logo

logo

logo

logo

logo

التدخل الدولي

تدخل دولي

international intervention - intervention internationale

 التدخل الدولي

التدخل الدولي

هيثم موسى حسن

 سيادة الدولة

الآثار القانونية المترتبة على تمتع الدولة بسيادتها واستقلالها

مبدأ عدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول

 

تقوم الدولة على أركان ثلاثة هي الإقليم والشعب والسلطة، وبتوافر هذه العناصر - وضمن شروط معينة - تظهر هذه الوحدة الإقليمية في إطار المجتمع الدولي بوصفها «دولة» تتمتع بالشخصية القانونية الدوليّة وباعتبارها شخصاً من أشخاص القانون الدولي العام، فتباشر حقوق «الدول» وتتحمّل بالوقت نفسه «الالتزامات» الواردة فيه. ومن أهم هذه الحقوق التي تتمتع بها الدولة في مواجهة غيرها من الدول حقها في الوجود والاستقلال واحترام سيادتها الوطنية وعدم التدخّل في شؤونها الداخلية، وبمقابل هذه الحقوق تلتزم هذه الدولة قِبَلَ الدول الأخرى باحترام حقها في الوجود والاستقلال واحترام سيادتها الوطنية وعدم التدخّل في شؤونها الداخلية. وقد جاءت الفقرة السابعة من المادّة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة على ذكر هذا الموضوع فجعلته مبدأً رئيساً من المبادئ التي تقوم عليها الأمم المتحدة.

ولبيان مضمون هذا (الحق/الواجب) لابدّ أولاً من تحديد مفهوم سيادة الدولة، وذلك للترابط والتلازم بين الموضوعين ( سيادة الدولة - عدم التدخّل في شؤونها الداخلية)، ومن ثمّ لتحديد مفهوم التدخّل International Intervention ومدى مشروعيته في إطار القانون الدولي.

أولاً- سيادة الدولة:

إذا كانت «السلطة» تعد أحد أركان الدولة فإنّ السيادة La Souveraineté تعد من المميزات الأساسية لهذه السلطة، ولذلك يجب عدم الخلط بين السلطة في الدولة التي تمثّل ركناً من أركان الدولة وبين السيادة التي هي صفة من صفات السلطة في الدولة.

وقد ظهرت فكرة السيادة في البداية على أنها مبدأ سياسي يجعل من الملك - الحاكم - صاحب كلّ السلطات في مملكته، ولذا عرفها الفيلسوف الفرنسي «جان بودان» صاحب كتاب «ستة كتب للجمهورية» بأنّها «السلطة المطلقة والعليا على المواطنين والرعايا والتي لا تخضع للقوانين»، ومن ثمّ تطوّر مفهوم السيادة بتطوّر العلاقات الدوليّة وأصبح ذا مضمون أو معنى قانوني، فبعد أن كان يعني سيادة الدولة المطلقة التي لا تخضع لأيّ إرادة أخرى، وحرية الدولة في استخدام القوة تأكيداً لهذه الإرادة المطلقة أصبح يتضّمن ضرورة الالتزام بقواعد القانون الدولي بوصفها قواعد تعلو إرادة الدول. وللسيادة مظهران: مظهر داخلي يتعلّق بحقوق الدولة بالنسبة لشعبها وإقليمها، ومظهر خارجي خاص بحقوقها في علاقاتها مع باقي أشخاص القانون الدولي.

وتتألف «السيادة» بالمفهوم القانوني من مجموعة سلطات، أي من الحقوق والالتزامات التي تسري بصورة أساسية على جميع الأعضاء في المنظومة القانونية، وينجم عن ذلك أنّ جميع الأعضاء متساوون أمام القانون، ومن هنا انبثق مبدأ المساواة في السيادة بين الدول، وقد عدّ ميثاق الأمم المتحدة في الفقرة الأولى من مادته الثانية «المساواة في السيادة بين الدول» أحد أهمّ المبادئ التي تقوم عليها المنظمة الأممية هذه. كما نصّت الفقرة الرابعة من المادّة  نفسها على حظر استخدام القوة أو التهديد بها من قبل جميع الدول أعضاء الأمم المتحدة ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأيّ دولة. أمّا الفقرة السابعة من هذه المادّة فقد نصّت على أنّه ليس في هذا الميثاق ما يسوّغ للأمم المتحدة أن تتدخّل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما، وهذا يعني - وفقاً لمّا تقدّم - أنّ للسيادة مضمونين:

1- المضمون السياسي للسيادة ويتجلى في استقلال الدولة وعدم جواز المساس بسلامة أراضيها.

2- المضمون القانوني للسيادة ويتمثّل في المساواة بينها وبين الدول الأخرى، وعدم جواز التدخّل في شؤونها الداخلية من قبل الدول الأخرى.

ونتيجة للتغيرات والتطورات المتلاحقة في العلاقات الدوليّة المعاصرة ظهرت نظريات مختلفة مضمونها أنّ فكرة «السيادة» في طريقها إلى الزوال، وتحلّ محلها فكرة المصلحة العالمية، والدعوة إلى وجوب إخضاع مصلحة الدولة الخاصّة للمصلحة العامّة للمجتمع الدولي، وهذا ما حدا بعضهم على القول إنّ دولة التنظيم الدولي المعاصر بالمفهوم الجديد للسيادة قد باتت عضواً في المجتمع الدولي تتحرّك ضمن حدود القانون وتلتزم بأوامره، وتتعرض مثلما يتعرّض الأفراد للزجر والتنبيه والعقوبات الأخرى عند الإخلال بالالتزامات الواردة في القانون الدولي.

وبناء على ذلك يجب النظر إلى مفهوم «السيادة» على أساس حق كلّ دولة في احترام استقلالها الداخلي والخارجي في حدود الالتزام بأحكام القانون الدولي، وبمفهوم المخالفة رفض الفكرة التي تعد «السيادة» بمنزلة «الامتياز أو الحصانة المطلقة» التي تخوّل الدولة سلطة رفض الانصياع لقواعد القانون الدولي والخضوع له في مختلف الظروف والأحوال؛ ولذلك لا يخرج المفهوم القانوني والموضوعي لسيادة الدولة عن كونها مجموعة اختصاصات Compétences تمارسها الدولة في حدود أحكام النظام القانوني الدولي، أي حقّ الدولة في أن تحدد بحرية وبصفة مطلقة - في مواجهة الدول الأخرى - حدود ونطاق اختصاصاتها التي سماها الفقهاء الألمان «اختصاص الاختصاص»، أو ما اصطلح على تسميته بالاختصاص الشامل أو العام.

ثانياً- الآثار القانونية المترتبة على تمتع الدولة بسيادتها واستقلالها:

من أهمّ هذه الآثار:

1- احترام سلامتها الإقليمية وعدم الاعتداء عليها.

2- عدم التدخّل في شؤونها الداخلية.

3- حقها في السيطرة واستثمار الثروات الطبيعية الموجودة فيها.

ثالثاً- مبدأ عدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول

أو ما يسمى بالمجال المحفوظ Domaine Réservé:

1- تعريفه:

يمكن استخلاص القواسم المشتركة من مختلف التعريفات المقدمة لتحديده على أساس أنّه «المجال أو النطاق الذي تتمتع فيه الدولة بحرية الاختيار والتصرف بصورة كاملة، وبالتالي فإنّه ضمن هذا النطاق ليس بمقدور أيّة منظمة دولية أو دولة ما أن تحاسب دولة أخرى على تصرفاتها بخصوص المسائل المتعلقة باختصاصها الداخلي».

وفي واقع الأمر إنّ تحديد ما يدخل في نطاق «المجال المحفوظ» أو «الاختصاص الداخلي للدول» يعد من الأمور الصعبة والشائكة والمتغيرة، ولذلك من المتعذّر عملياً حصر المسائل التي تدخل في نطاق هذا الاختصاص على نحو دقيق وثابت، لا بل إنّ الأمر قد يختلف حتّى بالنسبة للمسألة الواحدة، ووفقاً لما ترتبه من آثار دولية في كلّ حالة معينة، بمعنى أنّ هناك مسائل يمكن أن تندرج في ظروف سياسية معينة تحت بند الاختصاص الداخلي، في حين أنّه لا يجوز اعتبارها كذلك في ظروف سياسية مختلفة. هذا فضلاً عن اختلاف المواقف التي تتخذها الدول من المسائل ذات الطبيعة الواحدة وفقاً لمقتضيات مصالحها في كلّ حالة، مما جعل فكرة الاختصاص الداخلي التي يجب أن تكون فكرة قانونية تصبح فكرة سياسية، تتوقف بالدرجة الأولى على الاتجاهات السياسيّة لأغلبية الدول الأعضاء داخل الأمم المتحدة، وهذا ما يسمح بظهور ازدواجية التعامل مع هذه القضايا والمسائل بحسب المصالح السياسية لأطرافها. ومع ذلك هناك مسائل تجمع الآراء الفقهية والممارسات العملية على اعتبارها تدخل حكماً في نطاق الاختصاص الداخلي للدول وبالتالي في خضوعها للقانون الوطني كالمسائل الخاصّة بالنظام الدستوري الداخلي والخدمة العسكرية وإقامة العلاقات الدبلوماسية، وقواعد منح الجنسية الوطنية ومعاملة الأجانب وقيود الهجرة إلاّ إذا تناولتها معاهدات دولية بالتنظيم فتصبح في هذه الحالة ذات صفة دولية. وهذا يعني أنّ تطوّر القانون الدولي الاتفاقي لابدّ أن يؤدي إلى إنقاص عدد المسائل التي تعد ضمن نطاق الاختصاص الداخلي للدول.

2- التطوّر التاريخي للأساس القانوني لمفهوم الاختصاص الداخلي وعدم التدخّل فيه:

تنصّ المادّة 2/7 من ميثاق الأمم المتحدة على أنّه «ليس في هذا الميثاق ما يسوّغ للأمم المتحدة أن تتدخّل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما، وليس فيه ما يقتضي الأعضاء أن يعرضوا مثل هذه المسائل لأن تحلّ بحكم هذا الميثاق، على أنّ هذا المبدأ لا يخلّ بتطبيق تدابير القمع الواردة في الفصل السابع».

وهذا الحظر التام الذي انتهى إليه ميثاق الأمم المتحدة بخصوص هذا الموضوع والذي أكّدته عدة قرارات صادرة عن الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة (كالقرار رقم 2131 لعام 1965 والقرار 2625 لعام 1970 والقرار 3281 لعام 1974 والقرار 36/103 لعام 1981) لم يأتِ جملة واحدة، وإنّما أساسه القانوني كان في المادّة 15/8 من ميثاق عصبة الأمم لعام 1919- بعد قرن تقريباً على إعلان مونرو لعام 1823 بعدم التدخّل في شؤون الدول الأمريكيّة - حيث جاء فيها: «إذا ادّعى أحد أطراف النزاع وثبت للمجلس أنّ النزاع يتعلّق بمسألة تدخل وفقاً للقانون الدولي في الاختصاص الداخلي البحت (الحصري) لأحد طرفي النزاع، فليس للمجلس أن يقدّم أيّة توصيات بشأن تسوية ذلك النزاع».

وبمقارنة هذين النصّين الخاصّين بموضوع عدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول تتبين الفوارق بينهما وبالتالي التطوّرات التي لحقت بهذا الموضوع:

أ - إنّ نصّ المادّة 15/8 من عهد العصبة يقتصر أثره على الدفع بالاختصاص الداخلي بخصوص المنازعات التي يمكن أن تعرض على مجلس العصبة، في حين نصّت م 2/7 من ميثاق الأمم المتحدة يشمل تأكيد أنّ هذا الموضوع من المبادئ الرئيسية التي تقوم عليها الأمم المتحدة ويحكم مختلف الأنشطة التي تقوم بها سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً، وليس في مجال المنازعات الدوليّة فحسب كالنص السابق. وبالتالي فإنّه يخول الدول الأعضاء في الأمم المتحدة الحقّ بالدفع به أمام جميع أجهزة المنظمة الدوليّة وفي أيّ وقت وليس بمناسبة النظر في نزاع معيّن. ويمكن النظر في هذا الأمر على أساس أنّه يعدّ ضماناً تقرر للدول في مواجهة التوسّع في الاختصاصات التي تقررت لهيئة الأمم المتحدة في بعض المجالات الهامة التي كانت تعتبر حتّى وقت صياغة الميثاق وإقراره من المسائل التي تدخل في الاختصاص الداخلي، كالمسائل المتعلقة بالتعاون الدولي في المجالات الاقتصاديّة والاجتماعيّة وحقوق الإنسان والأوضاع المتعلقة بالأقاليم المستعمرة.

ب - توسّعت المادّة 2/7 من ميثاق الأمم المتحدة في مفهوم الاختصاص الداخلي بذكرها (… الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما…) حيث يكتفي الميثاق بأن تدخل مسألة ما في جوهرها أي في أساسها في الاختصاص الداخلي لدولة ما ليحرم على المنظمة الدوليّة أن تبحثها أو تناقشها، وكانت المادّة 15/8 من ميثاق عصبة الأمم تشترط في ذلك أن تكون هذه المسألة داخلة على نحو كلّي (حصري) في هذا النطاق.

جـ - لم يضع ميثاق الأمم المتحدة معياراً قانونياً للمسائل التي تعد من صميم السلطان الداخلي للدول، في حين اعتمد عهد العصبة معيار القانون الدولي لتحديد هذه المسائل، أي إنّ واضعي الميثاق اعتمدوا المعايير السياسية لتشخيص هذه المسائل، وهذا ما يفسّر التطور المتنامي لهذه المعايير في التطبيقات العملية للأمم المتحدة تبعاً للبيئة السياسية السائدة، وتعد معايير القانون الدولي المعتمدة في عهد عصبة الأمم أكثر تحديداً ولكنها بطيئة مقارنة بالمعايير السياسية.

د- أمّا فيما يتعلّق بتحديد الجهة المخولة بالفصل في طبيعة المسائل المعروضة، وفيما إذا كانت تدخل ضمن النطاق الداخلي لدولة أم لا فقد جاءت المادّة 2/7 خالية من أيّ إشارة بخصوص هذا الموضوع. بعكس المادّة 15/8 من عهد العصبة التي خوّلت مجلس العصبة سلطة البتّ في هذه المسألة.

وعلى ذلك يحقّ لكلّ جهاز أو فرع من فروع هيئة الأمم المتحدة أن يتولى تحديد هذا الأمر والفصل فيه فيما إذا دفعت أيّ دولة من الدول الأعضاء بأنّ المسألة المثارة أمام هذا الفرع أو ذاك تعد من صميم السلطان الداخلي لها. وقد جرى العمل في الأمم المتحدة منذ إنشائها على تفسير فكرة الاختصاص الداخلي تفسيراً سياسياً تتحكّم فيه المصالح والأهواء وظروف كلّ حالة على حدة.

3- الوقائع أو العناصر التي يتحقق معها التدخّل:

بعد أن تم تبيين مفهوم الاختصاص الداخلي أو (المجال المحفوظ) للدول، وعدم جواز التدخّل فيه لابدّ من تحديد الوقائع أو العناصر التي يتحقق معها أو بقيامها أو بوجودها «التدخّل» وبالتالي في اعتبارها وسائل غير مشروعة؛ لأنّها تبتغي التدخّل فيما يعد ضمن صميم السلطان الداخلي للدول، وهذا أمر محظور بموجب قواعد القانون الدولي المعاصر وميثاق الأمم المتحدة.

يمكن القول إنّ عناصر التدخّل هذه تتمثّل في الإكراه والمساس بالحقوق السيادية للدولة المتدخّل في شؤونها الداخلية أو البحث عن مزية أو منفعة من وراء ذلك، ولا يشترط في عنصر الإكراه استخدام القوة المسلّحة استخداماً فعلياً، وإنّما جميع أشكال الضغط السياسي أو الاقتصادي الموجهة نحو هذه الدولة للتأثير في أوضاعها الداخلية وسياساتها الخارجية. والمساس بالحقوق السيادية يقصد به مجموعة الحقوق التي تقوم عليها الدولة لممارستها في أراضيها وأجوائها ومياهها، أو الأموال الخاضعة لقضائها سواء بموجب قواعد دولية أم بغياب قواعـــــــــد تحرمها منها بصورة خاصّة. ويمكن اعتبار الحقوق التي أوردها قرار الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة رقـــــــــــــــــــم 36/103 تاريـــــــــــــــــــخ 9/12/1981 بمنزلة المرجع الأساسي لبيان الحقوق السيادية، وبالتالي عندما تتخذ أيّ دولة إجراء بهدف المساس بالحقوق السيادية لدولة أخرى وتحت أيّ ذريعة  فإنّه يعد تدخلاً غير مشروع. وبمفهوم المخالفة أيّ إجراء تتخذه أيّ دولة ضمن احترام قواعد القانون الدولي ويتناول أو يكون موضوعه عملاً غير مشروع تمّ أو يجري ارتكابه في دولة أخرى لا يعدّ ذلك تدخلاً غير مشروع. وعلى سبيل المثال إدانة انتهاك القانون الدولي في دولة أخرى لا يعد تدخلاً غير مشروع، كما جاء في الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدوليّة الدائمة بتاريخ 7/12/1923 الخاص بمراسيم الجنسية، كما يشمل ذلك المواقف الرسمية لدولة تجاه أحداث داخلية في بلد آخر من دون اتخاذ إجراءات إكراهية ضد هذه الدولة كإدانة الأعمال الإرهابية التي تجري في دولة ما، أو إدانة أيّ محاولات انقلابية تجري فيها… إلخ.

4- الانتقال من المبدأ القانوني «عدم التدخل» إلى المبدأ السياسي «واجب التدخّل»:

نتيجة للأحداث المتسارعة وخاصّة منذ تسعينات القرن الماضي وإعلان النظام العالمي الجديد وسيادة مفاهيم العولمة الغربية طرأ تحوّل نوعي وكمّي كبير في مفهوم «عدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول» وخاصّة لجهة الادّعاء بحماية حقوق الإنسان وحماية الأقليات ونشر الديمقراطية ومكافحة الإرهاب. وعدت بعض الدول -ومن خلفها مفكريها ومسؤوليها- أنّ الانتقال من مبدأ «عدم التدخّل» إلى «حقّ التدخّل» بل إلى «واجب التدخّل» تفرضه اعتبارات سياسية وأخلاقية وإنسانية قانونية تجمع مصالح سكان القرية الصغيرة «المجتمع الدولي» واهتماماته اعتماداً من هذه الدول على مقولة إنّ أفراد هذا المجتمع -الدول- كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى! وإذا كانت هذه المقولة صحيحة فإنّ حيثيات تطبيقها والغايات المرجوة من ذلك تستدعي الحكمة المأثورة «كلمة حقّ أريد بها باطل».

وهذا ما يقود إلى الحديث عن أنواع التدخّل ومدى مشروعيتها في نطاق القانون الدولي.

5- أنواع التدخّل ومدى مشروعيتها في القانون الدولي:

إذا قيل إنّ قواعد القانون الدولي المعاصر -وهو ما تكرّس فعلياً في ميثاق الأمم المتحدة- لا تجيز عموماً التدخّل فيما يعد من صميم السلطان الداخلي للدول فإنّ الممارسات والسلوكيات الدوليّة قد فتحت استثناءات كثيرة في هذه القاعدة العامّة، ولعلّ أهمها التدخّل لأهداف إنسانية وحماية حقوق الإنسان وحقوق الأقليات، أو التدخّل بهدف نشر الديمقراطية أو التدخّل لتسهيل ممارسة حقّ تقرير المصير، أو التدخّل لحماية رعايا الدولة في الخارج.

أ- التدخّل الإنساني أو لأهداف إنسانية:

ويمكن تعريفه بأنّه: العمل الذي تقوم به دولة أو دول ويشتمل على استخدام القوة المسلّحة أو التهديد باستخدامها ضدّ دولة أخرى من دون موافقة حكومتها، وسواء تمّ بتفويض أم من دونه من قبل مجلس الأمن الدولي، ويهدف إلى منع أو وقف الانتهاكات الصارخة والجسيمة لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني.

وترجع الكثير من الدراسات والأبحاث المتعلقة بالتدخّل الإنساني الأصول التاريخية لهذا المفهوم إلى «الحرب العادلة» إذ يعدّ التدخّل الإنساني بمنزلة خوض غمار حرب عادلة؛ نظراً لأنّ اضطهاد حاكم مستبد لشعبه وأفراد رعيته وتنكيله بهم إنّما يعدّ سبباً عادلاً يجيز للدول الأخرى شنّ حرب عادلة ضد هذا الطاغية أو النظام المستبد. وفي المقابل يوجد في الشريعة الإسلامية -مع الفارق في التشبيه- ما يسمّى بمفهوم استنقاذ المضطهدين بدلالة الآية القرآنية الكريمة: ]وَإِنّ اسْتَنَصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِيَثاقٌ[ [الأنفال الآية 72].

وبالرغم من عدم وجود إجماع على قبول «التدخّل الإنساني» ترى بعض الدول وجمهرة من فقهاء القانون الدولي أنّه قد شاع بما يكفي لاعتباره عرفاً دولياً، وهم يرون أيضاً أنّ هناك ممارسات تتطوّر ولكنها لاتزال تحتاج إلى المزيد من الترسيخ. فتهديد السلم يمكن أيضاً اعتباره انتهاكاً لحقوق الإنسان والقانون الدولي يجري داخل الدولة نفسها. وقد ركز جانب من الجدل الفقهي منذئذٍ على ضرورة وضع نموذج قانوني للتدخل «الإنساني» حتّى تضمن وجود آلية واضحة لاتخاذ القرارات وبضمان أن يتمّ التدخّل على نحو غير متحيّز. كذلك تطرّق الجدل إلى تطوير معايير محددة للتدخل: مثل درجة الانتهاك للحقوق، أو ملاءمة ردّ الفعل، أو اللجوء إلى القوة بوصفه خياراً أخيراً. ومن وجهة نظر القانون الدولي الإنساني لا يستقيم التحدث عن «تدخّل إنساني» حيث إنّ مصطلح «إنساني» يجب أن يبقى قاصراً على العمل الذي يستهدف التخفيف من معاناة الضحايا، و«التدخّل الإنساني» كما تعرفه اليوم هو تدخّل مسلّح عادة ما ينطوي أيضاً على «بروبغندا» أو جدول أعمال سياسي. ويعطي القانون الدولي الإنساني الحقّ في إسداء المساعدة الإنسانية، كما أنّ أعمال الإغاثة ذات الطابع الإنساني وغير المتحيز لا يمكن رفضها على أساس وصمها بأنّها تدخّل في نطاق السيادة الوطنية للدولة أو بأنّها تنطوي على مساس بها. وقد أقرّت محكمة العدل الدوليّة في حكمها الشهير الصادر عام 1986 بخصوص الأنشطة العسكرية وشبه العسكرية بين نيكاراغوا والولايات المتحدة أنّ إرسال المساعدات الإنسانية لا ينطوي على تدخّل مجرم في الشؤون الداخلية لدولة أخرى مادام يقتصر على الأهداف التي تقرها ممارسات اللجنة الدوليّة للصليب الأحمر، ولكنها أضافت في الوقت نفسه أنّ «استخدام القوة ليس هو الطريقة المناسبة للتأكّد من احترام حقوق الإنسان وضمانها».

وعلى كلّ حال يسوق مؤيدو «التدخّل الإنساني» عدة ذرائع وأسانيد لتأييد دعواهم بأنّه «تدخّل شرعي بل يرقى إلى مرتبة الواجب القانوني»، من أهمّ هذه الذرائع:

1- إخفاق نظام الأمن الجماعي.

2- حماية حقوق الإنسان، من أهم أهداف الأمم المتحدة.

3- إنّ التدخّل الإنساني والحالة هذه لا يتعارض مع منطوق المادّة 4/2 من ميثاق الأمم المتحدة، وإنّ هذا التدخّل يتمّ باستخدام القوة العسكرية في سبيل المصلحة المشتركة للمجتمع الدولي.

4- إنّ اتفاقية حظر الإبادة الجماعية لعام 1948 تلزم الدول بالتدخّل إنسانياً لوقف انتهاكات حقوق الإنسان التي تجري داخل أيّ دولة.

5- التدخّل الإنساني سوف يشكّل رادعاً قوياً للدول المارقة والمستبدة وبالتالي في إجبارها على وقف أعمال القمع والاضطهاد بحقّ شعوبها ورعاياها.

واعتماداً على هذه الذرائع والحجج وضع مؤيدو «التدخّل» شروطاً محددة لممارسته عملياً، ومن أهمّها:

1- التثبّت من وجود انتهاكات سافرة وخطرة ومباشرة لحقوق الإنسان الأساسية داخل الدولة، وتصل إلى درجة الفظائع التي تهدد السلم والأمن الدوليين.

2- التثبت من أنّ الدولة التي تقوم بارتكاب هذه الانتهاكات الخطيرة ليس لديها النية أو الرغبة أو القدرة لوقفها أو الحدّ منها. وهذا يتطلّب استنفاد كلّ الوسائل السياسية والدبلوماسية تجاهها لإثبات هذه النية.

3- أن يكون التدخّل الإنساني - في هذه الحالة - هو العلاج الأخير لوقف هذه الانتهاكات، وأن يكون محل ترحيب الضحايا، ولا يحمل أيّة مصالح سياسية أو ذاتية للدولة المتدخلة، ولذلك فمن الأفضل أن يكون التدخّل جماعياً.

4- أن يُراعى في التدخّل الإنساني الذي يستخدم القوة العسكرية مبدآ الضرورة من التدخّل، والتناسب بين حجم الاتهامات وردّ الفعل عليها.

5- إخطار المنظمات الدوليّة بهذا التدخّل.

وفي المقابل يعترض جانب كبير من الفقهاء على مشروعية التدخّل، أياً كانت ذرائعه، وذلك للأسباب الآتية:

q إساءة توظيف مفهوم التدخّل الإنساني لتحقيق مصالح سياسية أو ذاتية.

q لأنّه يعد عدواناً مسلّحاً بحقّ الدولة التي يجري التدخّل ضدها، وهذا ما يهدّد السلم والأمن الدوليين تهديداً أخطر من الانتهاكات السافرة لحقوق الإنسان.

q ولأنّه سلاح أو أداة تحتكرها الدول الكبرى بما يجدد عهد السيطرة الاستعمارية وتحت مسميات خادعة.

q هناك فظائع واتهامات جسيمة لحقوق الإنسان ترتكب هنا وهناك في العالم من دون أي تدخل لوقفها أو قمعها (سياسة الكيل بمكيالين)، وهذا مما يفقد «التدخّل» مشروعيته القانونية.

وفي واقع الأمر  يجب النظر إلى مشروعية «التدخّل» الإنساني - أياً كانت أسبابه ودوافعه - من ناحيةٍ تتعلّق بالحق في الحرب «Jus ad bellum»، وهذا موضوع نظّمه بدقة ميثاق الأمم المتحدة. فالمادة 2/4 منه تحظر على نحو وواضح وصريح اللجوء إلى استخدام القوة أو التهديد باستعمالها، أمّا الاستثناءات عليها فقد نصّ عليها الفصل السابع منه (المادّة 42) اتخاذ مجلس الأمن الدولي إجراءات عسكرية ضد الدولة المعتدية، و(المادّة 51) إجراءات الدفاع الشرعي عن النفس الفردي أو الجماعي ضد العدوان. وهذا يعني أنّه ليس هناك في الميثاق ما يؤكّد حقّ استخدام القوة من جانب واحد في مواجهة دولة ترتكب انتهاكات لحقوق الإنسان أو خروقات للقانون الدولي الإنساني، كما لم يتبلور بعد أيّ عرف دولي يعزّز  شرعية هذا التدخّل.

وإذا كانت حقوق الإنسان الأساسية، كالحق في الحياة والسلامة البدنية والحرية، وباتفاق غالبية الفقهاء وتأكيد مجمل القرارات والمعاهدات الدوليّة ذات الصلة تدخل في نطاق الاهتمام الدولي بعد أن لم تعد موضوعاً أو شأناً داخلياً بحتاً-وبالتالي في إخراجها من صميم السلطان الداخلي للدول بموجب م 2/7 من ميثاق الأمم المتحدة- فإنّ «التدخّل الإنساني» لحمايتها حال وجود انتهاكات سافرة ضدها لا يتعارض مع منطوق هذه المادّة لهذا السبب المشار إليه أعلاه، وإنّما يتناقض مع ما تقضي به الفقرة الرابعة من المادّة الثانية من الميثاق التي تحظر استخدام القوة أو التهديد باستعمالها ضد سلامة الدولة الإقليمية أو استقلالها السياسي، أو على أيّ وضع آخر لا يتفق مع مبادئ الأمم المتحدة  ومقاصدها.

ب- التدخّل من أجل نشر الديمقراطية:

وهو من البدع المستحدثة في السياسة الدوليّة في نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، ولا يخفى على أحد الطابع السياسي والذرائعي لهذه الحجج في التدخّل في الشؤون الداخلية للدول تحت هذه المسميات. وقد رفضته محكمة العدل الدوليّة جملة وتفصيلاً ومبكّراً في حكمها الشهير عام 1986 بين نيكاراغوا والولايات المتحدة الأمريكية بقولها: «…لا يوجد أيّة قاعدة  قانونية في القانون الدولي تمنح دولة ما حقاً أو رخصة للتدخّل العسكري المسلّح ضد دولة أخرى تحت ذريعة أنّها تنتهج نظاماً سياسياً أو أيديولوجياً معيناً».

جـ- التدخّل من أجل مكافحة الإرهاب الدولي:

وهو كذلك من البدع المستحدثة في السياسة الدوليّة، وتحاول الدول التي تتبناه تأسيس قواعد قانونية دولية حول هذا الموضوع تستند إليها لتبرير تدخلات كهذه. وهو في الحقيقة ترجمة فعلية للمبدأ الذي طرحه المفكر الأمريكي ريتشارد هاس المسؤول السابق في الخارجية الأمريكيّة حينما حدد المفهوم الأمريكي الجديد للسيادة الوطنية للدول بقوله: «إنّنا في عصر جديد طرأ فيه تحوّل جذري على مفهوم السيادة الوطنية. حيث لم تعد مفهوماً مطلقاً يمنح السلطات في الدولة امتيازات أو اختصاصات مطلقة في الشؤون الداخلية لها، بل أصبحت مع عصر التنظيم الدولي المعاصر جملة من التكاليف والوظائف. فإذا قصّرت الدولة في حماية شعبها وتوفير كامل الحقوق الأساسية لرعاياها وحماية الأقليات فيها ونشر الديمقراطية ومكافحة الإرهاب. فإنّه يقع على عاتق الدول الأخرى - ولاسيّما الدول الديمقراطية كأمريكا - أن تتدخّل لتحقيق ذلك».

ولا يخفى على أحد أنّ هذا «الشعار» أصبح مبدأ وقاعدة سارت على أساسه الإدارة الأمريكيّة السابقة، وبررت تدخلاتها السافرة في أفغانستان والعراق على مقتضاه.

أمثلة عملية على التدخّل:

هناك أمثلة كثيرة على التدخّل الإنساني أو لأهداف إنسانية تمّت في الماضي البعيد: كالتدخّل الفرنسي في سورية عام 1860 بزعم حماية بعض الأقليات الدينية، والتدخّل البلجيكي في الكونغو عام 1960. وفي الماضي القريب تدخّل قوات التحالف الدولي في العراق بموجب قرار مجلس الأمن الدولي رقم 688 لعام 1991، وتدخّل حلف الناتو في إقليم كوسوفو عام 1999. وحديثاً التدخّل العسكري الأمريكي في أفغانستان 2001، وفي العراق 2003 تحت مسميات التدخّل لمكافحة الإرهاب الدولي ونشر الديمقراطية!

مراجع للاستزادة:

 

- باسيل يوسف باسيل، سيادة الدولة في ضوء الحماية الدوليّة لحقوق الإنسان (مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، العدد 4، ط1-2001).

-برتران بادي، عالم بلا سيادة - الدول بين المراوغة والمسؤولية، ترجمة لطيف فرج (مكتبة الشروق، القاهرة 2001).

- صلاح الدين عامر، مقدمة لدراسة القانون الدولي العام (دار النهضة العربيّة، مطبعة جامعة القاهرة 2007).

- مفيد شهاب، المنظمات الدوليّة (دار النهضة العربيّة، ط9، القاهرة 1989).

- عماد الدين عطا الله المحمد، التدخّل الإنساني في ضوء مبادئ وأحكام القانون الدولي العام، رسالة دكتوراه (كلية الحقوق، جامعة القاهرة 2007).

 


التصنيف : القانون الدولي
النوع : القانون الدولي
المجلد: المجلد الثاني: بطاقة الائتمان ــ الجرائم الواقعة على السلطة العامة
رقم الصفحة ضمن المجلد : 147
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 1055
الكل : 58492594
اليوم : 65108