logo

logo

logo

logo

logo

الاضطرابات النفسية المرافقة للحيض والحمل والولادة

اضطرابات نفسيه مرافقه حيض وحمل وولاده

mental disorders associated with menstruation, pregnancy and childbirth - troubles mentaux liés à la menstruation, la grossesse et l'accouchement



الاضطرابات النفسية المرافقة للحيض والحمل والولادة

 

غسان علي

 

  الاضطرابات النفسية المتعلقة بالحيض
فترة النفاس والاضطرابات المتعلقة بها الحمل والاضطرابات النفسية المتعلقة به
الاضطرابات النفسية التالية للولادة الإجهاض وعواقبه النفسية
وصف الأدوية النفسية في أثناء الحمل والولادة والإرضاع الولادة وتأثيراتها النفسية
 

 

تتميز المرأة بتوازن دقيق لهُرْمونات أُنْثَوِيّة ينتجها المبيض أهمها الاستروجين والبروجيسترون والأندروجين؛ إذ تعمل هذه الهدمونات على تنظيم الحَيض (الطمث أو الدَّوْرَة الشَّهْرِيَّة) طوال سن الإنجاب. تنجم الدورة الشهرية عن دورية عمل المبيض التي تقسم الدورة الشهرية إلى طورين: طور جريبي وطور لُوتينِيّ تفصل بينهما الإباضة. تبدأ كل دورة مبيضية مع تطور مجموعة من الجريبات التي لا يلبث أن يصبح أحدها جريباً مسيطراً، ويتكون الجريب من خلية بيضية محاطة بخلايا حبيبية تحاط بدورها بخلايا غمدية. يبدأ تطور الجريب بتحرر الهُرْمون المطلق لمُوَجِّهة الغُدَدِ التَّناسُلِيَّة gonadotropin- releasing hormone (GRH)  من الوطاء لحث الغدة النخامية على إفراز الهرمون الملوتن       (LH) luteinizing hormone والهرمون المنبه للجريب  (FSH) follicle- stimulating hormone، ومن ثمّ يحث الهرمون الملوتن LH الخلايا الغمدية حول الجريب على تركيب الأندروجين وإفرازه؛ في حين يحث الهرمون المنبه للجريب FSH الخلايا الحبيبية على تحويل الأندروجين المنتج من الخلايا الغمدية إلى إستروجين. ويخضع إفراز كلٍّ من هذه الهرمونات للتنظيم من خلال الارتجاع البيولوجي feedback (التلقيم الراجع) للإستراديول عند مستوى الغدة النخامية، فيُثبِّط ارتفاع تركيز الإستراديول الهرمون المنبه للجريب FSH محدداً بذلك عدد الجريبات الناضجة.  وتحدث الإباضة (انبثاق البيضة من الكيس الجريبي) عندما يتجاوز تركيز الإستراديول حدود عتبة حرجة مدة لا تقل عن 36 ساعة، وتتحول الخلايا الحبيبية بعد الإباضة إلى خلايا لُوتينِيّة مفرزة للبروجيسترون.

تتضمن النسج الهدفية للهرمونات المبيضية نسجاً عديدة أهمها البطانة الرحمية والثدي، وقد اتضح مؤخراً أن لهذه الهرمونات مستقبلات على الخلايا العصبية الدماغية. ويؤدي اختلال التوازن الدقيق للهرمونات المسؤولة عن تَنْظيم الحَيض إلى اضطراب الدَّوْرَة الشَّهْرِيَّة وإلى حدوث أمراض في الثدي وفي المبيض (مثل مُتَلاَزِمَةُ المَبيضِ المُتَعَدِّدِ الكيسات (polycystic ovarian syndrome  وفي الرحم (الذي قد يصاب مثلاً بانْتِباذ بِطَانِيّ رَحِمِيّ .(endometriosis وقد ترافق الدَّوْرَة الشَّهْرِّيةَ أعراضٌ وعلاماتٌ طبية نفسية مثل الاكْتِئاب depression وتأرجح المزاج mood swings والهَيوجِيَّة irritability والعَصَبِيَّة (النَزَق) nervousness ونقص الشَبَق libido وضعف التركيز والنسيان واضطراب النوم وزيادة الوزن. كما قد ترافق الحمل والولادة اضطراباتٌ نفسية نوعية، ويُعالج هذا البحث التظاهرات النفسية التي قد ترافق كلاً من الدورة الشهرية والحمل والإجهاض والولادة، كما يُعالج استخدام الأدوية النفسية في أثناء الحمل والإرضاع.

أولاً- الاضطرابات النفسية المتعلقة بالحيض:

يعود الوصف الحي والوصمة الاجتماعية المرتبطة بالتغيرات السلوكية والمزاجية المتعلقة بالدورة الحيضية تاريخياً؛ إلى "أبو قراط" والثقافات القبلية الإفريقية القديمة التي كانت تمارس تقليد عزل النساء في فترة الحيض بسبب الخوف من التلوث بالمرأة الحائض. ولازمت هذه الوصمة الخرافية المرأةَ في عدة قرون قبل أن تتلاشى تدريجياً مع تطور وصف الاضطرابات المتعلقة بالحيض وتحليلها تحليلاً دقيقاً في الوقت الحالي. فقد أدرك الأطباء منذ فترة طويلة الارتباط بين الدورة الحيضية والمرض النفسي؛ فاستخدموا مصطلح اضطراب المزاج الحيضي menstrual mood disorder في العام 1827. وتبين من فحص جموعي أجري عام 1850 أن نحو20%-30% من النساء يعانين اضطراباً مزاجياً قبل الحيض أو في أثنائه، وقدَّم هنري موزدلي في العام 1873 بداية نظرة مستقبلية للربط بين الخلل الجسدي والعقلي في سياق الدورة الشهرية، ووضع روبرت فرانك في عام 1931 الوصف الأول للتوتر السابِق للحَيض premenstrual tension  مفترضاً حدوثه بآلية هرمونية. واستخدمت كاترين دالتون  عام 1952 مصطلح "المتلازمة السابِقة للحَيض"، وأجمع المعهد الوطني الأمريكي للصحة العقلية في العام 1983 على معايير تشخيصية لما عُرف حينها باسم (اضطراب الانزعاج في الطور اللُوتينِيّ المتأخر (late luteal phase dysphoric disorder والذي أعيدت تسميته في العام 1988 فأطلقت عليه التسمية المستخدمة حالياً وهي (اضطراب الانزعاج السابق للحيض  .(premenstrual dysphoric disorder

وفيما يلي عرض المتلازمة السابقة للحيض والانزعاج السابق للحيض إضافةً إلى الذهان السابِق للحَيض.

1-المتلازمة السابقة للحيض  :premenstrual syndrome

تتألف المتلازمة السابقة للحيض (والتي تسمى أيضاً التوتر السابق للحيض) من مجموعة من الأعراض الجسدية والانفعالية المتعلقة بدورة المرأة الحيضية. تعاني معظم النساء (حتى 85% منهن) في سن الإنجاب أعراضاً جسدية تتعلق بوظائف المبيض الطبيعية؛ مثل نفخة البطن وإيلام الثدي، ولكن يقتصر تعريف المتلازمة السابقة للحيض على نموذج محدد من الأعراض الجسدية والانفعالية التي تحدث في الطور اللُوتينِيّ من دورة الحيض والتي تبلغ درجةً من الشدة تكفي للتأثير في معظم نشاطات الحياة اليومية. ويؤكد هذا التعريف ضرورة وجود الأعراض الانفعالية على نحو خاص. ومع أن الأعراض قد تختلف من امرأة إلى أخرى، فإن نموذج الأعراض النوعية لكل امرأة ثابت ويحدث دائماً في الأيام العشرة السابقة للحيض ويختفي مباشرةً قبل بدء جريان دم الحيض أو فور جريانه. ويعاني هذه المتلازمة عددٌ قليل من النساء (2-5%).

الأعراض: تمّ توثيق أكثر من 200 عرض مختلف للمتلازمة السابقة للحيض، ولكن أكثر ثلاثة أعراض شيوعاً هي الهَيوجِيَّة والتوتر والانزعاج (عدم السعادة .(dysphoria وتشتمل الأعراض غير النوعية الشائعة على الكرب والقلق والأرق والصداع والتعب وتأرجح المزاج وفرط الحساسية الانفعالية وتغير الشَبَق. أما الأعراض الجسدية الشائعة فتتضمن النفخة والمغص البطني والإمساك وتورم الثدي وإيلامه والعُدّ الدوري والآلام المفصلية والعضلية المتعلقة بالدورة الشهرية، ولكن يشترط للتشخيص أن تكون الشكوى الرئيسة من الأعراض الانفعالية. ولتأكيد التشخيص يجب وجود الأعراض النوعية لكل امرأة في الأيام العشرة السابقة للحيض، كما يجب أن تختفي الأعراض مدة أسبوع على الأقل في الفترة الفاصلة بين الحيض والإباضة.

الأسباب: ما زالت أسباب المتلازمة السابقة للطمث غير مفهومة. ومع أن الأعراض تتعلق بالطور اللُوتينِيّ، فإن معايرة الهرمونات الأنثوية تبدي أنها ضمن الحدود الطبيعية. ويعتقد حالياً وجود عامل جيني لأن السوابق العائلية تمثل مشعراً جيداً لاحتمال الإصابة بالمتلازمة السابقة للحيض، كما وجدت دراسات التوائم أن معدل توافق الإصابة أعلى في التوائم الحقيقية مما في التوائم الكاذبة. يضاف إلى ذلك أن حدوث المتلازمة السابقة للحيض يزداد بوجود اضطرابات المزاج مثل الاكتئاب والاضطراب ثنائي القطب، مما يدعو إلى الاعتقاد أن المتلازمة السابقة للحيض قد تنجم عن تآثر تفاعل الهرمونات التناسلية مع النواقل العصبية في الجملة العصبية المركزية، ولاسيما منها السيروتونين، ولكن لم يتأكد وجود مثل هذه العلاقة السببية. وقد تم توثيق عوامل الخطورة التالية:

- فرط استهلاك الكافئين.

- الكرب.

- التقدم بالعمر.

- سوابق إصابة بالاكتئاب.

- وجود سوابق عائلية للمتلازمة السابقة للحيض.

- عوامل غذائية مثل نقص تناول بعض الفيتامينات والمعادن ولاسيما المغنيزيوم والمنغنيز وڤيتامين  E وڤيتامين .D

التشخيص: لا توجد فحوص مخبرية أو علامات سريرية نوعية للمتلازمة السابقة للحيض، ويعتمد التشخيص على وجود المظاهر المفتاحية الثلاثة التالية:

أ- تتكون شكوى المرأة الرئيسة من عرض انفعالي أو أكثر من الأعراض المعروف ترافقها بهذه المتلازمة (عادةً الهيوجية أو التوتر أو الانزعاج أو كلها معاً).

ب- تظهر الأعراض على نحو متوقع في الطور اللُوتينِيّ وتخف أو تختفي على نحو متوقع أيضاً مباشرةً قبل الحيض أو في أثنائه وتبقى غائبةً في الطور الجريبي من الدورة الشهرية.

ج- يجب أن تكون الأعراض من الشدة بحيث تعطل أو تُخِلّ بحياة المرأة اليومية.

يفيد في تأكيد التشخيص أن تسجل المرأة الأعراض وعلاقتها بالدورة الشهرية دورتين حيضيتين على الأقل، ويجب استبعاد حالات أخرى قد تكون سبب شكاوى المرأة؛ إذ تشتد أعراض بعض الحالات الطبية عند الحيض بآلية تعرف باسم التضخيم الحيضي menstrual magnification، ومن هذه الحالات فقر الدم وقصور الدرقية واضطرابات الأكل وتعاطي العقاقير واضطرابات المزاج والشقيقة والصرع ومتلازمة القولون المتهيج والربو والأرج. كما يجب استبعاد مشاكل تناسلية أنثوية مثل عسر الطمث dysmenorrhea (ألم في أثناء الحيض وليس قبله) والتأثيرات الجانبية لحبوب منع الحمل، وأمراض الرحم.

التدبير: تستخدم في تدبير المتلازمة السابقة للحيض معالجات عديدة تشتمل على تعديل الحمية ونمط الحياة والمعالجة الداعمة، وعلى وصف معالجات هرمونية واستخدام مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية .SSRI وتشتمل المعالجة الداعمة supportive therapy على التقييم والمشاورة النفسية التثقيفية، وهي جزء مهم من المعالجة يساعد المريضة على استعادة السيطرة على حياتها. ومن المفيد هنا ممارسة الرياضة، وتخفيف استهلاك الكافئين والسكر والملح، وزيادة تناول الأغذية الغنية بالألياف، وتوفير قسط كاف من الراحة والنوم. أما التداخلات الغذائية مثل الڤيتامينات D و E و B6 والمعادن مثل المغنيزيوم والمنغنيز، فما زالت بحاجة إلى براهين تدعم فائدتها.

يمكن استخدام مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية لمعالجة الحالات الشديدة من المتلازمة السابقة للحيض. ومن الشائع استخدام مانعات الحمل الفموية ولكن تقتصر فائدتها على تخفيف الأعراض الجسدية من دون التأثير في الأعراض الانفعالية. وقد شاع في أوقات مختلفة استعمال العديد من الوصفات غير المدعومة ببراهين على فائدتها مثل البروجيسترون، وناهضات الهُرْمونُ المُطْلِقُ لمُوَجِّهَةِ الغُدَدِ التَّناسُلِيَّة gonadotropin-releasing hormone agonists، والمدرات ومضادات الالتهاب غير الستيروئيدية والكلونيدين والتربتوفان والفنيل آلانين.

الإنذار: المتلازمة السابقة للحيض حالة ثابتة نسبياً، إذ تعاني المرأة المصابة الأعراض ذاتها والشدة ذاتها في أواخر كل دورة شهرية لسنوات عديدة، والمعالجة العرضية فعّالة، وتختفي الأعراض في مطلع كل دورة شهرية حتى من دون علاج، وتزول المتلازمة نهائياً بعد الإياس. والنساء المصابات بهذه المتلازمة أكثر عرضةً للإصابة بالاضطراب الاكتئابي.

2-الانزعاج السابق للحيض :premenstrual dysphoric disorder

كان هذا الاضطراب يسمى سابقاً "الانزعاج في الطور اللُوتينِيّ المتأخر" وأعطي اسمه الحالي في الطبعة الرابعة من الدليل التشخيصي الإحصائيDSM-IV، ولكنه لا يصنف بوصفه اضطراباً نفسياً معترفاً به؛ بل يصنف ضمن الاضطرابات التي تحتاج إلى دراسات إضافية. والانزعاج السابق للحيض هو نوع شديد من المتلازمة السابقة للحيض يصيب 3-8% من النساء، ويرافق الطور اللُوتينِيّ من الدورة الشهرية، وتسيطر على الأعراض الانفعالية فيه أعراض مزاجية، إذ تتألف أعراضه الرئيسة من:

- حس حزن عميق ويأس وتفكير انتحاري.

- حس توتر أو قلق مكثف.

- فرط حساسية للانتقاد أو للنبذ.

- نوب هلع .panic

- تأرجح مزاج سريع وشديد، وهجمات بكاء غير مضبوط.

- غضب أو هيوجية مستمرة، وخلافات مع الآخرين.

- عدم الاهتمام بالعلاقات وبالنشاطات اليومية.

- صعوبة التركيز.

- التعب المزمن.

- فرط الأكل.

- الأرق أو فرط النوم.

- زيادة الدافع الجنسي أو نقصه.

- زيادة الحاجة إلى الحنان وإلى التقارب العاطفي.

- أعراض جسدية مثل تورم الثديين أو إيلامها، وخَفَقان القلب، والصداع، والآلام المفصلية أو العضلية، وتورم الوجه والأنف، وحس انتفاخ البطن، والبدانة أحياناً.

الأسباب: تم توثيق أول كشف جيني مهم في الانزعاج السابق للحيض في العام 2007 حين وُجِدَ ترابطٌ بين هذا الاضطراب وبين متغيرات في جين مستقبل الإستروجين ألفا، كما وجد أن هذا الترابط يشاهد فقط في نساء لديهن شكل متغير من جين آخر هو جين الإنزيم catechol-O-methyltransferase الذي له شأن مهم في تنظيم وظائف قشرة الدماغ قبل الجبهية ذات الصلة بتنظيم المزاج. ومن الفرضيات في هذا المجال أن الانزعاج السابق للحيض هو نتيجة عوز السيروتونين الناجم عن تموّج الهرمونات التناسلية الأنثوية في الطور اللُوتينِيّ من الدورة الشهرية. وتدعم هذه الفرضية نتائج تجارب سريرية تبين فعالية مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية في معالجة هذا الاضطراب حين تعطى في أثناء طور الانزعاج. كما يزداد في النساء المصابات بهذا الاضطراب احتمال حدوث الاكتئاب وحيد القطب والاضطرابات القلقية.

المعالجة: تهدف المعالجة إلى تخفيف معاناة المرأة وتخفيف اضطراب علاقاتها الاجتماعية، فتستخدم المعالجة الداعمة ذاتها المستخدمة في معالجة المتلازمة السابقة للطمث، ويفيد في تخفيف الأعراض الڤيتامين B6 ومثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية، وطليعة السيروتونين تربتوفان.

3-الذهان السابِق للحَيض  :premenstrual psychosis

تصاب بعض النساء خلال النصف الثاني من الدورة الحيضية باضطراب ذهاني ما يلبث أن ينتهي فجأةً مع بداية الحيض، وهو مرض نادر وتوحي تقارير مهمة من اليابان والهند والدول الإسلامية أنه قد يكون اضطراباً عالمياً، وتبين تلك التقارير وجود ميل عائلي إلى الإصابة به. سريرياً يشابه الذهان السابق للحيض الذهان التالي للولادة، وأهم مظاهره السريرية هي: البدء الحاد والمدة القصيرة والشفاء السريع للمظاهر الذهانية مثل التوهمات والهلوسة والذهول والتخليط أو الهوس، تتكرر على نحو دوري مع الدورة الحيضية. يُحَسِّن الحمل من هذا الاضطراب، وهناك من يقول بفائدة المعالجة بمانعات الحمل الفموية وبالبروجيسترون والكلوميفين clomifene والدانازول .danazol

ثانياً- الحمل والاضطرابات النفسية المتعلقة به:

يعد تأخر الحيض مدة أسبوع في امرأة منتظمة الطمث  العلامة الاحتمالية الأولى للحمل، وتشتمل العلامات الاحتمالية الأخرى على تضخم الثديين وإيلامهما، وتغير شكل الثديين وحجمهما، والغثيان مع قياء أو من دون ذلك، وتعدد البيلات، والتعب والوهن الصباحي، ويؤكد تشخيص الحمل مخبرياً. يقسم الحمل إلى ثلاثة أثلاث تبدأ من اليوم الأول للدورة الحيضية الأخيرة وتنتهي بالولادة. يجب على الحامل أن تتكيف خلال الثلث الأول مع تغيرات جسمها ومع التقلبات المزاجية. أما الثلث الثاني فإنه يعد الأكثر راحة للحامل لأنها تكون قد انتهت من الغثيان والقياء وبدأت تستعيد طاقتها، مما يشعرها بتحسّن يجعلها أكثر شوقاً لرؤية مولودها. ويرافق الثلث الثالث للحمل انزعاج جسدي في العديد من الحوامل، إذ تقع أجهزة الحامل القلبية الوعائية والكلوية والرئوية والهضمية والغدية تحت عبء تغيرات عميقة قد تؤدي إلى خفقان القلب وزيادة الوزن وضيق النفس وحرقة الفؤاد، وتتطلب بعض الحوامل تطميناً بأن هذه الأعراض سوف تتراجع بعد 4-6 أسابيع من الولادة.

تخضع النساء في أثناء الحمل إلى تغيرات نفسية مميزة، وتعكس مواقفهن من الحمل معتقدات عميقة تتعلق بمفهوم التناسل وما إذا كان الحمل مخططاً له أو غير مخطط أو إذا كان الطفل مرغوباً به أو لا. ويتأثر ذلك بنوع العلاقة مع الزوج، وبعمر الحامل، وبإحساسها بهويتها كأمّ مستقبلية. وغالباً ما تجد النساء السليمات نفسياً أن الحمل عملٌ خلاق وإشباعٌ لحاجات أساسية. وتستخدم بعض النساء الحمل لتأكيد أنوثتهن أو للحصول على السلام والاطمئنان الذاتي بأنهن يؤدين وظائفهن بوصفهن إناثاً، في حين تنظر بعض النساء إلى الحمل نظرةً تشمل التخوف من الولادة والشعور بعدم الكفاءة لتكون أمّاً. وتتأثر نظرة المرأة إلى الحمل واحتمال نجاحها لاحقاً كأمّ بتجارب طفولتها الباكرة وبتجربة انفصالها عن أمها وتكوينها لهويتها المستقلة؛ فإذا كانت والدة المرأة الحامل مثالاً سيئاً للأمومة فإن إحساس هذه المرأة بمدى كفاءتها لتكون أمّاً سيكون ضعيفاً، وقد تفتقر إلى الثقة بنفسها قبل الولادة أو بعدها، وغالباً ما تتركز المخاوف والتخيلات غير الواعية للنساء خلال الحمل الباكر على فكرة الانشطار عن أمهاتهن.

يبدأ التعلق النفسي للأم بالجنين وهو في رحمها، وتكون لدى معظم الحوامل مع بداية الثلث الثاني من الحمل صورةٌ عقلية متخيلة لمواليدهن، فينظرن إلى الجنين على أنه كائن منفصل عنهن حتى قبل ولادته، لذلك فإن الكثير من الحوامل يتكلمن مع أجنتهن، ولا يرتبط التحدث العاطفي مع الجنين بالإحساس المبكر بالأمومة فحسب، بل يرتبط أيضاً بجهود الأم للمحافظة على حمل صحي عن طريق الامتناع عن التدخين والكافئين مثلاً. وطبقاً لعلماء التحليل النفسي فإن الطفل المقبل هو صفحة بيضاء تسقط الأم عليها كل أمنياتها ومخاوفها، وتعزى في حالات نادرة بعض الحالات النفسية المرضية التي تعانيها الأم بعد الولادة إلى مثل هذه الإسقاطات مثل رغبة الأم في أذية وليدها الذي تنظر إليه على أنه جزء مكروه من نفسها.

الاضطرابات النفسية في أثناء الحمل:

1-القلق: يعد الحمل ذاته حالة مُقلقة للعديد من النساء. ففي الثلث الأول من الحمل يسيطر على الحامل قرارٌ مقلقٌ نحو الاستمرار بالحمل أو إنهائه، ويبلغ القلق ذروته في النساء اللواتي لديهن إجهاضات سابقة في الوقت الذي كن فقدن فيه الحمل السابق. ويتركز القلق المتصاعد في الثلث الثالث من الحمل على ثلاثة أمور أساسية هي الخوف من المخاض، والخوف من احتمال أن يكون الجنين مشوهاً، والخوف من الإخفاق في تحمل أعباء الأمومة. وتُدبَّر هذه المخاوف عادة بالمعالجة الداعمة، وإذا اضطر إلى المداواة عُدّت مشتقات الفينوتيازين أدوية آمنة نسبياً، أما البنزوديازبينات فهي مضاد استطباب ولاسيما في المراحل الأخيرة من الحمل لأنها تسبب متلازمة الطفل الرخو، ويفضل تجنب البروبرانولول لأنه قد يؤخر نمو الجنين وأعراضاً قلبية وتنفسية في الوليد.  

2-الاكتئاب: على الرغم من أن الاهتمام بالاكتئاب قبل الولادة أقل على نحو عام من الاكتئاب التالي للولادة فإنه ليس أقل شيوعاً منه؛ فالاكتئاب شائع في مختلف الفئات العمرية للنساء في سن النشاط التناسلي، ولا يقل معدل حدوثه في أثناء الحمل عنه في بقية مراحل عمر المرأة، بل قد يعدّ الحمل عامل خطورة للانتحار عندما يكون غير مرغوب أو غير شرعي ومتسماً بوصمة عار.

3-الكحولية: يؤدي تناول كميات كبيرة من الكحول في أثناء الحمل إلى تأثيرات ضارة على الجنين؛ فللإيتانول تأثيرات مشوهة للجنين، ويسبب متلازمة الكحولية الجنينية التي تتضمن تشوهات وجهية ناجمة عن عسر تصنع الفكين، إضافةً إلى إعاقة نمو الجنين داخل الرحم، وتقصير مدة الحمل، وولادة مولود ناقص الوزن ليس بسبب الخداج بل بسبب إعاقة الإيتانول للنمو داخل الرحم.

ثالثاً- الإجهاض وعواقبه النفسية:

يعرف الإجهاض المحرض بأنه الإنهاء القصدي للحمل، ويبلغ معدل الإجهاضات في الولايات المتحدة 246 إجهاضاً لكل 1000 ولادة لمولود حيّ، ويشيع الإجهاض في الغرب بين الشابات العازبات. وتُظْهِر الدراسات الحديثة أن معظم النساء اللواتي قمن بالإجهاض المحرض كُنَّ مقتنعات بالقرار الذي اتَّخَذْنَه، وأنه قليلاً ما يكون للإجهاض فيهن عواقب نفسية سلبية. أما النساء اللواتي عانين إجهاضاً تلقائياً فيتعرضن لمعدلات عالية من الاكتئاب الارتكاسي، وسبب هذا الفارق هو أن النساء اللواتي قمن بالإجهاض القصدي لا يردن الطفل أصلاً على عكس النساء اللواتي حدث لديهن الإجهاض التلقائي. ولكن تختلف الصورة على المدى البعيد فتصبح المرأة التي قامت بالإجهاض القصدي أكثر كرباً وانزعاجاً من المرأة التي حدث لديها إجهاض تلقائي. والإجهاض في الثلث الثاني من الحمل أكثر رضّاً من الناحية النفسية من الإجهاض في الثلث الأول. والسبب الأكثر شيوعاً للإجهاض المتأخر هو اكتشاف تشوه الجنين، وهكذا فإن الإجهاض القصدي المتأخر يكون لجنين مرغوب فيه كانت الأم قد كوّنت معه رابطة جيدة خلال الفترة الأطول من الحمل. وقد تلجأ المرأة التي لا يُسمح لها بالإجهاض أحياناً إلى الانتحار مفضلةً ذلك على استمرار الحمل المرفوض، أما عند إجبار المرأة على الاستمرار بالحمل حتى وضع المولود فقد يتزايد خطر قتل ذلك الوليد أو هجره أو إهماله أو سوء معاملته بكلّ الطرائق المحتملة لسوء المعاملة.

رابعاً- الولادة وتأثيراتها النفسية:

التأثيرات النفسية للمخاض:

قد تكون الولادة إحدى أكثر المحن الإنسانية شدّةً؛ ففيها من الألم والعذاب ما يكفي لتسبب شعوراً بالإحباط واليأس والتعاسة أحياناً، ولاسيما في الولادات التقليدية البدائية التي ما تزال موجودة في بعض المناطق حتى هذا اليوم. وهناك حوادث من انتحار بعض الحوامل أو إصابتهن بنوب من الغضب الشديد التي قد تكون خطرة على الجنين وقد تكون عامل خطورة لقتل الوليد. ويحدث الهذيان في حالات نادرة، يبدأ قبل الولادة بوقت قصير ويدوم بضع ساعات فقط ويتراجع بعد الولادة مع نساوة لكل ما حدث في الساعات السابقة. ومازال سبب حدوث الهذيان غير معروف حتى الآن، ولكنه عُزي إلى الألم الشديد المُبرّح.

العواقب النفسية لفقدان الطفل:

قد تفقد الأم طفلها لعدة أسباب منها رغبة الأم في إنهاء الحمل، والإجهاض، وأسباب طبية، وموت الجنين داخل الرحم، وموت الوليد المفاجئ، والتخلي عن الوليد بقصد التبني. وتصاب الأم عقب فقدان ابنها بتفاعل حداد يشبه تفاعل الحداد التالي لفقدان شخص عزيز بالغ ولكن مع بعض السمات الخاصة.

يتظاهر تفاعل الحداد في الأم بسبب فقدان الطفل بالمظاهر التالية: الصدمة، ثم خدر عاطفي وشعور بالفراغ تليه الإصابة بحزن مؤلم طويل الأمد وبهلوسة (الشعور بحركات الجنين، رؤية وجه الطفل، سماع بكاء الطفل، رؤية الطفل وهو يتحرك في سريره، وسماع هدهدته)، وقد يرافق ذلك شعور بالذنب والغضب، وأحياناً بتوجيه التهم للآخرين. كما قد تحدث نوب من الهياج يرافقها رمي ألعاب الطفل وألبسته وتدميرها، يليها شعور بالخزي والعار والنبذ من المجتمع وبالتالي الشعور بالحقد على الناس وحسد الأمهات الناجحات وربما التفكير بسرقة أطفالهن.

يتطلب تدبير فقدان الطفل التواصل مع الأبوين تواصلاً مبنياً على الأمانة والصدق، وتجنّب تعزيز الشعور بالذنب لديهما. ويجب على الفريق الطبي تقبل غضب الأهل وحسبانه ارتكاساً طبيعياً وعدم محاولة الوقوف موقف المدافع عن النفس.

تفضل معظم النساء اللواتي فقدن أطفالهن وهنّ في المستشفى النأي بأنفسهن عن الآخرين والانفراد بأزواجهن، ويطالبن عادةً بالخروج من المستشفى بأسرع ما يمكن. ويجب قبل مغادرتهن أن يقابلهن استشاري التوليد عدة مرات، كما يجب أن يوصف لهن بروموكريبتين من أجل إيقاف إدرار الحليب، وقد توصف المنومات للمريضات المصابات بالأرق, والأهم هو التنبه للاكتئاب الثانوي. ومن المفيد السماح للوالدة برؤية ابنها الميت وملامسته وبالتقاط صورة تذكارية معه والاحتفاظ بها، كما قد ترغب بعض الأمهات بالاحتفاظ بتذكار من نوع آخر مثل خصلة من شعر الطفل. ومن الضروري والمفيد أيضاً إطلاق اسم على الطفل الميت والقيام بكل مراسم الدفن المعتادة.

تحتاج الأم المفجوعة إلى من يشاركها همومها ويخفف من كربها ويساعدها على تقبل مصيبتها، وغالباً ما يقوم بهذا الدور الداعم الزوج والعائلة والأصدقاء، أو الأطباء والاختصاصيون النفسيّون.

خامساً- فترة النفاس والاضطرابات المتعلقة بها:

الارتكاسات النفسية الطبيعية ما بعد الولادة:

تعد الولادة عند معظم النساء اللحظة الأسمى والأكثر سعادةً ونشوةً في حياتهن. وتساعد هذه المشاعر من الطمأنينة والسلام والإحساس بالعمل الخلاق؛ الأمَّ في الأسابيع التالية للولادة على تجاوز الإجهاد الذي عانته في الفترة السابقة وفي أثناء المخاض. وقد تتعرض الأم لفترة من الفرح الغامر يدوم أسبوعاً أو أكثر (الهوس الخفيف في فترة النفاس) وغالباً ما يليه اكتئاب. وتواجه الأم في فترة النفاس مجموعة من التحديات التالية:

1-الإعياء الجسدي الذي يتضافر مع الألم الناتج من الرض الحوضي بسبب الولادة.

2-الرضاعة الطبيعية.

3-الأرق، ويعد الحرمان من النوم أحد أسباب النزق وسرعة الغضب. 

4-المحافظة على الجمال والجاذبية التي قد تهدد بزيادة الوزن.

5-فقدان الرغبة الجنسية وعسر الجماع الناتج من الرض المهبلي الولادي أو الجراحي، وتستأنف العلاقة الجنسية خلال 3 أشهر عادةً.

6-الشعور بالسأم نتيجة التعب وملازمة المنزل والعزلة الاجتماعية والتوقف المؤقت عن العمل.

تتضافر جميع هذه التغيرات لتصبح عوامل تؤثر في الحالة النفسية للأم الجديدة. وقد تتعرض الأم لبعض الاضطرابات النفسية في سياق هذه التغيرات الاجتماعية والعاطفية والبيولوجية السريعة. ومن الارتكاسات النفسية الطبيعية ما يعرف باسم أحزان الولادة baby blues أو أحزان الأمومة maternity blues؛ إذ تمر نحو نصف الأمهات بفترة قصيرة من اكتئاب جزئي يحدث ما بين اليومين الثالث والخامس من الولادة ويدوم من بضع ساعات إلى أيام، تعاني الأم في أثنائها حساسية مفرطة تجاه أبسط الأمور، وتفاجئ مَن حولها ببكاء شديد غير مبرر وغير متوقع، وهكذا فإن أساس هذا الاضطراب ليس الاكتئاب، بل تغير مزاجي مفاجئ وعابر وغير متوقع. تشاهد "أحزان الولادة" في كل أنحاء العالم، وترتبط إحصائياً بالسمات الشخصية القلقية، وبالتنبه العصبي، وبالاكتئاب في أواخر الحمل. وقد تمت دراسة هذا الموضوع من الناحية المخبرية ولكن من دون إجماع عام على المجودات المخبرية في تلك الدراسات؛ فقد وجد في إحدى الدراسات هبوط كبير في البروجيسترون، ولكن النتيجة المخبرية الأكثر توارداً هي نقص النورأدرينالين في البول والمصل.

سادساً- الاضطرابات النفسية التالية للولادة:

تشتمل الاضطرابات النفسية التالية للولادة على الاضطراب الذهاني التالي للولادة، والاضطراب الاكتئابي التالي للولادة، والاضطرابات القلقية التالية للولادة.

1-الاضطراب الذهاني التالي للولادة:

قد يبدأ عديد من الاضطرابات الذهانية على نحو مبكر بعد الولادة؛ مثل الهذيان المشابه للهذيان المشاهد في أثناء المخاض، والذهول الناجم عن الإعياء الشديد، والهذيان الارتعاشي، والهذيان التالي للارتعاج .post eclamptic كما قد تشاهد اضطرابات ذهانية ارتكاسية نفسية المنشأ مثل الغيرة المرضية التي تتطور على نحو يمكن تفسيره في ضوء التغير الحادث في العلاقة الزوجية والبرودة الحادثة في الحياة الجنسية بين الزوجين. ولكن يتظاهر القسم الأكبر من الاضطرابات الذهانية الوظيفية التالية للولادة بمظهر «الاضطراب الذهاني التالي للولادة».

لا يعدّ الذهان التالي للولادة اضطراباً خاصاً بذاته؛ فليست له أعراض نوعية ولا سير محدد، لذلك مازال تصنيفه مثار جدل منذ وصفه للمرة الأولى أوسياندر عام 1797، وما تلاه من أعمال لأسكيرول عام 1818 ومارسيه عام  1858. ولكن هناك ما يوحي وجود علاقة وثيقة بين الاضطراب الذهاني التالي للولادة واضطراب المزاج ثنائي القطب؛ إذ يحقق نحو ثلث هجمات الذهان التالي للولادة المعايير التشخيصية للهجمة الهوسية أو لهجمة هوسية في سياق اضطراب الفصام الوجداني، وغالباً ما يتبع الذهانُ التالي للولادة سيرَ اضطراب المزاج ثنائي القطب في أثناء الهجمات أو في الانتكاسات، وقد توجد سوابق اضطراب ثنائي القطب في العائلة، ويزداد معدل الإصابة بالاضطراب الذهاني التالي للولادة (نحو20%) في النساء اللواتي في سوابقهن اضطراب مزاج ثنائي القطب.

والاضطراب الذهاني التالي للولادة هو متلازمة تحدث بعد الولادة وغالباً في أثناء مدة النفاس (6 أسابيع) بمعدل 1-2 من كل 1000 ولادة؛ تتميز باضطراب مزاجي ترافقه أعراض ذهانية مثل الأهلاسات واضطراب التفكير والضُلالات delusions  واضطراب السلوك.

الأسباب: ينتمي الاضطراب الذهاني التالي للولادة إلى مجموعة من الاضطرابات البيولوجية الدماغية ثنائية القطب، مع قابلية عالية للتوريث، أو ميل وراثي إلى الإصابة بهجمات ذهانية في أثناء الحياة. وحين التفكير بالأسباب الحقيقية لهذا الاضطراب تجب الإجابة عن ثلاثة أسئلة أساسية هي: أ- ما طبيعة العوامل المؤهبة، ب- ما هي العوامل التي لها شأن في تحديد قطبية هذا الاضطراب (اكتئاب أو هوس، أو أعراض دورية)، ج- ما الذي يثير بدء الأعراض؟ تشتق الإجابة عن كل من السؤالين الأول والثاني من دراسة اضطراب المزاج ثنائي القطب، في حين يعود السؤال الثالث إلى دراسة الاضطراب الذهاني التالي للولادة على نحو خاص. وتدل الحقائق السريرية على أن العوامل المثيرة تتعلق بالحوادث التناسلية لدى المرأة وهي الإجهاض، والحمل ذاته ولاسيما في ثلثه الثالث، ومرحلة النفاس المبكرة ولاسيما أيامها العشرة الأولى، والحيض التالي للولادة، والحيض عموماً (الذهان الحيضي) والفطام. وقد تنضم هذه العوامل إلى قائمة من العوامل البيولوجية الأخرى التي تتضافر لتثير الهجمات المزاجية - الذهانية. وتتضمن هذه العوامل البيولوجية التغيرات المناخية الفصلية، والجراحة، والمعالجة بالستيروئيدات القشرية.

الوبائيات: يصيب الاضطراب الذهاني التالي للولادة نحو 1-2 من كل 1000 ولادة، ويحدث نحو50%-60% منها عقب الحمل الأول، وترافق نحو 50% من الحالات مضاعفات غير نفسية حول الولادة، وتوجد في نحو 50% من الحالات سوابق قصة عائلية لاضطراب مزاجي. وتدل الدراسات على عدم وجود علاقة بين الإصابة بالاضطراب الذهاني التالي للولادة وبين كل من الحمل التوأمي، أو الرضاعة الطبيعية، أو الحمل من دون زواج، أو موت الجنين.

الأعراض والمظاهر السريرية: يبدأ الاضطراب الذهاني التالي للولادة على نحو حاد، ويصل بسرعة إلى ذروة شدته؛ تبدأ الأعراض بين اليوم الثاني واليوم الرابع عشر بعد الولادة، ويتميز هذا الاضطراب بالأعراض التالية: الاكتئاب والضُلالات (التوهمات) وأفكار عن إيذاء المريضة لطفلها أو لنفسها، مما يوجب مراقبة مثل هذه الأفكار الانتحارية أو العدوانية على نحو لصيق مع ندرة تحول هذه الأفكار إلى أفعال.

يبدأ الاضطراب على نحو وصفي بشكوى المريضة التعب والأرق وعدم الارتياح، ثم قد تعاني نوباً من البكاء والتقلقل العاطفي، ثم تعاني الشكوك والتخليط والكلام غير المترابط ووساوس حول صحة الطفل أو توهمات بأن الطفل قد مات أو سيموت أو سيتعرض لأذية ما. وقد تُنكر المريضة صلتها بالطفل، أو تقول إنها غير متزوجة، أو إنها ما زالت عذراء، أو إنها مضطهدة، أو إنها تخضع لسيطرة الآخرين. وقد تعاني المريضة أهلاسات لها المحتوى ذاته، مثل سماع أصوات تخبرها بأن الطفل ليس ابنها وتأمرها بقتله أو بقتل نفسها. كما يشيع معاناة المريضة عدم قدرتها على المشي أو الحركة أو الوقوف.

يلاحظ مما سبق أن الاضطراب الذهاني التالي للولادة يبدأ بأعراض بادرية تلحقها الأعراض الذهانية التي تصبح المريضة حين حدوثها خطرة على نفسها وعلى طفلها، وتعتمد خطورتها على نحو أساسي على محتوى أوهامها وشدة اهتياجها، وقد بلغ معدل انتحار الوالدات في إحدى الدراسات 5% ومعدل قتل الوليد 4%.

السير والإنذار: تستمر أعراض الاضطراب الذهاني التالي للولادة نحو 6 أشهر إذا لم تعالج، ولكن الأعراض تتراجع بمدة أسابيع حين استخدام العلاجات الحديثة مثل مضادات الذهان والتخليج الكهربائي ومعدلات المزاج، مع وجود ميل إلى النكس يرافق أيام الحيض لدى عدد قليل من المريضات. ومن النادر في هذا الاضطراب حدوث الموت بسبب الجامود catatonia  (شكل من الفصام) أو الانتحار أو قتل الوليد ويحدث النكس في 20%-25% من الحمول اللاحقة، كما قد تنكس الأعراض الذهانية في أوقات ليست مقتصرة على مرحلة ما بعد الولادة فقط بل في أي وقت من مراحل الحمل وبنسبة احتمال حدوثها بعد الولادة تقريباً. وقد يصاب نحو ثلثي المصابات باضطراب مزاجي غير محدد خلال سنة من الولادة. ولعوامل الخطورة التالية شأن في تطور الاضطراب الذهاني التالي للولادة:

أ- سوابق إصابة باضطراب ذهاني تالٍ للولادة.

ب- سوابق إصابة باضطراب مزاجي ذهاني استدعت شدته دخول المستشفى (ولاسيما الفصام الوجداني).

ج- سوابق عائلية لاضطراب مزاجي ذهاني (ولاسيما أقرباء الدرجة الأولى والثانية).

ويجب توثيق عوامل الخطورة السابقة في سجل الحامل خلال المراجعات المنوالية ومراجعتها خلال الفترة السابقة للولادة، وتزويد الحامل وزوجها بمعلومات عن الاضطراب الذهاني التالي للولادة قبل الولادة.

علاج الاضطراب الذهاني التالي للولادة: لا توجد معالجة نوعية للاضطراب الذهاني التالي للولادة، بل يعالج كأي اضطراب ذهاني آخر مع الانتباه لما يتعلق بالأمان الدوائي بالنسبة إلى الرضاعة، ويمكن لهذه المعالجات أن تتضمن واحداً أو أكثر من الأدوية التالية: مضادات الاكتئاب أو معدلات المزاج أو مضادات الذهان، أو المعالجة بالتخليج الكهربائي.

الوقاية من الاضطراب الذهاني التالي للولادة: يبدو من البراهين المتوافرة أن الليثيوم فعال بوصفه دواءً وقائياً من الإصابة بالاضطراب الذهاني التالي للولادة في مجموعات النساء عاليات الخطورة؛ إذ يخفض إعطاء الليثيوم الوقائي - إما في أواخر الحمل أو في الفترة التالية للولادة مباشرةً - وقوع الاضطراب الذهاني التالي للولادة في النساء العاليات الخطورة من نحو 20% إلى أقل من 10%. وتدعم هذا الرأي دراسة أظهرت معدلات نكس عالية من الذهان التالي للولادة من نساء مصابات سابقاً باضطراب مزاج ثنائي القطب وانقطعن عن العلاج بالليثيوم في أثناء الحمل.

2-الاكتئاب التالي للولادة:

تعد السوداوية التالية للولادة puerperal melancholia من أول الاضطرابات النفسية التي تم وصفها. ففي العهود التي كان شائعاً فيها البيمارستان كانت السوداوية التالية للولادة إحدى أهم الحالات النفسية الشديدة والمديدة التي تحتاج إلى القبول، وكانت الأمهات المصابات بالاكتئاب التالي للولادة دائماً تحت الدراسة في المسوحات التي تجرى في المستشفى. ومن المعروف بأن السوداوية التالية للولادة تبدأ على نحو متأخر أكثر من الهوس التالي للولادة، وهي أكثر علاقة بمرحلة الإرضاع منها بمرحلة النفاس بعد الولادة.

الاكتئاب التالي للولادة هو مرض اكتئابي من دون أعراض ذهانية، تتدرج شدته بين الاكتئاب الخفيف إلى الاكتئاب معتدل الشدة، يحدث خلال السنة الأولى بعد الولادة. ومن المهم تمييز الاكتئاب التالي للولادة من الأعراض المزاجية التي تعانيها السيدة بعد الولادة والتي يطلق عليها "أحزان الولادة"، والتي هي فترة عابرة من الحزن والبكاء والشعور بالبؤس. والجدول يظهر أهم الفروق ما بين الاكتئاب التالي للولادة و أحزان الولادة.

الأسباب: تشابه أسباب الاكتئاب التالي للولادة أسباب الإصابة بالاضطراب الاكتئابي على نحو عام، وتشتمل على الوراثة، ووجود سوابق اكتئابية، والضغوط الاجتماعية، ومشاكل العلاقات مع الآخرين، والعزلة الاجتماعية. والنساء الولودات أقل تعرضاً من النساء العاقرات للإصابة بالاكتئاب على نحو عام، ويبدو أن للأعباء الناجمة عن تربية الطفل شأناً أكبر في أحداث الاكتئاب من الولادة ذاتها. ويزداد حدوث الاكتئاب التالي للولادة عقب العملية القيصرية، والإجهاض الباكر، وبوجود اضطراب الانزعاج السابِق للحَيض. ويؤهب الحمل غير المخطط له أو غير المرغوب للإصابة بالاكتئاب على نحو عام وبالاكتئاب التالي للولادة. وقد أظهرت الدراسات ألا ترابط بين الاكتئاب التالي للولادة والإنجاب أو المضاعفات حول الولادة أو الرضاعة الطبيعية أو انخفاض دخل العائلة أو الخروج المبكر من المستشفى بعد الولادة. ولا دليل قاطعاً على أن التغيرات الهرمونية حول الولادة عامل خطورة لحدوث الاكتئاب التالي للولادة. وتشير بعض دِراسَات الأَتْراب cohort studies إلى ارتفاع احتمال حدوث الاكتئاب التالي للولادة بتأثير عوامل خطورة متعلقة بالوليد هي ولادة جنين ميت وموت الوليد بعد الولادة وانخفاض وزن الوليد ( أقل من 1500 غرام).

الوبائيات: الاكتئاب التالي للولادة من أكثر الاضطرابات النفسية شيوعاً بين عامة السكان، إذ يصل معدل حدوثه إلى 10%-20% في الولادات كافة في مختلف أرجاء العالم، بما في ذلك سورية وغيرها من الدول العربية. ولكن لا تزيد نسبة اللواتي يراجعن طبيباً بسبب الإصابة بالاكتئاب التالي للولادة على 5% من الأمهات، وقد يكون ذلك بسبب عدم تمييز هذا الاضطراب من اضطرابات أخرى أو بسبب وصمة العار التي قد تلحق بالأم المصابة، وعدم فهم أنها تمر بمرحلة مرضية تحتاج معها إلى الدعم والمعالجة.

المظاهر السريرية: تصبح الأعراض واضحةً عادةً بمدة 3-6 أشهر من الولادة، وقد تبدأ الأعراض قبل الولادة في نسبة كبيرة من الحوامل، ويمكن كشفها باكراً بالفحص المنوالي في أثناء الحمل وفي الأسابيع الأولى التالية للوضع عن طريق سؤال المرأة عن مشاعرها، باستخدام مقياس أدنبرة للاكتئاب التالي للولادة مثلاً [ر. الفحص والتشخيص في الطب النفسي]. وتشابه أعراض الاكتئاب التالي للولادة أعراض الاكتئاب الذي يحدث في فترات أخرى من الحياة. وتنص المعايير التشخيصية على وجوب وجود اثنين مما يلي على الأقل لمدة أسبوعين على الأقل: أ- انخفاض المزاج، ب- فقد اللذة، ج- التعب ونقص الحيوية. إضافة إلى وجود أربعة مما يلي: أ- نوم مضطرب، ب- تبدلات في الشهية، ج- هياج أو بطء نفسي حركي، د- صعوبة تركيز، هـ- فقدان الثقة واحترام الذات، و- مشاعر الذنب، ز- أفكار مترددة عن الموت والانتحار. وقد تتضمن الأعراض أيضاً انخفاض الرغبة الجنسية وتبدلات يومية في المزاج وسرعة الغضب.

مضاعفات الاكتئاب التالي للولادة: يؤدي اكتئاب الأم عقب الولادة إلى خلل تفاعل الطفل والأم، وإلى نقص احتمال حدوث التعلق الآمن للطفل بأمه، إضافةً إلى خلل تطور الطفل العاطفي والمعرفي ولاسيما الأطفال الذين يعيشون في مناطق محرومة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية. تخف شدة هذه التأثيرات حين يهتم الزوج برعاية الطفل، ولكن قد يؤدي الاكتئاب التالي للولادة أيضاً إلى تدهور العلاقة الزوجية، وقد يُعرّض الزوج للإصابة بالاكتئاب ولاسيما إذا كان لديه سوابق اكتئابية.

السير والإنذار: تشير الدراسات إلى أن معظم الهجمات الاكتئابية التالية للولادة تزول تلقائياً خلال 3-6 أشهر، ولكن يستمر الاكتئاب عند نحو ربع الأمهات المصابات حتى عيد الميلاد الأول للطفل. ويعد الانتحار أحد أهم أسباب موت الأم في السنة الأولى بعد الوضع. وقد يستمر التأثير السلبي للاكتئاب التالي للولادة في تطور الطفل وفي علاقته بأمه حتى بعد ضبط هجمة الاكتئاب عند الأم. وتشير معظم الدراسات الحديثة إلى أن الاكتئاب التالي للولادة يزيد خطر الإصابة بالاضطراب الاكتئابي في بقية أوقات الحياة، ويزداد احتمال معاودة الاكتئاب في المستقبل وبعد الولادات اللاحقة عند وجود عوامل الخطورة التالية:

أ- سوابق عائلية لاضطراب اكتئابي.

ب- كثرة التعرض لحوادث حياتية [ر. المعالجات في الطب النفسي[.

ج- الكروب ما قبل الحمل وصعوبات التكيف معها.

د- وجود أكثر من طفلين في العائلة.

هـ- سوابق اضطراب نفسي في أثناء الحمل.

و- الحمل غير المخطط له.

ز- طول مدة انتظار حصول الحمل المرغوب فيه.

ح- الإصابة بأحزان الولادة.

ط- إحساس الأم بعدم الكفاءة في تربية الأطفال.

ي- خيبة أمل الزوج بجنس الطفل.

ك- سوء العلاقة الزوجية.

ل- الأم المراهقة وغير المتزوجة.

م- قلة العلاقات الاجتماعية وانخفاض مصادر الدعم الاجتماعي.

يسمح تعرف عوامل الخطورة هذه بالتشخيص وبالعلاج المبكرين، لذلك يجب توثيق هذه العوامل في سجل الحامل خلال المراجعات المنوالية (الروتينية) ومراجعتها خلال الفترة السابقة للولادة، وتزويد الحامل وزوجها بمعلومات عن الاضطرابات المزاجية التالية للولادة (أحزان الولادة والاضطراب الاكتئابي التالي للولادة) في الفترة السابقة للولادة.

المواصفات

أحزان الولادة baby blues

الاكتئاب التالي للولادة

زمن البدء

3- 5 أيام بعد الولادة

غالبا 3-6 أشهر بعد الولادة

المدة

أيام إلى أسابيع

أشهر إلى سنوات ( إن لم يعالج )

العلاقة مع العوامل المسببة للكرب

لا يوجد علاقة

توجد علاقة ولاسيما غياب الدعم العائلي

التأثير الثقافي الاجتماعي

لا يوجد، تصاب النساء من كل الثقافات ومن كل الطبقات الاقتصادية والاجتماعية

ترابط قوي مع البنية الثقافية والاجتماعية

قصة سابقة لاضطراب مزاجي

ترابط ضعيف

ترابط قوي

قصة عائلية لاضطراب مزاجي

ترابط ضعيف

بعض الترابط

البكاء

موجود

موجود

تقلقل مزاجي

موجود

غالباً موجود, و لكن المزاج المسيطر هو الاكتئابي

اِنْعِدَامُ التَّلَذُّذِ

غير موجود

غالباً موجود

اضطراب النوم

أحياناً

شائع

أفكار انتحارية

لا يوجد

أحياناً

أفكار حول أذية الوليد

نادرة

شائعة

مشاعر ذنب واحساس بعدم الكفاءة

غائبة أو خفيفة

غالباً موجودة و شديدة

الجدول (1) أهم الفروق بين الاكتئاب التالي للولادة وأحزان الولادة

 

استطبابات الاستشفاء: يستطب علاج الاكتئاب التالي للولادة في المستشفى حين يكون الاكتئاب شديداً، وحين تُصرّح المريضة بأفكار انتحارية أو بأفكار عن إيذاء طفلها، وحين تتدهور الحالة العقلية للمريضة. وينصح في هذه الأحوال بقبول الأم مع طفلها لأن هذا القبول المشترك للأم والطفل يحسن من النتائج بالنسبة إلى الطفل والأم. وتُوفّر المستشفيات في بعض الدول وحدات خاصة لهذه الحالات تسمى «وحدات الأم والطفل».

معالجة الاضطراب الاكتئابي التالي للولادة:

قد تطول مدة الاضطراب الاكتئابي التالي للولادة إن لم يعالج وقد يؤدي إلى عقابيل تؤثر في العلاقة مع الطفل وفي تطوره المعرفي والعاطفي، لذلك يجب علاج كل النساء المصابات بالاكتئاب التالي للولادة، ولا سيما بوجود تداخلات علاجية دوائية ونفسية فعالة في علاج هذا الاضطراب.

ترفض العديد من النساء تناول أي دواء نفسي في أثناء الحمل والفترة التالية للحمل. وعند البدء بعلاج الاضطراب الاكتئابي التالي للولادة يجب أن تؤخذ بالحسبان خيارات المريضة والمطاوعة العلاجية وفعالية التداخل الذي سيطبق والتأثيرات الجانبية والأمان الدوائي حين استخدام المعالجة الدوائية. ويجب الانتباه لبعض الحالات النادرة ولكنها خطرة على الأم نفسها وعلى وليدها مثل قتل الأم وليدها أو قتل نفسها. وهنا يجب اتخاذ إجراءات احترازية لحماية الوليد ولحماية الأم، مع التأكيد على تقييم عوامل الخطورة المتعددة، والتعامل معها، مما يُظْهِر أهمية التواصل السريع والدائم مع الطبيب النفسي المعالج.

أ- المعالجة الدوائية: مضادات الاكتئاب من زمرة مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية هي الخيار الدوائي الأول في علاج الاكتئاب التالي للولادة، ولكن يجب استخدامها بحذر والتنبه لتأثيراتها الجانبية المحتملة على كل من الأم ووليدها. لا ينصح بإعطاء الأم المرضع فلوكسيتين fluoxetine وسيتالوبرام citalopram لأنهما يظهران بتراكيز عالية في حليب الثدي، ولكن يمكن وصفهما للمصابة بالاكتئاب التالي للولادة إذا كانت لا ترضع. أما المرضع فيوصف لها سيرترالين sertraline  أو باروكسيتين  .paroxetineكما يمكن استخدام الأدوية الأقدم مثل ثلاثيات الحلقة في أثناء الإرضاع الطبيعي باستثناء دوكسيبين الذي يسبب تركين الرضيع واضطراب تنفسه. ويفضل تجنب الأدوية الحديثة مثل فينلافاكسين venlafaxine  بسبب قلة المعلومات عن أمان استخدامها في أثناء الإرضاع الطبيعي. والمعلومات عن الأمان الدوائي بالنسبة إلى الرضيع عندما تعطى الأم مضادات الاكتئاب محدودة على نحو عام، ولكن توحي المعلومات المتوافرة أنه لا يوجد تأثيرات سمية قصيرة الأمد في الطفل الذي تتناول أمه مضادات الاكتئاب ثلاثية الحلقة أو فلوكسيتين أو سيرترالين أو باروكسيتين. ولكن لا تتوافر معلومات عن المخاطر بعيدة الأمد على الطفل، لذلك فإنه من الأفضل عملياً إعطاء المرأة المرضع مضادات الاكتئاب بأدنى جرعة ممكنة.

ب- المعالجة النفسية: يمكن في تدبير الاضطراب الاكتئابي التالي للولادة اللجوء إلى المشورة أو إلى بعض أشكال المعالجة النفسية، إضافةً إلى تداخلات علاجية أخرى:

 (1)-المشورة :counseling المشورة عملية منهجية تعطي للشخص فرصة البوح لاكتشاف الحياة وفهمها على نحو أكثر مرونة وبإحساس أكبر بالمعافاة [ر. المعالجات في الطب النفسي]. كما قد تهتم المشورة بمواجهة المشاكل الخاصة بالمريضة وحلّها فتساعدها على اتخاذ القرارات وحل الصراعات والتكيف مع الأزمات وتحسين العلاقات. تشير البراهين وعلى نحو راسخ إلى أن التداخلات المنهجية المعتمدة على المشورة غير الموجِّهة (الاستماع الداعم من دون إعطاء النصائح والآراء) 6-8 جلسات فعّالة في إنقاص الاكتئاب الأمومي في الفترة التالية للولادة.

 (2)-المعالجة السلوكية المعرفية :cognitive behavior therapy (CBT) تعتمد المعالجة السلوكية المعرفية على دمج مفاهيم وتقنيات كل من المعالجة السلوكية والمعالجة المعرفية [ر. المعالجات في الطب النفسي]. وتهدف هذه المعالجة إلى حل المشاكل وإنقاص الأعراض الاكتئابية بتغيير الأفكار والمعتقدات والتصرفات. والتداخلات قصيرة الأمد باستخدام المعالجة السلوكية المعرفية ومقاربات حل المشكلات فعالة في تخفيف الأعراض الاكتئابية عند النساء بعد الولادة، وتعادل فعاليتها فعالية الأدوية المضادة للاكتئاب في تخفيف الأعراض الاكتئابية الخفيفة والمعتدلة.

(3)-المعالجة بين الأشخاص:interpersonal therapy  تتميز المعالجة بين الأشخاص من أشكال المعالجة النفسية الأخرى بتركيزها على الحدثيات بين الأشخاص وليس على الحدثيات النفسية. وهي مبنية على الاعتقاد أن الاكتئاب يحدث في سياق التفاعل مع الآخرين، وأنه يمكن مساعدة المريضات عن طريق توضيح صلة علاقاتهن القديمة والحالية بالأعراض الاكتئابية الحالية، وبناء مهارات التفاعل مع الآخرين. وقد أظهرت الدراسات بأن هذه المعالجة تحسن على نحو مهم الأعراض الاكتئابية في النساء المصابات بالاكتئاب التالي للولادة.

 (4)-الدعم الاجتماعي: إن العلاقة بين الاكتئاب التالي للولادة والظروف الاجتماعية المعوقة والمكربة مشابهة للعلاقة مع الاكتئاب على نحو عام، وتقدم مراجعة منهجية بعض البراهين على فعالية الدعم الاجتماعي في معالجة الاكتئاب التالي للولادة. ويجب أن يقدم هذا الدعم للأم بعناية وانتباه لتجنب زيادة اتكالها على مقدمي الدعم ولتجنب إضعاف ثقتها بقدرتها على تجاوز المرحلة التالية للولادة وبدورها الأساسي في العائلة. وقد أوضح العديد من الدراسات أن إحساس الأم بقلة الدعم قد يكون عامل خطورة قد يجعلها عرضة للإصابة بالاكتئاب التالي للولادة، وأن استخدام الدعم الاجتماعي بدقة من قبل الأم كمساعدتها على رعاية الطفل وأعمال المنزل قد تؤثر تأثيراً مفيداً في الأعراض الاكتئابية التي قد تعانيها، وهذا ما يسهل حصول التعلق الآمن بين الطفل والأم.

 (5)-المعالجة العائلية: أظهر العديد من الدراسات التي ركزت على التداخلات العائلية التي تضمنت الأم المصابة بالاكتئاب التالي للولادة وزوجها ووليدها العديد من الفوائد في تخفيف الأعراض الاكتئابية. كما قد يفيد العلاج الزوجي الذي يركز على الشراكة الزوجية وتفاعلاتها.

ج- معالجات أخرى: من المعالجات الأخرى التي قد تستخدم في تدبير الاكتئاب التالي للولادة تدليك الوليد infant massage  من قبل أمه، فقد وجدت تجربة سريرية معشاة أنه يؤدي إلى تحسن مهم في التفاعل ما بين الأم والطفل. كما قد تفيد التمارين الرياضية في تراجع الاكتئاب على نحو عام، على الرغم من عدم وجود براهين على فعاليتها في الاكتئاب التالي للولادة على نحو خاص. وينطبق هذا القول أيضاً على المعالجة بالتخليج الكهربائي التي قد تستخدم في الحالات التي تتطلب تحسيناً سريعاً للاكتئاب، كوجود خطر انتحار شديد أو الامتناع عن تناول الطعام على نحو يهدد الحياة. ولا يوصى باستخدام الهرمونات الأنثوية الأستروجين والبروجيسترون في علاج الاكتئاب التالي للولادة، كما لا يوصى بعقاقير الطب البديل مثل عشبة القديس جون.

الوقاية من الإصابة بالاضطراب الاكتئابي التالي للولادة:

ما زال البرهان على فعالية العلاج الوقائي من الإصابة بالاضطراب الاكتئابي التالي للولادة لدى المجموعات عالية الخطورة موضع جدل. فقد أنتج عدد من التجارب السريرية المعشاة جيدة التصميم بيانات غير حاسمة عن فعالية العلاج الوقائي للاضطراب الاكتئابي التالي للولادة. كما بينت الدراسات السريرية المعشاة بأنه لا برهان على استفادة المرأة - التي لم تتعرض لأي مضاعفات في أثناء الحمل والولادة - من المساعدة بتقديم الدعم المنزلي من قبل عمال مدربين لهذا الغرض، أو بتقديم رعاية من قبل قابلة. كما وجدت دراسات أخرى أنه لا تأثير للتداخلات العلاجية المعتمدة على تحضير الأبوين قبل الولادة للأبوة والأمومة المنتظرتين على الاكتئاب أو على عوامل الخطورة النفسية الاجتماعية في الأشهر الثلاثة الأولى من الولادة. وجدت دراسة صغيرة أن التداخلات العلاجية المعتمدة على العائلة قد حسنت من العوامل النفسية الاجتماعية لدى الأم، ووجدت دراسة صغيرة أخرى أن المعالجة بين الشخصية التي قدمت للنساء اللواتي لديهن عامل خطر واحد على الأقل للإصابة بالاضطراب الاكتئابي التالي للولادة قد أحدثت تراجعاً في مقاييس الاكتئاب لديهن مقارنة بمجموعة لم تخضع لهذه المعالجة، وحدث فيها الاكتئاب التالي للولادة بمعدل 33%. وفي دراسة أتراب cohort على الحوامل اللواتي لديهن عوامل مؤهبة للمرض، تحسن حاصل مقاييس الاكتئاب عقب تطبيق برامج التدريب الأمومي. أما التجارب السريرية المعشاة المقارنة ما بين أميتريبتلين والدواء الغفل فلم تجد أي اختلاف بينهما في النساء اللواتي لديهن سوابق إصابة بالاكتئاب التالي للولادة بالنسبة إلى معدل حدوث النكس. باختصار قد يستفاد من العلاجات المعتمدة على التحضير والتهيئة الأبوية والعلاج بين الأشخاص والزيارات الصحية بعد الولادة للنساء اللواتي لديهن عوامل خطورة.

3-الاضطرابات القلقية التالية للولادة:

أ- اضطراب الكرب التالي للرضح: تعاني بعض النساء بعد المخاض المؤلم والشديد أرقاً وكوابيس وذكريات وصوراً مُقْحَمَة متكررة عن المخاض، على نحو يشبه ما يختبره الشخص المعرض للكوارث والتجارب المهددة للحياة. وتتجدد الأعراض عند المريضة مرةً أخرى عند حصول الحمل التالي، ولاسيما في الثلث الأخير من الحمل، فيحدث لديها ما يسمى "رهاب المخاض". ويعالج هذا الاضطراب بالمعالجة السلوكية المعرفية، وقد يصبح استطباباً للعملية القيصرية.

ب- الهلع: تستحوذ على تفكير بعض النساء مخاوف بأنهن لن يكن قادرات على التأقلم مع متطلبات رعاية الطفل الجديد، وقد تؤدي معاناة المرأة قلقاً مفرطاً بخصوص مواجهة مسؤوليات جسيمة؛ إلى إصابتها بالهلع والهياج والتوتر الشديد. وهذا الاضطراب غير محصور بالولادة الأولى، بل قد يحدث في الولادات التالية، وقد يصل الهلع إلى درجة تظن فيها المرأة بأنها ستفقد طفلها إذا لم تتم السيطرة على هذا الاضطراب بالمعالجة المناسبة.

يتم التعامل مع هذا الاضطراب عادة من قبل أفراد العائلة من دون الحاجة إلى علاج اختصاصي، وقد يكفي الدعم العائلي وخاصة من قبل أم المرأة المصابة. أما في بعض العائلات التي تكون بعيدة عن الأهل فيجب على الزوج التفرغ من أجل مساعدة زوجته على المتطلبات والصعوبات المستجدة، وقد تحتاج الأم إلى المهدئات خاصةً في الليل. وتُشَجَّع في أوقات اليقظة في الليل على أن تبقى مع وليدها مع تقديم ما يلزم من مساعدة ودعم، فيقدم أحد أفراد العائلة في البداية الرعاية للوليد بالتعاون مع الأم، وتتولى الأم المسؤوليات على نحو تدريجي مع مرور الوقت وشيئاً فشيئاً تستلم زمام الأمور لمختلف متطلبات رعاية الطفل، وهكذا تكون قد تغلبت على مخاوفها. ولكن في الحالات الشديدة قد يستطب الاستشفاء من أجل العلاج. يرتبط الإنذار بالتشخيص والعلاج الصحيحين والباكرين.

ج- الخوف من الموت المفاجئ للوليد: العرض الرئيسي في هذا الاضطراب هو الأرق الناتج من سهر الأم لمراقبة تنفس وليدها، وقد تنام الأم وهي واضعة يدها على صدر الوليد، وتستيقظ عدة مرات خلال الليلة الواحدة أو قد يتطور الأمر إلى إيقاظ الطفل عدة مرات للاطمئنان على أنه ما زال على قيد الحياة. ويؤدي ذلك إلى إعياء وتوتر شديد. ويمكن مساعدة الأم بمناقشة هذه المخاوف معها ومحاولة تبديدها على نحو منطقي وعلمي. كما يمكن معالجة الأم بالعلاج السلوكي المعرفي.

د- القلق المعمم: قد تعاني المرأة - حتى عند عدم وجود المكونات الخاصة بالمخاوف المتعلقة بموت الطفل - قلقاً غامراً مستمراً من رعاية الطفل، ومخاوف مفرطة من أدائها الأمومي ما يسبب فرط استثارة مستمرة، واعتناء مبالغ به بالطفل، وحساسية مفرطة نحو أقل الأشياء التي قد تسبب المرض. وتبلغ هذه الأعراض أشدها عند النساء اللواتي عانين سابقاً العقم أو صعوبات في الحمل، أو الإجهاضات المتكررة. تستفيد المرأة المصابة بالقلق المعمم من برامج تدبير القلق التي تعلم المرأة طرائق الاسترخاء الفعالة، كما تستفيد من برامج المستشفى النهاري التي تتضمن العلاج بالاسترخاء ومجموعات الدعم. وقد يكون من الضروري أحياناً استخدام البنزوديازبينات ولكن بحذر ومع تجنب إعطائها للأم المرضع، فهي سهلة الامتصاص من أمعاء الطفل ولكنها تستقلب ببطء في كبده وتسبب له الخمول ونقص الوزن.

هـ- التجنب الرهابي للطفل: تعاني الأم القلق والوساوس التي يمكن أن تتطور إلى رهاب من الطفل وتصبح غير قادرة على الاقتراب منه نهائياً. تعدّ المعالجة السلوكية بإزالة التحسس التدريجي مناسبة لهؤلاء الأمهات.

و- وساوس أذية الوليد: يمكن لاضطراب الوسواس القهري أن يتظاهر بأفكار وصور عقلية وسلوكيات قهرية تتركز جميعها حول أذية الوليد، مثل الأفكار الوسواسية المتعلقة بقتل الوليد بطرق وحشية كالطعن أو قطع الرأس أو الخنق. وتخشى هؤلاء الأمهات البقاء وحيدات مع أطفالهن مما يدفعهن لاتخاذ تدابير احترازية مسبقة في مثل هذه الحالات. وقد تتركز هذه الوساوس حول القيام بسوء المعاملة الجنسي للطفل.

تعد مناقشة هذه الأفكار مع المريضة وإيضاحها لها جزءاً من العلاج، ولكن يحتاج هذا الاضطراب إلى المعالجة الدوائية بمضادات الاكتئاب أو حتى بمضادات الذهان في بعض الحالات، وتفيد المعالجة السلوكية المعرفية في علاج الأفعال القهرية ذات الصلة.

سابعاً- وصف الأدوية النفسية في أثناء الحمل والولادة والإرضاع:

تقسم النساء اللواتي يتناولن الأدوية النفسية في أثناء الحمل إلى مجموعتين: مجموعة تخضع للمعالجة بسبب اضطراب نفسي سابق للحمل، ومجموعة تحدث لديها أعراض اضطراب نفسي في أثناء الحمل، للمرة الأولى أو نتيجة نكس اضطراب نفسي سابق.

يُنْصَح - كلما كان ذلك ممكناً - بأن يكون الخيار الأول في علاج الحالات الخفيفة إلى المتوسطة بالتداخل النفسي الاجتماعي والعلاجات النفسية (العلاج النفسي الداعم، والعلاج السلوكي المعرفي، والعلاج بين الأشخاص). ويجب أن تكون عتبة المعالجة باستخدام الأدوية النفسية مرتفعة نسبياً، وينصح بها فقط حين لا تنجح المعالجة النفسية في تخفيف الأعراض. أما الحالات الشديدة - ولاسيما التي تشتمل على أعراض ذهانية - فقد يكون لأساليب المعالجة النفسية شأن إيجابي في معالجتها، ولكن المعالجة الأساسية والأهم فيها هي المعالجة الدوائية.

يجب تثقيف كل النساء في سن الحمل عن استخدام موانع الحمل لأن لهذه الأدوية تأثيراً ضاراً في الجنين. كما يجب تثقيفهن في تأثير الاضطرابات النفسية غير المعالجة لدى الأم فيها وفي جنينها أو مولودها، وفي الأدوية النفسية والتأثيرات الجانبية المحتملة في الجنين أو المولود حديثاً. ويجب مساعدة المصابات باضطرابات نفسية على التخطيط للحمل خلال فترة هجوع المرض حتى تكون فترة الحمل خالية من العلاج الدوائي النفسي، كلما كان ذلك ممكناً، إذ يجب في الحالات المثالية معالجة هؤلاء النساء من دون إعطاء أدوية نفسية في الثلث الأول من الحمل على الأقل. أما إذا كان ذلك غير ممكن فيجب استعمال أقل جرعة ممكنة من الأدوية اللازمة للسيطرة على الأعراض.

لا تهدف المداواة النفسية فقط إلى تخفيف المعاناة في فترة الحمل، بل تهدف أيضاً إلى منع التدهور والنكس بعد الولادة؛ فمع كل التقدم الطبي في تحسين صحة الأم والطفل، مازالت الاضطرابات النفسية تشغل المركز الثاني بين أسباب موت الأمهات الحوامل في بريطانيا، إذ يبرز الانتحار بوصفه السبب الرئيس لوفيات الأمومة بنسبة 15%، وتسهم الحالات النفسية في 25% من مجموع وفيات الأمومة.

يجب بذل كل الجهود لمراقبة الأم الحامل في الفترة المبكرة من الحمل بغية تحديد النساء ذوات الخطورة العالية للإصابة باضطراب نفسي جدّي في أثناء الحمل أو بعد الوضع، نتيجة نكس حالة سابقة أو بدء مرض جديد، أو وجود قصة عائلية قوية لمرض خطر. عندها يمكن تنسيق العناية بين الرعاية الطبية الأولية وأطباء التوليد، وبين المستوى الثاني للخدمات الصحية للأمراض النسائية والنفسية للبالغين، إضافةً إلى الخدمات الاجتماعية المتوافرة.

في الأحوال المثالية يجب على النساء أن يحددن فترة الحمل في الفترة التي يَكُنّ فيها سليمات نفسياً، ولا يتناولن أي أدوية نفسية، ولكن لا يتم ضبط موعد الحمل في 50% من الحمول، وتتناول النساء أدوية موصوفة سابقاً في الأشهر الثلاثة الأولى من الحمل في نحو 33% من الحمول، وتشتمل الأدوية المستخدمة على أدوية نفسية في كثير من الحالات. تقوم معظم النساء بإيقاف الدواء حين يكتشفن أنهن حوامل خوفاً من تأثيره في الجنين، وينبغي على الأطباء أن يحذّروهن من إيقاف الدواء المفاجئ. ويجب نصح النساء اللواتي يعانين اضطراباً نفسياً خفيفاً إلى متوسط عندما يحملن في أثناء تناول الأدوية المضادة للاكتئاب بقطع العلاج تدريجياً لأن قطع العلاج المفاجئ قد يسبب أعراض امتناع غير مرغوبة تضاف إلى القلق والتوتر الحاصلين لدى الحامل من احتمال تعرض الجنين لعوامل مشوهة.

أما إذا كانت الحامل تتعاطى أدوية لمعالجة اضطراب نفسي شديد، فيجب إجراء تقييم شامل ودقيق لمخاطر أخذ الدواء مقابل فوائده ، فهناك خطر كامن كبير على الجنين من التأثيرات الجانبية للأدوية النفسية في مراحل متعددة في أثناء الحمل، وليس فقط في مرحلة تكوين الأعضاء التي تكون قد انتهت عند اكتشاف وجود الحمل. ولكن هناك خطورة على الجنين أيضاً إذا حدث نكس مرض عقلي خطر لدى الأم، مما يسيء إلى الرعاية التوليدية والنفسية، وسلامة الأم وجنينها، لذلك فقد تدفع الموازنة بين الفوائد والأضرار إلى متابعة المداواة النفسية في أثناء الحمل مع احتمال تغيير المستحضر الدوائي إلى أسلم مستحضر معروف. وإذا حملت المرأة خطأً في أثناء تعاطيها أدوية ذات خطر كامن على الجنين يجب أن تخضع مبكراً إلى فحص مفصل بجهاز تخطيط الصدى (الإيكو) لتحديد آثار التعرض لهذه الأدوية، كي لا يتم التخلص من حمل مرغوب فيه ما لم يكن ذلك ضرورياً .

لما كانت جميع الأدوية النفسية تعبر المشيمة عملياً، فإن أي دواء يوصف للحامل سيصل إلى الجنين. وإن لزمن تعرض الجنين للأدوية النفسية أهمية خاصة في تطور الجهاز العصبي المركزي والجهاز القلبي الوعائي (إذ يبدأ تطور الجهاز العصبي المركزي بين اليوم السادس عشر واليوم الثامن عشر، ويتم إغلاق الأنبوب العصبي cerebromedullary tube  في اليوم الثلاثين، أي بعد أسبوعين من انقطاع الحيض، ويتم تكوّن القلب بين اليوم 22 واليوم 35 ، أي بعد 5 أسابيع من آخر دورة شهرية). ولما كان الجهاز العصبي المركزي يتابع تطوره طوال حياة الجنين وفي مراحل الطفولة المبكرة، فإن نموه البنيوي والوظيفي يبقى حساساً تجاه التأثيرات الجانبية للأدوية النفسية (وكل المواد ذات الأذية الكامنة) حتى نهاية مرحلة الحمل وما بعدها.

مبادئ عامة أساسية:

1-يجب أن يكون التدخل النفسي الاجتماعي والمعالجة النفسية الخيار الأول في علاج الحالات الخفيفة إلى المتوسطة من الأمراض النفسية (غير الذهانية).

2-تحتاج الاضطرابات النفسية الشديدة، ولاسيما التي ترافقها أعراض ذهانية إلى معالجة صارمة؛ إذ إن عواقبها على الأم والجنين خطرة إن لم تعالج.

3-إذا كانت هناك ضرورة للمعالجة الدوائية إضافة إلى المعالجة النفسية، يجب مناقشة ذلك مع المرأة الحامل.

4-تتغير القواعد العلاجية المسندة ببراهين باستمرار. وعلى نحو عام فإن المعطيات المتوافرة تدل على فوائد  المستحضرات الدوائية القديمة وتأثيراتها الجانبية الكامنة؛ لذا من الأفضل تجنب الأدوية الحديثة.

5-يتأثر استقلاب الأدوية بالتغيرات الفيزيولوجية المرافقة للحمل، لذلك فقد يجب تعديل الجرعة.

6-ينصح باستخدام أقل جرعة فعالة، مع تقسيمها إلى عدة جرعات في أثناء النهار إذا كان ذلك عملياً بالنسبة إلى التزام المريضة.

7-يفضل استخدام دواء وحيد وتجنب استخدام أكثر من دواء قدر الإمكان.

8-ينصح بإنقاص جرعة الدواء مع تقدم الحمل، وبقطع الدواء عند الأسبوع 36 إلى 38 من الحمل إذا كان ذلك ممكناً (مادام تدهور الصحة النفسية للحامل أقل من خطر التأثيرات الجانبية للدواء في الجنين).

-  مضادات الاكتئاب ثلاثية الحلقة:

استخدمت مضادات الاكتئاب ثلاثية الحلقة ومازالت تستخدم منذ أكثر من 40 سنة، ولا يوجد أي برهان على أنها قد تسبب تشوهات جنينية أو تأثيرات سيئة في الحمل. ومع ذلك يجب أخذ الحيطة في أواخر الحمل؛ إذ سجلت حالات قليلة من أعراض امتناع قصيرة الأمد في ولدان بعمر أيام وفي خدّج؛ مثل فرط الاستثارة، وفرط الهياج، والرمع العضلي، والاختلاجات، وصعوبة المص.

لا تتوافر براهين على أن استخدام مضادات الاكتئاب ثلاثية الحلقة خلال الحمل يسبب تأثيرات جانبية في تطور الجهاز العصبي للأطفال، كالتأثير مثلاً على نسبة الذكاء واللغة والسلوك، في حين تتوافر براهين على أن الاكتئاب الشديد غير المعالج عند الأم يرافقه ضعف التطور المعرفي واضطراب سلوكي عند أطفالها ولاسيما الذكور.

لقد انخفض استخدام مضادات الاكتئاب ثلاثية الحلقة في الأعوام الأخيرة؛ بسبب خطورة التسمم الحاد عند تناولها بجرعات عالية في محاولات الانتحار، وبسبب كثرة تأثيراتها الجانبية المضادة للكولين. ولكن لا يوجد ما يمنع استخدام مضادات الاكتئاب ثلاثية الحلقة في حالات الاكتئاب الشديدة والمسببة للعجز إذا كان هناك تقييم شامل لإمكانية إيذاء المريضة نفسها، وإذا أعطي الدواء بكميات صغيرة.

يعد كلٌّ من إيميبرامين imipramine وأميتريبتلين amitriptyline حالياً الخيار الأول في معالجة حالات الاكتئاب المتوسطة إلى الشديدة في أثناء الحمل. ويمكن استخدامهما أيضاً لضبط أعراض القلق والهلع الشديدة والمسببة للعجز والتي لم تتحسن بالمعالجة النفسية. من مزايا مضادات الاكتئاب ثلاثية الحلقة أنها تفرز بتراكيز قليلة في حليب الأم المرضع، ولم يظهر أنها تسبب أذى للوليد والرضيع، لذلك يمكن متابعة استخدامها للأمهات المرضعات بعد الولادة وفي أثناء الإرضاع.

-  مضادات الاكتئاب المثبطة لاسترداد السيروتونين الانتقائية  :SSRIs

زاد استخدام مضادات الاكتئاب المثبطة لاسترداد السيروتونين الانتقائية مثل باروكسيتين وسيرترالين وفلوكسيتين وفلوفوكسامين وسيتالوبرام في العقد الأخير خياراً أول في الاكتئاب الخفيف إلى المتوسط. وقد ثبت أنها أكثر تحملاً من مضادات الاكتئاب ثلاثية الحلقة وأكثر أماناً في الجرعات المفرطة. وقد عرف سابقاً أنها آمنة نسبياً في أثناء الحمل والإرضاع، ولكنها تقدم مثالاً حياً على تغير الإرشادات العلاجية المسندة بالبراهين نتيجة توافر براهين جديدة على تأثيرات الأدوية الحديثة. فقد عرف في السنوات الأخيرة في عدد من الدراسات والحالات السريرية بأن استخدام فينلافاكسين ومضادات الاكتئاب المثبطة لاسترداد السيروتونين الانتقائية قد ترافقها مضاعفات ولادية متنوعة مثل الخداج ونقص وزن الولادة وصعوبات تنفسية وسلوكية عصبية وزيادة قبول الولدان في الحواضن.

قد ترافق استخدام مضادات الاكتئاب المثبطة لاسترداد السيروتونين الانتقائية في أثناء الحمل أعراض امتناع مزعجة لدى حديثي الولادة، وباضطرابات نزفية تشبه التي تشاهد لدى البالغين بتأثير هذه الأدوية. وما زال سيرترالين حتى الآن الدواء الأكثر أماناً في أثناء الإرضاع.

 -  مثبتات المزاج :mood stabilizers

تستخدم الأدوية المثبتة للمزاج مثل الليثيوم والأدوية المضادة للصرع - كاربامازبين وفالبروات الصوديوم ولاموتريجين - في علاج الهوس الحاد، وبوصفها جرعة صيانة في الاضطراب ثنائي القطب، وعلاجاً داعماً في معالجة الاكتئاب المعند المزمن. ولجميع الأدوية المثبتة للمزاج تأثيرات ماسخة وسامة للأجنة، وللأدوية المضادة للصرع المستخدمة في الاضطرابات النفسية التأثيرات الجانبية ذاتها المشاهدة عند معالجة النساء المصابات بالصرع بهذه الأدوية.

تستخدم النساء المصابات باضطراب مزاج ثنائي القطب فعال الأدوية المثبتة للمزاج طوال جزء كبير من حياتهن المخصبة، لذلك يجب توعيتهن بمخاطر استمرار المعالجة أو إيقافها على الحمل. ويُنصح بإعطاء جرعة صغيرة من دواء مضاد للذهان بدلاً من الأدوية المثبتة للمزاج، إذا كانت المرأة المصابة بالاضطراب ثنائي القطب الفعال تخطط للحمل، أو صارت حاملاً وذلك لعلاج هجمات الهوس الحادة وعلاجاً وقائياً في الحالات العقلية المستقرة.

 - الليثيوم  :lithium

من المعروف منذ زمن بعيد أن لليثيوم علاقة بالتشوهات القلبية الولادية الخلقية، ولاسيما شذوذ إيبشتاين Ebstein’s anomaly  الذي تحدث فيه تشوهات في الصمام مثلث الشرف. وقد تبين أن التعرض لليثيوم يزيد الخطورة المتوقعة لشذوذ إبشتاين عند الأطفال، ولكن تبقى هذه الزيادة صغيرة بالأرقام المطلقة.

هناك مخاطر أخرى مرتبطة بالليثيوم مثل استسقاء السائل الأمنيوسي، وداء السكري عند الوليد، واضطرابات نظم القلب، واليرقان، وقصور الدرقية. وقد يرافق التغيير السريع في حجم البلازما عند الأم حول فترة الولادة ارتفاع المستويات المصلية لليثيوم إلى مستويات سمية لكلٍّ من الأم والوليد، وقد تنجم عن ذلك إصابة الوليد بمتلازمة الطفل الرخو floppy infant التي تتميز بـالميل إلى النوم وبضعف المقوية والزرقة وتسرع التنفس وتسرع القلب وضعف الرضاعة (المص).

يجب ألا يوقف العلاج فجأة عند النساء اللواتي يحملن وهن يتعالجن بالليثيوم لخطورة نكس المرض لديهن. ويجب إجراء التصوير بالأمواج فوق الصوتية باكراً لكشف إصابة الأجنة بعيوب خلقية في القلب للسماح للحامل باتخاذ القرار بإكمال الحمل أو إنهائه.

أظهرت مراجعة عدة مصادر أن الليثيوم هو الخيار الأول حين الحاجة إلى أدوية معدلة للمزاج في أثناء الحمل، ولكن كثيراً من النساء لن يقبلن ذلك، مما يوجب معالجتهن بجرعات صغيرة من الأدوية المضادة للذهان النموذجية مثل هالوبيريدول أو ترايفلوبيرازين عند الضرورة.

-  فالبروات :valproate

لم يدرس فالبروات جيداً في أثناء الحمل، لكن رافقت استعماله تشوهات ولادية كبيرة بما فيها الشوك المشقوق، إذ شوهدت عيوب الأنبوب العصبي عند مواليد 5% من النساء اللواتي استخدمن الفالبروات في الثلث الأول من الحمل، ولذلك فإن اختياره ليس مفضلاً على الليثيوم، لكن إذا استمرت الحامل على استخدامه فلابد من إضافة الفولات الذي قد يخفف من خطورة حدوث التشوهات. قد يسبب فالبروات تغيرات في وظيفة التخثر تمثل خطورة على الأم وعلى الجنين في أثناء الحمل وفي نهايته، وقد تكون المعالجة البديلة الأكثر أماناً هي التخليج الكهربائي أو مضادات الذهان عالية القدرة.

يفرز فالبروات في حليب الثدي بتراكيز قد تصل إلى 10% من التراكيز المصلية لدى الأم. وقد سجلت علامات نقص صفيحات دموية وفقر دم عند أطفال بعمر 3 أشهر تعرضوا لفالبروات في أثناء الحياة الرحمية وفي أثناء الإرضاع الوالدي، وقد تتراجع هذه العلامات بعد إيقاف الإرضاع.

-  كاربامازبين  :carbamazepine

يعبر كاربامازبين المشيمة، وقد وثقت العديد من التقارير احتمال إحداثه تشوهات في الجنين. وفي دراسة استباقية على 35 طفلاً تعرضوا لكاربامازبين في أثناء الحياة الرحمية تبين أن معدل حدوث العيوب الوجهية القحفية 11%، ونقص تصنع الأظافر 26%، وتأخر التطور 20%. لذلك يجب تجنب استخدام كاربامازبين في أثناء الحمل.

يفرز كاربامازبين في حليب الثدي، وقد سجلت بعض التأثيرات العابرة لدى الأطفال الذين تعرضوا لكاربامازبين بسبب الرضاعة وشملت التهاب الكبد الركودي، واضطراب وظائف الكبد على نحو عابر، والنزق، والوسن، وصعوبة الرضاعة.

-  لاموتريجين:

لا يعرف الكثير عن هذا الدواء الجديد نسبياً، ولكن تبين المعلومات المتوافرة أن استخدامه منفرداً ترافقه خطورة احتمال إحداث تشوهات جنينية قد تصل إلى 3%، وأكثر هذه التشوهات الجنينية حدوثاً هو شق سقف الحنك. يفرز لاموتريجين في حليب الثدي، وينصح بتجنب وصفه في أثناء الإرضاع الوالدي إلى حين توافر معلومات أكثر عن تأثيراته.

-  الأدوية المضادة للذهان  :antipsychotic drugs

توصف الأدوية المضادة للذهان لمعالجة الاضطرابات النفسية الحادة والمزمنة، مثل اضطراب المزاج ثنائي القطب والفصام والأمراض المشابهة للفصام. قد تستمر المريضات في أثناء هجوع المرض بتناول المستحضرات الفموية أو المستحضرات مديدة التأثير للأدوية المضادة للذهان. وعلى الرغم من إضعاف الخصوبة بزيادة مستويات البرولاكتين المصلية، فإن معظم الأدوية المضادة للذهان الأحدث "اللانموذجية" ليس لها هذا التأثير، وقد تحمل نساء يتناولن الأدوية المضادة للذهان، وقد يرغبن في إكمال الحمل فيجب عندها معالجتهن بحزم لأن تأثير الذهان يفوق مخاطر الأدوية المضادة للذهان في الجنين.

-  الأدوية المضادة للذهان النموذجية:

ليس لمضادات الذهان النموذجية خطورة مهمة في تشويه الجنين، ويمكن عند الحاجة إلى التهدئة في أثناء معالجة ذهان حاد استخدام كلوربرومازين، وإلا فإن ترايفلوبيرازين وهالوبيريدول هما الخيار العلاجي الأول. يفضل سريرياً وصف الأدوية المضادة للذهان على شكل مستحضرات فموية للحامل للسماح بمرونة أكبر في تعديل الجرعات، ولا يُنصح بالاستخدام المنوالي لمضادات الذهان مديدة التأثير في الحمل، بسبب احتمال حدوث تأثيرات جانبية خارج هرمية في الوليد أو الرضيع لعدة أشهر بعد تناول العلاج. وقد يسبب كل من الفينوتيازينات وهالوبيريدول أعراض امتناع أو أعراضاً خارج هرمية عابرة في الوليد، ولذلك يجب سحب العلاج في الأسبوع 36-38 من الحمل إن كان ذلك ممكناً.

-  الأدوية المضادة للذهان اللانموذجية:

يتزايد استخدام الأدوية المضادة للذهان اللانموذجية الجديدة لأنها أفضل تحملاً من ناحية التركين والتأثيرات الجانبية خارج الهرمية كما أنها لا تنقِص الخصوبة. وقد يحدث الحمل في أوقات تغيير الأدوية من النموذجية إلى اللانموذجية. ولكن مازالت المعلومات المتعلقة باستخدامها وبتأثيراتها في أثناء الحمل شحيحة.

-  مشتقات البنزوديازبين:

يجب تجنب استخدام مشتقات البنزوديازبين في أثناء الحمل ولاسيما في الثلث الأول منه. وإذا ما  فوجئت المريضة بحمل لم تكن تخطط له في أثناء علاجها بالبنزوديازبينات يجب إيقافها. كما يجب تجنب وصفها للأم المرضع.

 

 

 


التصنيف : الأمراض النفسية
النوع : الأمراض النفسية
المجلد: المجلد العاشر
رقم الصفحة ضمن المجلد : 144
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 1059
الكل : 58492404
اليوم : 64918