فيروسات انفلونزا
-

 فيروسات الإنفلونزا

فيروسات الإنفلونزا

صلاح الدين شحادة

تصنيف فيروسات الإنفلونزا

السير السريري للخمج بفيروس الإنفلونزا

البنية الجزيئية لفيروس الإنفلونزا

مراحل تنسّخ فيروس الإنفلونزا

التغيرات الوراثية في جينوم الإنفلونزا

 

مقدّمة:

تسبب فيروسات الإنفلونزا مرض الإنفلونزا، ويعتقد أن مصطلح إنفلونزا الذي ظهر في القرن الخامس عشر مشتق من الكلمة الإيطاليةinfluenta التي تعني (التأثير)؛ إذ كان يُعتقد حينها أن جائحات هذا المرض تحدث بسبب تأثير النجوم.

تنتشر فيروسات الإنفلونزا بين البشر، كما أن عِدّة من نُميطاتها تصيب الحيوانات أيضاً، وغالباً تسبب مرضاً خفيفاً أو متوسطاً عند البشر، لكنها قد تسبب جائحات شديدة الوطأة تُودي بحياة الآلاف من البشر.

أولاً- تصنيف فيروسات الإنفلونزا:

تحوي فيروسات الإنفلونزا RNA مفرد الطّاق سلبي الاتجاه، وهي تنتمي إلى فصيلة الفيروسات المخاطية السوية Orthomyxoviridae. تضم هذه العائلة ثلاثة أجناس تدعى A, B, C، ويضم كل جنس من هذه الأجناس نوعاً أو نمطاً واحداً (Type) يسمى باسم جنسه نفسه (الجدول١).

يصيب النوع A من فيروسات الإنفلونزا البشر والعديد من الأنماط الحيوانية، مثل الخنازير والطيور (الجدول٢)، وهي غالباً المسؤولة عن نشر الفيروس في أرجاء العالم. يُعتقد أن فيروس الإنفلونزاA البشري نشأ من ذرارٍ فيروسية تصيب عادة الطيور المائية. تسبب الأنماط A وB أوبئة موسمية. يمكن لفيروس الإنفلونزا البشري B أن يخمج حيوان الفقمة أيضاً، وهو يصيب الأطفال عادة. يمكن أن يسبب النوع A إضافة إلى الفاشيات الصغيرة والأوبئة الموسمية المحدودة جائحات عالمية، وهو المسؤول غالباً عن قرابة ثلث الإصابات بالإنفلونزا أو أكثر في أرجاء العالم سنوياً. بالمقابل يكون الخمج بفيروس الإنفلونزا C خفيفاً في أغلب الحالات، ولا يؤدي إلى حدوث جائحات.

يضم النوع A من فيروسات الإنفلونزا تحت أنماط عديدة Subtypes (نُميطات)، وذلك تبعاً للطبيعة المستضدية لنوعين من البروتينات الغلافية تتوضع على سطح الفيروس، يدعى أحدهما بروتين الراصة الدموية hemagglutinin ويرمز إليه بالرمز HA أو H، ويدعى الآخر نورأمينيداز (يرمز إليه بـ NA أو N). لمستضد الراصة الدموية H ثمانية عشر نُميطاً معروفاً حتى الآن يرمز إليها بالأرقام من ١ إلى ١٨ (H1-H18). وللنورأمينداز أحد عشر نُميطاً يرمز إليها بالأرقام من ١ إلى ١١(N1-N11). وتختلف هذه النُميطات بعضها عن بعض بتتالي قرابة ٣٠٪ من الحموض الأمينية على الأقل.

نظرياً يمكن أن يتشارك أي من المستضدات H وأي من المستضداتN ، وهذا يَفترض تنوعاً هائلاً لنُميَطات الفيروس A، وعملياً وجد أن النُميطات القابلة للانتقال بين البشر بسهولة هي التي تحوي H1 وH2 وH3، وأكثر التشاركات الشائعة للمستضداتH و N في فيروس الإنفلونزا A الذي ينتقل بين البشر هي:H1N1, H1N2 ,H2N2 ,H3N2 ، وفي العقدين الأخيرين كان النُميطانH1N1 وH3N2 هما الأكثر إحداثاً للإنفلونزا عند البشر، على حين تراجع انتشار النُميط H2N2 كثيراً منذ عام ١٩٦٨.

ثانياً- السير السريري للخمج بفيروس الإنفلونزا:

إن فيروس الإنفلونزا فيروس تنفسي ينتقل بالقطيرات التنفسية الدقيقة التي تحدث في أثناء العطاس أو السعال، حيث يمكن استنشاق هذه القطيرات من قبل شخص آخر يوجد على مسافة أقل من متر واحد من مصدر العدوى، وعندما يصبح الفيروس بتماس مع الخلايا الظّهارية التنفسية التي تملك مستقبلات نوعية له فإنه يرتبط بهذه المستقبلات. يمكن للعدوى أن تحدث بوساطة التماس المباشر أو غير المباشر مع المفرزات التنفسية التي يمكن أن تنتقل للملتحمة أو الأنف أو الفم. لا يكون ارتكاز الفيروس مع خلايا المخاطية التنفسية متماثلاً في مختلف مناطق السبيل التنفسي العلوي والسفلي؛ وذلك نظراً لاختلاف طبيعة الخلايا الظهارية للمخاطيات التنفسية من منطقة لأخرى؛ إذ إن فيروس الإنفلونزا أكثر ألفة للارتباط بالخلايا الظهارية العمودية المهدبة التي تبطن البلعوم الأنفي والجيوب والحنجرة والرغامى والقصبات؛ لذا فإن هذه المناطق هي الأكثر عرضة للإصابة بالفيروس من مناطق الجهاز التنفسي الأخرى، كالبلعوم الفموي والرئتين (الشكل١). بعد بدء تكاثر الفيروس في الخلايا المخموجة تحدث أذية واضحة لأهداب هذه الخلايا؛ مما يسبب خللاً مختلف الشّدة في وظيفة هذه الأهداب، التي تتضمّن كنس الأجسام الدقيقة الغريبة، كذرات الغبار والأحياء الدقيقة وغيرها، وتنظيف السبيل التنفسي منها.

الشكل (١): المناطق الملائمة للإنفلونزا في السبيل التنفسي. أ- يخمج فيروس الإنفلونزا الظهارة العمودية المهدبة. ب- يقسم البلعوم إلى بلعوم أنفي، وبلعوم فموي وتحت البلعوم.

تراوح فترة الحضانة في الإنفلونزا عادة بين يوم واحد وأربعة أيام، وقد تطول إلى نحو ستة أيام في حالات قليلة. تظهر عند زهاء نصف الأشخاص المخموجين بفيروس الإنفلونزا عددٌ من الأعراض التالية:

- حمى مفاجئة تستمر يومين أو ثلاثة (ربما أكثر في بعض الحالات).

- آلام عضلية في الكتفين والظهر خاصة.

- دعث عام وفتور وتعب.

- صداع.

- سيلان الأنف.

- احتقان وألم في البلعوم.

- سعال جاف (بسبب أذية الأهداب التنفسية).

- قد يحدث غثيان وأحياناً قُياء عند الأطفال خاصة.

تستمر الأعراض عادة من ثلاثة إلى خمسة أيام، مع أن السعال والدعث والتعب قد يستمر مدة أطول (أسبوعين أو أكثر في بعض الحالات). إن الحمى الشديدة وبقاء الدعث والآلام العضلية عدة أيام يميز الإنفلونزا من الزكام أو نزلة البرد الشائعة التي تسببها عادة فيروسات أخرى غير فيروس الإنفلونزا. يبدأ طرح الفيروس في المفرزات التنفسية عند المخموجين قبل يوم واحد تقريباً من ظهور الأعراض، ويستمر خمسة أيام وسطياً بعد ذلك، لكنه قد يستمر عشرة أيام وسطياً عند الأطفال. أما تفيرس الدم فهو غير شائع، ونادر الحدوث.

يمكن للمرض أن يكون شديداً ويحتاج إلى الاستشفاء عند الأطفال بعمر أقل من سنتين، وعند كبار السن (أكبر من ٦٥ سنة)، وعند مضعفي المناعة، والأفراد المصابين بأمراض مزمنة وخاصة الأمراض التنفسية والقلبية، مثل الربو وقصور القلب، وكذلك مرضى السكري بسبب المضاعفات الشديدة المحتملة للمرض عندهم.

يرافق الإصابة بفيروس الإنفلونزا نوع A احتمال الحاجة إلى الاستشفاء أكثر بأربع مرات منها عند الإصابة بالنوع B الذي يصيب الأطفال غالباً.

أكثر مضاعفات الإنفلونزا شيوعاً هي الخمج الجرثومي الثانوي في الجهاز التنفسي، الذي تسببه عادةً المكوّرات العنقودية الذهبية أو المستدمية النزلية، وتعد ذات الرئة الجرثومية الثانوية من أخطر مضاعفات الإنفلونزا (وإن كانت أقلها شيوعاً)، وهي التهاب رئوي حاد يتصف بحدوث ألم صدري وسعال منتج وصعوبة في التنفس، وقد تصل نسبة المواتية فيه إلى قرابة ٧٠٪ وخاصة عند وجود أحد عوامل الخطورة عند المريض.

قد يحدث التهاب رئوي (ذات رئة) بفيروس الإنفلونزا نفسه، لكن هذا نادر الحدوث، وتتطور ذات الرئة الفيروسية عادة بسرعة خلال ساعات، ويمكن أن تكون مميتة. يمكن للإنفلونزا أن تفاقِم الأمراض الرئوية المزمنة الموجودة سابقاً عند الشخص المصاب، مثل التهاب القصبات المزمن، والأدواء الرئوية المزمنة السادّة. قد يحدث عند نسبة قليلة من مرضى الإنفلونزا (لا تتجاوز ١٠٪) التهاب عضلة قلبية يكون عادة خفيفاً ولا يؤدي إلى حدوث أزمة قلبية.

يزداد معدل حدوث الإنفلونزا عادة في الشتاء والربيع (من كانون الأول/ ديسمبر حتى آذار/ مارس)، وقد تحدث فاشيات محدودة في الخريف أو نهاية الربيع.

ثالثاً- البنية الجزيئية لفيروس الإنفلونزا:

إن فيروس الإنفلونزا فيروس مغلَّف يبلغ قطره زهاء ٨٠-١٠٠ نانومتر، ويبدو كروي الشكل عند رؤيته بالمجهر الإلكتروني، يحوي جينوماً من الرّنا الحلزوني مفرد الطّاق سلبي الاتجاه، يتَّصف بأنه يتكون من ثماني قطع منفصلة (مجزأ) في نوعي الإنفلونزا A وB، ومن سبع قطع في النوع C. تحاط قطع الجينوم الفيروسي في فيروس الإنفلونزا ببروتين متكرر يدعى البروتين القفيصي أو بروتين القفيصة النووية. يعد هذا البروتين مهماً في نقل الجينوم الفيروسي داخل نواة الخلية المضيفة، يتكون بروتين القفيصة النووية من ثلاثة بروتينات مختلفة تكون بمجموعها البوليميراز الفيروسي. تدعى قطعة الجينوم الفيروسي مع البوليميراز المحيط بها معقد البروتين النووي الريبي نظراً لاحتوائه على الـ RNA، وبروتين القفيصة النووية (الشكل٢). يمكن لبعض البروتينات في هذا المعقد أن تحرِّض الموت الخلوي المبرمج للخلايا المناعية؛ مما قد يؤثر في الجواب المناعي للثوي.

الشكل (٢): بنية فيروس الإنفلونزا A.

ينغرس في غلاف فيروس الإنفلونزا نوعان من البروتينات السكرية، هما HA وNA. إن الطبيعة الجزيئية المستضدية لهذين البروتينين السكريين تحدِّد تحت أنماط subtypes(نُميطات) فيروس الإنفلونزا A تحديداً.

يتكون البروتين السكري الغلافي HA من جزأين، هما HA1 وHA2. يُسهِّل الجزء HA1 ارتباط الفيروس بالخلية المضيفة، على حين يساهم الجزء HA2 في اندماج الفيروس في الغشاء الخلوي للخلية المُضيفة. يمتلك البروتين السكريNA تأثيراً إنزيمياً يشبه تأثير إنزيم النورأمينيداز، وهو يُصنع من قبل الفيروس في أثناء تحرره من الخلية المُضيفة.

ترمِّز القطعة السابعة من جينوم فيروس الإنفلونزا بروتينين يدعيان بروتيني اللحمة (المطرس) matrix، ويرمز إليهما بـM1 وM2، ويتوضع البروتين M1 تحت الغلاف الفيروسي، ويؤدي دوراً مهماً في تحرر الفيروس من الخلية المضيفة بعد تنسخه فيها، على حين يُعتقد أن للبروتين M2 دوراً في اندماج الفيروس في الفجوة الخلوية الملتقِمة للفيروس.

ترمز القطعة الصغرى من الجينوم الفيروسي لفيروس الإنفلونزا نوعين من البروتينات غير البنيوية هما NS١ وNS٢، وتؤديان دوراً مهماً في أثناء الخمج؛ إذ تحضان الجهاز المناعي للمضيف على إنتاج كميات كبيرة من الأنترفيرون.

يمر فيروس الإنفلونزا في أثناء تنسِّخه ليتمَّ إنتاج فيروسات جديدة بسبع مراحل، هي: الارتكاز والنفاذ ونزع الغلالة والتنسخ والتجميع والنضج والإطلاق (التحرر). وتؤدي البروتينات والبروتينات السكرية الفيروسية أدواراً مختلفة مهمّة في أثناء هذه العملية.

رابعاً- مراحل تنسّخ فيروس الإنفلونزا:

يمرُّ تنسخ فيروس الإنفلونزا بعدة مراحل - مثل كل الفيروسات - وتتضمّن:

أ- الارتكاز والاندماج ونزع الغلالة: إنَّ فيروس الإنفلونزا هو فيروس تنفسي يرتبط بالخلايا الظهارية للسبيل التنفسي، حيث ترتكز الوُحيدة HA1 من البروتين الفيروسي HA على جزيئات سكرية نوعية بارزة من الغشاء الخلوي للخلية المضيفة وخاصة حمض السياليك، وذلك عندما تكون ملاصقة له. يدعى حمض السياليك أيضاً الحمض النورأميني؛ لذا يسمى البروتين الفيروسي الغلافي (النورأمينيداز) (الشكل٣).

الشكل (٣): حمض السياليك (الحمض النورأميني).

بعد ارتباط البروتين الشوكي الفيروسي HA بحمض السياليك على سطح الخلية المضيفة (مرحلة الارتكاز) ينفذ فيروس الإنفلونزا إلى داخل الخلية المضيفة بعملية تدعى الالتقام Endocytosis. في أثناء عملية الالتقام يحتاج اندماج الغلاف الفيروسي في غشاء حويصل الالتقام الخلوي إلى pH منخفض داخل هذا الحويصل، ويعتقد أن البروتين M2 الفيروسي يؤدي دوراً مهماً في خفض الـpH داخل حويصل الالتقام، وبالتالي يعزز عملية الاندماج بين الغلاف الفيروسي وغشاء الخلية المُضيفة.

تؤدي عملية تحميض حويصل الالتقام إلى تسرب ذرات الهدروجين الموجبة إلى داخل الجسيم الفيروسي؛ ممّا يؤدي إلى تخلخل في البنية الداخلية للفيروس، وبالتالي يساهم في عملية نزع الغلالة الفيروسية بعد التقام الفيروس في حويصل الالتقام. يتنسخ فيروس الإنفلونزا داخل نواة الخلية المضيفة بخلاف معظم الفيروسات الرّنويّة الأخرى التي تتنسَّخ ضمن هيولى الخلية المضيفة. يمتلك بروتين القفيصة النووية الذي يحيط بالـ RNA في فيروس الإنفلونزا إشارات نووية تتفاعل مع المسام النووية للخلية المضيفة، وتساهِم في دخول الـ RNA الفيروسي إلى داخل نواة الخلية حيث تم تنسُّخ الجينوم الفيروسي.

ب- التنسخ Replication:

بعد دخول الجينوم الفيروسي إلى نواة الخلية المضيفة تُستخدم كل قطعة من الرّنا الفيروسي سلبي الاتجاه قالباً لصنع نسختين من الرّنا إيجابي الاتجاه. يدعى هذا الرّنا معاكس (مضاد) الجينوم، إذ يعدُّ مكمِلاً للجينوم الفيروسي الأصلي. في أثناء التنسخ يُستعمل هذا الـRNA المكمِّل قالباً لتركيب نسخ كاملة من قطع الرّنا الفيروسي سلبي الاتجاه. يساهم معقد البوليميراز في النواة مساهمة فعالة في انتساخ قطع الجينوم الفيروسي بعد مساهمته في تركيب الـ mRNA الفيروسي في المرحلة الأولى. تغلَّف الجينومات الفيروسية الناجمة عن عملية التّنسخ وتحاط بالبروتينات النووية المتكونة بعد ترجمة كمية كافية من البروتينات الفيروسية وانتساخها، ويتمُّ نقلها إلى هيولى الخلية المخموجة (المضيفة) (الشكل ٤).

الشكل (٤): الارتكاز والاختراق ونزع الغلالة.

ج- التجميع والنضج والإطلاق Assembly,Maturation, Release:

يتمُّ تجميع المكونات الفيروسية التي تكونت في نواة الخلية المضيفة وانتقلت إلى الهيولى في هيولى الخلية المضيفة وقرب غشائها الخلوي، وخصوصاً قرب الجهة القمّيّة للخلايا الظهارية المخموجة، أي تلك الجهة من الغشاء الخلوي المطلة على لمعة السبيل التنفسي. تتوضع الأشواك الفيروسية HA وNA وبروتين القفيصة الفيروسي M2 ملاصِقة للغشاء الهيولي للخلية، ويقوم البروتين الفيروسي M1 بدفع بروتينات القفصية النووية للفيروس وتوجيهها إلى مكان التجميع. حتى تكون الفيروسات الناجمة عن عملية التنسخ كاملةً وقادرةً على العدوى (خامجة) يجب أن يحتوي كل منها على جميع القطع المنفصلة من الجينوم الفيروسي.

يؤدي ارتباط البروتين الفيروسي M1 بالجهة الداخلية للغشاء الهيولي للخلية المضيفة إلى تشكل حويصلات صغيرة في مكان الارتباط تدعى البراعم. مع تشكل هذه البراعم يبدأ خروج الجسيمات الفيروسية المتشكِّلة حديثاً من الخلية المضيفة، ويقوم البروتين السكري الفيروسي NA (النورأمينيداز) بشطر الحمض النورأميني في الغشاء الهيولي؛ مما يساهم مساهمة فعالة في إطلاق الجسيمات الفيروسية المتكوِّنة حديثاً وتحررها من الخلية المخموجة (الشكل ٥).

الشكل (٥): التجميع والنضج والتحرر.

تعمل الأدوية النوعية الحديثة المضادة لفيروس الإنفلونزا، مثل أوسيلتاميفير على منع تحرر الفيروسات المتكونة حديثاً من الخلية، وذلك بتثبيطها للنورأمينداز الفيروسي؛ لذا تدعى مثبطات النورأمينيداز.

خامساً- التغيرات الوراثية في جينوم الإنفلونزا:

يكثر حدوث الأخطاء الوراثية في أثناء تنسخ فيروسات الإنفلونزا، فقد تحدث بعض الطفرات الصامتة في الرنا الفيروسي في أثناء تنسخ الجينوم، لكن هذه الطفرات تكون غالباً محدودة ولا تؤدي إلى حدوث تغيرات مهمة في تتالي الحموض الأمينية في البروتينات الفيروسية، مع أن بعض الطفرات النقطية قد تؤدي إلى تغير في ترتيب بعض الحموض الأمينية وتموضعها في البروتينات الفيروسية.

١- الانزياح المستضديAntigenic drift ، والزّيحان المستضدي Antigenic Shift:

تدعى التبدلات التي تسببها الطفرات النقطية، وخاصة في الجينات المرمزة للمستضدات الفيروسية بالانزياح (الانحراف) المستضدي. تؤدي التغيرات الطفيفة والبطيئة الحادثة في فيروسات الإنفلونزا في أثناء الانزياح المستضدي إلى نشوء ذرارٍStrains جديدة، وليس نُميطات Subtypesجديدة من الفيروس.

كما هو معلوم يقوم الجهاز المناعي لجسم الثوي بإنتاج أضداد لمستضدات فيروسية نوعية، وتقوم هذه الأضداد بتحييد الفيروس عند ارتباطها بتلك المستضدات، وبالتالي تمنع ارتباط الفيروس بالخلية وإخماجها. في حالة فيروس الإنفلونزا تكون الأضداد النوعية التي يشكلها الجسم موجهة عادة للبروتينات الفيروسية الغلافية (الأشواك): NA وHA، وعند حصول الانزياح المستضدي فإن الطفرة النقطية الحادثة في الجينوم الفيروسي قد تغيِّر من طبيعة هذه المستضدات، وبالتالي فإن الأضداد المتكوِّنة سابقاً ربما لا تفيد في الوقاية من الذراري التي تنجم عن هذه الطفرات على الرّغم من الإصابة بهذه الذراري قبل حدوث الطفرات فيها؛ لذا يمكن أن تتكرر الإصابة بالإنفلونزا.

يُعدُّ الانزياح المستضدي أساساً لحدوث الفاشيات الفصلية والأوبئة المحدودة بالإنفلونزا؛ لذلك يتم تغيير الذراري المستخدمة في لقاح الإنفلونزا سنوياً، إذ إن الذراري التي تنتشر خلال سنة ما قد يحدث لها - أو لبعضها - طفرات مستضدية تجعلها قادرة على الإخماج من جديد لعدم قدرة الأضداد الموجودة سابقاً - نتيجة المرض أو اللقاح - على التعرف إليها.

بينما يحدث الانزياح المستضدي في فيروسات الإنفلونزا A و B (ونادراً في النمط C)، ويؤدي إلى تبدلات طفيفة وبطيئة وثابتة في الصفات المستضدية للفيروس، قد يحدث تغيّر وراثي أكثر أهمية في النمطA فقط، ويدعى الزّيحان (الانجراف) المستضدي. يؤدي الزيحان المستضدي إلى تغيّرات جينية كبيرة وسريعة في المادة الوراثية للفيروسات الناتجة من التنسخ الفيروسي، تؤدي بدورها إلى تغيرات مستضدية مهمة ينجم عنها نُميطات Subtypes جديدة من الفيروس. ينجم الزيحان المستضدي عن عملية تدعى إعادة التفارز Reassortment.

من المعلوم أن فيروس الإنفلونزا A يمتلك ١٨ نُميطاً من المستضد HA، و١١ نُميطاً من المستضد NA، ولأن الجينوم الفيروسي لفيروس الإنفلونزا مجزأ (ثمانية قطع)، فإذا حدث وأُصيبت الخلية بنُميطين مختلفين من الفيروس A في الوقت نفسه (ويحدث هذا عند الخنزير بوجه خاص) فقد يحدث اختلاط وإعادة توزيع لهذه القطع في أثناء مرحلة تجميع الفيريونات الجديدة في الخلية المخموجة؛ مما قد يؤدي إلى نشوء نُميطات فيروسية جديدة. يسبب الزيحان المستضدي مشكلة صحية عالمية مهمة للبشر. تنتشر أربعة نُميطات من الفيروس A بين البشر، وهي: ,H1N1 H1N2 ,H2N2, H3N2، وتؤدي إلى حدوث معظم حالات الإنفلونزا البشرية، وتصيب النُميطات الأخرى الطيور وبعض الحيوانات، كالخنازير والخيول والثدييات البحرية. يمكن للنُميطات التي تصيب الطيور البرية المهاجرة - وخاصة المائية منها - أن تنتقل إلى الدواجن (الطيور المدجنة)، أو الخيول أو الخنازير. تمتلك الخلايا الظهارية التنفسية عند الخنزير مستقبلات يمكنها الارتباط بنُميطات فيروس الإنفلونزا A الخاصة به، إضافة إلى قدرتها على الارتباط بنُميطات تصيب كائنات أخرى، فإذا ما أُصيب الخنزير بنُميط طيري وآخر بشري في الوقت نفسه، وجرى تنسخ النُميطين في وقت واحد في داخل الخلية المصابة فقد تحدث في هذه الخلية عملية تبادل لبعض قطع الجينوم بين هذين النُميطين، وتدعى هذه العملية (إعادة التفارز). قد ينجم عن عملية إعادة التوزيع الوراثي هذه نُميط فيروسي جديد قادر على الارتباط بالخلايا البشرية، وذو خصائص مستضدية جديدة. أي إن أحداً من البشر لم يصب به من قبل، وليس لدى أحد من البشر مناعة مسبقة تجاهه؛ لذا يكون هذا النُميط الجديد قادراً على إخماج أي شخص يتعرض له، والتسبب في جائحات إنفلونزا كبيرة عبر العالم. أي إن الزيحان المستضدي لفيروس الإنفلونزا (وخاصة النمط A) من خلال عملية إعادة التفارز هو المسؤول عن نشوء نُميطات جديدة للفيروس قادرة على إحداث جائحات عالمية. يحدث الزيحان المستضديAntigenic Shift بتواتر أقل بكثير من الانزياح المستضديAntigenic Drift ؛ إذ يحدث الزيحان المستضدي عادة كل نحو ١٥-٢٠ سنة.

٢- الانزياحات المستضدية وجائحات الإنفلونزا عبر التاريخ:

حدثت خلال القرن العشرين أربع جائحات كبيرة موثقة للإنفلونزا، وحدثت الجائحة الأولى الموثقة عام ١٩١٨، وتعدُّ من أخطر جائحات الإنفلونزا وأهمها عبر التاريخ البشري، ودعيت الإنفلونزا العظيمة لشدة فتكها بالبشر، أو الإنفلونزا الإسبانية لاعتقاد بعض الباحثين حينها أنها بدأت في إسبانيا. يُعتقد أن جائحة الإنفلونزا هذه قتلت ما بين ثلاثين وخمسين مليوناً من البشر خلال عدة أشهر. بدأ انتشار هذه الجائحة بالوقت نفسه تقريباً في ربيع ١٩١٨ في كل من أمريكا الشمالية وأوربا وبعض مناطق آسيا. وتشير إحدى النظريات إلى أن هذه الجائحة بدأت في أحد معسكرات الجيش الأمريكي في ولاية كينساس في بداية آذار/ مارس عام ١٩١٨، تشير عدّة من الدلائل إلى أن فاشية إنفلونزا ظهرت بين جنود هذا المعسكر بعد قيامهم بتنظيف حظائر الخنازير التابعة للمعسكر، وما لبث أن انتقل المرض مع الجنود من هذا المعسكر إلى معسكرات أخرى، وإلى خارج الولايات المتحدة عندما أُرسل عدد كبير من الجنود الأمريكيين للمشاركة في الحرب العالمية الأولى في أوربا، حيث احتك هؤلاء الجنود مع جنود آخرين من مختلف الجنسيات والبلدان. وقد كتبت الصحافة الإسبانية مبكِّراً عن الفاشيات التي حدثت في بعض المدن الإسبانية؛ لذا أُطلق على الجائحة اسم الإنفلونزا الإسبانية؛ وقد ازدادت فوعة الفيروس مع زيادة انتشاره بين البشر، وسُجلت ألوف الوفيات بين المرضى في جميع أنحاء العالم وخاصة في أوربا وأمريكا حيث كان العدد الأكبر من المصابين.

تظاهر المرض لدى أغلب المصابين بحمى مرتفعة فجائية رافقها هذيان أحياناً، وصداع شديد، وسعال جاف ودعث، وكانت أغلب الوفيات ناجمة عن ذات الرئة الجرثومية الوخيمة التي تُعدُّ من أخطر مضاعفات الإنفلونزا، ويعتقد أن نسبة الوفيات بلغت حينها زهاء ٢,٥٪، وهي نسبة تفوق نسبة المواتية في الإنفلونزا الموسمية العادية بنحو خمسة وعشرين ضعفاً. بعد إصابة عدد هائل من البشر تشكَّلت عند الناجين منهم مناعةٌ له؛ لذا بدأ عدد حالات الإصابة بالانخفاض الملحوظ، ولم تعد تسجل حالات جديدة من الإصابة في الخريف في المدن والمناطق التي اجتاحها الفيروس في الربيع. لكن موجة أخرى من الإنفلونزا ما لبثت أن ظهرت مع بداية عام ١٩١٩ في المناطق التي لم تسجل فيها إصابات على نطاق واسع خلال عام ١٩١٨. أظهرت الدراسات اللاحقة التي أُجريت على مصول محفوظة أُخذت من مرضى أصيبوا بتلك الجائحة أن الفيروس المسبب لجائحة ١٩١٨ كان النُميط الفيروسي A(H1N1). على الرّغم من الاعتقاد المبني على الحقائق الوبائية بأن الفيروس المسبب لجائحة ١٩١٨ كان ذا منشأ خنزيري، وانتقل من الخنازير إلى البشر، أظهرت الدراسات والفحوص الجينية اللاحقة التي أُجريت على الفيروس المعزول من أنسجة وعينات محفوظة من أشخاص ماتوا بسبب الإنفلونزا في تلك الجائحة وجود مورثات مشتقة من فيروسات طيرية فيه؛ مما دعا إلى الاعتقاد بحدوث زيحان مستضدي أدى إلى نشوء النُميط الجديد نتيجة إعادة تفارز لنُميطين؛ أحدهما طيري، والآخر بشري في الخنزير، ثمَّ انتقال النُّميط الجديد من الخنازير إلى البشر لينتشر بعدها بين البشر أنفسهم. أظهرت الدراسات اللاحقة أيضاً أن كلا البروتينين HA وNA العائدين للنُميط H1N1 المسبب لجائحة ١٩١٨ كانا أشد فوعةً من النُّميطات الأخرى الشائعة، والتي تسبب عادة الإنفلونزا الموسمية، ويعتقد أن HA خاصة كان مسؤولاً عن حدوث عاصفة السيتوكينات، وعن استجابة التهابية حادة مُعمَّمة عند بعض المرضى، أدت إلى أذيات نسيجية واسعة تسببت في فشل متعدد الأعضاء، والوفاة عند هؤلاء المرضى.

تمَّ عزل فيروس الإنفلونزا مخبرياً للمرّة الأولى في عام ١٩٣١ من قبل الباحث Richard Shope ورفاقه، وكان فيروس إنفلونزا خنزيرياً، وبذلك تمَّ التأكد من الأصل الفيروسي لمرض الإنفلونزا بعد أن كان الكثير من الأطباء - وخاصة خلال جائحة ١٩١٨ – يعتقد أن سبب الإنفلونزا هو جرثومي؛ وذلك لعدم القدرة تقنيّاً في ذلك الوقت على عزل الفيروس، لكن باحثين آخرين أشاروا في حينها إلى أن العامل المسبب لجائحة الإنفلونزا الكبرى عام ١٩١٨ قد يكون عاملاً ممرضاً راشحاً أو حمة راشحة، وهو ما كان يطلق على الفيروسات في ذلك الوقت، أي إن الإنفلونزا ليست مرضاً جرثومياً، بل مرض فيروسي، وهذا ما تمَّ إثباته فعلاً حين تمَّ عزل الفيروس المسبِّب لها، وسُمّي حينها فيروس الإنفلونزا.

من المعروف حالياً أن الأطفال الصغار وكبار السن هما الفئتان الأكثر تعرّضاً للمضاعفات المؤدية للوفاة في سياق الإنفلونزا الموسمية، لكن الملاحظ من مراجعة السجلات الرسمية لجائحة ١٩١٨ أنه على الرغم من أن الأطفال كانوا الأكثر إصابة بالمرض، كانت نسبة كبيرة من الوفيات - بخلاف الإنفلونزا الموسمية – عند أشخاص بعمر أقل من ٦٥ سنة، وخصوصاً بأعمار بين ٢٥ و٣٥ عاماً. ويمكن تفسير ذلك بأن المناعة عند هؤلاء الأفراد تكون على أشدها في هذه الأعمار، وبالتالي حصلت لديهم استجابة مناعية فِطرية قوية حرَّضها فيروس جائحة ١٩١٨، وأدَّت لحدوث أذية رئوية شديدة، بل مميتة أحياناً. كما أنه من المحتمل أن يكون كثير من كبار السن حينها قد تعرضوا للإصابة بنُميط مشابه من الفيروس منذ زمن بعيد في سنوات طفولتهم أو شبابهم واكتسبوا بعض المناعة ضده.

بعد حدوث جائحة الإنفلونزا وتعرض معظم الناس للفيروس واكتسابهم درجة من المناعة ضده يستمر انتقال الفيروس لكن بدرجة أقل، وخاصة بين غير المتعرضين (المُمَنَّعين) سابقاً، ويتحول الفيروس الذي سبَّب الجائحة إلى فيروس إنفلونزا موسمية.

حدثت خلال الأعوام المئة الأخيرة بعض جائحات الإنفلونزا الأخرى بعد حدوث جائحة ١٩١٨ (الشكل٦). في عام ١٩٥٧ حدث انزياح مستضدي للنُّميط H١N١ إلى النُميط H2N2 في الصين، وانتشر في أرجاء العالم خلال عدة أشهر. سميت الجائحة في حينها بالإنفلونزا الآسيوية “Asian influenza”، ودُعي هذا الفيروس بفيروس الإنفلونزا الآسيوية. نجم هذا الفيروس عن إعادة تفارز ما بين نُميط فيروسي بشري وآخر طيري، وقد أصاب زهاء ثلث السكان حينها، وكانت نسبة الوفيات فيه قرابة وفاة واحدة من كل أربعة آلاف إصابة. في عام ١٩٦٨حدثت جائحة جديدة من الإنفلونزا دُعيت إنفلونزا هونج كونج “Hong Kong influenza,”، بدأت في الصين وانتشرت في آسيا أولاً، ثم انتشرت في آسيا وأستراليا والشرق الأوسط وأوربا، ووصلت إلى أمريكا مع الجنود العائدين من فيتنام حينها. كان المُسبِّب لهذه الجائحة هو النُميط H3N2 الذي حل محل النُميط H2N2 الذي كان سائداً قبل ذلك بسنوات، ويعتقد أن الجائحة كانت متوسطة الشدة؛ لأن الأضداد المتكونة سابقاً عند البشر تجاه البروتين N2 (المشترك بين النميط القديم والجديد) قد ساهمت في حدوث درجة ما من المقاومة تجاه الفيروس، على الرغم أن البروتين H3 كان جديداً في النُميط المسبب للجائحة، وليس له أضداد سابقة عند جمهرة السكان. عاد النُميط H1N1 مجدداً إلى الظهور عام ١٩٧٧ في شمالي الصين لينتقل إلى روسيا وينتشر منها إلى كل أرجاء العالم. إنَّ فيروس H1N1 الذي ظهر عام ١٩١٨ وسبَّب الإنفلونزا العظيمة استمر بين البشر فيروساً موسمياً إلى أن حل محله النُميط H2N2 في عام ١٩٥٧.

الشكل (٦): جائحات الإنفلونزا في القرن العشرين التي سببها الزيحان المستضدي.

دُعيت الإنفلونزا التي حدثت عام ١٩٧٧، والتي سبَّبها النُميط الطارئ H1N1 بالإنفلونزا الروسية Russian influenza، وكان هذا النُميط مشابهاً جينياً للنُميط H1N1 الذي كان منتشراً في عام ١٩٥٠؛ لذا كانت الجائحة متوسطة الشدة، والجدير بالذكر أن النُميط الجديد لعام ١٩٧٧ لم يحلّ بالكامل محل النّميط H3N2 الذي كان سائداً حينها، وربما لأول مرة في التاريخ يسود نُميطان من الفيروس في آنٍ واحدٍ. بعد عام ١٩١٨ بقي النُميط H1N1 منتشراً بين الخنازير في الولايات المتحدة، وخضع لعدة انزياحات مستضدية genetic drift خلال السنوات التالية، كما خضع لإعادة تفارز مع نُميطات طيرية بعد ذلك، ليصبح ثلاثي المنشأ (خنزيرياً بشرياً طيرياً) في عام ١٩٩٨. في نيسان / إبريل عام ٢٠٠٩ استطاع هذا الفيروس الخنزيري الانتقال إلى البشر بعد تعرضه لزيحان مستضدي جديد، ليحل محل النُميطين H3N2 وH1N1 اللذين كانا المسبِّبين الرئيسيين للإنفلونزا الموسمية شتاء ذلك العام. ولقد أكدت الدلائل الوبائية أن هذا النُميط أصاب أفراداً لم يتعرضوا قط لأي تماس مع الخنازير وبالتالي أصبح من المؤكد أن الفيروس أصبح بشرياً على الرّغم من منشئه الخنزيري. استمر النُميط الجديد بالانتقال بين البشر، ومن الجدير ذكره أنه عند ظهور النُميط H1N1 الجديد عام ٢٠٠٩ ساد الذعر والهلع في أرجاء العالم، ورفعت منظمة الصحة العالمية درجة الإنذار من الجائحة إلى الدرجة الخامسة ثم السادسة (أعلى درجات سلم الإنذار)؛ وذلك بسبب الخوف من أن يكون النميط H1N1 لعام ٢٠٠٩ مشابهاً في الفوعة للنُميط H1N1 لعام ١٩١٨، لكن الدراسات الجينية أثبتت وجود اختلافات جينية فرعية بينهما، وخاصة في الجينات المسؤولة عن الفوعة (الشكل٧). انتشر الفيروس من الولايات المتحدة والمكسيك إلى كل أنحاء العالم، لكن شدة الإصابات كانت خفيفة، ونسبة الوفيات كانت قريبة من نسبة الوفيات في الإنفلونزا الموسمية، وكانت معظم الوفيات عند كبار السن. تمَّ إنتاج لقاح للنُميط الجديد بسرعة، وبحلول كانون الأول / ديسمبر من عام ٢٠٠٩ تمَّ البدء بإعطاء اللقاح على نطاق واسع في الولايات المتحدة. يعتقد أن الإجراءات الوقائية الصارمة المتَّخذة عالمياً في أثناء الجائحة، وسرعة إنتاج اللقاح وتعميمه عالمياً قد ساهمت إلى حد بعيد في التخفيف من آثار جائحة الإنفلونزا لعام ٢٠٠٩.

الشكل (٧) الأصل الجيني الرباعي لفيروس H1N1 ٢٠٠٩.

٣- إنفلونزا الطيور شديدة الفوعة:

تصاب الطيور - وخاصة الطيور المائية المهاجرة منها - بعدد محدود من نُميطات الإنفلونزا الكثيرة، وتعد هذه الطيور مستودعاً مستمراً لهذه الأنماط تنشرها فيما بينها، كما تنقلها إلى الطيور الداجنة وإلى الخنازير. من الممكن انتقال النُميطات أو الذراري الطَّيرية إلى الإنسان إذا حدث لها طفرات خاصة عند الطيور أكسبتها القدرة على الارتباط بالمستقبلات الخلوية البشرية لفيروسات الإنفلونزا، أو إذا حدث لها زيحان مستضدي وإعادة تفارز مع فيروسات بشرية عند الخنزير – الذي يدعى وعاء المزج - وأَكسبها جينات بشرية خاصة تمكنها من الارتباط بالمستقبلات البشرية للفيروس. يحتاج البروتين الفيروسي HA لكي يخمج البشر إلى حدوث تبدلات نوعية فيه تجعله قادراً على الارتباط بالمستقبلات البشرية.

في عام ١٩٩٧، وفي مدينة هونج كونج سُجِّلت أول مرة حالات موثقة لإصابات بشرية بفيروس طيري نتيجة الانتقال المباشر للفيروس من الطيور المصابة إلى البشر، وكانت معظم الإصابات البشرية شديدةً رافقتها أذية رئوية حادة، ونسبة عالية من الوفيات. عند عزل الفيروس من هذه الإصابات ودراسته تبيَّن أنه الفيروس الطيري H5N1 شديد الفوعة، وهي ذرية لم يَسبق أن سُجِّلت حالات إصابة بشرية بها سابقاً (الشكل٨). قتلت هذه الذرية سبعة عشر فرداً يعملون في سوق كبيرة للطيور في هونج كونج بعد أن فتكت بآلاف الطيور. وكان هؤلاء المتوفون على تماس مباشر مع الطيور المصابة في هذا السوق. أدت الأوامر الحكومية بالتخلص من جميع الدواجن في منطقة الوباء، وإجراءات الوقاية الصارمة المتخذة حينها إلى الحد من الإصابات البشرية. يعتقد أن نحو ثلث المصابين بتلك الفاشية قد ماتوا، لكن لم تسجل حالات موثقة لانتقال الفيروس بين البشر. لكن كان هناك خوف شديد من أن يحصل إعادة تفارز لهذا النُميط مع نُميط بشري عند شخص مصاب تكون نتيجته نُميطاً جديداً شديد الفوعة وقابلاً للانتشار بين البشر بسهولة. جرى تفسير إعداء هذا الفيروس لبعض البشر على الرغم من أنه فيروس غير بشري بأن النُميط H5N1 قادر على الارتباط في ظروف خاصة بمستقبلات يمكن أن توجد على خلايا موجودة في الأنسجة العميقة للرئة البشرية هي الخلايا الظهارية المكعبة غير المهدبة. تفسِّر هذه الألفة للارتباط بهذه الخلايا قلّة الإصابات واقتصارها على الأشخاص المتماسين تماساً صميمياً ولمدة كافية مع الطيور المصابة، كما تفسِّر الإصابة الرئوية الحادة الوخيمة وربما المميتة في سياق المرض عند البشر. دعي المرض حينها بإنفلونزا الطيور Avian Influenza، وقد سَجَّلت منظمة الصحة العالمية قرابة ستمئة حالة إصابة بإنفلونزا الطيور عند البشر منذ ذلك الوقت. توزعت هذه الإصابات عند معظم الفئات العمرية، لكن معظمها كان عند اليافعين والبالغين الشباب، وبلغت نسبة الوفيات فيها زهاء ٦٠٪. من الجدير ذكره أن معظم حالات إنفلونزا الطيور البشرية حدثت عند أفراد لديهم تماس صميمي مثبت مع الطيور، أي نتيجة الانتقال المباشر للفيروس من الطيور المصابة إلى البشر، لكن هناك حالات قليلة جداً لم يثبت فيها تماس مع الطيور ولا يمكن تفسيرها مبدئياً بالانتقال بين البشر، وخاصة عند أفراد الأسرة الواحدة، أو بين أشخاص حدث بينهم تماس صميمي ولفترة مديدة. انتشرت فاشيات محدودة بالفيروس H5N1 في تجمعات الطيور البرية والطيور الداجنة في مناطق متعددة من العالم وخاصة في الصين وجنوب شرقي آسيا والهند وبنغلادش ومصر، وربما أصبح متوطِّناً على نطاق محدود في بعض هذه المناطق.

الشكل (٨): فيروسات الإنفلونزا الطيرية شديدة الفوعة.

يُعتقد أن الذرية الطيرية عالية الفوعة H1N1 يمكن أن تصيب الخنازير وبعض الحيوانات المنزلية، مثل الكلاب والقطط. في عام ٢٠١٣ سجلت في الصين عدة إصابات بشرية بالنميط الطيري H7N9 عالي الفوعة، ويعتقد أن هذا النُميط الجديد من الفيروس نجم عن زيحان مستضدي في الطيور البرية وانتشر بينها، ثم انتقل إلى الدواجن، كالدجاج والبط (الشكل٨).

انتقل الفيروس H7N9 عالي الفوعة إلى البشر نتيجة التَّماس الصميمي المديد مع دواجن مصابة، وأدى إلى مرض تنفسي حاد وخيم، وقد مات نتيجة الإصابة بهذا الفيروس في الفاشية التي حدثت في الصين حينها خمسون شخصاً من أصل ١٦٣ شخصاً ثبتت إصابتهم بهذا الفيروس (٣١٪). أكدت بعض الأبحاث أن النُميط الطيري H7N9 يملك القدرة على الارتباط بمستقبلات على بعض الخلايا البشرية، إضافة إلى قدرته الأصلية على الارتباط بمستقبلات في خلايا الطيور. من المُستغرَب أن هذا النُميط لم يُعزَل من الخنازير.

 

- المجلد : المجلد الثامن عشر مشاركة :

بحث ضمن الموسوعة

من نحن ؟

الموسوعة إحدى المنارات التي يستهدي بها الطامحون إلى تثقيف العقل، والراغبون في الخروج من ظلمات الجهل الموسوعة وسيلة لا غنى عنها لاستقصاء المعارف وتحصيلها، ولاستجلاء غوامض المصطلحات ودقائق العلوم وحقائق المسميات وموسوعتنا العربية تضع بين يديك المادة العلمية الوافية معزَّزة بالخرائط والجداول والبيانات والمعادلات والأشكال والرسوم والصور الملونة التي تم تنضيدها وإخراجها وطبعها بأحدث الوسائل والأجهزة. تصدرها: هيئة عامة ذات طابع علمي وثقافي، ترتبط بوزير الثقافة تأسست عام 1981 ومركزها دمشق 1