونقل المعلومات الحديثة، وأن يستخدم مختلف المستويات المعرفية في توجيه العلاقة العلاجية على أرض الواقع وفي الممارسة السريرية اليومية للأسباب التالية:

أ- إن لدى الرأي العام صورة سيئة عن الاضطراب النفسي، ويزيد في تغذية هذه الصورة الخوف من الاضطراب ومسألة تدخل الوراثة في إحداثه؛ ويفرض هذا على الطبيب حرصاً أخلاقياً تجاه المريض وعائلته، ويُلزمه التعامل بدقة وبحذر عند قيامه بإعلام المريض أو أهله عن دور العوامل الوراثية في إحداث المرض؛ مع إيضاح أن المعارف الوراثية لم تصل بعد إلى الموثوقية العلمية الصريحة في الطب النفسي.

قد يحمل إعلام المريض بمرضه أحياناً بعض الخطورة، وعندها يتوجه الطبيب إلى إعلام أحد أفراد أسرته، وفي جميع الأحوال يجب التحفظ ما أمكن في تسمية المرض بالعناوين الدامغة للتشخيصات - ولا يعني هذا أن تُخفى عن المريض إصابته - ذلك لأن التصنيفات التشخيصية للأمراض النفسية مسألة ما زالت إشكالية وموضع اختلاف من جهة؛ ولأن تسمية التشخيص بكلمة واحدة دامغة قد تصبح معوقة للعلاج أكثر منها مساعدة على اكتساب البصيرة insight من جهة أخرى.

ب- يجب عدم وصف علاجات ضد إرادة المريض؛ إلا إذا كان عدم التدخل العلاجي سيعرض حياة المريض أو المحيطين به أو جميعهم للخطر. وفي كل الأحوال، يجب تقديم أفضل علاج متاح وإعلام المريض أو ذويه أو إعلامهم معاً عن استطبابات العلاج الموصوف وتأثيراته الجانبية المحتملة، وخاصة حين استعمال الأدوية المضادة للذهان التي قد تُحدث أعراضاً خارج هرمية وعسر الحركة الآجل، كما يجب - من الناحية المبدئية- الحصول على رضا المريض وموافقته الخطية قبل تطبيق المعالجة بالتخليج الكهربائي.

إن موافقة المريض على المعالجة يتطلب أن يكون قادراً على فهم ما يُشرح له، و على إدراك موقعه وظروفه الشخصية، وعلى تذكر المعلومة المعطاة، و أن تكون لديه القدرة على اتخاذ القرار والثبات عليه مع الزمن. أما إذا كان المريض - وبسبب مرضه - يبدي اضطراباً في المحاكمة العقلية تجعله عاجزاً عن اتخاذ حكم أو قرار صحيح؛ فيجب على الطبيب الرجوع إلى ولي أمر المريض وطلب موافقته، أو أن يبحث موضوع المعالجة القسرية مع لجنة استشارية في المؤسسة الصحية التي يعمل فيها ومنوط بها حماية الكرامة الإنسانية والحقوق القانونية للمريض وبحسب التشريعات المعمول بها. وهناك عدة أمراض نفسية تضع المريض في حالة عدم أهلية موضوعية لإعطاء موافقته على المعالجة مثل:

 -  المريض المصاب بالضلال الزوري، الذي يرى أن كل شيء وكل شخص يخفي ميلاً إلى إيذائه.

 - المريض الفصامي في حالة التفكك والمراحل الفعّالة من مسيرة المرض لا يستطيع معها تفهم الإجراءات اللازمة لمعالجته ورعايته.

 - الشخص المصاب بالخرف؛ إذ تتطور الاضطرابات، وتحدث تشوشاً عميقاً في الذاكرة وفقدان المحاكمة العقلية السليمة، وتؤثر بشدة في تصرفاته اليومية.

 - المريض المصاب بالاكتئاب الجسيم، وهنا يبحث المصاب عن الموت، ويفكر بالانتحار، ويفقد كل قناعة بجدوى المعالجة.

 - الشخص المصاب بالوسواس القهري الشديد، وفي حالة متقدمة تكون قدرته على اتخاذ قرار ما مسلوبة تماماً بسبب تردده اللامتناهي.

ج- إن من واجب الطبيب النفسي - حين يُطلب منه تقييم حالة المريض - إخبار هذا الأخير منذ البداية عن الغرض من هذا التقييم والاحتمالات لأثر هذا الفحص واستخدامات نتائجه.

د- على الطبيب أن يوضح للمريض أو لذويه - ما أمكن ذلك - الغرض العلمي أو العلاجي من الفحوص المخبرية التي يقترحها.

هناك إذاً في الممارسة السريرية للطب النفسي إشكالية كبيرة حين يرفض المريض المعالجة اللازمة والرعاية الضرورية لحالته الصحية، أو حين يكون غير قادر على الموافقة على الإجراءات الملائمة لوضعه الصحي؛ مما يضطر الطبيب إلى اللجوء إلى المعالجة القسرية التي تستدعي أحياناً الاستشفاء الإلزامي؛ أي من دون رضا المريض. ولكي يتجنب الطبيب ادعاء بعض المرضى أن المعلومات المعطاة لهم كانت منقوصة وأنهم لم يوافقوا على العلاج، يجب عليه الاحتفاظ بسجلات دقيقة حول كل معاينة أو مراجعة يذكر فيها الشرح المقدم للمريض، ولاسيما التأثيرات الجانبية المحتملة للأدوية، والبدائل الممكنة وموافقته على ذلك. وفي بعض الحالات تؤخذ من المريض موافقته الخطية لإعطاء معلومات إلى قريب له وتسجيل موافقة ولي أمر المريض على العلاج وتوثيق كل ذلك في ملف المريض.

3- سوء ممارسة المهنة   :malpractice

يتضمن سوء الممارسة كل إهمال أو جهل أو سوء تصرف يرتكبه الطبيب تجاه واجباته المهنية. يجب على الطبيب في القانون - وفي نظام ممارسة المهنة - أن يمارس عمله ضمن هامش من الإجراءات والاحتياطات التي يقوم بها أطباء آخرون من الاختصاص ذاته وفي ظروف مماثلة من العمل.

يأخذ القضاء بالحسبان سوء الممارسة حين يقوم دليل واضح على أن الطبيب قام بعمل محدد، أو أهمل عملاً لم يقم به، وأدى ذلك مباشرة إلى أذية أو خسارةٍ ما يشكوها المريض المدعي. ومن الملاحظ أن الملاحقات القضائية بسبب سوء الممارسة في الطب النفسي قليلة نسبياً إذا ما قورنت بالاختصاصات الأخرى؛ وسبب ذلك أن الاضطرابات النفسية المعالجة والأدوية الموصوفة قليلاً ما تسبب إيذاءً جسدياً للمريض (خلافاً لما في الجراحة مثلاً) من جهة؛ ولأن المرضى النفسيين - وفي غالب الأحيان - لا يحبذون التحدث وإعلان اضطراباتهم والعلاجات التي تلقوها، ويحجمون عن سرد قصصهم الطبية النفسية من جهة أخرى. مع ذلك ، فإنه يندر ألاّ يتعرض الطبيب النفسي - ولو مرّة واحدة على الأقل في حياته المهنية - لملاحقة قضائية بسبب سوء الممارسة لأحد الأسباب التالية:

أ- الانتحار وإيذاء المريض لذاته هو السبب الأكثر شيوعاً للمساءلة القضائية للأطباء النفسيين، فالرأي العام والقضاء يلومون الطبيب على فشله في تجنب السلوك الانتحاري، ويتهمونه بالإهمال في اتخاذ الإجراءات التي تمنع المريض من أن يؤذي نفسه أو أن ينتحر، والقضاء لا يماثل بين الوفاة انتحاراً وبين الوفاة عند التداخل الجراحي.

إن رغبة الموت عند المريض تجعل الطبيب يجد نفسه في حالة صراعية على ثلاثة مستويات:

 -  مستوى علمه: لا يوجد دليل علمي حتمي يسمح له بالتنبؤ بالانتحار.

-  مستوى عمله: الطبيب هو أمام شخص يطلب الموت، ولا يطلب العلاج للشفاء ولا الحياة.

 - مستوى قانوني: فالطبيب محاصر أخلاقياً وقانونياً بين جرم عدم إغاثة إنسان في خطر من جهة؛ وبين اتخاذ إجراءات تؤدي إلى استشفاء إلزامي قد يكون تعسفياً؛ إذ ليس بالضرورة أن يكون هذا الإنسان مريضاً عقلياً.

في العمل السريري يبدو الاتهام بسوء الممارسة واضحاً إذا كانت واقعة الانتحار قد حدثت في أثناء وجود المريض في المستشفى؛ ولاسيما إذا كان السلوك الانتحاري هو السبب والمسوّغ المباشر لقبول المريض. ينظر القضاء إلى الواقعة على أنها قابلة للتجنب، ويُرجع الإهمال إلى عدم إحاطة كافية بسيرة المريض وسلوكه وسوابقه الانتحارية، أو تقصير في الاحتياطات اللازمة لحمايته (مثل ترك النوافذ غير مغلقة بإحكام، أو عدم الانتباه لوجود أدوات حادة أو مواد حارقة أو مؤذية في متناول يد المريض)، أو عدم استمرار المراقبة النهارية والليلية ووضع ملاحظة وجود خطر الانتحار…إلخ.

ب- خطأ التشخيص :misdiagnosis المعرفة العلمية في الطب النفسي لم تصل بعد إلى المستوى السببي، والتصنيفات التشخيصية تقوم على وصف الأعراض وتجميعها في متلازمات؛ وهذا ما يسوّغ الاستعمال الواسع لعبارة اضطرابات نفسية؛ وليس أمراضاً نفسية، لذا فإن المساءلة القضائية لا تقوم على إشكاليات في التشخيص، وإنما على أخطاء إجرائية مثل تقصير الطبيب النفسي في فحص المقابلة وعدم اكتشافه مثلاً نيّة انتحار أو قتل عند المريض، أو عدم الانتباه لوجود مرض عضوي طبي عام قد يتظاهر بأعراض نفسية، ويستدعي تدخلاً إسعافياً مختلفاً مثل نقص سكر الدم الذي قد يحدث فيه تخليط ذهني، أو وجود مرض عضوي مشارك للاضطراب النفسي يتطلب المعالجة وتجنب التداخلات الدوائية كملاحظة هجمة هوسية عند مريض قيد المعالجة بالستيروئيدات من أجل آلام مفصلية.

ج- إهمال في المعالجة :negligent treatment قد يتظاهر الإهمال في المعالجة الدوائية بأشكال متنوعة مثل وصف دواء غير مستطب أو علاج غير مناسب، أو إعطاء جرعات مفرطة، أو تغيير العلاج على نحو غير ملائم، أو عدم الانتباه إلى مشاركات دوائية أدت إلى تداخلات مؤذية، أو حدوث متلازمة خارج هرمية؛ ولاسيما خلل الحركة المتأخر  tardive dyskinesia أو أحياناً اعتلال الشبكية أو نقص تعداد الكريات البيض، أو إهمال محاذير استعمال بعض الأدوية عند المرأة الحامل، وأخيراً حدوث إدمان بعض الأدوية؛ ولاسيما المركنات ومضادات الباركنسونية. توجب هذه الأمور على الطبيب مراقبة المريض مراقبة دورية ومراقبة حالته العامة وتحري وظائف الكبد والكلية والصيغة الدموية والاتجاه نحو استعمال الأدوية الأقل إحداثاً للتأثيرات الجانبية.

نادراً ما يكون العلاج بالتخليج الكهربائي سبباً للادعاء الذي يدور غالباً حول عدم الحصول على الموافقة المسبّقة، أو أن يكون الاستطباب غير ملائم، أو حدوث تأثيرات جانبية مثل تشوش الذاكرة. ويمكن للطبيب أن يتجنب كل ذلك بوضع الاستطباب المناسب وتوثيق موافقة المريض أو ولي أمره الخطية على المعالجة، ومتابعة مراقبة المريض قبل جلسة التخليج وفي أثنائها وبعدها، وتطبيق المعايير التقنية الصحيحة والمرشدات العلاجية المسندة بالبراهين.

يتم الادعاء على الطبيب النفسي والمعالج النفسي في بعض الأحيان بسبب إيقاف المعالجة على نحو غير ملائم رغم استمرار الحاجة إلى متابعة العلاج، ومن الممكن أن يُعدّ ذلك إهمالاً إذا لم يكن هناك مسوّغ لإيقاف المعالجة مثل وجود تقصير في تعاون المريض على اتباع التعليمات العلاجية، أو تقصير في دفع أتعاب الطبيب، أو وجود سلوك عنف أو تهجم على المعالج.

د- يجب على الطبيب النفسي أن يحافظ دوماً على حدود العلاقة مع المريض، فهناك فرق بين التعاطف والاهتمام بالمريض من جهة؛ وبين التورط معه أو معها بعلاقة حميمة قد تصل إلى ممارسات جنسية من جهة أخرى. إن الاقتراب الجنسي من المرضى هو سبب آخر للمقاضاة، ولا يقبل هذا التصرف أي عذر ومهما كان السلوك الإغرائي والإغوائي للمرضى، وهذا السلوك يُعرض الطبيب لعقوبات قضائية إضافة إلى تطبيق عقوبات تأديبية تصل حتى تجريده من حقوقه المهنية.

من المفاهيم المهمة في العلاقة العلاجية بين الطبيب النفسي والمريض مفهوم الإنقال والإنقال المعاكس [ر. المعالجات في الطب النفسي]؛ فالإنقال transference هو العملية التي يُسقط بها المريض مشاعره وأفكاره التي يستمدها من شخصيات سابقة في حياته على معالجه، والتي يضفي بها المريض عليه مكانة ومعنى عاطفياً كانا لشخص سابق في حياته، لذا يجب على الطبيب ملاحظة اتجاه عواطف المريض نحوه بعناية خلال فترة العلاج والمحافظة على موقف موضوعي ومحايد؛ مع شرح تفسيرات الإنقال للمريض كلما ارتأى أن ذلك مفيد للعملية العلاجية. أما الإنقال المعاكس  counter transference فهو عملية إسقاط عاطفي من الطبيب على المريض، ولكي يحمي المعالج نفسه منه ينبغي أن يظل في مواقفه على مسافة من اضطرابات المريض؛ متجنباً الاستغراق فيها. لذا ينبغي على الطبيب أن يتفحص مشاعره نحو المريض سلباً أو إيجاباً بطريقة مستمرة. إن تداخل عواطف الطبيب مع المريض يعوق الموضوعية الضرورية للعملية العلاجية، لذا من الضروري الحفاظ على الحدود التي تمليها عليه مهنته، وإذا شعر الطبيب أن علاقته مع أحد المرضى قد خرجت عن الحدود المناسبة؛ يُستحسن أن يحيله إلى طبيب آخر، وأن يراجع الأخطاء التي أدت إلى ذلك الخلل في تلك العلاقة حتى لا تتكرر هذه المشكلة في المستقبل. ومع كل ما سبق؛ لا بدّ من التشديد على أن تعاطف الطبيب مع مرضاه وإخلاصه لقضاياهم له تأثيره الجيد في علاقته المهنية معهم ومع العملية العلاجية.

هـ- قد تجري المساءلة القضائية للطبيب النفسي حين إعطاء تقرير طبي غير دقيق، أدى إلى استشفاء غير مسوّغ لفرد ما في مستشفى اختصاصي بالأمراض العقلية وإلى إخضاعه لمعالجات غير مناسبة. إن تقييم الحالة النفسية لإنسان ما من قبل الطبيب النفسي يضع هذا الأخير في موقع يتميز بالقوة والسلطة على المريض، لذا يجب أن يكون الطبيب حريصاً على ألا يسيء استخدام هذه السلطة المخولة له والتي اؤتمن عليها.

ثانياً- القضايا الأخلاقية والقانونية من الزاوية المدنية:

1- الاستشفاء القسري:

إن إدخال مريض ما إلى المستشفى الاختصاصي من دون رضاه مسألة موضع جدل شائع في ممارسة الطب النفسي؛ إذ يجب على الطبيب مساعدة المريض ومعالجته وتوفير سلامته والحفاظ على حقوقه من جهة، ومسؤولية الاستجابة إلى ما يتطلبه النظام العام وسلامة المجتمع وحقوق الأفراد المحيطين بالمريض من جهة أخرى.

كان باستطاعة الطبيب النفسي في الماضي الحصول بسهولة على أمر للاستشفاء الإلزامي؛ إذا لاحظ لدى المريض أفكاراً أو تصرفات  فيها خطر إيذاء ذاته أو الآخرين؛ أما حالياً - وجواباً لحراك شعبي وطبي وتشريعي - فقد وضع العديد من بلدان العالم قوانين للصحة النفسية والعقلية، في حين وضعت دول أخرى تشريعات ونظماً عامة لضبط إجراءات معالجة المصابين بالاضطرابات النفسية ومعاملتهم ورعايتهم على نحو عام، هناك ثلاث طرائق لقبول المريض في المستشفى الاختصاصي بالأمراض العقلية أو في القسم النفسي من المستشفى المعدّ لمعالجة أمراض أخرى:

أ- القبول الحر: حين يطلب المريض من تلقاء نفسه الاستشفاء ساعياً إلى العلاج، ويُعامل المريض في هذه الحالة معاملة أي مريض في أي مستشفى آخر، ويترك المستشفى متى شاء إلا إذا ارتأى طبيبه المعالج أن اضطرابه النفسي ما يزال يحمل خطورة؛ وعندها يجب على الطبيب عرض الموضوع على لجنة القبول في المستشفى ثم الاتصال بالجهات القانونية لاستصدار أمر بمتابعة الاستشفاء الذي يصبح تحت صيغة إلزامية.

ب- القبول الإلزامي: حين يتقدم شخص قريب أو صديق أو جار أو رجل حفظ النظام بعريضة خطية إلى النيابة العامة يشرح فيها وجود تصرفات غير طبيعية لدى شخص ما، وتُعدّ خطراً عليه أو على من هم حوله، ويطلب فحصه وإن لزم الأمر إدخاله المستشفى، ثم يُعرض الشخص على الطبابة الشرعية أو الطبيب الاختصاصي أو عليهما معاً لتوصيف حالته العقلية من جهة، ولتقييم درجة خطورة سلوكه من جهة ثانية، ووجود ضرورة أم لا لمعالجته داخل مستشفى اختصاصي من جهة ثالثة. وبعد أن تُصدر النيابة العامة أمراً بالاستشفاء الإلزامي؛ تقرر لجنة القبول المؤلفة من أطباء نفسيين مدى ضرورة متابعة المعالجات داخل المستشفى حتى زوال الخطورة في تصرفاته.

يتطلب الاستشفاء الإلزامي من الناحية الأخلاقية والقانونية توافر ثلاثة عناصر، هي وجود مرض عقلي، ووجود خطورة، ووجود درجة ما من فقدان الأهلية.

(1)- إذا كان الاضطراب العقلي واضحاً في المتلازمات المرضية الكبرى؛ فإن وجهات النظر ليست دائماً متطابقة تجاه اضطرابات الشخصية مثلاً لتسويغها للاستشفاء الإلزامي؛ فما العمل في حالة الاضطرابات النفسية غير القابلة للعلاج والتي ترافقها خطورة مستمرة؟

(2)- يسوغ التشريع قسرية العلاج بسبب الخطورة، ويتم تقييم الخطورة بالنسبة إلى الشخص ذاته، وبالنسبة إلى الآخرين و بالنسبة إلى الممتلكات أو السلامة العامة، لكن الطبيب غير مؤهل للتنبؤ الدقيق بالخطورة إلا في المواقف الجلية والواضحة لاضطرابات نفسية محدودة وذات شحنة عدائية.

(3)- وجود عدم الأهلية، أي عدم قدرة المريض على اتخاذ القرار المناسب بسبب مرضه العقلي. وفي بعض الحالات يكون المريض غير قادر على رعاية نفسه وتوفير حاجاته اليومية، أو أن  يصل عجزه إلى درجة إهمال تغذيته ولباسه ونظافته؛ مما يفرض الاستشفاء الإلزامي من دون أن يكون هناك خطر داهم لإيذاء نفسه أو الآخرين.

تستجيب هذه الطريقة في الاستشفاء لضرورة توفير الرعاية والمعالجة الفورية للمريض ومراقبته على نحو مستمر، وفيها يجعل الاضطرابُ الشخصَ غير أهل لإعطاء موافقته، ويدوم الاستشفاء المدة اللازمة لتحسن حالته الصحية وتقبله للعلاج. هذا الإجراء يهدف في الوقت ذاته إلى حماية السلامة العامة دون إهمال مصلحة المريض وحقوقه.

يجوز أحياناً  الاستشفاء الإسعافي لتدخل علاجي وجيز، ويمكن تحويله إلى استشفاء إلزامي فترة قد تطول إذا استدعت حالة الشخص النفسية ذلك، ويتم هذا الإجراء بناءً على تقرير لجنة القبول في المستشفى والجهة القضائية ذات الصلة لحماية حقوق المريض.

وعلى نحو عام يلتزم الطبيب النفسي اللجوء إلى البديل العلاجي الأقل تضييقاً لحرية المريض، والأكثر احتراماً لكرامته الإنسانية، ويقوم بتطبيق التدخلات السريرية بحسب نجاعتها ومقارنة آثارها الإيجابية والسلبية ومخاطرها المحتملة؛ فلا يُستطب الاستشفاء إذا كانت معالجة المريض خارج المستشفى ممكنة، ولا يستطب العزل إذا كانت المعالجة في جناح مفتوح ممكنة.

ج- القبول القضائي: وفيه يُودع المرضى المتهمون أو المحكومون في قسم خاص من المستشفى يدعى "القسم الاحترازي"، فيه تفحص المرضى الاحترازيين لجنة من ثلاثة أطباء نفسيين تقدم تقريراً دورياً للسلطات القضائية، ولا يخلى سبيل المريض الاحترازي إلا بموجب قرار حكم صادر عن المحكمة التي أودعته.

2- حقوق المريض داخل المستشفى الاختصاصي:

لا يُعدّ قبول المريض في المستشفى- طوعياً أو إلزامياً- سبباً آلياً لتقييد أهليته القانونية، وعلى الجهة التي تقرر علاجه في المستشفى أن تسهر على اتخاذ التدابير المناسبة للحفاظ على مصالحه المادية والاجتماعية والقانونية، فللمريض الحقوق التالية:

أ- حق المريض في احترام خصوصيته وإنسانيته، بتوفير فضاء كافٍ لكل شخص، وإن أمكن غرفة صغيرة مع لوازمها ومكان يضع فيه ثيابه وحاجياته.

ب- حق المريض في المشاركة - قدر المستطاع - في اتخاذ القرارات المتعلقة بالخطة العلاجية، وإذا كان المريض غير أهل لإعطاء موافقته على المعالجة؛ يجب العمل بحسب النظم المحلية صاحبة الاختصاص وتوصياتها (مجلس الصحة النفسية والعقلية في وزارة الصحة، لجنة الصحة النفسية والعقلية في مديرية الصحة، ولجنة القبول في المستشفى) أو الحصول على موافقة ولي أمر المريض أو كليهما معاً، ولهذا الأخير الحق في متابعة علاجه خارج المستشفى، بعد استقرار حالته الصحية. وعلى المؤسسات توفير البنى التحتية لرعاية المرضى المزمنين، وتوفير المعالجة النفسية والجسدية المناسبة لهم والعمل على توفير تدريب وتأهيل هادف يُمكّن الشخص من ممارسة عمله أو أي نشاط آخر بحسب إمكانياته، ويكفل حمايته من أي استغلال.

ج- حق الزيارة: للمريض الحق باستقبال أقاربه وزواره بحسب مواعيد معقولة وضمن النظام المعمول به في المؤسسة الصحية، ويمكن للطبيب أن يؤجل الزيارات أو يمنع بعضها بما يتفق مع مصلحة المريض والسهر على عدم تسليم المريض - خلال الزيارات - مواد أو أدوات تعرضه للخطر.

د- حق الاتصال: يحق للمريض من الناحية المبدئية الاتصال بالعالم الخارجي بوساطة الهاتف أو البريد، وتقع على إدارة المستشفى مسؤولية تنظيم هذه الاتصالات بتيسيرها أو حجبها بحسب ما تستدعيه مصلحة المريض والسلامة العامة.

هـ- مسألة العزل والتقييد: قد يضطر الممارس السريري - في بعض أقسام المؤسسات الصحية وفي بعض الحالات الطارئة - إلى اللجوء إلى عزل المريض في غرفة خاصة مغلقة، أو تقييده لضبط حركاته الجسدية، لكن يجب أن يبقى هذا الإجراء مؤقتاً واستثنائياً وفي مصلحة المريض أولاً.

و- الحق في المثول أمام القضاء: يحق للمريض أن يمثله محامٍ في كل الإجراءات الشرعية التي تخصه. وعلى نحو عام يميل القضاء إلى أن يكون قرار الاستشفاء الإلزامي مبنياً على دلائل واضحة ومقنعة.

ز- حقوق اقتصادية: في بعض المؤسسات الصحية، وضمن إطار التأهيل والعلاج بالعمل ، يحق للمريض أن يتقاضى أجراً مقابل عمله (أعمال في الحديقة أو الخزف أو تجليد الكتب…إلخ)، وقد خلق هذا الحق جدلاً بين ما يُدعى بإجراء علاجي بالعمل؛ وبين ما وصفه بعضهم على أنه استغلال لعمل المريض! لهذا السبب ونتيجة قصور التشريعات في حسم هذه المسألة؛ أقدمت بعض المؤسسات الصحية على حذف هذه البرامج من نشاطاتها.

3- الأهلية العقلية في الأحوال المدنية: 

قد يسأل القضاء الشرعي عن الحالة العقلية والنفسية لشخص ما، ويطلب تقريراً طبياً في ظروف متعددة تستدعي تقييم أهليته، ويتضمن ذلك الإجابة عن الأسئلة التالية:

-  هل تؤهله حالته العقلية لإبرام عقد (عقد زواج، عقد بيع وتجارة، قرار طلاق…إلخ)؟

-  هل يسمح له وضعه العقلي أن يفهم ويقوم بالتزاماته القانونية (تسديد الضرائب ، دفع فواتير الكهرباء والهاتف… إلخ)؟

-  هل هو قادر على كتابة وصية أو إملائها؟

-  هل يستطيع إدارة شؤونه المالية بنفسه أو أن حالته العقلية تستدعي تعيين قيِّم عليه؟

 - هل هو أهل لحضانة قاصر؟

-  هل تسمح له حالته العقلية بأداء شهادة أمام القضاء؟

 - هل لديه الكفاية الذهنية اللازمة للقيام بعمل محدد أو مهنة محددة؟

يواجه الأطباء النفسيون صعوبة حين مطابقة جميع تسميات الاضطرابات النفسية مع أربعة تعابير قضائية فقط تستخدم في التشريعات القانونية السوريّة لوصف الاضطراب العقلي، وهي "الجنون" و"العته" و"السفه" و"الغُفلة". ومن الواضح أن هذه المطابقة أساسية لاحترام الحقوق المدنية للمريض العقلي وللحفاظ في آن واحد على حقوق الآخرين والمجتمع.

 - يُعرّف القضاء "الجنون" كما يلي: اضطراب في الملكات الذهنية بحيث تغدو قدرتها على التمييز أو قدرتها على توجيه الإرادة دون المستوى الذي يتوافر لدى العاديين من الناس. والجنون نوعان: "الجنون الممتد" و"الجنون المتقطع". الجنون الممتد هو جنون متواصل، سواءً كان بدئياً منذ عهد الصغر (مثال التخلف العقلي)، أم ثانوياً بعد سن البلوغ والرشد (مثال الفصام المترقي وداء ألزهايمر)، وفي هذا الجنون الممتد (ويسمى أيضاً الجنون المطبق) يكون الاضطراب الذهني عاماً وشاملاً كل الملكات الذهنية أو أغلبها.

في "الجنون المتقطع" يكون الاضطراب الذهني عاماً؛ لكن مسيره يكون بنوبات تفصل بينها فترات هدأة (مثال مرحلة خصبة من الاضطراب الفصامي، أو حالة ذهانية تالية لولادة، أو النوبة الهوسية، أو هجمة الاكتئاب الجسيم…إلخ). وربما لا يكون الاضطراب الذهني عاماً وشاملاً، بل مقصوراً على ناحية محددة، فذهن المريض مضطرب؛ إذا تعلق الأمر بناحية منه، لكنه يتمتع بذهن سليم إذا كان الأمر متعلقاً بناحية أخرى (مثال الغيرة المرضية الضُّلالية، أو ضُلال صحة النسب، أو الضُّلال المراقي… إلخ).

-  و"المعتوه" في لغة القانون هو الشخص الذي اختل شعوره بحيث يكون فهمه قليلاً وكلامه مختلطاً وتدبيره فاسداً.

 - و"السفيه" هو فرد يُسرف في الإنفاق بما يخرج عن الحاجة وعن المعتاد، ويبذر في ماله خلاف ما  يقتضيه المنطق والعقل والشرع.

 - أما المغفل أو المصاب بـ "الغُفلة"؛ فهو شخص لا يهتدي إلى التصرفات الملائمة، فيُغبن، ولا يعرف أن يحتاط في معاملاته لبلاهته (مثال بعض الأفراد المراقيين والهستريائيين ضحايا البحث عن الشفاء العجائبي عند المشعوذين… إلخ).

ومن المصطلحات القضائية التي يجب أن يعرفها الطبيب أيضاً:

أ- القوامة: كل إنسان ناقص الأهلية أو فاقد الأهلية تجب عليه القوامة الشرعية، ويكون فرض القوامة ورفعها بحكم القضاء الشرعي متى توافرت أسبابه، ويجب أن يكون تعيين القيم في قرار الحجر نفسه (الحجر= المنع). ويباشر القيم سائر التصرفات التي تعود إلى "المجنون"؛ لأن القوامة هي حجر على التصرفات القولية، أما التصرفات الفعلية فلا حجر فيها؛ لأنه لا يمكن رفع أثرها بعد وقوعها بعكس التصرفات القولية.

"المجنون" و"المعتوه" محجوران لذاتهما، ويقام على كل منهما قيم بوثيقة وتقرير طبي، أما "السفيه" و"المغفل" فيُحجران قضاءً، وتصرفاتهما قبل القضاء نافذة، والحجر هنا يقع في بعض الحالات، وللقاضي أن يأذن بتسليم المحجور عليه بسبب السفه أو الغُفلة جانباً من أمواله لإدارتها.

ويجب التنبيه على أن صلاحيات القيم على المحجور عليهم تقتصر على المعاملات المالية؛ لأنها ولاية على المال، وأما الولاية على النفس فلا دخل للقيم بشؤونها، فلا يستطيع القيم أن يزوج "المجنون" أو "المعتوه"؛ لأن الولاية على النفس هي للأقارب، وتخضع لترتيب محدد بحكم الشرع. غير أنه قد تجتمع الولايتان معاً كما لو كان القيم الأب أو الجد، فهنا يُعدّ قيماً على السفيه مثلاً من جهة تعيينه القضائي وولياً على النفس من جهة ثانية بحكم الشرع.

ب- الأهلية العقلية في الزواج والطلاق: إن زواج "المجنون" من خلال الولي على النفس صحيح؛ مهما كانت درجة "الجنون"، وزواج المرأة ولو كانت فاقدة الأهلية صحيح متى أجرى العقد وليها. أما الطلاق فيجب أن يصدر عن إرادة صحيحة ووعي تام، ويجمع الفقهاء على أن المصاب بمرض عقلي أياً كان نوعه مما يؤدي إلى أن يتصف بـ"الجنون"؛ فإن ذلك الشخص غير مؤهل لإعطاء قرار بطلاق زوجته.

ج- أهلية أداء الشهادة أمام المحاكم: لا بدّ أن يكون الشاهد سليم الإدراك وواعياً لما يدور حوله وعارفاً بما ينجم عن أقواله. وللمحكمة أن ترفض شهادة شخص مصاب باضطراب عقلي يمكن وصفه بـ"الجنون المطبق" لعدم تمتعه بالإدراك الكافي، ولها أن تأخذ بشهادة شخص؛ إذا كانت درجة مرضه العقلي لا تؤثر في دقة معلوماته وأجوبته. وقد يلجأ القاضي إلى الاستعانة بخبرة طبية نفسية لتحديد مدى تأثير مرض الشاهد في إدراكه؛ إذا ارتأى أن شهادته جوهرية في الدعوى المنظورة.

تجدر الإشارة إلى إمكانية الإدلاء بشهادات كاذبة أو خاطئة من قبل بعض المرضى كما يحدث في بعض الاضطرابات الهيستريائية والضلالات الذهانية المزمنة، وأحياناً اتهام الذات وتجريمها في بعض حالات الاكتئاب الجسيم.

د- أهلية الحضانة: يُشترط هنا البلوغ والعقل والقدرة على صيانة الولد صحةً و خلقاً، وكل قرار في هذا الخصوص يجب أن يحترم المصلحة العليا للطفل.

هـ- الأهلية لمهنة ما: عندما يُطلب من الطبيب تقرير حول أهلية شخص ما للقيام بالمهام المطلوبة في عمل ما؛ فإنه غير ملزم إفشاء السر المهني وتعليل السبب في تقريره، ويمكنه أن يكتفي بالتصريح أن هذا الشخص صالح أو غير صالح لهذا العمل.

و- أهلية التعويض: إذا أتلف المريض مالاً لغيره وجب الضمان من ماله فيما أتلفه؛ إذ إن كل فعل أقدم عليه شخص، وسبّب لآخر خسارة أو أذى؛ يوجب على من أقدم على الفعل دفع تعويض له، وإلزام التعويض هذا هو ثابت ومستقل عن أي احتمال بانعدام المسؤولية الجزائية للمريض.

ز- يمكن لبعض الاضطرابات النفسية أن تتفاقم بسبب الكروب الناجمة عن بعض الأعمال؛ مما يسوّغ المطالبة بالتعويض، ويخضع المشتكي لخبرة طبية نفسية لتقييم مدى تفاقم حالته بسبب الواقعة.

ح- تُطلب الخبرة الطبية النفسية أيضاً لتقييم الحالة النفسية للضحية الذي عانى أذية انفعالية وكروباً نفسية تالية لرض جسدي أو لظروف خاصة؛ ودراستها (مثال: معسكرات الاعتقال والسجون… إلخ).

ط- يطرح الطب النفسي للأطفال أسئلة نوعية وخاصة؛ إذ يجب أن يؤخذ بالحسبان - قدر المستطاع - استقلالية الطفل وخصوصيته ضمن وحدته العائلية، وإن إساءة معاملة الأطفال - والتي تشمل كل مواقف التعنيف النفسي أو الجسدي أو كليهما وكذلك الإهمال والاستغلال الجنسي - هي ممارسات شائعة، وتقود بشدّتها أو تكرارها إلى ظهور آثارها في الحالة العامة للطفل، وتضر بعمق تطوره الجسمي والنفسي، والإجراءات التي يجب اتخاذها يجب أن تصبَّ في المصلحة العليا للطفل. وتتطلب دراسة هذه المسائل مقاربة مشتركة لاختصاصات متعددة (طبية عامة، ونفسية، وجراحية، واجتماعية، وقضائية) بهدف الوقاية والتشخيص والمعالجة، وتشارك فيها المؤسسات المؤتمنة على استمرارية حماية الأطفال. ويمكن لدراسات الضحايا وبحوثهم تقديم إضاءات خاصة ومهمة في هذه المسائل.

ثالثاً- القضايا الأخلاقية والقانونية من الزاوية الجرمية الجزائية:

يستمد الطب النفسي حجته في التدخل في علم الجريمة والقضاء من القاعدة الشرعية القائلة: "إذا أخذ ما وهب أبطل ما أوجب " ومن فحوى التشريع الذي ينص على أنه يُعفى من العقاب من كان في حالة "جنون". هذا الجانب القانوني من مهنة الطب النفسي هو موضع جدل مستمر، سواء بالنسبة إلى ضرورة علاج بعض المرضى دون إرادتهم نظراً لخطورة سلوكهم؛ أم بالنسبة إلى تقييم توافر العنصر المعنوي من أركان الجريمة؛ وبالتالي درجة المسؤولية الجزائية. وكل ذلك يُلزم الطبيب النفسي العمل بأكبر قدر من الأمانة والموضوعية والتروي حين يطلب منه الإجابة عن الأسئلة التي يطرحها عليه القضاء:

٭ هل المتهم مصاب باضطراب عقلي في لحظة ارتكاب الجرم المنسوب إليه؟

٭ هل هناك صلة بين الاضطراب العقلي المصاب به والجريمة المتهم بها؟

٭ هل يُعدّ المتهم خطراً على السلامة العامة أو على ذاته أو عليهما معاً؟

٭ هل يدرك المتهم معنى العقاب أو يجب وضعه في المأوى الاحترازي؟

إذاً يجب البحث في قضيتين جوهريتين، هما تقييم المسؤولية الجزائية للمتهم، وقياس درجة الخطورة عنده:

1-مسألة تقييم المسؤولية الجزائية:

التشريعات الحالية في هذا الموضوع هي سلالات وتعديلات للمادة 64 من قانون العقوبات الصادر عام 1810 في فرنسا، والتي تنص على أنه "لا يوجد جناية ولا جنحة عندما يكون المتهم بحالة عته في وقت ارتكاب الفعل، أو عندما يكون تحت تأثير قوة لم يستطع مقاومتها". وفي عام 1905 أدخلت المادة 463 من القانون السابق مفهوم الظروف المخففة لمصالح الأشخاص الذين يمكن القول بأن حالتهم العقلية من طبيعة تُنقص حرية الإرادة دون أن تسوّغ اللامسؤولية الكاملة، وقد أعيدت صياغة هذه المواد في قانون العقوبات الفرنسي الجديد عام 1994 (المادة 1-122): "غير مسؤول جزائياً الشخص الذي كان مصاباً - في لحظة الفعل- باضطراب نفسي أو عصبي - نفسي أدى إلى انعدام قدرته على التمييز أو ضبط أفعاله"، و"الشخص الذي كان مصاباً - في لحظة الفعل - باضطراب نفسي أو عصبي- نفسي أدى إلى تشوش قدرته على التمييز أو أعاق ضبط أفعاله يبقى قابلاً للعقاب، مع ذلك فالمحكمة تأخذ هذا الظرف بالحسبان حين تحدد العقوبة، وتصف طرائق تنفيذها".

وتطور التشريع في البلدان الأنجلوساكسونية - وفي بريطانيا خاصة - في هذه المواضيع تطوراً موازياً، مع بروز موضوع القصد الجرمي أي أن يكون الفعل الجرمي قد تم تنفيذه بقصد جرمي؛ كي يعاقب عليه. لكن التحول التاريخي حدث بمقتل إيدوارد دراموند (أمين سر حزب المحافظين في عام 1843) من قِبل المدعو دانييل ماك نوتون Daniel M‘Naghten (يلفظ اسمه McNaughton، وأحياناً يكتب كذلك أيضاً) الذي كان مصاباً بضُلال الملاحقة، وتثبتت فكرته الضُّلالية على روبير بيل (رئيس حزب المحافظين في تلك الحقبة)، وحاول قتله، ولكنه أخطأ هدفه، وقتل أمين سر الحزب. وقد أعفته المحكمة التي نظرت في قضيته من المسؤولية بدعوى "الجنون"؛ مما أدى إلى الاستياء العام وغضب الملكة ومجلس اللوردات من القضاة، وإلى المطالبة بوضع معيار لتقييم المسؤولية الجرمية، وقاد ذلك إلى وصف اختبار ماك نوتون الذي يعتمد قياس الوظائف الاستعرافية، وينص على أنه "يجب أن يثبت - على نحو صريح وواضح - أن المتهم  كان في لحظة ارتكاب الفعل الجرمي تحت تأثير مرض عقلي يحول بينه وبين معرفة الخطأ في ماهية الفعل". وسُميت هذه القاعدة "قانون ماك نوتون" M’Naghten rule، وتم تطبيقها لدى السلطات القضائية في البلدان الأنجلوساكسونية وفي العديد من الولايات المتحدة الأمريكية. لكن حدوث اضطراب في نتائج العديد من الدعاوى الجزائية دفع لجنة من القضاة في إنكلترا إلى معالجة مفهوم المسؤولية الجنائية لتشمل الحالات التي تقع تحت تأثير "دافع لا يقاوم"  irresistible impulse  بسبب مرض عقلي؛ فالمتهم بفعل جنائي هو غير مسؤول جزائياً؛ إذا ارتكب الفعل تحت تأثير دافع لا يستطيع مقاومته بسبب مرضه العقلي. وهذا المفهوم لم يلقَ استحساناً عند الكثير من الأطباء النفسيين؛ لأنه في الواقع لا يغطي سوى حالات محدودة من الاضطرابات العقلية. في عام 1954 صدر قرار عن محكمة كولومبيا في الولايات المتحدة الأمريكية، عُرف بقانون دورهام Durham rule، وفيه طي للأسس الاستعرافية التي اعتمدها قانون ماك نوتون، وكذلك اختزال لمفهوم الدافع الذي لا يقاوم؛ وأبرز موضوع توجيه الإرادة وسيطرتها وضبطها الإرادة في تصرفات الفرد؛ مما أفسح المجال واسعاً أمام اجتهادات  الأطباء النفسيين وخبراتهم، وأدى إلى التباس في تفسير القضاة لتعابير مثل المرض العقلي، والخلل العقلي، والتصرف الناجم عن اضطراب عقلي، مع تمايز في مواقف الأطباء بشأن ما قد يُحدثه المرض العقلي في صاحبه من خروقات للقانون. في عام 1972 عُطّل قانون دورهام من قبل المحكمة التي وضعته ذاتها، وقررت القبول - بديلاً منه - بالمعايير المقترحة من قِبل معهد القانون الأمريكي (ALI) والموصى بها منذ عام 1962 في صياغة القانون الجزائي؛ وهي حصيلة دمج بعض العناصر الاستعرافية من قانون ماك نوتون مع عناصر الدافع الذي لا يقاوم، فقد عدّ المعهد الأمريكي للقانون أن الشخص يكون غير مسؤول عن تصرف جنائي؛ إذا كان في وقت الفعل تحت تأثير مرض أو خلل عقلي أدى إلى نقص واضح في إمكانية إحاطته وإدراك جرمية تصرفه، أو أدى إلى تعطل في قدرته على مطابقة سلوكه بما يتفق مع القانون. إذاً يُلاحظ وجود خمسة مؤشرات إجرائية وعملياتية هي مرض عقلي، وخلل عقلي، وقصور جوهري في القدرة على الإدراك، ومدى الإحساس بالخطأ، ودرجة الاستطاعة على مطابقة التصرف بحسب ما يقتضيه القانون. لقد أخذ هذا القانون بالحسبان حالة المريض الذهاني الذي يعرف أن الجريمة خطيئة أخلاقية وقانونية؛ لكنه يُقدم مع ذلك على القتل تحت تأثير ضُلَالات زورانية وأهلاس آمرة. ولم يحاول هذا القانون تعريف المرض العقلي؛ لكنه شدّد على أن تعبير مرض عقلي أو خلل عقلي لا يشمل الحالات غير السوية التي تتظاهر فقط بسلوك متكرر إجرامي ومضاد للمجتمع؛ هذا التصور يمنع الأشخاص المعتلّين اجتماعياً    sociopathsمن التخلص من المسؤولية الجنائية عن تصرفاتهم الجرمية بالادعاء أن سلوكهم كان تحت تأثير اضطراب نفسي أو عقلي ألمّ بهم.

 أخيراً، ونتيجة الانفعال الذي أثارته قضية John Hinckley الذي حاول اغتيال الرئيس الأمريكي رونالد ريغان عام 1981 إذ قضت هيئة المحلَّفين بأنه غير مذنب؛ مما حرض حراكاً واسعاً ونقاشات في الكونغرس تطالب بالصرامة في تطبيق مفاهيم التشريعات في حين وُضع جون هنكلي تحت الإقامة الدائمة في مستشفى القديسة إليزابيت في واشنطن.

أما في التشريع الجزائي السوريّ فإن "الجنون" هو من الأسباب التي تنفي المسؤولية، وتمنع العقاب، وعلة امتناع العقاب عند توافر "الجنون" ترجع إلى انعدام أحد عنصري الأهلية للمسؤولية الجزائية، وهما القدرة على التمييز وحرية الاختيار؛ أو كليهما. وقد نصت المادة /230/ من قانون العقوبات السوريّ على أنه "يعفى من العقاب من كان في حالة جنون"، ويستدعي تطبيق هذه المادة توافر العناصر التالية:

أ- وجود فقد القدرة على التمييز أو حرية الاختيار أو كليهما معاً.

ب- ويجب أن يكون ذلك راجعاً للجنون.

ج- وأن يتحقق هذا في وقت ارتكاب الفعل المكون للجريمة.

إذاً لا يكفي ثبوت "الجنون" في إحدى الحالات، وإنما يجب البحث عن تأثيره في القدرة على التمييز وحرية الاختيار واعتبار المسؤولية رهناً بهذا التأثير. وإذا لم يكن فقد القدرة على التمييز أو حرية الاختيار معاصراً للفعل المكون للجريمة؛ فلا تنعدم المسؤولية الجزائية. وتنص المادة /232/ من القانون على العذر المُخفِّف: "من كان حين اقتراف الفعل مصاباً بعاهة عقلية وراثية أو مكتسبة أنقصت قوة الوعي أو حرية الاختيار في أعماله يستفيد قانوناً من إبدال عقوبته أو تخفيفها وفقاً لأحكام المادة /241/". إذاً يمكن للمسؤولية الجزائية أن تكون تامة أو ناقصة أو لا مسؤولية.

بعد استيفاء شروط المادة /230/ على المحكمة التي قضت بعدم المسؤولية الجزائية أن تحجز الشخص في مأوى احترازي بموجب المادة /231/ إلى أن يثبت شفاؤه بقرار تصدره ذات المحكمة، ويمكن أن تُفرض المراقبة على المحجور عليه عند إطلاق سراحه. والمادة /231/ تفرق بين حالتين:

أ- إذا كانت الجناية أو الجنحة مقصودة، واُقترفت في حالة جنون، وعقابها الحبس سنتين كحد أدنى؛ يصدر حكم بحجر الفاعل في مأوى احترازي حتى يثبت شفاؤه.

ب- أما إذا كانت الجناية أو الجنحة غير مقصودة، واقترفت في حالة جنون ،وعقابها الحبس أقل من سنتين؛ فلا يصدر حكم بحجز الفاعل في مأوى احترازي إلا إذا ثبت أنه خطر على السلامة العامة.

الجنون الطارئ بعد ارتكاب الجريمة:

إذا ظهرت الاضطرابات العقلية في أثناء إجراءات التحقيق والمحاكمة، يُؤجل اتخاذ الإجراءات التي لم تكن قد اتخذت قبل الإصابة بالجنون، وتستأنف هذه الإجراءات سيرها حالما يعود للمتهم من الرشد ما يكفي لقيامه بالدفاع عن نفسه، ولا يحول هذا الإيقاف دون اتخاذ الإجراءات التي لها صفة الاستعجال، وإنما من غير الجائز مثلاً استجواب المتهم أو إجراء مواجهة بالأدلة والشهود. أما في حال الجنون الطارئ بعد صدور الحكم، فيؤجل البدء بتنفيذ العقوبات التي تفترض اتخاذ إجراءات ضد الشخص المحكوم عليه، أما العقوبات التي لا يتطلب تنفيذها اتخاذ مثل هذه الإجراءات؛ فلا يمنع القانون من تنفيذها (مثل الغرامة والمصادرة… إلخ).

تقود محاولة المطابقة بين الاضطرابات العقلية وبين المفاهيم القضائية إلى اللامسؤولية الجزائية أو إلى إنقاصها:

المحاكمة العقلية هي أكثر ملكة ذهنية تعقيداً في وظائف الدماغ؛ لأنها تتطلب سلامة مختلف الوظائف العقلية وتضافرها، وخصوصاً الانتباه والتركيز والتعليل الفكري المنطقي والتساؤل والحس النقدي وكذلك ذاكرة حفظ المكتسبات القديمة والتجارب المُعاشة. والمحاكمة العقلية السليمة هي النشاط الذهني الذي يستطيع به الشخص ملاءمة تصرفه مع الموقف الحاضر، ويرسم الخطوط العريضة لتنظيم سلوكه وفقاً لرؤية مستقبلية يمكن أن يتوقعها ويتأقلم معها، وتتعرض المحاكمة العقلية للاضطراب في العديد من الحالات السريرية مثل:

أ- العتاهة (أو الخرف): تتظاهر باضطرابات تتغير بحسب طور المرض؛ فهي تصيب أولاً الذاكرة ثم بعد ذلك المحاكمة العقلية والسلوك الانفعالي. وكذلك تختلف الأفعال الجرمية بحسب مرحلة العتاهة. فيمكن لاضطراب الانتباه والذاكرة أن يؤدي إلى حدوث حريق بسبب النسيان أو إلى سلوك تعرٍّ لاشعوري، في حين قد تدفع ضُلَالات الحاجة والعوز المسن إلى السرقة من على (البسطات)، وقد تشتد سرعة الاستثارة الانفعالية أحياناً وتقود المصاب إلى انفجارات انفعالية غاضبة كأفعال عنف وضرب وجرح؛ وقد تنتهي الغيرة الضُّلالية المرضية المتأخرة بين زوجين مسنين بالقتل. المخالفات الجنسية شائعة الحدوث، ولا سيما التحرش بالأولاد والقريبات، وتتعلق بالاندفاعات الغريزية وبالتدهور الفكري أكثر من تعلقها بتراجع الحس الأخلاقي؛ وقد يستغل بعض الشباب هذه المخالفات؛ ليصبح المسن المريض ضحية الاحتيال.

ب- التخلف العقلي: يجعل قصورُ النضج العقلي المصابَ سريع الانفعال وسهل الانقياد وقابليته للإيحاء كبيرة؛ مع صعوبات في القدرة على التأقلم واضطراب في الطباع. كل ما سبق يجعله عرضة لهجمات عنف غير مسوّغة وانحرافات جنسية، وقد يصبح المريض ضحية لاستغلال الآخرين له.

ج- الحالات الذهانية التالية لأذية دماغية: مثل التهاب الدماغ أو الأورام الدماغية أو رضوض الجمجمة وغيرها؛ إذ قد يقود الهياج وفرط الاستثارة الانفعالية والضُّلالات المريض لارتكاب أفعال جرمية أو للتشرد.

د- الاضطرابات الذهانية ما بعد الولادة: ويرافقها احتمال إهمال الوليد حتى خطورة قتله.

هـ- الصرع الصدغي: وهو صرع غني بالتظاهرات النفسية؛ إذ تشاهد في بعض الحالات أفعال عنف اندفاعية (ضرب، أو جرح، أو قتل) تتصف بغياب الدافع والتعمد، وبالفجائية وبضراوة التنفيذ، وبغياب التمويه أو الهرب، وباللامبالاة بعد الفعل وبغياب الندم، والنسيان الكامل للفعل خاصة. وقد تكون الأفعال الجرمية المرتكبة خلال نوبة الصرع الصدغي سرقة أو حريقاً أو اعتداءً جنسياً، ومن المعروف أن الكحول يحرض العدوانية والصرع، ويجب أن تبقى في ذاكرة الطبيب الفاحص على الدوام الملاحظة التالية: ليس كل جنحة أو جناية يرتكبها شخص مصاب بالصرع هي فعلاً ناجماً عن الصرع، وليس كل صرعي هو مجرماً كامناً.

و- الاضطرابات الفصامية: من الناحية الطبية - القضائية؛ قد تشاهد أفعال جرمية وعنف غير مسوّغة وفجائية في الطور البدئي للفصام، أو في أثناء هجمة تطورية وخصبة للمرض مع ما تحمله من ضُلَالات زورانية وهلوسة، أو اندفاع غير متوقع لعدوانية عنيفة لدى مريض يعاني اضطرابات فصامية جامودية بقي طويلاً في حالة انسحابية وسلبية.

تكتسب الأشكال السريرية لبداية الفصام - من وجهة نظر علم الجريمة - أهمية خاصة؛ لأنها قد تبدأ بفعل طبي- شرعي جرمي تتدرج خطورته من التشرد إلى القتل؛ وهناك جدل مدرسي حول ما يدعوه بعض الدارسين "البداية الطبية -الشرعية للفصام". تقود صعوبات التأقلم مع الحياة الدراسية والمهنية والاجتماعية الشخص المصاب بالفصام إلى ترك العمل أو الدراسة، وإلى الهرب من المنزل والفرار من الخدمة العسكرية، وإلى التشرد والتوهان في المدن والأرياف.

وجريمة السرقة ليست نادرة في مرضى الفصام، ولها طابع خاص؛ فغالباً ما تكون سرقة من على بسطات العرض، وقد تكون فجائية أو مدبرة، ويمكن أحياناً ملاحظة مهارة في التنفيذ يليها محاولة للتمويه. أما عند استجوابه؛ فيتميز المريض بالفصام إما بالصمت اللامبالي وإما بابتسامة ساخرة معبراً عن توحد  autism  حالم.

أما جريمة القتل عند الفصامي فتتصف بما يلي:

٭ فعل فردي لا يشارك فيه مساهم آخر.

٭ لا يجد المشاهد الخارجي أي دافع أو مسوّغ ظاهر.

٭ غياب التعمد أو الترصد، وقرار الجريمة فجائي يتبعه على الفور اندفاع لا يقاوم لتنفيذه مباشرة.

٭ تتسم طريقة التنفيذ بعنف وقسوة غير مفهومة.

٭ غالباً ما تكون الضحية من أقرباء المريض؛ ولاسيما الأب أو الأم أو كليهما..                                              

٭ لا توجد أي محاولة للتمويه أو الإخفاء بعد ارتكاب الجرم.

يبقى المريض- عموماً، وبعد الفعل الجرمي- بارد الانفعال ولا مبالياً وغير نادم، وأحياناً يبدي بعض القلق.

٭ يعترف المريض بجريمته من دون أن يجهد نفسه بالدفاع عنها.

٭ وقد تكون جريمة القتل عرضاً افتتاحياً وبادرياً للفصام؛ ويزداد احتمال ارتكاب الجريمة؛ إذا توافرت العوامل التالية:

-  وجود أعراض اضطراب تفكير عميق مع ضلالات ناشطة وأهلاس آمرة [ر. الفحص والتشخيص في الطب النفسي.[

 - مشاركة الكحولية أو إدمان المخدرات وبعض المؤثرات العقلية.

 - توقف المعالجة وانقطاع المتابعة الصحيحة للأدوية الموصوفة.

 - إذا كان الاضطراب الفصامي ذاته مُعنداً على العلاج.

 - غياب الدعم العائلي والاجتماعي واتباع حياة مهمشة.

في جميع الأحوال، يتذكر المريض بالفصام مراحل الفعل الجرمي، وهذا ما يفرقه عن الجريمة في حالة الصرع الصدغي، ويرافق فعله أحياناً القلق وهبوط المزاج وغياب المتعة غياباً تاماً، وهذا ما يفرقه عن حالة الجريمة السادية.

ز- اضطرابات المزاج ثنائية القطب:

 - في الطور الاكتئابي: محاولات الانتحار والانتحار ليست استثنائية في الاكتئاب؛ فقد ينتحر المريض المصاب بالاكتئاب الجسيم والمشبع بالقلق، وقد يقتل شخصاً آخر قبل أن يُقدم على الانتحار في إطار ما يُعرف بالانتحار الإيثاري (لكي يخلص القتيل من ألمه الوجودي حسب ضلالاته التشاؤمية)، ويحدث أحياناً قتل لاإرادي بسبب الطريقة المختارة للانتحار والمؤذية للآخرين (الغاز، النار، حادث سيارة… إلخ)، لذلك يجب إجراء تقييم سريري شامل حتى في حالة وفاة المنتحر. ولا يُعدّ الانتحار أو الشروع فيه جريمة في التشريع الجزائي السوري، وكذلك لا تُعدّ إصابة الشخص أو إيذاؤه نفسه جريمة، ولا يَرجع السبب في عدم المعاقبة على الانتحار أو على إيذاء الشخص نفسه إلى اعتراف الشارع لكل شخص بسلطة التصرف في حياته أو سلامة جسمه، وإنما يرجع عدم المعاقبة إلى اعتراف الشرع بأن العقاب لا يجدي في هذه الحالة فتيلاً، ولا يفيد قط في الردع عن الإقدام على هذه الأفعال. ومن ناحية أخرى، فإن من يحاول الانتحار أو إصابة نفسه هو شخص يجتاز أزمة نفسية، فواجب المجتمع حياله هو أن يعالجه ويساعده على الخروج من المأزق الذي هو فيه، لا أن يلاحقه ويعاقبه. وفي المقابل؛ عدّ الشارع السوري أن المساعدة والتحريض على الانتحار جريمة خاصة ينبغي فرض العقاب على فاعليها.

 - في الطور الهوسي: الجريمة ضد الممتلكات أكثر انتشاراً في هذا الطور من المرض من الجرائم ضدَ الأشخاص، فقد يقترف المريض جرائم انتحال الشخصية، أو الاختلاس أو السرقة، أو إبرام عقود دون وجود رصيد، أو الإسراف في الإنفاق والتبذير وأحياناً تحطيم الممتلكات العامة، كما أن المخالفات الجنسية شائعة (إخلال بالآداب العامة، أو تحرش، أو تعرٍّ، أو استمناء في الأماكن العامة، أو اغتصاب، أو انتهاك حرمة المنازل… إلخ).

أما مخالفات قانون السير فقد يغذيها في الطور الاكتئابي اضطراب الانتباه وبطء الفعالية النفسية وتأثير الدواء، ويأتي الخطر في الطور الهوسي من سائق مسرع ومتهور تغذيه أفكار ومشاعر عظمة. قد تجعل هذه الاضطرابات المزاجية المريض ضحية نموذجية في بعض الحالات نتيجة سهولة الانقياد في الطور الاكتئابي وغياب الكبت في هشاشة الطور الهوسي.

تطبق اللامسؤولية عادةً في الطور الحاد للاضطراب الذي تتوافر فيه عناصر فقد القدرة على التمييز أو ضبط الأفعال؛ وتطبق المسؤولية الناقصة في الأطوار غير الحادة للاضطراب التي يلاحظ فيها نقص القدرة على التمييز أو ضبط الأفعال؛ وليس فقدانها.

ح- الاضطرابات الضُّلالية:

الاضطراب الضُّلالي في شكله التأويلي هو خطر على أشخاص محددين، أما في شكله الأهلاسي فخطر على جميع الناس، وفي الواقع؛ يوجد عدد كبير من المرضى المصابين بضُّلال الملاحقة المزمن الذين لا ينتقلون إلى تنفيذ الفعل الجرمي؛ ومنهم من يهدد ولا يعتدي؛ وبعضهم - على النقيض- لديه سلوك سلبي؛ فيهرب من الشتائم والتهديدات التي يسمعها بأهلاسه، وقد يدفعه هذا إلى ترك البيت والإقامة في الفندق، وفي بعض الحالات قد يتخفى أو يسافر خارج بلده على نحو نظامي أو غير نظامي.

ويصاب عدد من المرضى الذين يعانون ضلال الملاحقة بالاكتئاب، ويحاولون الانتحار؛ وآخرون قد يتوجهون إلى مراكز الأمن والشرطة طالبين الحماية، ومجموعة أخيرة قد تلجأ شخصياً إلى تنفيذ ما تعتقد أنه عدالة:

٭ إيذاء قد يصل لدرجة القتل في ضُّلال الغيرة المرضية.

٭ تهجم وأفعال عنف ضد الأطباء والجراحين في الضُّلالات المراقية.

٭ ضُّلالات النسب تدفع المصابين بها إلى رفع دعاوى وإجراء فحوص مخبرية.

٭ مطالبة بالتعويض عن الحقوق في المصاب بضُلال الاختراع.

٭ وفي حالات نادرة يلجأ المريض إلى اتهام ضُّلالي لذاته  بأفعال جرمية لم يرتكبها، ولكنها كانت موضوع إثارة وضجة في وسائل الإعلام.

ط- الاضطرابات العصابية:

مثل الاندفاع الوسواسي القهري للسرقة (سرقة للسرقة؛ وليست لقيمة المسروقات) ،فمن العسير إقناع رجال القضاء بتأثيرها في المسؤولية الجزائية.

ي- اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع :antisocial

تتصف الشخصية هنا بالاستهانة بحقوق الآخرين وانتهاكها، وبالإخفاق في الامتثال للقواعد الاجتماعية والقيام بأفعال تكون سبباً للتوقيف، وبالاحتيال والكذب بهدف المنفعة الشخصية أو المتعة، مع الاندفاعية وفشل في التخطيط للمستقبل، واستثارة المشاجرات والتعديات المتكررة والاستهتار بسلامة الذات والآخرين، وعدم تحمل المسؤولية والوفاء بالالتزامات والافتقار إلى الشعور بالندم مع لامبالاة لأذى الآخرين أو تسويغه.

كل ما سبق يجعل من الشخص حامل هذا الاضطراب فرداً غير مرغوب فيه لا في السجن ولا في المستشفيات؛ إذ لا ينفع فيه العلاج العقابي ولا العلاج الطبي النفسي، وعموماً؛ يميل القضاء إلى الحكم بالمسؤولية الكاملة في هذه الحالة.

ك- الكحولية وإدمان المخدرات:

موضع جدل كبير يدور حول وجود اضطراب نفسي قابل للعلاج أو لا؟ المشاركة الشائعة بين إدمان المواد الفعالة نفسياً وبين اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع تجعل مشكلة الإدمان أكثر تعقيداً لدى تقييم المسؤولية الجزائية؛ إذ يتم التفريق بين الجرائم التي ترتبط بالبحث عن توفير المادة المخدرة (تزوير وصفات طبية، السطو على الصيدليات، الدعارة…   إلخ)؛ والجرائم التي تتعلق بالاضطرابات السلوكية التالية لتعاطي المخدرات. وأخيراً هناك حالات كان فيها تعاطي الكحول والمخدرات تحضيراً واعياً للجريمة (هذا الموقف يدفع القضاة باتجاه تشديد العقوبات).

2- مسألة درجة الخطورة وإشكالية تقييمها:

في الممارسة الطبية العامة أحياناً، وفي عمل الطبيب النفسي غالباً، وفي مجال الطب النفسي - الشرعي خصوصاً؛ يتم طرح موضوع تقييم درجة الخطورة عند شخص ما بهدف تسويغ المعالجة القسرية أو الاستشفاء الإلزامي، وفي إطار الخبرة الطبية القضائية بعد أن تم تقرير المسؤولية الجزائية.

الخطورة هي مفهوم اجتماعي وطبي نفسي وعدلي، تزداد أهميته حالياً وعالمياً بسبب اشتداد مشاكل العنف والجنوح والجريمة ومظاهر الإرهاب ووسائل الحفاظ على السلامة العامة، لذلك تعدّ الخطورة مسألة أساسية، تشغل بال كل من رجال التشريع وعلماء الجريمة، وعلماء الاجتماع  والتربية، والأطباء النفسيين الشرعيين ورجال الأمن وضبط النظام العام.

تتجاوز الخطورة مفهوم المرض العقلي؛ فليس كل مريض عقلي خطراً، والكثير من حالات الخطورة تعود إلى أشخاص لا علاقة لهم بالطب العقلي. إن مفهوم الخطورة يصطبغ بشحنة انفعالية وعاطفية قوية تتصل بصورة "المجنون الخطر" مع ما تستدعيه من مشاعر الخوف التي تعيشها المجموعة الاجتماعية على نحو لا منطقي، وتتناقله وسائل الإعلام أحياناً على نحو تناقضي:

·   إذا كان الرأي العام يعدُّ شخصاً ما خطراً على المجتمع؛ فإن تحريره من السجن أو خروجه من المستشفى العقلي يدفع للاحتجاج على أنه فعل غير طبيعي أو حتى جرمي وفضائحي.

·   وعلى النقيض - حين عدم وضوح وجه الخطورة للرأي العام - يُصبح إيداع فرد ما في السجن أو في المستشفى العقلي موضع الحديث عن عقوبات عمياء أو عن حجر تعسفي.

ودراسة الخطورة معقدة بسبب:

§   تداخل مستلزمات تقنية متنوعة ومتعددة في وصفها مثل السلامة العامة، وحقوق الأفراد وحرياتهم، واحترام القانون والنظام العام، وجدوى العقاب ومكان العلاج وشروطه (في المستشفى أو خارجه، في السجن).

§   اعتمادها على علوم تحمل كثيراً من الفرضيات والتساؤلات كالتي تُلفى خصوصاً في علوم الطب النفسي وعلم الجرائم وعلم الجنايات السريري.

ما يزال مستوى المعرفة في الطب النفسي في مرحلة تجميع الأعراض في متلازمات وصفية، ولم يبلغ مرحلة معرفة السببيات الإمراضية. أما بالنسبة إلى علم الجريمة فإن المعرفة هي موضع جدل قد يمس حتى تعريف الجريمة. وإلى جانب علم الجريمة النقي ذي الروح القضائية؛ هناك علم الجريمة الاجتماعي وكذلك علم الجريمة العضوي - النفسي ذو الروح الطبية. لذلك توجد تعاريف متعددة لـ"حالة الخطورة"  تتضمن معاني تختلف بحسب المؤلفين ومفاهيمهم (القضائية، الطبية النفسية، الاجتماعية، الجنائية)، وحدودها غير دقيقة،  وتتمايز بحسب الحضارات والمستويات الثقافية - الاجتماعية وبحسب القانون الأخلاقي السائد في المجتمع؛ فيقصر بعضهم حالة الخطورة على أشكال الاعتداء الجسدي على الأشخاص (ضرب، إيذاء، قتل، اغتصاب، انتحار، …إلخ)، وتشمل بالنسبة إلى آخرين كل خروقات القانون بما فيها السرقات رمز الاعتداء على الممتلكات الخاصة والعامة. إذاً هناك شيء من النسبية في مفهوم الخطورة، ويبدو أن كل مجتمع له "عتبة تحمل" ما. عَرَّفَ Debuyst حالة الخطورة كالتالي "هي حدث نفسي- اجتماعي يتصف بمؤشرات تُظهر ارتفاع احتمال ارتكاب شخص ما فعلاً مخالفاً ضد الأشخاص أو الممتلكات أو كليهما". ووصف M. Benezech  في عام 1997م الخطورة بما يلي: "هي حالة أو موقف أو فعل، يُعرِّض فيها شخصٌ ما أو مجموعةُ أشخاصٍ، الآخرين لخطر مهم من العنف أو الإيذاء أو التحطيم".

تقليدياً تُعرف حالة الخطورة من زوايا متعددة:

أ- من الزاوية القضائية: تُوصف حالة الخطورة بحسب المواصفات والدلائل الوضعية للفعل الجرمي (العنف، الفجائية، الأدوات المستخدمة… إلخ).

ب- من الزاوية السببية:

 (1)- في الطب النفسي: يُستدل على الخطورة بتشخيص المرض العقلي - إن كان موجوداً- وتحري عرض العدائية المرضي، مع ملاحظة عدم وجود أي علاقة بين خطورة المرض وخطورة المريض.

(2)- في علم الضحية :victimology  مواصفات الضحية وسلوكها قد يكون عاملاً محرضاً لارتكاب الجريمة.

 (3)- في علم الجرائم: حيث حالة الخطورة ما هي إلا "لقاء مرضي" بين فرد ببنيته النفسية - العضوية والمحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه، وفي ظرف ما مع الضحية. ويُعدّ العبور إلى الفعل العنصر الموضوعي الذي يجعل من الفرد مخالفاً أو جانحاً أو مجرماً، ويصوغ اللقاء بين هذا الفرد من المجتمع والمؤسسة القضائية.

إذاً، سهولة العبور إلى الفعل هي المؤشر الأول للخطورة، لكن هذه السهولة واحتمالاتها ليست ذات بعد فردي، وإنما تتضمن دوماً بعداً ظرفياً واجتماعياً. ومن الناحية السريرية يعتمد تشخيص حالة الخطورة على تقييم درجة الإيذاء الكامن لدى فرد متهم بقدرته على ارتكاب أفعال مضادة للمجتمع، وهنا تبرز صعوبات لا يستهان بها أمام الطبيب النفسي تتعلق بنسبية "حالة الخطورة" من جهة، وقابليتها للتغير في الزمان من جهة أخرى.

يتفق اختصاصيو علم الجريمة على أن الأسباب المولدة للجريمة متعددة، والصعوبة أمام الطبيب النفسي هي تحريه الحالة بتقنياته الطبية النفسية فقط، وهذه لا تكفي للإحاطة بباقي عناصر التقييم المطلوبة. وكذلك لا يمكن تقييم الخطورة الناجمة عن اضطرابات نفسية بمعزل عن موقف محدد؛ لأن العوامل الخارجية التي يخلقها الموقف تتداخل على نحو ثانوي مع بنية الشخصية، وتسهم في تبدلاتها، وفي الواقع يمكن لخطورة متهم ما أن تتغير تغيراً كبيراً في أثناء مرحلة التوقيف التي قد تفصل بين الفعل الجرمي (تاريخ ارتكاب الجريمة) وبين زمن المحاكمة؛ وأن شخصاً ما لا شك في خطورته في مرحلة ما ليس بالضرورة خطراً بعد عدة أشهر أو عدة سنوات.

عملياً يستند تقييم حالة الخطورة إلى مؤشرات يمكن وصفها في ثلاث مجموعات:

(أ)- المؤشرات الطبية النفسية: وترتكز على تقصي عرض العدوانية المرضية في بعض الاضطرابات العقلية، وخاصة في المتلازمات العقلية الكبيرة حيث يشاهد تشوّش السلوك الواضح، كما في خرف الشيخوخة بما فيه داء عتاهة ألزهايمر، والتخلف العقلي الشديد، والفصام الزوراني في مراحله الخصبة بالأهلاس الآمرة، والفصام في أشكاله الجامودية، والاندفاع السلوكي العنيف، والضُلَالات الاضطهادية، والهوس الغاضب والاكتئاب الجسيم مع انشغالات فكرية انتحارية فردية أو موسعة. وهذه الاضطرابات على نحو عام سهلة التشخيص بسبب تراكم المشاهدات السريرية والمعرفة الطولانية للسيرة الذاتية للمريض، ويكون إنذار الخطورة في هذه الحالات سهل المتابعة والتقييم نسبياً، وخاصة في حالة مطاوعة المريض واستجابته للعلاج.

يجب تأكيد أن تشخيص اضطراب عقلي لا يعني تشخيص حالة خطورة؛ وأن الأذى الاجتماعي عند المرضى العقليين يبقى إحصائياً محدوداً مقارنة بالإجرامية عند أفراد يُعَدون "أسوياء".

وفضلاً عن ذلك قد يكون تشخيص الخطورة الطبية النفسية عند مريض ما، وفي وقت محدد أمراً سهلاً، وعلى النقيض قد يكون من الصعب تقييم الإنذار في حالات أو أطوار أخرى على المدى القريب وليس على المدى البعيد؛ وذلك لأن طول الفترة التي توجد فيها اضطرابات سلوكية تحمل خطورة كامنة ترتبط بعوامل عديدة أخرى (تقبل المريض للعلاج، عوامل محيطية اجتماعية وقضائية وأخرى تتعلق بالضحية).

قد يقوم العلاج ذاته في بعض الحالات بتحرير المريض من أوهامه أو من عطالته، ويعيده للواقع عن طريق العبور للفعل (مثال: محاولة الانتحار لدى مريض اكتئابي بعد معالجته بمضادات الاكتئاب، من دون الانتباه الكافي لحالة القلق وعندما يزول التكبيل والتثبيط النفسي- الحركي الذي كان الاكتئاب يمارسه عليه).

إن اشتداد الأعراض النفسية، وخاصة عرض العنف والعدوانية المرضية، وطبيعة الشحنة الانفعالية المرافقة، وعدم الاستبصار بالاضطراب ورفض العلاج، كلها عوامل ترفع درجة الخطورة الجرمية التي تتفاقم بوجود مشاركات إمراضية (ضُلَال ذهاني حاد أو مزمن + حالة اكتئابية؛ شخصية مضادة للمجتمع + حالة إدمان؛ شخصية نرجسية + حالة صراعية مع تهديد بالانفصال؛ الانحرافات الجنسية المرافقة لوجود غضب تجاه الضحية مثل الميل العنيف للاغتصاب / الغلمة nymphomania / الاعتداء على المحارم/ والسادية + الكحولية).

(ب)- المؤشرات الاجتماعية: يُجمع الباحثون على أهمية عوامل الوسط الاجتماعي (العمر، الجنس، الحالة العائلية، الروابط الاجتماعية، البطالة… إلخ)؛ لكن استثمار هذه العوامل في إطار تقييم حالة الخطورة يبدو حساساً وليس سهلاً:

 - من ناحية نظرية: إن القدرة على تقييم هذه العوامل يخرج عن نطاق الكفاءة الرسمية المعترف بها للطبيب وتأهيله المهني.

-  من ناحية عملية: إن هذه العوامل تتبدل باستمرار، كما تتغير حالة الخطورة؛ لأن الظروف العاطفية والعائلية والمهنية والعلاقاتية تتفاعل مع الميول الشخصية وتتبلور معها.

(ج)- المؤشرات القضائية: تملك السوابق القضائية قيمة بارزة في تشخيص حالة الخطورة، وهي المرجعية المهمة في هذا الموضوع لدى رجال القضاء، ويمكن للفعل الجرمي وحده أحياناً أن يكون الدليل على وجود اضطراب نفسي (مثال التعري الاستعراضي والبصبصة)، أو أن يكون البداية البادرية للمرض (مثال جريمة القتل غير المسوغة بوصفها عرضاً بادرياً للفصام). مع ذلك يجب على الطبيب ألا يبني تشخيصه الطبي النفسي للخطورة على السوابق القضائية للفرد وأن يدرس بعمق البنية والسيرورة الإمراضية النفسية التي قد تكون الأحداث القضائية شاركت في إظهارها فقط.

إن التدبير الطبي في مقاربة فرد يحمل خطورة ظاهرة وحالية أو كامنة ومفترضة يتبع الخطوات التالية:

- الخطوة الأولى: تحديد وجود الخطورة: تكون الأمور نسبياً سهلة عندما تكون مظاهرها واضحة (عنف، أو عدائية، أو شتائم، أو صراخ، أو هيجان، أو تكسير وتحطيم… إلخ)، علماً أن وجود لهجة باردة في الحديث، أو تهكم لاذع، أو نظرة حادة، أو رفض عنيد لكل اقتراب وأحياناً استجابة بالتنهدات قد توحي أيضاً إلى اضطرابات تحمل خطورة كامنة.

- الخطوة الثانية: تحليل عناصر المحيط ومسرح العنف: تدهور حالة المحيط (وجود قطيعة عاطفية، أو مواقف الحداد والعزلة، أو حدوث صراعات اجتماعية أو مهنية، أو توافر أدوات الإيذاء أو مواده وسهولة الحصول عليها)، وتحديد الملابسات الزمانية والمكانية ودور الحضور والأحداث التي تداخلت في مسرح نوبة العنف.

- الخطوة الثالثة: تقييم المؤشرات التي تؤيد تفاقم احتمال الخطورة، وقد سبق ذكرها.

- الخطوة الرابعة: اتخاذ الإجراءات المناسبة والمتدرجة التي يقتضيها الموقف: محاولة إقامة تواصل كلامي مع الفرد بحسب ما يقوله أو يعلنه؛ إعلامه بشكل ما عن المساعدة والرعاية المقترحة، وفي بعض الحالات إعلام عائلته ولاسيما إذا كان الموقف يتطلب تدخلاً علاجياً قسريا، أو اللجوء حين الضرورة إلى إجراءات إدارية أو قضائية تؤسس لدخول المستشفى دخولاً إلزامياً وحماية حقوقه.

تقييم الخطورة في إطار الخبرة العقلية القضائية:

يُكلف الطبيب النفسي بمهمة البحث عن الخطورة الجرمية التي يبديها المتهم حالياً، وتقييم درجة احتمال الانتكاسة الجرمية في المستقبل، وعلى الرغم من أن القيمة العلمية التنبؤية في مسألة الخطورة ضعيفة، فإنه من الممكن الحصول على وصف مستوى للخطورة يُؤشر للإجراءات العلاجية والوقائية الهادفة إلى اختزال الخطر إلى أقصى درجة ممكنة. يوجب هذا على الطبيب الخبير القيام بمقاربة شاملة والبحث والتحري عن كل المؤشرات:

أ- المؤشرات الطبية النفسية: (المذكورة آنفاً)، مع التدقيق في أعراض العدائية المرضية والعنف في السلوك ؛ هشاشة البنية الشخصية وأحداث حياتية راضة وباكرة في مرحلة الطفولة… إلخ.

ب- المؤشرات القضائية: تعرف التحليل الجنائي للملف العدلي: ويستدعي هذا من الطبيب القراءة المتأنية لضبوط الشرطة، وتقرير الطبابة الشرعية العامة، وخطورة الفعل ذاته والأداة المستعملة، ودرجة العفوية والفجائية أو الترصد في تنفيذ الجريمة، ووجود هشاشة ما عند الضحية ونتائج الجريمة على الضحية و ذويها، وأخيراً سلوك المتهم في مكان توقيفه. كل ذلك يؤلف عناصر تساعد الخبير على تقدير أدق للخطورة الحالية والمستقبلية لدى المتهم، وعلى الطبيب تذكر القاعدة في علوم الجريمة التي تقول: في كل الحالات الصراعية تزداد خطورة العبور للفعل الجرمي طرداً مع ازدياد الاقتراب العاطفي والجغرافي من الشخص.

ج- المؤشرات الاجتماعية: يمكن للطبيب الخبير أن يتوصل إلى رأيٍ أفضل عن الخطورة الحالية والمستقبلية للمتهم المريض عندما يبحث عن العوامل الإيجابية التي تحمي الشخص وتساعده على العودة للاندماج في المجتمع بعد إخلاء سبيله، ومنها: التقدم في العمر، وغياب السوابق الطبية النفسية والجرمية، وسيرة حياتية متوازنة نسبياً، وندم وتوبة صادقة، ورغبة صريحة وواضحة بالتحسن تحت الرعاية الطبية - النفسية ومتابعة التأهيل التربوي الهادف إلى ملافاة المشاكل والحاجات التي أسهمت في العبور للفعل الجرمي، توفر دعم عائلي واجتماعي ملائم، وأخيراً تواصل إيجابي مع المحيط والآخرين، ووضع برنامج مشروع مستقبلي واقعي وموضوعي.

إذاً على الطبيب الخبير أن يتقيد بالأخلاقيات المهنية والمنهجية العلمية، وبالتالي عدم إطلاق عبارات تحتوي على حكم ذي طابع أخلاقي (الابتعاد عن توصيف الجريمة بأنها بشعة أو شنيعة… إلخ)، وألا يسمح لاعتباراته الشخصية أن تتداخل مع نظرته للمتهم، وأن يحتفظ لنفسه بكل معلومة قد يحصل عليها خلال قيامه بخبرته التي ليس لها علاقة بموضوع الخبرة. وعليه أيضاً أن يلتزم بالانتساب إلى التصنيف الرسمي للاضطرابات النفسية ومعرفة مطابقتها مع التعابير القضائية المتداولة. وعلى الرغم من أن رأي الخبراء لا يُقيد المحكمة ولا يُلزمها ولها أن تحكم بخلافه، فالمحكمة لا تقضي إلاَ على أساس ما تطمئن إليه؛ لذا على الخبير معرفة حدود إمكاناته لكي لا تكون استنتاجاته ذاتها خطراً على المسار المتوازن والمفترض للعدالة.

في المحصلة:

إضافة إلى النصوص الواردة في لائحة نظام واجبات الطبيب وآداب المهنة - على نحو عام - التي تصدرها نقابة الأطباء، ونظراً للسمات المميزة للطب النفسي الذي يُرَكِّز على النفس - العقل أي النواة المركزية للشخص في فرادته واستقلاليته وحريته  جاء إعلان مدريد بتوصيات أخلاقية إرشادية في ممارسة هذا الاختصاص، واعتمدت لجنة الأخلاقيات في الجمعية العالمية للطب النفسي عام 1977م إعلان هاواي الذي أعيد تحديثه في ڤيينا عام 1983م ووافق عليه المجلس العام في 25/8/1996م في مدريد، وتم تأكيده في يوكوهاما عام 2002؛ وأهم ما جاء في هذا الإعلان: إن الطب النفسي هو علم وفن، يجتهد بتقديم أفضل العلاجات والرعاية والحماية المتاحة للمرضى النفسيين بما يتماشى مع أحدث المعطيات العلمية المتفق عليها والتي تتدخل بأقل قدر ممكن في حرية المريض؛ ويجب على الطبيب أن يتقبل هذا الأخير بوصفه شريكاً في العملية العلاجية مع سعيه المستمر إلى تحسين الصحة النفسية وتقليل المعاناة وحماية الحياة؛ فهو ضد ما يدعى "القتل الرحيم"، وعليه عدم المشاركة في تقييم الأهلية العقلية للمحكوم بالإعدام، وألا ينصب نفسه وكيلاً عن المريض في اتخاذ قرار نقل الأعضاء مثلاً.

الطب النفسي هو اختصاص أساسه الإصغاء للآخر؛ إذ أن دور الفحوص التكميلية المخبرية ما يزال محدوداً في الوقت الحاضر؛ لذا تكتسب العلاقة العلاجية أهمية قصوى، ويجب أن تتصف بالاحترام والثقة والسرية والخصوصية الفردية. وعلى الطبيب النفسي أن ينتبه إلى الألم النفسي لدى المريض، وأن يتحرى الأعراض بحسب التاريخ الشخصي والسيرة الذاتية للمريض، وألا يختزل الشخص إلى سلوك خطر أو إلى حالة مرضية أو اضطراب يحمل خطورة كامنة.

والطبيب النفسي يعي أن معظم الأفكار والنظريات العلمية في الطب النفسي لم تستقر بعد، والمعرفة ما تزال هنا في مستوى المتلازمات الوصفية للأعراض ولم تبلغ بعد مستوى المعرفة السببية. وينجم عن اختلاف المدارس النظرية في مفاهيم التشخيص والتصنيف والعلاج اختلاف التطبيق للأولويات في الممارسة اليومية، وفي برامج التخطيط للصحة النفسية على نحو عام. وإذا كانت كلمة "الشك" سيدة العبارات في الطب الشرعي العام فإنها تحتفظ بموقعها عن جدارة في الطب النفسي الشرعي؛ لذلك على الطبيب التأكد من المعلومات التي تصله قبل أن يُفتي فيها برأي دامغ، فقد تصله معلومات ناقصة أو مغلوطة توجب عليه الحذر منها وعدم تبنيها وبناء رأيه عليها، لأن الاجراءات الناجمة عن ذلك قد تستدعي التضييق على حرية الفرد بالاستشفاء الإلزامي أو المعالجة القسرية، أو يكون لها انعكاسات على أهليته المدنية. أما الطبيب في موقف الخبير وإعطاء رأيه بما يخص المسؤولية الجزائية وتقييم درجة الخطورة الحالية والمستقبلية فيتحتم عليه أن يبقى في حقل الحيادية، وعلى أساس تقني، وألا يدلي برأي دامغ إذا لم يكن عنده من المعلومات المؤكدة ما يكفي لذلك، وأن يتذكر أن تقييم الخطورة الواقعية يتطلب دوماً إلى جانب تقييم خطورة الشخص المريض خطر الموقف الذي تتراكم فيه عوامل عديدة لها شأن في العبور للفعل الجرمي. وإذا كان من الممكن إحصائياً التنبؤ بالخطورة المستقبلية فإنها تبقى غير متوقعة في فردانيتها وتعقيداتها، وفي حراكها (ديناميكيتها) والعوامل المتدخلة فيها.

وبعد أن اتسم النصف الثاني من القرن العشرين باكتشافات مهمة في مجال الأدوية النفسية، وبتقدم العلوم العصبية فقد أدى ذلك إلى معرفة أفضل لعمل الدماغ، وبتعاظم الأهمية المعطاة للطب النفسي الاجتماعي مع انتقاد عمل المؤسسات العقلية المغلقة ودورها في إزمان المرض، وبتزايد مشاكل الإدمان والعنف، فقد جاء القرن الحالي ومعه تحول المريض العقلي من حالة "غرض للعلاج" إلى حالة "شخص عضو مشارك" ومساهم في إنضاج برنامج العلاج والرعاية والاندماج في المجتمع.

أصبح من غير الممكن التفكير بتقديم الرعاية الطبية النفسية لمحتاجيها خارج إطار المقاربة الشاملة ذات المستويات الثلاثة: بيولوجية- نفسية- اجتماعية؛ لقد انزاح الاهتمام من حقل المريض العقلي إلى حقل الصحة النفسية والألم النفسي والاجتماعي، مما يحمل خطورة كامنة ومتصاعدة إذا استمر التمادي بإعطاء صبغة طبية نفسية لمسائل اجتماعية. وبالمقابل هناك خطر تمييع مسائل الاضطرابات النفسية إذا استخدمت مقاربة اجتماعية بحتة. والاستنتاج الذي يفرض نفسه هو أن الطب النفسي سيكون في المستقبل القريب ميداناً خصباً لحراك مستمر في المفاهيم الأخلاقية والتشريعات القانونية للحاق بتقدم المعرفة العلمية من جهة، واحترام حقوق الإنسان الشخصية من حرية واستقلالية وفرادة في المجتمع الذي يعيش فيه من جهة أخرى.

 

   

 


التصنيف : الأمراض النفسية
النوع : الأمراض النفسية
المجلد: المجلد العاشر
رقم الصفحة ضمن المجلد : 269
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 1044
الكل : 58492752
اليوم : 65266