logo

logo

logo

logo

logo

إقرار الموازنة

اقرار موازنه

ratification of the budget - ratification du budget



إقرار الموازنة

إقرار الموازنة

محمد خير العكام

ماهية حق إقرار الموازنة وتطوره صلاحيات السلطة التشريعية في إقرار الموازنة
السلطة التي تتولى إقرار الموازنة رفض الموازنة ونتائجه
الطبيعة الحقوقية لقانون الموازنة العامة للدولة إقرار الموازنة من مجلس الشعب في سوريا
 

أولاً ـ ماهية حق إقرار الموازنة وتطوره:

تعد الموازنة العامة للدولة الخطة المالية الأساسية السنوية التي تتضمن تقدير نفقاتها وإيراداتها وأمام هذه الحقيقة لابد للسلطة التشريعية أن توافق على هذا التقدير، ومن ثم لابد لها أن تجيز للحكومة صرف النفقات وجباية الإيرادات إلى سنة مقبلة بما يؤمن استمرار سير المصالح الحكومية ويحقق أهداف الدولة الاقتصادية والاجتماعية، ولابد للسلطة التشريعية أن تراقب الحكومة عند تنفيذها للموازنة ليحكم على أدائها وعلى مدى تحقيقها للأهداف التي سعت إلى تحقيقها عند تحضيرها للموازنة. وعلى هذا الأساس فإن دورة الموازنة تمر بعدة مراحل متتابعة هي مرحلة الإعداد، ومرحلة الإقرار، ومرحلة التنفيذ، ويرافق هذه المراحل جميعاً عملية رقابة على تنفيذ هذه الموازنة. ويغلب على المرحلتين الأولى والثالثة الطابع الإداري، ويغلب على عملية الإقرار والرقابة على التنفيذ الطابع القانوني بسبب تصدي السلطة التشريعية لعملية الإقرار، ولكون الرقابة عملية قانونية بالدرجة الأولى ولكونها منوطة بالسلطة التشريعية من حيث المبدأ.

1ـ ماهية حق المصادقة على الموازنة:

إن إقرار الموازنة يعني العملية التي يتم بموجبها رفع مشروع الموازنة المقدم من الحكومة إلى السلطة التشريعية لدراسته ومناقشته وإدخال التعديلات عليه إن أمكن، والتصديق عليه وإصداره قبل الانتقال إلى مرحلة التنفيذ.

ـ وبما أن الموازنة هي جدولان؛ الأول يمثل نفقات الدولة والثاني يمثل إيراداتها، فإن إقرار الموازنة يعني التصديق على كل من هذين الجدولين، وبالتالي فإن المصادقة على الموازنة تعني إجازة مسبقة معطاة من السلطة التشريعية إلى السلطة التنفيذية بصرف النفقات وجباية الإيرادات مدتها سنة على السلطة التنفيذية أن تنفذ هذه الإجازة خلالها، وتصبح بانقضائها عديمة الأثر والمفعول.

ـ إلا أن مضمون هذه الإجازة يختلف بين الإنفاق والجباية، فإجازة الإنفاق تعني تحديد نوعية النفقات التي ستنفقها الحكومة خلال السنة القادمة مقسمة إلى أبواب محددة ضمن حد أقصى لاعتمادات كل باب من أبوابها، وتلغى الاعتمادات غير المنفذة بانقضاء السنة المالية.

في حين الإجازة في الجباية ليست سوى تقدير لحجم الإيرادات التي ستجبيها الحكومة والتي يمكن تجاوزها، أي إن للحكومة الحرية الكاملة في صرف النفقات ضمن حدود الاعتمادات المبينة في الموازنة، أما الإيرادات فهي مجبرة على جبايتها وفق القوانين النافذة حتى لو تجاوزت حصيلتها التقديرات المذكورة في الموازنة.

ـ مادامت عملية إقرار الموازنة تعني موافقة البرلمان للحكومة على تنفيذها، لذلك لكي يكون لهذه الموافقة معنى يجب أن تصدر في الأحوال العادية قبل تنفيذ الحكومة لهذه الموازنة، وهذا يعبر عنه بقاعدة مفادها أسبقية الإقرار على التنفيذ. فلو جاز أن تنفذ الموازنة قبل عرضها على البرلمان وموافقته عليها لأدى ذلك إلى سلب حق السلطة التشريعية في عملية الإقرار، وجعل هذه العملية مجردة من مضمونها وجعلها إقراراً لواقع مفروض عليها؛ مما يضعف فاعلية السلطة التشريعية عموماً ودورها في إقرار الموازنة خصوصاً؛ لأن قيامها في تلك العملية بعد بدء السلطة التنفيذية في تنفيذها أو بعد الانتهاء من تنفيذها سيجعل السلطة التشريعية مضطرة إلى القبول بأرقامها من دون أي تعديل وسيجعل رفضها مستحيلاً، ومع ذلك فإن تأخر البرلمان في إقرار الموازنة لما بعد بدء السنة المالية يستدعي اللجوء إلى ما يسمى بالموازنة الاثنتي عشرية أي استمرار العمل بالموازنة القديمة.

ـ لا يعني ذلك أن عمل السلطة التشريعية في إقرار الموازنة هو عمل قانوني بحت، لأن لعملية الإقرار معنى اقتصادياً أيضاً، فعند دراسة البرلمان للموازنة العامة على أعضائه ـ بصفتهم ممثلين للشعب ـ أن يوازنوا بين رغبات هذا الشعب وإمكاناته، لذا فإن موافقة البرلمان على أي نفقة أو رفضها أو تعديلها يجب أن تبنى على تقدير ناشئ من عناصر اقتصادية مختلفة. ويمكن الحصول على هذا التقدير بترتيب تنازلي للمنافع الحدية التي تنتج من النفقات الممكنة المختلفة، وبعد ذلك يتم قياس المنافع الحدية المتأصلة في كل مجموعة من النفقات الممكنة مقابل التضحية الحدية التي تنشأ عن الضرائب الكلية التي يمكن أن تتضمنها كل تلك المجموعات. وبالتالي لا يمكن دراسة النفقات بمعزل عن الإيرادات التي سوف تمولها.

2ـ نشوء حق السلطة التشريعية في إقرار الموازنة وتطوره:

يعود حق السلطة التشريعية في اعتماد الموازنة العامة إلى تطور طويل بدأ منذ عام 1314، فبعد أن كان يسود سابقاً مبدأ الاختلاط بين شخصية الحاكم والشخصية الاعتبارية للدولة بدأ التمييز بين هاتين الشخصيتين، وبالتالي التمييز بين مالية الحاكم ومالية الدولة، هذا التمييز هو الذي دفع إلى ضرورة وجود موازنة للدولة وضرورة إقرارها من قبل السلطة التشريعية، فمنذ التاريخ السابق ذكره بدأت تعرف الدولة مبدأ ضرورة الإذن بالنفقات وتحصيل الضرائب، إلا أن هذا المبدأ لم يحترم في ذلك الوقت. وقد بُدئ باحترامه منذ إعلان الملك الإنكليزي شارل الأول عام 1628 وثيقة إعلان الحقوق التي أكد فيها عدم شرعية أي ضريبة من دون موافقة السلطة التشريعية، ثم أتى الملك وليم الثالث وأكد هذا الحق الشعبي عندما أصدر في عام 1688 «دستور الحقوق»، الذي نفى الشرعية عن كل ضريبة لا تحدد السلطة التشريعية مسبقاً مقدارها وكيفية جبايتها وموعدها، فكان أعضاء السلطة التشريعية لا يوافقون على جباية الضريبة ولا يحددون كميتها قبل معرفة على ماذا سوف تنفقها المملكة وبالتالي أصبح البرلمان يسقط النفقات التي لا يقر الضرائب اللازمة لتمويلها.

ـ دعمت السلطة التشريعية في بريطانيا بعد ذلك صلاحياتها هذه عندما جعلت مفعول قراراتها الخاصة بالإذن بالاتفاق مدة معينة، وأصبح الملك مضطراً إلى عرض النفقات كل سنة على البرلمان لتجديد موافقته عليها وإقراره لها، أما الموافقة على الإيرادات فكان لها صفة شخصية متعلقة بشخص الملك، وهكذا نشأت فكرة الموازنة بوصفها إجازة دورية تمنحها السلطة التشريعية إلى الحكومة بالجباية والانفاق، وانتقلت منها إلى باقي دول العالم.

ـ أما في فرنسا فإن مصطلح الموازنة لم يكن فيها حتى قيام الثورة الفرنسية عام 1789، إذ صدر بعدها الإعلان الفرنسي للحقوق، وتضمن الدستور الفرنسي لعام 1791 أول مرة العناصر الخاصة بقانون الموازنة ومعناها الدقيق. وبعد ذلك تأكد حق البرلمان في ضرورة إقرار الموازنة وارتفع إلى مستوى الحق الدستوري، كما أكد ذلك الدستور السوري لعام 1973 وغيره من الدساتير العربية والأجنبية.

ـ أما الدولة العربية الإسلامية فإنها لم تعرف فكرة الموازنة على الرغم من دقة القواعد المالية التي وضعتها لنفسها، وذلك يعود لسببين رئيسين الأول: هو أن قواعد المالية العامة الإسلامية كانت تعرف مبدأ تخصيص الإيرادات، فكل إيراد فيها مخصص لتمويل نفقات معينة، كالغنائم والزكاة والعشور، ففي هذا التنظيم لا تزيد النفقات على الإيرادات ولا ضرورة لفرض الضرائب إلا في أحوال ضيقة في ذلك الوقت، وبالتالي لم تنشأ الأسباب التي نشأت لدى بريطانيا وفرنسا وفرضت فكرة الموازنة العامة، والثاني: أن أمر العرب كان شورى بينهم، مما لم يدع معه مجالاً لقيام حركات شعبية تكون الأساس في نشوء فكرة الموازنة.

ثانياً. السلطة التي تتولى إقرار الموازنة:

ـ تعود سلطة التصديق على الموازنة إلى السلطة التشريعية، وقد ترسخت هذه القاعدة نتيجة نضال طويل لهذه السلطة كما وجدنا سابقاً، فالسلطة التشريعية هي التي تتولى حصراً في جميع دول العالم أمر القيام بعملية إقرار الموازنة العامة للدولة، وذلك لتدعيم حقوق ممثلي الشعب السياسية في توجيه إدارة شؤون البلاد.

ـ لا تثير عملية إقرار الموازنة من قبل السلطة التشريعية أي إشكال عندما تكون هذه السلطة مكونة من مجلس واحد كما هو الحال في سورية ولبنان وتركيا والكثير من دول العالم، ولكن المشكلة تبرز عندما تكون هذه السلطة مكونة من مجلسين كما هو عليه الحال في كل من مصر وفرنسا وإنكلترا والولايات المتحدة.

ـ وأمام هذا الواقع هنالك أسلوبان لحل هذه المشكلة، الأسلوب الأول يساوي بين المجلسين في حق كل منهما في إقرار الموازنة كما هو الحال في الاتحاد السويسري والاتحاد السوڤييتي السابق، فإن وقع خلاف بين المجلسين على الموازنة يتم تشكيل وفد من كلا المجلسين للاتفاق على نقاط الخلاف بينهما حتى يتم الاتفاق عليها وتتم عملية الإقرار من كلا المجلسين. والأسلوب الثاني يولي سلطة أعلى في عملية الإقرار للمجلس الأكثر تمثيلاً للشعب (مجلس العموم في بريطانيا أو الجمعية الوطنية في فرنسا) لأن أعضاءه منتخبون مباشرة وعلى نحو كامل من الشعب وعلى أساس نائب واحد لعدد معين من السكان، في حين أن قسماً من أعضاء المجلس الآخر يعينون تعييناً كمجلس اللوردات البريطاني ومجلس الشورى المصري، كما أن أعضاء هذا المجلس قد لا يمثلون كل الفئات الشعبية كما هو الحال في بريطانيا. فإذا وقع خلاف بين المجلسين عند مناقشة مشروع الموازنة العامة المقدم من الحكومة فإن حق المجلس الثاني يقتصر على مناقشة هذا المشروع ووضعه الملاحظات عليه من دون حقه في إقرار المشروع أو رفضه، فلا يحق لمجلس اللوردات البريطاني تعديل مشروع الموازنة أو رفضه ويقتصر دوره على التصديق عليه خلال مدة شهر من إقراره في مجلس العموم، وفي فرنسا يعود حق إقرار الموازنة إلى الجمعية الوطنية أولاً التي تبدي رأيها فيه خلال أربعين يوماً، ثم ترسل المشروع إلى مجلس الشيوخ الذي يقدم قراره فيه خلال خمسة عشر يوماً وعند وجود خلاف بين المجلسين على المشروع يحق لرئيس الوزراء دعوة لجنة مختلطة من المجلسين للتوفيق بين الآراء المتعارضة، فإذا لم تتمكن من اقتراح التعديل عادت السلطة النهائية في إقراره إلى الجمعية الوطنية.

ثالثاً ـ الطبيعة الحقوقية لقانون الموازنة العامة للدولة:

بما أن السلطة التشريعية هي التي تقوم بإقرار مشروع الموازنة المقدم من الحكومة مثله مثل أي مشروع قانون آخر مقدم إليها، ولا يصبح قانوناً إلا بعد مناقشته من قبلها، فهل تختلف طبيعة هذا القانون عن غيره من القوانين الأخرى التي تقرها هذه السلطة؟

أمام هذا التساؤل انقسم الفقهاء قسمين: الأول عدّ الموازنة قانوناً من حيث الشكل لأنها تصدر بصك له صفة القانون شكلاً، ولا يتضمن صفة القانون موضوعاً؛ لأنها ليست سوى خطة مالية وتقدير حسابي لنفقات الدولة وإيراداتها مدة سنة، والثاني عدّ الموازنة قانوناً من حيث الشكل والمضمون؛ وذلك لكونها تصدر عن السلطة التشريعية ولا يمكن للحكومة تنفيذها قبل المصادقة عليها من قبلها، وكونها أيضاً لا تلغى ولا تعدل إلا بقانون، وأنها تتضمن إضافة إلى تقدير النفقات والإيرادات نصوصاً قانونية أخرى شأنها شأن القوانين الأخرى.

وبعضهم الآخر فرّق بين الموازنة ذاتها بعدّها صكاً إدارياً يعبر عن برنامج عمل الحكومة مدة سنة ولا يتضمن قواعد دائمة وبين قانون الموازنة الذي لا يمكن اعتماده إلا وفق الإجراءات التي تعتمد بموجبها القوانين، والحقيقة أنها قانون من طبيعة خاصة يجمع بين العمل التشريعي والعمل الإداري كي يتناسب وطبيعة الموازنة وذلك للأسباب التالية:

إن قانون الموازنة هو قانون مؤقت بطبيعته ينتهي مفعوله بانتهاء سنة تنفيذ الموازنة، في حين أن القوانين الأخرى هي قوانين دائمة لا يمكن أن ينتهي مفعولها إلا بإلغائها أو تعديلها بقانون مماثل.

إن قانون الموازنة يحمل معنى التخمين والتقدير لمضمونها، فهو تقدير لكمية النفقات والإيرادات لمدة سنة، في حين أن القوانين الأخرى تحمل معنى الإلزام ولا تحمل معنى التقدير.

إن الموازنة تصدر بقانون حكماً في معظم دول العالم كما هو عليه في سورية، أي إنه لا يمكن أن يصدر قبل أن يناقش ويقر من السلطة التشريعية، وبالتالي لا يمكن أن يصدر من دون مروره أولاً على هذه السلطة حتى لو كان لرئيس الوزراء فيها سلطة التشريع أو لرئيس الجمهورية كما هو عليه الحال في سورية، فلا يمكن أن تصدر الموازنة إلا بقانون ولو كان لرئيس الجمهورية سلطة التشريع وفق المادة /111/ من الدستور.

إن القوانين عادة تقترح مشروعاتها من أعضاء مجلس الشعب أو من أعضاء الحكومة، في حين أن قانون الموازنة يجب أن يأتي مشروعه من الحكومة ولا يمكن للسلطة التشريعية أن تصادر حق السلطة التنفيذية في عملية إعداد مشروع الموازنة وتحضيره.

القوانين العادية لا يمكن أن تعدل إلا من قبل السلطة التي أقرتها، إلا أنه نظراً للطبيعة الخاصة للموازنة فيمكن للسلطة التنفيذية سواء لوزير المالية أم لرئيس الوزراء أن يكون لها حق تعديل قانون الموازنة وذلك بإجراء المناقلات بين أبوابها وأقسامها لمواجهة الظروف التي يمكن أن تطرأ عند تنفيذها، حتى لو لم يعط هذا الحق إلا من بنود الباب الواحد وفقراته كما هو الحال في مصر.

إن اعتماد قانون الموازنة لا يمكن أن يتم إلا باباً باباً، فيتم التصديق على أبواب نفقات الموازنة أولاً ومن ثم يتم التصديق على أبواب إيراداتها، في حين لا يتم تصديق القوانين الأخرى بهذا الترتيب.

رابعاً ـ صلاحيات السلطة التشريعية في إقرار الموازنة:

هنالك الكثير من الأسباب التي تدعو إلى تقييد صلاحية السلطة التشريعية في عملية إقرار الموازنة، فعندما كان دور الدولة يقتصر على دور الدولة الحارسة كان أعضاء السلطة التشريعية يلمون بأوجه الإنفاق العام المحدودة، ولكن بعد أن أصبحت دولة راعية متدخلة وتوسع دورها المالي والاقتصادي ازداد حجم النفقات العامة وتنوعت أهدافها وأصبح إلمام أعضاء السلطة التشريعية بأوجه الإنفاق العام من الصعوبة بمكان، لذلك أصبح لابد من تقييد صلاحية أعضاء السلطة التشريعية في تعديل مشروع الموازنة عند مناقشته من قبلهم وخاصة أن هذه السلطة قد تفتقر إلى الأعضاء المتخصصين الملمين بالأمور المالية والاقتصادية وبتأثيرات هذه النفقات من الناحية المالية والاقتصادية والاجتماعية، لذلك اتفقت معظم تشريعات العالم على مسألة تقييد صلاحيات السلطة التشريعية في ذلك، ففي إنكلترا مثلاً يقتصر عمل مجلس العموم على قبول مشروع الموازنة أو رفضه من دون حقه في تعديل هذا المشروع، وفي فرنسا يسمح الدستور بإجراء التعديلات من السلطة التشريعية التي لا تؤدي إلى تخفيض النفقات أو إلغاءها.

ـ أما في الولايات المتحدة الأمريكية فليس هناك أي قيد على السلطة التشريعية في تقديم أي اقتراح تعديل على مشروع الموازنة المقدم من الحكومة، أما في سورية فقد أخذت موقفاً وسطاً بين تقييد مبادرة السلطة التشريعية في التعديل وبين توسيع هذه السلطة، فلجنة موازنة الحسابات التي تدرس مشروع الموازنة فيها يسمح لها بالتعديل، ولكن ضمن القيود التالية:

يجب ألا تؤدي عملية التعديل إلى زيادة مجموع الإيرادات أو مجموع النفقات كي لا تخل بمبدأ توازن الموازنة ولا تخل بالرقم الإجمالي لها.

إن جميع الطلبات التي تقترح زيادة النفقات أو إحداث نفقات جديدة أو تخفيض الإيرادات لا تقبل مجردة، بل لابد لصاحب الاقتراح من أعضاء السلطة التشريعية أن يبين وسائل تنفيذه.

يجب أن تقدم اقتراحات التعديل إلى لجنة الموازنة والحسابات قبل أن تنتهي هذه اللجنة من وضع تقريرها النهائي، ولا يبحث المجلس بأي اقتراح لم يقدم إلى اللجنة مسبقاً.

خامساً ـ رفض الموازنة ونتائجه:

يدل رفض الموازنة على وجود أزمة ثقة متبادلة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وتكون النتيجة أحد أمرين، إما استقالة الحكومة وإما حل السلطة التشريعية، والنظام السياسي في الدولة هو الذي يحدد ماذا سينجم عن هذه الأزمة، ففي النظام البرلماني غالباً ما ينجم عنها استقالة الحكومة، وفي النظام الرئاسي عادة رئيس الدولة أو رئيس الحكومة هو الذي يحدد النتيجة التي يراها مناسبة.

ـ ومن الأمثلة التاريخية على ذلك ما حدث في فرنسا، فقد أدى رفض الموازنة من الجمعية الوطنية فيها عام 1877 إلى حجب الثقة عن الحكومة مما أجبر رئيس الجمهورية يومذاك على تغيير الحكومة، كما استعمل مجلس الشيوخ الفرنسي حجة رفض إقرار اعتمادات إضافية للموازنة وسيلة لإجبار الحكومة على الاستقالة، إذ وافق ذلك المجلس على الاعتمادات نفسها من أجل تمويل الحملة على مدغشقر عام 1896 بعد تغيير الرئيس لتلك الحكومة. وفي بريطانيا أدى رد الموازنة عام 1873 من قبل السلطة التشريعية إلى حل الملك للمجلس النيابي الذي صادق على الموازنة بعد إجراء انتخابات جديدة، وفي بروسيا عام 1862 أدى رفض الموازنة المقدمة من بسمارك من قبل مجلسه الأول إلى تنفيذها بعد تصديقها من مجلس الأعيان فقط من دون أن تضطر الحكومة إلى الاستقالة، وفي تركيا أدى رفض موازنة رئيس الحكومة ديمريل إلى استقالة حكومته التي أعاد تأليفها بعد ذلك واستبعد منها وزير المالية فقبل المجلس التشريعي الموازنة نفسها عام 1970، وفي كندا عام 1974 أدى رفض الموازنة إلى حل المجلس التشريعي، وفي مصر يؤدي رفض السلطة التشريعية للموازنة إلى سحب الحكومة لهذه الموازنة وغالباً ما يستتبع ذلك تقديمها لاستقالتها أو إلى إقالة البرلمان نفسه وإجراء انتخابات جديدة.

ـ وفي لبنان لم تجبر الحكومة يوماً على تقديم استقالتها بسبب رفض مشروع الموازنة أو المماطلة في إقرارها، وهذا يعود إلى نجاحها في إرضاء رغبات النواب لضمان تصديق أكثرية مجلس النواب عليها، وإلى سياسة مد الجسور التي تتبعها الحكومة من اللجنة المالية المختصة في المجلس في دراسة مشروع الموازنة للاتفاق على مشروع لها من كلا السلطتين.

ـ وفي سورية لم تلجأ السلطة التشريعية يوماً إلى رفض مشروع الموازنة، ولعل الأسباب التي دعت إلى ذلك في ظل دستور عام 1973 والنظام الداخلي لمجلس الشعب الحالي هي:

إحالة مشروع الموازنة المقدم من الحكومة قبل إقراره من المجلس التشريعي إلى لجنة الموازنة والحسابات ـ لدراسته ـ التي لها الحق في إجراء التعديلات عليه وطرح مشروعها المعدل إلى المناقشة من قبل أعضاء المجلس والتصديق عليه، ولأن لها الحق في إدخال التعديلات عليه فلا حاجة إلى رفضه إلا إذا كانت الغاية من ذلك سياسية بحتة وهي إجبار الحكومة على الاستقالة.

لم يتضمن الدستور السوري أي نص يتعلق برفض الموازنة من مجلس الشعب وهذا يعني أنه لا يجوز له الوصول إلى هذه النتيجة هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنه حتى لو تم ذلك فإنه لا يعد إلزاماً للحكومة لتقديم الاستقالة، ففي النظام الدستوري السوري يعد مجلس الوزراء الذي يقدم مشروع الموازنة إلى مجلس الشعب مسؤولاً أمام رئيس الجمهورية وليس أمام مجلس الشعب، كما أنه لم يعطِ الدستور لمجلس الشعب حق حجب الثقة عن الوزارة أو أحد الوزراء إلا وفق أصول خاصة حيث يستلزم ذلك تقديم طلب خطي من قبل خُمس أعضاء المجلس، ولا يتم حجب الثقة إلا بأغلبية أصواته وبالتالي لا يعد رفض الموازنة حجباً للثقة عن الوزارة.

التركيبة الحزبية لأعضاء مجلس الشعب، ففي سورية حزب البعث العربي الاشتراكي بموجب المادة /8/ من الدستور هو الحزب القائد للثورة والمجتمع، لذلك فإن أغلبية أعضاء الحكومة ومجلس الشعب من هذا الحزب، وبالتالي لا يتصور رفض الموازنة المقدمة من الحكومة إلى مجلس الشعب أصلاً لعدم توفر الأكثرية من باقي الأحزاب والمستقلين للقيام بهذا الإجراء.

سادساً ـ إقرار الموازنة من مجلس الشعب في سوريا:

تتألف السلطة التشريعية في سورية من مجلس واحد، وأعضاء هذا المجلس ينتخبون انتخاباً عاماً وسرياً ومباشراً، ويتولى هذا المجلس حق إقرار الموازنة وقد دعمت المادة /70/ من الدستور هذا الحق، إذ نصت «يجب عرض مشروع الموازنة على مجلس الشعب قبل شهرين على الأقل من بدء السنة المالية ولا تعد الموازنة نافذة إلا بعد إقرارها من هذا المجلس». وبالتالي فإن هذا النص يجبر السلطة التنفيذية على عرض مشروع الموازنة على مجلس الشعب، ولا يجوز أن تصدر بمرسوم تشريعي من قبل رئيس الجمهورية وفق صلاحياته التشريعية في المادة /111/ من الدستور؛ لأنه لابد من عرضها على المجلس بموجب المادة /70/ منه وهذا يؤكد الطبيعة الخاصة لقانون الموازنة، ولكن مقابل حصر حق إقرار الموازنة بالسلطة التشريعية أعطيت الحكومة صلاحيات مالية واسعة وذلك بحقها فتح اعتمادات شهرية مؤقتة وبتعديل أحكام قانون الموازنة، وقد أكد ذلك نص المادة /77/ من الدستور، ومواد القانون المالي الأساسي رقم 54 لعام 2006.

ـ أما مراحل اعتماد الموازنة في سورية فيتم وفق ما يلي:

تقديم مشروع الموازنة الموافق عليه من مجلس الوزراء إلى مجلس الشعب مع بيان من وزير المالية يوضح فيه سياسة الحكومة المالية، وأسباب وضع الموازنة بالشكل المقدم إلى المجلس، ودراسة تحليلية لنفقاتها وإيراداتها ومقارنته بموازنة السنوات السابقة.

يفسح رئيسُ مجلس الشعب في المجال لأعضاء المجلس للكلام وإبداء ملاحظاتهم ومناقشة وزير المالية في ذلك المشروع، ومن ثم يختم المناقشة ويطرح المشروع مع الملاحظات والمناقشات للتصويت على إحالته مع تلك الملاحظات إلى لجنة الموازنة والحسابات.

لجنة الموازنة والحسابات هي إحدى لجان المجلس الدائمة التي تتولى دراسة مشروع الموازنة وإبداء ملاحظاتها عليه وتعديله، إضافة إلى دراسة الاعتمادات الإضافية وقانون قطع الحساب، وهي تتألف من /20/ عضواً يراعى عند تكوينها سنوياً اختصاص العضو ورغبته، ويتم اختيارهم من قبل مكتب المجلس وفي حال عدم الموافقة عليهم من قبل المجلس يتم انتخاب أعضائها انتخاباً.

تدرس هذه اللجنة مشروع الموازنة المقدم من الحكومة ويكون لها صلاحية تعديله وتقديم مشروعها المعدل، والمجلس لا يناقش بعد ذلك المشروع المقدم من الحكومة بل المشروع المقدم من تلك اللجنة.

تقدم لجنة الموازنة والحسابات تقريرها المعدل في 30 يوماً، وإذا مرت هذه المدة من دون أن تنتهي من عملها بإمكانها تقديم طلب خطي معلل إلى المجلس لتمديد هذه المدة 10 أيام أخرى، وبعد الموافقة على هذا الطلب من قبل المجلس إذا لم تقدم اللجنة تقريرها يعمد المجلس إلى مناقشة المشروع المقدم من الحكومة.

في تلك المدة ترسل اللجان الدائمة الأخرى للمجلس ملاحظاتها على المشروع إلى هذه اللجنة مع مندوب عنها لشرح هذه الملاحظات والمقترحات، وللجنة في تلك الفترة مناقشة أي من أعضاء الحكومة في الجزء المخصص له من مشروع الموازنة، وبعد أن تنتهي من عملها تضع تقريرها الذي يوزع على الأعضاء، ولا يجوز للمجلس أن يناقش هذا التقرير إلا بعد مرور ثلاثة أيام على توزيعه على الأعضاء. وبعد مناقشة هذا التقرير من قبل أعضاء المجلس تقدم اللجنة تقريراً إضافياً إلى المجلس بعد /48/ ساعة من انتهاء مناقشة التقرير الأصلي من قبل الأعضاء وتقديم مقترحاتهم عليه، بعدها يطلع المجلس على تقرير اللجنة الملحق، ويختتم رئيس المجلس مناقشة مشروع الموازنة العامة فإذا وافق عليه المجلس بدأ المجلس بدراسة أرقام المشروع.

بعد ذلك تبدأ مناقشة النفقات وإقرارها أولاً، وبعدها تبدأ بمناقشة الإيرادات وإقرارها، ثم مواد قانون الموازنة، ويسمح في تلك الجلسة للأعضاء بالكلام على كل قسم لدى طرحه على المناقشة بشرط ألا يتكلم العضو أكثر من مرتين مدة لا تزيد على خمس دقائق في كل مرة، ويستثنى من ذلك رئيس اللجنة ومقررها أو من تنتدبه كل لجنة في حال غيابهما، ويتم ذلك بأن يقدم الرئيس أقسام الموازنة لمناقشتها قسماً قسماً، والاقتراح على أبوابها باباً باباً.

بعد الانتهاء من إقرار أبواب الموازنة ترفع إلى السيد رئيس الجمهورية لإصدارها ومن ثم يتم نشرها في الجريدة الرسمية من أجل أن تصبح جاهزة للتنفيذ.

ونستنتج من هذه المراحل أن الدستور والنظام الداخلي لمجلس الشعب أوجد توازناً في الصلاحيات المالية بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، مما يمنع معه رفض مشروع الموازنة من قبل مجلس الشعب في سورية.

 

مراجع للاستزادة:

 

ـ فاطمة السويسي، المالية العامة (موازنة ـ ضرائب)، (طرابلس، لبنان 2005).

ـ محمد خير العكام ويوسف شباط، المالية العامة ( قسم الدراسات القانونية، جامعة دمشق 2006 / 2007).

ـ عطية عبد الواحد، محاضرات في الموازنة العامة للدولة (كلية الحقوق، جامعة عين شمس، القاهرة 1996 ـ 1997).

ـ عصام بشور، المالية العامة والتشريع المالي (كلية الحقوق، جامعة دمشق 1991 ـ 1997).

ـ فوزي عطوي، المالية العامة «النظم الضريبية وموازنة الدولة» (منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت 2003).

ـ فوزت فرحات، المالية العامة «الاقتصاد المالي دراسة التشريع المالي اللبناني مقارنة مع بعض التشريعات العربية والعالمية (منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت 2001).

ـ زينب حسين عوض الله، مبادئ المالية العامة (الدار الجامعية، منشورات جامعة بيروت العربية وجامعة الاسكندرية، بيروت 1998).

ـ أحمد جمال الدين موسى، دروس في ميزانية الدولة ـ الإطار القانوني والمضمون الاقتصادي (مكتبة الجلاء، المنصورة 2000).


التصنيف : القانون المالي
النوع : القانون المالي
المجلد: المجلد السابع: المحكمة الجنائية الدولية _ ولاية المظالم في الإسلام
رقم الصفحة ضمن المجلد : 273
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 1045
الكل : 58492650
اليوم : 65164