logo

logo

logo

logo

logo

الإثبات في القانون الخاص

اثبات في قانون خاص

proof in private law - preuve en droit privé

الإثبات في القانون الخاص

الإثبات في القانون الخاص

محمد واصل

معنى المصطلح في اللغة والشريعة  مبادئ الإثبات الأساسية
مفهوم الإثبات في القانون محل الإثبات وشروطه
نظم الإثبات عبء الإثبات
قواعد أصول الإثبات إجراءات الإثبات
 

أولاً: معنى المصطلح في اللغة والشريعة

يطلق مصطلح الإثبات La preuve بوجه عام على الإجراءات القضائية المتضمنة إقامة الدليل على وجود الحق المدعى به الذي يقع عليه الإنكار من طرف آخر في الخصومة ابتداء. لهذا يتم الإثبات للوقائع أو الأحداث بطرق محددة أو معروفة عبر وسائل معينة لتكوين القناعة العقلية أو المنطقية أو الوجدانية لدى القاضي بهدف تحقيق نتائج قانونية أو قضائية مترتبة على صحته أو صدقه تجعل القاضي يحكم بثبوت الحق أو نفيه.

معنى الإثبات في اللغة والشريعة الإسلامية

يقال في اللغة: ثبت ثباتاً وثبوتاً: دام واستقر في مكانه، ومنه قوله تعالى: )لِيُثْبِتُوكَ([الأنفال30] (أي ليجرحوك جراحة لا تقوم معها. وتثبت في الأمر والرأي: تأنى فيه ولم يعجل. واستثبت في أمره: إذا شاور وفَحصَ عنه. والثَّبَت: بالتحريك: الحجة والبرهان، تقول: لا أحكم بكذا إلا بِثَبَتٍ أي بحجة.

وثابتة وأثبته: عرفه حق المعرفة، وقول ثابت: قول صحيح، قال تعالى: )يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ([إبراهيم 72]، ومنه قوله تعالى: )وَكُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ([هود 210]؛ لأن البرهان والدلالة كلما كانت أكثر كان القلب أسكن وأثبت.

والإثبات في اصطلاح الفقهاء لا يخرج عن هذه المعاني.

q فاستعملوه بالمعنى العــام: بمعنى إقامة الدليل على حق أو على واقعة معينة.

q واستعملوه بالمعنى الخاص: بمعنى إقامة الدليل أمام القضاء بالطرق التي حددتها الشريعة على حق أو على واقعة معينة.

والطرق والأدلة التي تردد ذكرها في كتب الفقه بوصفها سبلاً للإثبات في القضاء، أو أدلة يمكن إثبات الدعوى بها كثيرة ومتعددة، ومنها ما هو متفق عليه ومنها ما هو مختلف فيه، وقد يجري الاتفاق على أنه دليل في الجملة لكنهم اختلفوا في مجال تطبيقه ومدى شموله كشهادة الشاهدين. اتفقوا على أنها طريق للقضاء لكنهم اختلفوا: هل تكون في الأموال والمعاملات فقط، أو هي فيما عدا الحدود والقصاص الأموال والنكاح والطلاق.

ومن هذه الأدلة: الإقرار، والشهادة، واليمين، والشهادة مع اليمين، والنكول، وعلم القاضي، والقرينة، والخط، والقسامة والقيافة، والقرعة، والفراسة.

¯ وللفقهاء في الحجج الشرعية التي تثبت بها الدعوى مسلكان:

q الأول: حصر طرق الإثبات في طائفة من الأدلة يتقيد بها الخصوم، فلا يقبل منهم غيرها، وهو مذهب جمهور الفقهاء.

q والثاني: عدم التحديد، فللخصوم أن يقدموا من الأدلة ما يستطيعون به إقناع القاضي بصحة دعواهم، وللقاضي أن يقبل من الأدلة ما يراه منتجاً في الدعوى ومثبتاً لها.

ثانياً: مفهوم الإثبات في القانون

عملت أكثر التشريعات على عدم وضع تعريف للإثبات كما تفعل عادة في أكثر المسائل القانونية تاركة أمر ذلك لفقهاء القانون، وكان المشرع السوداني الوحيد من بين التشريعات العربية التي عرفت البيِّنة بالنص على أن: « "بينة" يقصد بها أي وسيلة يتم بها إثبات أو نفي أي واقعة متعلقة بدعوى أمام المحكمة». أما فقهاء القانون فقد تناولوا تعريف الإثبات بما لا يختلف عن التعريف اللغوي أو عن المفهوم المبين في سياق النصوص الشرعية، حيث قالوا عنه أنه إقامة الحجة أو الدليل على الحق أو الأمر المدعى به لما يترتب عليه من آثار قانونية. فالإثبات بالمعنى الفني نظام قانوني قضائي أصولي يهدف إلى إقامة الحجة أو الدليل أو البرهان في ساحات العدالة أمام القاضي في خصومة أو في نزاع مرفوع إليه  بهدف الفصل فيه وصولاً إلى الحق.

ثالثاً: نظم الإثبات

تختلف النظم التي يقوم عليها الإثبات من دولة إلى أخرى، أو بين مجموعة من الدول ومجموعات أخرى، ومن هذه النظم الآتي:

1- نظام الإثبات الحر (المطلق):

يرمي نظام الإثبات الحر أو المطلق إلى عدم تقييد القاضي بطرق معينة للإثبات، بل ترك له الحرية الكاملة في اتخاذ الدليل الذي يطمئن إليه، فله أن يستكمل ما نقص من الأدلة التي عجز عنها الخصم، وله أن يحكم بعلمه الشخصي، وله استدراج الخصوم ومباغتتهم لانتزاع الحقيقة من أقوالهم.

2- نظام الإثبات المقيَّد:

يقوم هذا النظام على الحد من السلطة المطلقة الممنوحة للقاضي في النظام السابق، وذلك بتحديد طرق معينة للإثبات، فلا يستطيع الخصوم إثبات دعواهم  إلا من خلالها، ولا يستطيع القاضي تكوين عقيدته إلا بالأدلة التي حددها القانون، ولا يجوز للقاضي أن  يحكم بعلمه الشخصي وعليه أن يقف على الحياد في الدعوى لجهة الإثبات فيما يخص الخصمين فيها، ولا يكون للدليل قيمة أكثر مما هو محدد له بالقانون.

3- نظام الإثبات المختلط:

يجمع هذا النظام بين النظامين السابقين، من خلال التوفيق بينهما، والتخفيف من مضارهما، فهو مع تحديده لطرق الإثبات إلا أنه يمنح القاضي سلطة في تقدير الأدلة، ومن مزايا هذا النظام أنه يقارب بين الحقيقة القضائية أو القانونية والحقيقة الواقعية من دون إخلال بالثقة والاستقرار اللذين يوجبهما التعامل بين الأشخاص، ومن دون أن يلغي دور القاضي نهائياً في مسألة الإثبات، إذ يبقي له سلطة الإجازة وتقدير الأدلة وترجيح البينات.

رابعاً: قواعد أصول الإثبات

لم يضع قانون البينات السوري قواعد خاصة بأصول الإثبات باستثناء قاعدتين في المادتين (2و3)  نصتا على أنه ليس للقاضي أن يحكم بعلمه الشخصي، وعلى أنه يجب أن تكون الوقائع التي يراد إثباتها متعلقة بالدعوى ومنتجة في الإثبات وجائزاً قبولها، كما فعلت أكثر التشريعات العربية باستثناء بعض القوانين ومنها قانون الإثبات السوداني الذي حدد هذه القواعد في المادة (4) منه بالآتي:

1- الأصل في المعاملات براءة الذمة والبينة على من يدعي خلاف ذلك.

2- الأصل براءة المتهم حتى تثبت إدانته دون شك معقول.

3- الأصل في أحوال البالغ السلامة والحرية والبينة على من يدعي عارضاً على أهليته أو قيام ولاية عليه.

4- الأصل صحة الظاهر والبينة على من يدعي خلاف ذلك.

5- الأصل فيما ثبت بزمان بقاؤه على ما كان عليه لزمن معقول والبينة على من يدعي زواله أو تحوله.

6- الأصل جريان ما هو على حاله، والأصل في الأمور العارضة العدم والبينة على من يدعي خلاف ذلك.

7- الأصل في التدابير التشريعية والتنفيذية والقضائية إنها جارية على حكم القانون والبينة على من يدعي خلاف ذلك». لذلك تثير أصول الإثبات وأركانه على صعيد التطبيق العملي أمام المحاكم مجموعة من المسائل التي قد تتباين منها الآراء.

1- مكانة قواعد الإثبات في القانون:

عمل المشرع في سورية وأكثر الدول العربية على وضع قواعد الإثبات في قانون مستقل سمي في سورية بقانون البينات، وقد سمي في أكثر الدول العربية بقانون الإثبات، وهو يتضمن قواعد موضوعية تتعلق بأدلة الإثبات، وأخرى أصولية تتعلق بإجراءات الإثبات، وعليه فهو قانون ذو طبيعة خاصة، وإن كان ينتمي على الأغلب إلى مجمل القواعد التي يحتاج إليها القاضي  في إجراءات المحاكمة والفصل في الخصومات. 

2- تطبيق قواعد الإثبات في الزمان:

يقضي الأصل في أن القوانين الجديدة المتعلقة بالإثبات تطبق بأثر فوري على كل الوقائع القانونية التي لم ترتب آثارها بعد. فالحل وفقاً لما أخذ به المشرع السوري أنه يطبق بشأن الأدلة التي تعد مسبقاً النصوص المعمول بها في الوقت الذي أعد فيه الدليل أو في الوقت الذي كان ينبغي فيه إعداده من دون تفريق بين الدليل الذي تم إعداده، أو كان من الواجب إعداده عند حدوث الواقعة أو إجراء التصرف القانوني؛ لذلك يجب التفريق بين القوانين التي تحدد أثر الإثبات وتلك الخاصة بأصول الإثبات، حيث تكون القوانين التي تحدد الأثر شبيهة بالقوانين الموضوعية، وبالتالي  فإن قانون الإثبات الواجب التطبيق في شأن إثبات الحق هو الذي كان نافذاً بتاريخ اكتساب ذلك الحق سواء كان حقاً شخصياً أم حقاً عينياً، أما القوانين الخاصة بأصول الإثبات فهي تطبق بأثر فوري كتلك المتعلقة بأصول إجراء معاينة أو خبرة فنية، أو كيفية الاستماع إلى شهادة الشهود.

3- سريان القوانين المتعلقة بالإثبات من حيث المكان:

تدخل مسألة تطبيق القوانين المتعلقة بالإثبات من المكان في مجال تنازع القوانين، وهي من مواضيع القانون الدولي الخاص، وقد نصت المادة (24) مدني على أن «يسري في شأن الأدلة التي تعد مقدماً قانون البلد الذي أعد فيه الدليل». وتثير مسألة خضوع الإثبات لقانون البلد الذي أعد فيه أو كان مفترضاً إعداده فيه مجموعة من المسائل منها بيان من يقع عليه عبء تقديم الدليل، ومحل الدليل وقوته وإجراءات تقديمه. إن الرأي السائد في الفقه هو خضوع هذه المسائل للقانون الذي يحكم الموضوع باستثناء الدليل الكتابي المعد سابقاً  من حيث لزومه من عدمه إذ يخضع وحده لقانون البلد الذي أعد فيه، وهذا تطبيق إضافي للقاعدة التي تنص على أن القانون المحلي هو الذي يحكم الشكل.  

خامساً: مبادئ الإثبات الأساسية

تقوم نظرية الإثبات في مجملها على مجموعة من القواعد تتعلق بحق الخصوم في الإثبات أو تقديم الأدلة على ثبوت الحق أو نفيه، وحقهم في الدفاع ومناقشة الأدلة، وتحديد الأدلة التي يحق لهم تقديمها وذلك وفق النظام القانوني للإثبات في دولة القاضي، ومدى دور القاضي في اعتماد الأدلة، واستناده في الحكم إلى معلوماته الشخصية.

1- حق الخصوم في الإثبات:

يحق لكل خصم في الدعوى أن يقدم ما لديه من أدلة لإثبات الواقعة أو لنفيها مع مراعاة الشروط والأحكام والضوابط الخاصة بذلك، وهذا ما يعرف بحق الخصوم وواجبهم في الإثبات ، وترتب على هذا مبدأ (حياد القاضي)، وأنه ليس للقاضي أن يستند في حكمه إلا إلى الوقائع والأدلة التي قدمها الخصوم، وأنه ليس له أن يقرر إبراز وثائق اتفق الخصوم على عدم إبرازها، أو السماع إلى شاهد اتفقوا على عدم سماعه، وإذا سمح القاضي لأحد الخصوم الإثبات بوسيلة من الوسائل فعليه أن يمنح الفرصة بالوسيلة ذاتها لإثبات العكس.

2- حق الدفاع ومناقشة الأدلة:

يحق لكل خصم في الدعوى مناقشة الدليل الذي يقدمه الخصم الآخر وتحليله بهدف إظهار حجيته أو تناقضه واستبعاده  سواء كان الدليل خطياً أم شهادة، أم قرينة، أم مجرد معيانة أو خبرة فنية، وهذا يعني أنه ليس للقاضي أن يقدم الأدلة من تلقاء نفسه، ولا أن يحكم بدليل لم يطلع عليه الخصوم، ولا أن يحكم بمعلوماته الشخصية، ولا تعد معلومات شخصية تلك التي يكتسبها من خبرته في الشؤون العامة التي يتعين عليه الإلمام بها كالعلم بالأعراف والعادات، والأوضاع الاقتصادية السائدة وارتباطها بارتفاع الأسعار التي قد تسمح بتطبيق نظرية الظروف الطارئة مثلاً.

3- الحق في معرفة الأدلة:

يتعين تحديد الأدلة التي يمكن للخصوم اللجوء إليها من أجل إثبات صدق ما يدعون، ولا يجوز للقاضي أن يلجأ للإثبات بدليل لم يطلبه الخصوم، أو بدليل لم ينص عليه القانون، وهذا من المسائل التي تخضع لنظام الإثبات  في دولة القاضي، حيث لا يستطيع الخصوم الاحتكام إلى طريق من طرق الإثبات لم ينظمه القانون، ولا اللجوء إلى إجراء من إجراءات الإثبات غير تلك التي حددها القانون، فلا يصح مثلاً تحليف اليمين بغير القسم بالله.

4- حياد القاضي:

يقضي المبدأ الأساسي في الإثبات بحياد القاضي في صنع الأدلة التي تقدم في أثناء النظر في الدعوى، وعليه أن يترك للخصوم اختيار أدلتهم وإثباتها من دون توجيه أو تدخل، إلا أنه لايجوز للقاضي أن يحكم بالاستناد إلى دليل من صنع الخصوم أنفسهم باستثناء ما ورد في هذا الشأن لجهة إثبات الديون التجارية بين التجار من خلال الدفاتر التجارية المنتظمة التي يقوم التجار بتنظيمها، وبالتالي تكون حجة لهم للإثبات بمواجهة مدينيهم من التجار وفقاً لشروط خاصة، كما لا يجبر أحد من حيث المبدأ أن يقدم دليلاً ضد نفسه.

سادساً: محل الإثبات وشروطه

شُرِّع الإثبات أصلاً للدلالة أو البرهان على الصدق في الادعاء أو القول، وهو في النظرية القضائية لا ينصرف إلى  الحق ذاته، وإنما ينصرف إلى السبب المنشئ له، كأن يكون عقداً أو إرادة منفردة أو فعلاً ضاراً أو فعلاً نافعاً أو النص الشرعي بالمعنى الضيق، بمعنى آخر إن المحل في الإثبات يمكن أن يكون تصرفاً قانونياً أو واقعةً ماديةً من حيث الأصل، وهو يتعلق بمصدر الحق وليس بالحق ذاته.

1- محل الإثبات:

يقع محل الإثبات على مصدر الحق وليس على الحق ذاته سواء كان مصدر الحق تصرفاً قانونياً، أم واقعة مادية؛ لأنه عندما يثبت المصدر يقوم الحق، ولا يمكن أن نبحث في الالتزامات التعاقدية قبل أن يثبت وجود الحق، ولا يمكن أن نبحث عن الحق في التعويض المترتب على العمل غير المشروع قبل ثبوت ذلك العمل. فالإثبات يكاد يكون مساوياً للسبب المنشئ للأثر القانوني المدعى به سواء تعلق الأمر بوجود الحق أم بانقضائه، أم بإلحاقه بوصف معين كالشرط أو الأجل، لأن  الحق كما ينشأ بأحد مصادره الإرادية أو المادية فإن زواله أو انقضائه كذلك يكون بتصرفات قانونية أو وقائع مادية.

أ- محل الإثبات هو الواقع وليس القانون:

يحتاج القاضي من أجل الفصل في أي دعوى إلى توافر مسألتين هما واقعة محل نزاع، وقانون أو قاعدة شرعية تنطبق على تلك الواقعة، وإذا كان يفترض بالقاضي أن يعلم بقواعد الشريعة والقانون فإنه لا يفترض علمه بوجود قيام الواقعة المدعى بها أو ثبوتها، ويقصد بالواقعة مصدر الحق الذي يخلق للأشخاص مراكز قانونية متفاوتة تستدعي الحماية القضائية، أو هو سبب الدعوى أو السبب المنشئ أو المعدل للالتزام أو الحق المدعى به في الدعوى، أو الأساس القانوني الذي تقوم عليه الدعوى والذي لا يملك القاضي الحق في تغييره وهو يختلف عن التكييف القانوني للوقائع الذي يدخل في صلاحيات القاضي من دون أن يلتزم الوصف الذي أعطي لتلك الوقائع من قبل الخصوم.

ب- إثبات القانون الأجنبي:

ذهب بعض أهل الفقه والاجتهاد القضائي إلى أنه متى تم التمسك من قبل أحد الخصوم بتطبيق قانون دولة أجنبية أمام القاضي الوطني فإنه يتحول إلى واقعة يقع على من تمسك به أن يثبته بالطرق المقبولة قانوناً، ويستوي في ذلك أن يكون نصاً تشريعياً أو قاعدة عرفية، وهو بالتالي لا يخضع لرقابة محكمة النقض، ولا يمكن إثارته لأول مرة أمامها.  ويذهب بعض أهل الفقه الحديث إلى القول إن القانون بالمعنى الواسع يبقى قانوناً ولا يتحول إلى واقعة، وعلى القاضي الإلمام به ومعرفة أحكامه وعليه وحده يقع عبء تفسيره، ولذلك وإن كان للخصوم مساعدته على الوصول إليه إلا أنه لا يقع عليهم إثباته، وبالتالي فإن تطبيقه يخضع لرقابة محكمة النقض بوصفه تشريعاً وليس واقعة مادية، ويمكن إثارته لأول مرة أمام تلك المحكمة.

ج- إثبات  العرف:

يقضي المبدأ أن الإلمام بالعرف بعدّه قاعدة قانونية من صميم عمل القاضي الذي يفترض علمه به، وعليه أن يقوم بتطبيقه من تلقاء نفسه، إلا أن بعض الأعراف يصعب معرفتها من قبل القاضي ولاسيما إذا كانت تطبق في بيئة لم يعش فيها القاضي، كما أنه ليس هناك مجلدات تجمع كل الأعراف المطبقة في كل المهن والمجالات يمكن للقاضي أن يعود إليها من أجل العلم بالعرف الواجب التطبيق على محل الخصومة، كما أنه يصعب أحياناً التفرقة بين العرف والعادة، فكل ذلك يستدعي من الذي يتمسك بتطبيق العرف على القضية المتنازع فيها أن يقدم الدليل على إثبات العرف حيث يكون العرف في مثل هذه الحالة أقرب إلى الواقعة من القاعدة القانونية، وبالتالي يخضع إثباته للأحكام نفسها المتعلقة بإثبات تلك الواقعة.

2- شروط محل الإثبات:

يتعين توافر مجموعة من الشروط في الواقعة المراد إثباتها قبل الإجازة بالإثبات الذي يخضع للسلطة التقديرية للقاضي، ومن هذه الشروط:

أ- أن تكون الواقعة المراد إثباتها محددة:

تكون الواقعة محددة عندما تكون خالية من الجهالة، وتكون كذلك عند تحديد المصدر والمحل في المصدر، فلو كانت الدعوى تتعلق بعقد فإنه يتعين تحديد الأحكام الجوهرية له من حيث هويته ونوعه وصفاته، ويجب أن يكون المحل في العقد معيناً بذاته، أو معيناً بنوعه ومقداره، وينطبق الأمر على الوقائع المادية. ففي جميع الحالات - قبل الدخول في ساحة الإثبات - يتعين تحديد الوقائع المراد إثباتها تحديداً كافياً يؤدي إلى معرفة كينونة تلك الواقعة في الزمان والمكان سواء تعلقت بشيء مادي أم بالقيام بعمل أم الامتناع عن عمل.

ب- أن تكون الواقعة المراد إثباتها ممكنة عقلاً أو شرعاً:

تكون الواقعة ممكنة عندما لا تكون مستحيلة، والاستحالة يمكن أن تكون طبيعية (مادية)، وذلك عندما لا يمكن تصديقها عقلاً لاستحالة إثباتها كمن يدعي نسبه من شخص يعادله في العمر، أو كمن يدعي موت مورثه بحادث مرور في الوقت الذي كان فيه هذا المورث قد توفي في زمن سابق على الحادث، أو قانونية (شرعية) عندما تكون مخالفة لقواعد القانون أو الشريعة، فلا يجوز إثبات وجود عقد مقامرة أو مراهنة، أو عقد يتعلق بزواج من محرم، وفي جميع الأحول فإن تقدير الاستحالة يدخل في سلطة القاضي لأنها مسألة موضوعية ولا رقابة عليه في هذا التقدير من قبل المحاكم الأعلى.

ج- أن تكون الواقعة مرتبطة بالدعوى:

يقتضي محل الإثبات وجود العلاقة بين الحق ومصدره، وتقوم هذه الصلة عندما يؤدي إثباتها إلى تكوين قناعة القاضي من خلال جعلها الحق قريباً من الصدق، فإذا كانت المطالبة أو الدعوى تتعلق بملكية عقار عن طريق الحيازة والتقادم وكانت مدة التقادم المطلوبة لا تقل عن عشر سنوات فليس مفيداً أن نثبت أنه تم وضع اليد مدة تسع سنوات، وإذا كانت الدعوى تتعلق بدين معين فلا فائدة من إثبات وفاء دين آخر، وفي جميع الأحوال فإن تقدير علاقة محل الإثبات بالحق أو بالدعوى يعود للقاضي لأنها مسألة موضوعية تدخل في سلطته.

د- أن تكون الواقعة منتجة في الدعوى:

تكون الواقعة منتجة في الدعوى إذا كان إثباتها يؤدي إلى تكوين قناعة القاضي بثبوت الحق المدعى به وتؤدي إلى إصدار القاضي حكمه في موضوع النزاع، وليس بالضرورة أن كل علاقة مرتبطة بالحق تكون منتجة في الدعوى وتؤدي إلى ثبوته، ولكن القاضي بمقتضى سلطته التقديرية يستطيع أن يوافق ابتداء على إثبات واقعة معينة لارتباطها بالحق المدعى به، ولكن عندما يجد أن ذلك غير منتج فيها يقرر عدم السير في الإثبات إلى النهاية، ولكن قد يجد أن يضمها إلى أدلة أخرى تكون قناعته من خلال عدها قرينة.

هـ- أن تكون الواقعة مما يجوز إثباته:

يمكن أن تكون الواقعة منتجة في الدعوى، ولكنها تدخل في دائرة المحظورات الشرعية أو القانونية لتعلقها بالنظام العام أو الآداب العامة. فلا يجوز إثبات واقعة القمار لإثبات وجود الدين، ولا يصح إثبات العلاقة غير المشروعة لإثبات النسب، ولا يجوز أن تتعلق الواقعة بأسرار مهنية يحظر القانون إفشاءها، ولا يجوز توجيه اليمين إذا تبين أن الغاية من توجيهها إحراج الموجهة إليه كونه يتمتع بمركز اجتماعي أو ديني معين، وللقاضي سلطة تقدير كل هذه المسائل، وله من أجل ذلك ألا يجيز الإثبات في مثل هذه الحالات.

سابعاً:عبء الإثبات

لم يتضمن قانون البينات السوري تعريفاً محدداً لعبء الإثبات، أو تحديد الشخص الذي يقع  عليه عبء الإثبات، ويقضي المبدأ العام في الأحكام أن: «البيِّنة على من ادعى» أو «البيِّنة على من ادعى لا على من أنكر»، ويعدُّ مدعياً وفقاً للمعنى اللفظي والقانوني الشخص الذي يقيم أو يرفع الدعوى ابتداء للمطالبة بحق أو بحمايته أو حماية أي مركزٍ قانوني آخر، حيث يكون على هذا الشخص أن يقيم الدليل على ثبوت مصدر الحق أو المركز الذي يدعيه، لأنه يكفي  المدعى عليه إذا لم يكن يريد أن يقر بالحق أو بالواقعة المسندة إليه أن ينكر الدعوى، وقد يعفى المدعي أصلاً من الإثبات إذا وجدت قرينة قانونية لمصلحته تجعل الحق مرجحاً لجانبه سواء كانت القرينة بسيطة تقبل إثبات العكس أم قرينة قطعية لا تقبل إثبات العكس، وأن قاعدة البينة على المدعي ليست من النظام العام وبالتالي يجوز التنازل عنها، ويجوز الاتفاق على ما يخالفها، وتقوم قاعدة إلى جانب هذه القاعدة هي أنه على من يدعي خلاف الظاهر أو الأصل أن يقيم الدليل على النفي.

ثامناً: إجراءات الإثبات

يقصد بإجراءات الإثبات تلك الآليات والقرارات والأحكام التي يصدرها القاضي في توجيه دفة الإثبات، بحيث تؤدي إلى النتيجة المطلوبة،  وهي الوصول إلى الحقيقة القضائية من خلال إدارة طريق الإثبات الذي اختاره الخصوم،  فالقرارات المتعلقة بإجراءات الإثبات لا تفصل في موضوع النزاع المعروض في الخصومة، بل تهدف إلى تنظيم إجراءات التقاضي وتوجيه الدعوى بحيث تؤدي إلى حسم النزاع؛ لذلك فهي ترتبط بحسن سير الخصومة.

1- الحكم بإجراء الإثبات وتنفيذه:

يعد الأمر بإجراء الإثبات في الدعوى  أحد الأحكام الإجرائية المؤقتة التي يصدرها القاضي في أثناء السير في الدعوى من دون أن تؤدي إلى رفع يده عنها، ولا يجوز الطعن فيها على وجه الاستقلال بمعزل عن الحكم الفاصل في الموضوع؛  لذلك فهي من الأحكام التي لا تحتاج إلى تسبيب أو تعليل وفق أصول الإثبات في قانون البينات السوري، في حين أوجب  الاجتهاد القضائي تعليل حكم صادر في غرفة المذاكرة بمادة مستعجلة بإجراء معاينة أو خبرة فنية في حالة العجلة الزائدة في غياب الخصم تحت طائلة البطلان، وفرقت تشريعات دول أخرى بين الأمر بإجراء الإثبات الذي لا يتضمن قضاء قطعياً، وبين تلك التي تتضمن حكماً قطعياً، أو إجراء معاينة لإثبات حالة أو سماع شاهد، فأعفت الأولى من التسبيب وأخضعت الثانية له.

2- تبليغ الحكم بإجراء الإثبات:

يقضي المبدأ في القانون السوري أن من يبلغ استدعاء الدعوى أصولاً، أو من يبلغ حضور المحاكمة ولم يفعل،  أو حضر بعض الجلسات وتغيب عن جلسة النطق بالحكم لم يعد من حاجة إلى تبليغه الأحكام الصادرة بإجراءات الإثبات أو بمواعيد إجرائها، إذ يتم كل ذلك بغياب الخصم وكأنه حاضر.

3- تنفيذ الحكم الصادر  بإجراء الإثبات:

يخضع تنفيذ الحكم الصادر بإجراء من إجراءات الإثبات لقواعد أصولية أو آليات يتعين على المحاكم التزامها، وإن عدم التقيد بتلك الآليات أو الأصول قد يترتب عليه البطلان، إذ يتوجب على المحكمة عند إصدار حكم بإجراء من إجراءات الإثبات أن تعين الجلسة التي سيتم فيها مباشرة الإجراء سواء كان هذا الإجراء يتعلق بتحقيق خطوط، أم سماع شهادة شهود، أم إجراء معاينة أو خبرة فنية، وعلى المحكمة حين إصدار قرارات إعدادية التأكد من تنفيذ تلك القرارات، ولا يمكن تجاهلها من دون إصدار قرار بالرجوع عنها.

 

مراجع للاستزادة:

 

- أحمد نشأت، رسالة الإثبات، ج2 (دار الفكر العربي، القاهرة 1972). 

- إدوار عيد، موسوعة أصول المحاكمات والإثبات والتنفيذ - الأجزاء 13 و14 و15 و16 (بيروت 1991).

- إدوار عيد، قواعد الإثبات في المواد المدنية والتجارية، ج2 (مطبعة ستاركو، بيروت 1962).

- حسن توفيق فرج، قواعد الإثبات في المواد المدنية والتجارية (مؤسسة الثقافة الجامعية، الإسكندرية 1982).

- رمضان أبو السعود، أصول الإثبات في المواد المدنية (النظرية العامة في الإثبات) (الدار الجامعة، بيروت 1985).

- سليمان مرقس، أصول الإثبات في المواد المدنية في القانون المصري مقارناً بتقنينات سائر الدول العربية، الجزء الأول، الأدلة المطلقة (عالم الكتاب، القاهرة 1981).

- سليمان مرقس،  أصول الإثبات وإجراءاته في المواد المدنية، ط4 (دار الجيل، القاهرة 1986).

- سمير عبد السيد تناغو، النظرية العامة في الإثبات (دار المطبوعات الجامعة، الإسكندرية 1997).

- عبد الرزاق السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني، الجزء الثاني، المجلد الأول، الإثبات (دار النهضة العربية، القاهرة 1982).

- محمد عبد اللطيف، قانون الإثبات في المواد المدنية والتجارية ج2 (دار النشر للجامعات المصرية، القاهرة 1972).

- محمد يوسف المصاروة، الإثبات بالقرائن في المواد المدنية والتجارية (مكتبة دار الثقافة، عمّان 1996).

 


التصنيف : القانون الخاص
النوع : القانون الخاص
المجلد: المجلد الثاني: بطاقة الائتمان ــ الجرائم الواقعة على السلطة العامة
رقم الصفحة ضمن المجلد : 21
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 1044
الكل : 58480799
اليوم : 53313