logo

logo

logo

logo

logo

شرع من قبلنا

شرع من قبلنا

legislated in the past - législation avant l'islam

 شَرعُ من قبلنا

شَرعُ من قبلنا

وهبة الزحيلي

تعريفه وإمكانه

الترجيح والأمثلة العملية

الأمثلة

 

تعريفه وإمكانه:

تعريفه: هو الأحكام الشرعية المقررة في الشرائع السابقة قبل الإسلام إذا ثبتت صحتها من طريق القرآن أو السنة النبوية.

ويلاحظ أن التكليف لنا بهذا الشرع جائز عقلاً، لأنه ليس هناك دليل يدل على الاستحالة العقلية، بأن يطالب نبينا عليه الصلاة والسلام قبل البعثة بشرع سابق، أو بشرع جديد، أو بشرع خليط من شريعتين، حيث لا يستحيل منه شيء لذاته، ولا مضرة أو مفسدة فيه. وإنما الاختلاف لدى علماء أصول الفقه من ناحية الوقوع الفعلي. وهذا يتطلب بحث احتمالين وهما:

الأول: هل كان الرسولr قبل البعثة مطالباً بشريعة سابقة؟ لأنه إذا كان مطالباً بشرع سابق، ولم ينسخ في شريعته بعد وجودها فيكون ذلك مشروعاً في حقنا.

الاحتمال الثاني: هل النبي عليه الصلاة والسلام وأمته بعد البعثة مطالبون بشرع نبي سابق؟

أما الاحتمال الأول ففيه ثلاثة آراء:

الرأي الأول لبعض المالكية وجمهور علماء الكلام: ينفي هذا التكليف أو التعبد.

الرأي الثاني للحنفية والحنابلة وابن الحاجب المالكي والقاضي ناصر الدين البيضاوي الشافعي: يثبت هذا التكليف.

الرأي الثالث للغزالي والآمدي الشافعيين والقاضي عبد الجبار المعتزلي وغيرهم من المحققين: يُتَوقف في إبداء حكم معين، أي يلتزم موقف الحياد، لعدم وجود دليل قاطع على وقوع التكليف.

واختلف أصحاب الرأي الثاني وهم المثبتون في تعيين الشريعة المكلف بها نبينا، فقال بعضهم: إنها شريعة آدم عليه السلام، لأنها أولى الشرائع.

وقال آخرون: إنها شريعة نوح عليه السلام، لقوله تعالى: }شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً{ [الشورى 13].

وقال فريق: إنها شريعة إبراهيم عليه السلام ، لقوله تعالى: }إِنَّ أَوْلَى النّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذا النَّبِيُّ{ [آل عمران: 68]، وقوله سبحانه: }ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً{ [النحل 123].

وقالت فئة: إنها شريعة موسى عليه السلام، لأنها الشريعة المشتملة على العقيدة والعبادة ، والمعاملة والأخلاق.

وقالت جماعة: إنها شريعة عيسى عليه السلام، لأنه أقرب الأنبياء لنبينا حيث لم يكن بينهما نبي آخر، ولأن ديانته ناسخة لما قبلها من الشرائع.

قال الشوكاني: وأقرب هذه الأقوال: أنه كان متعبداً بشريعة إبراهيم عليه السلام، فقد كانr كثير البحث عنها، عاملاً بما بلغ إليه منها، كما تفيده الآيات القرآنية (أي المتقدمة) من أمرهr بعد البعثة باتباع تلك الملة، فإن الأمر به يشعر بمزيد خصوصية لها، فلو قُدِّر أنه كان على شريعة قبل البعثة، لم يكن إلا عليها (إرشاد الفحول: ص 210). واختار الحنفية أن الأشبه هو ما بلغه من الشرائع (مسلَّم الثبوت 2/147).

واستدل أصحاب الرأي الأول ـ وهم النافون ـ على رأيهم بما يأتي:

لو كان الرسولr مطالباً بشريعة من الشرائع السالفة، لنقل عنه فعل ما طولب به، واشتهر عمله بتلك الشريعة ومخالطة أهلها ، كما هو المعتاد في مثل هذا، ولكنه لم ينقل عنه شيء من ذلك، مع أنه عرفت أحواله كلها قبل البعثة.

إنه لو كان مطالباً ببعض الشرائع السالفة لافتخر أهل تلك الشريعة بعد بعثته واشتهاره، بنسبته إليهم وإلى شريعتهم.

ويلاحظ أن هذه الدعوى محتاجة إلى دليل سالم من المعارضة: وهي أنه لو لم يكن مطالباً بشريعة سابقة لاشتهرت مخالفته لأهلها ونقل إلينا، عملاً بما هو المعتاد.

واستدل أصحاب الرأي الثاني وهم المثبتون بدليلين أيضاً:

إن كل رسول سابق كان يدعو الناس إلى اتباع شرعه، والنبيr داخل في مثل هذا العموم التكليفي. ويجاب عنه بأن الدعوات السابقة كانت خاصة بأهلها، فلا عموم لها.

تضافرت الروايات على أنه عليه الصلاة والسلام كان قبل البعثة يأتي بأفعال لا يرشد إليها مجرد العقل، ولا يتأتى حسنها من غير شرع، حيث كان يصلي، ويحج، ويعتمر، ويطوف بالبيت، ويعظّمه، ويذكي (يذبح الحيوان)، ويأكل اللحم، ويسخر البهائم، ويتجنب أكل الميتة ونحوها، وتلك أعمال شرعية تدل على أنه يقصد الطاعة وتطبيق التكاليف، من دون أن يكون للعقل فيها حكم.

ويجاب عنه: بأنه لم يثبت التكليف بشيء مما ذكر، بنقل موثوق به، ويمكن القول إنه يقصد القربة، لا أنه منفذ لأمر إلهي، ويحتمل أن يكون أداؤه بعض الطاعات تأثراً بأعراف وعادات بعض القبائل العربية المخالط لها في موسم الحج ونحوه، وتركه أكل الميتة ونحوها بناء على نفوره طبعاً منها.

وحينئذٍ يكون رأي المتوقفين أسلم، حيث لم يقم دليل مقنع على أحد الاحتمالين.

قال أبو حامد الغزالي: والمختار أن ذلك جائز عقلاً، لكن الواقع منه غير معلوم بطريق قاطع، ورجم الظن فيما لا يتعلق به الآن تعبد عملي لا معنى له.

وأما الاحتمال الثاني: وهو كونه عليه الصلاة والسلام وأمته بعد البعثة مطالبين بشرع سابق، ففيه ثلاثة آراء، علماً أن محل الاختلاف: هو الأحكام التي لم تقرر في شريعتنا إذا علم ثبوتها بطريق صحيح ولم تنسخ، كالتي قصّها الله تعالى علينا في قرآنه، أو وردت على لسان نبيهr، من غير إنكار ولا إقرار لها، مثل آية القصاص في شريعة اليهود وهي: }وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ{ [المائـدة 45]، ومثل آية قسمة المهايأة للماء بين صالح عليه السلام وبين قومه وهي آية: }وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ{ [القمر 28].

وليس محل الاختلاف أصول الإيمان وأصول المحرمات كتحريم الكفر والزنا والسرقة والقتل، فهذه متفق عليها، وكذلك ليس محل الاختلاف هو الأحكام التي لم تذكر في شريعتنا سواء في القرآن أم السنة، فهذه لسنا مكلفين بها، ومثلها الأحكام المنسوخة في حقنا، فهي ليست شرعاً لنا، مثل تحريم أكل كل ذي ظُفُر كالإبل والإوز والبط، وتحريم الشحوم التي تكون في بطن الحيوان المحيطة بالكرش، أو التي لا تختلط بعظم، وتحريم الغنائم الحربية، والمطالبة بقتل النفس من أجل التوبة، وقطع الثوب لتطهيره من النجاسة.

وأما آراء العلماء في المطالبة بما قصَّه الله تعالى علينا في القرآن أو في السنة فهي ثلاثة، وهي ما يلي:

الرأي الأول للجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة: فهو أنهم يقولون: إن ما صح من شرع من قبلنا، من طريق الوحي إلى رسولناr، لا من جهة كتبهم المبدلة التي دوَّنها الأحبار يجب علينا العمل به، ما لم يرد في شرعنا خلافه، ولم يظهر إنكار له، أي إن شرع من قبلنا شرع لنا.

الرأي الثاني للأشاعرة والمعتزلة والشافعية في الراجح عندهم، والظاهرية والشيعة الإمامية، وهو أن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا.

الرأي الثالث للقشيري وابن بَرْهان: وهو التوقف حتى يتبين الدليل الصالح، لكن قال الآمدي الشافعي: وهو بعيد، فلا داعي للتعرض له.

وفيما يلي أدلة الرأيين الأول والثاني.

أدلة المثبتين:

استدل أرباب الرأي الأول وهم المثبتون بأدلة أربعة هي:

إن شرع من قبلنا شرع من الشرائع التي أنزلها الله تعالى، ولم يوجد ما يدل على نسخه، فنكون مطالبين به، لقوله تعالى: }أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ{ [الأنعام 90]، وثبت عن عبد الله بن عباس: أنه سجد في تلاوة آية سورة (ص) وهي قوله تعالى: }وَظَنَّ داوُودُ أَنَّما فَتَنّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ{ [ص 24]، وقرأ هذه الآية: }أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ{ [الأنعام 90]، ولقوله سبحانه: }ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً{ [النحل 123]، وهاتان الآيتان من أوضح الأدلة الدالة على هذا المذهب، لأن الأولى تأمر باتباع الهدى: وهو اسم للإيمان والشرائع جميعاً، والثانية تأمر باتباع ملة إبراهيم ، والملة: هي الشريعة، والأمر للوجوب.

ويؤكد ذلك قول الله عز وجل: }شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيه{ [الشورى 13]، فهي دليل واضح على وجوب اتباع شريعة نوح عليه السلام، لأن كلمة (الدين) اسم لما يدان الله تعالى به من الإيمان والشرائع، بدليل آية: }إِنّا أَنْزَلْنا التَّوْراةَ فِيها هُدَىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِها النَّبِيُّون{ [المائدة 44]، ونبينا عليه الصلاة والسلام من جملة النبيين.

2ـ آية إثبات مشروعية القصاص وهي: }وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ{ [المائدة 45]، احتج بها العلماء على وجوب القصاص في شرعنا، ولو لم يكن النبي عليه الصلاة والسلام مطالباً بشرع من قبله، لما صح الاستدلال بكون القصاص واجباً في بني إسرائيل، على كونه واجباً في شرعه.

3ـ تضمنت السنة النبوية وقائع استدل بها النبيr على بعض الأحكام الثابتة في شرع من قبلنا، منها: أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما قال في شأن وجوب قضاء الصلاة: «من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها» قرأ قوله تعالى: }وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي{ [طه 14] (أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أنس بن مالكt) مع أن هذه الآية خطاب لسيدنا موسىu، فلو لم يكن مطالباً بشرع قبله، لما كان لتلاوة الآية حينئذٍ فائدة.

ثم إنه عليه الصلاة والسلام رجع إلى التوراة في حكم رجم اليهودي الذي زنى.

4ـ ثبت أن النبيr كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه وحي، ولولا كون شرعهم حجة، لم يكن لمحبته موافقتهم معنى أو فائدة.

ولم تسلم هذه الأدلة من مناقشة ، فالاقتداء بشرائع الأنبياء السابقين يقصد به التزام أصول الديانات أو الكليات الخمس: وهي حفظ الدين والنفوس والعقول والأنساب أو الأعراض والأموال. وأيضاً آية }شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّين{ [الشورى 13] يراد بها أصل التوحيد، وهو المراد أيضاً من الأمر باتباع ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، بدليل آخر الآية : }وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ{ [البقرة 135] فالشرك مقابل للتوحيد.

وأما قوله تعالى عن التوراة: }يَحْكُمُ بِها النَّبِيُّونَ{ [المائدة 44] فهي صيغة إخبار لا صيغة أمر. فيكون الاستدلال بهذه الآيات مقصوراً على ما لا خلاف فيه وهو العقائد والكليات الخمس الضرورية، ولا يراد بها فروع الشرائع التي قد يطرأ عليها النسخ، لاختلاف الزمان ومقتضيات التطور والتبدل في المصالح والأحوال.

وأما إيجاب القصاص فهو ثابت في شرعنا بآيات هي: }يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلَى{ [البقرة 178]، }فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ ما اعْتَدَى عَلَيْكُمْ{ [البقرة 194].

وقضاء الصلاة ثابت بما أوحي إلى النبيr، إلا أنه نبَّه أمته على مشابهتها في الحكم لأمة موسىu.

وأما رجوع النبيr إلى التوراة في شأن حكم الرجم، فإنما كان لإلزام اليهود بإنكارهم الرجم في شرعهم، وإظهار صدقه فيما أخبرهم به أن الرجم مذكور في التوراة، لا من أجل استفادة حكم الرجم منها، بدليل أنه لم يرجع إلى التوراة فيما عدا ذلك.

أدلة النافين:

استدل النفاة لحجية شرع من قبلنا بأدلة أربعة أيضاً هي:

1ـ أن النبي عليه الصلاة والسلام، حيثما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن قاضياً ومرجعاً وداعية، وسأله عما يحكم به، أجابه بأنه يحكم بما يجده في القرآن ثم السنة ثم بالاجتهاد، فأقره على منهجه (أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن عدي، والطبراني والبيهقي) ولم يرشده إلى الأخذ بشرع من قبلنا، فلو كان متعبداً به لذكره معاذ، أو لنبهه النبيr إلى خطئه إذا تركه.

2ـ الآية الكريمة: }لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً{ [المائدة 48] تدل على أن الله تعالى جعل لكل أمة شريعة، فلا تطالب أمة بشريعة الأخرى، حتى بالغت (المعتزلة) قائلة باستحالة ذلك عقلاً.

3ـ لو كان النبيr مطالباً بالعمل بشرع من قبله، ومثله أمته لوجب عليه تعلمه، ولوجب على مجتهدي الصحابة البحث عنه، والسؤال عما فيه عند حدوث الوقائع المختلف فيها فيما بينهم.

4ـ الشرائع السابقة مخصوصة بأصحابها الذين أرسل إليهم رسلهم، وأما الشريعة الإسلامية فهي شريعة عامة لكل الأمم والشعوب، والإجماع انعقد على أنها ناسخة لكل الشرائع المتقدمة، بدليل قولهr: «أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي»، وذكر منها: «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة» (حديث متواتر أخرجه البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله وغيره) فلو كان النبي عليه الصلاة والسلام مطالباً بشرع سابق لكان مقرراً له، لا ناسخاً له.

لكن هذه الأدلة نوقشت أيضاً، بأن شرع من قبلنا لم يذكر في حديث معاذ، لأن القرآن اعتمده وشمله، أو لأنه مقصور على مسائل قليلة، وامتناع النبي عليه الصلاة والسلام وصحابته من بعده عن الرجوع إلى كتب السابقين إما لاندثارها، وإما لتحريفها وتبديلها، ورجوع المجتهدين إنما يكون في المسائل الاجتهادية التي لم تذكر في القرآن، وهذا لا نزاع فيه ولا يرجعون إليه لعدم تواتره.

وأما كون الإجماع على أن شريعتنا ناسخة للشرائع السابقة، فهو ليس مطلقاً لكل ما جاءت به الشريعة، وإنما هي ناسخة لما خالفها، بدليل بقاء مشروعية القصاص، وحد الزنى والسرقة ونحو ذلك.

الترجيح والأمثلة العملية:

لقد رجّح كثير من علماء أصول اللغة المعاصرين مذهب القائلين إن شرع من قبلنا شرع لنا، بشرط أن تثبت صحته بنقل مسلمين عدول ضابطين، أو بأن يرد حكمه في القرآن الكريم، أو بأن يثبت الحكم في السنة الصحيحة، لأنه تشريع إلهي، ولأن إيراده في القرآن من دون إنكار أو نسخ يدل على بقاء مشروعيته وإقراره ضمنياً بالنسبة إلينا، ولأن القرآن مصدِّق لما بين يديه من التوراة والإنجيل في آيات، منها: }وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ{ [البقرة 41]، }نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ{ [آل عمران 3]، }وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ{ [المائدة 48].

الأمثلة:

والأمثلة كثيرة: فإنه بناء على ما سبق استدل الفقهاء على مسائل من شرع من قبلنا منها:

ـ قسمة المهايأة: وهي قسمة منافع المال المشترك بطريق المهايأة (المناوبة) الزمانية والمكانية، ودليلها قوله تعالى في قصة ناقة صالح عليه السلام: }وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ{ [القمر 28] وهي جائزة في المذاهب.

ـ قتل القاتل المتعمد سواء أكان مسلماً أم ذمياً، رجلاً أم امرأة، لقوله تعالى }وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ{ [المائدة 45] أي في التوراة.

واحتج المالكية والحنابلة أيضاً بهذه الآية على مشروعية قتل الذكر بالأنثى في القصاص.

ـ مشروعية الجعالة: وهي التزام الجاعل بمكافأة لمن يرد ضائعاً، أو يبتكر علاجاً لمرض خطر، أو يتفوق في مسابقة ما، بقوله تعالى في قصة يوسفu: }وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنا بِهِ زَعِيمٌ{ [يوسف 72].

ـ الكفالة بالنفس: احتج الجمهور غير الشافعية على مشروعية هذه الكفالة بقوله تعالى: }قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ{ [يوسف 66]. والشافعية استأنسوا بهذه الآية، واحتجوا أيضاً بعموم حديث: «الزعيم غارم» (أخرجه أبو داود، والترمذي، وحسَّنه ابن حبان وصححه عن أنس بن مالك وابن عباس رضي الله عنهما)، كما احتجوا بالقياس على كفالة الدَّين.

ـ كون المنفعة مهراً: احتج الحنابلة على مشروعية جعل المنفعة مهراً في النكاح، بآية }قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ{ [القصص 27]. واستأنس الشافعية بهذه الآية، واستدلوا على الجواز بالقياس على الإجارة.

ـ تفضيل ذبح الكباش في الأضاحي: استدل الإمام مالك على أفضلية الكباش في الضحايا، ثم البقر، ثم الإبل، بما فعله إبراهيم عليه السلام من فدائه ولده بكبش.

ـ ذبح الولد بالرؤيا الحق: استدل مالك وأبو حنفية ومحمد بقصة إبراهيمu على لزوم ذبح الولد، ووجوب الهدي (وهو جزور عند مالك، وشاة عند أبي حنيفة) في قوله تعالى: }فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرَى{ [الصافات 102] ثم قال تعالى: }وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ{ [الصافات 107].

وفي النهاية: يتبين أن «شرع من قبلنا» ليس دليلاً مستقلاً من أدلة التشريع الإسلامي، وإنما هو مردود إلى القرآن أو السنة، لأنه لا يعمل به كما تبين إلا إذا قصَّه الله تعالى أو رسوله عليه الصلاة والسلام، من غير إنكار، ولم يرد في شرعنا ما يدل على نسخه، مما يدل على أن «شرع من قبلنا» ليس شرعاً مستقلاً لنا.

 

مراجع للاستزادة:

 

ـ علي بن أبي علي الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام (مطبعة صبيح، 1347 هـ).

ـ محمد علي الشوكاني، إرشاد الفحول (مطبعة صبيح 1349 هـ).

ـ علي تقي الحيدري، أصول الاستنباط، الطبعة 2 (مطبعة الرابطة، بغداد 1379 هـ/ 1959م).

ـ عضد الملة والدين، شرح على مختصر المنتهى لابن الحاجب المالكي، الطبعة الأولى (المطبعة الأميرية).

ـ ابن بدران الحنبلي، المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل (إدارة الطباعة المنيرية، مصر).

ـ منلا خسرو، مرآة الأصول في شرح مرقاة الوصول (مطبعة الحاج محرم أفندي البوسنوي، 1302 هـ).

ـ أبو حامد الغزالي، المستصفى من علم الأصول، الطبعة الأولى (مطبعة مصطفى محمد، 1356 هـ).

ـ محب الله بن عبد الشكور، مسلَّم الثبوت (المطبعة الحسينية المصرية).


التصنيف : العلوم الشرعية
النوع : العلوم الشرعية
المجلد: المجلد الرابع: الرضاع ــ الضمان المصرفي
رقم الصفحة ضمن المجلد : 282
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 1045
الكل : 58491579
اليوم : 64093