logo

logo

logo

logo

logo

السلطة (مقدمة)

سلطه (مقدمه)

authority (introduction) - autorité (introduction)

 السلطة

السلطة

حسن البحري

تعريف السلطة

خصائص السلطة

السلطة والسيادة

 دور السلطة في نشأة الدولة

السلطة السياسية

 

يشعرُ كل شخص بوطأة السُّلطة Autorité في مناحي الحياة المختلفة، خاصةً وقد تزايدت واتسعت مجالات تدخّل الدولة، حتى أنَّ بعض علماء السياسة المعاصرين يدرسون العصر الحديث على أنه «عصر السلطة» The Age of Power.

وتلازمُ السلطة حياةَ كلّ جماعةٍ سياسية، ذلك أنَّ الانتماء إلى أيّ مجتمعٍ ينطوي على معنى الخضوع لسلطته، أي لتلك القوة التي ترسم لأعضاء المجتمع إطاراً محدِّداً لسلوكهم ونشاطهم يخدم الأهداف الاجتماعية المقرَّرة، فيلتزم الأفرادُ احترامَ هذا الإطار بغية الحفاظ على الرابطة الاجتماعية ودرءاً لتفكُّكها وانحلالها.

وهكذا فالمجتمع السياسي لا يُتصور بغير سلطة حاكمة تُنظّمه وتضع القواعد التي تحكُمه؛ وإبرازاً لأهمية وجود قوة تنفرد بالسلطة في الجماعة، يقول الكاتب الانجليزي تشيسترتون Chesterton: «لو افترضنا مجتمعاً يكون جميع أعضائه قادةً أبطالاً على شاكلة هانيبال أو نابليون، فإنه من الخير لمثل هذا المجتمع، إذا ما هوجم على غرّة، ألا يشترك الجميع في قيادته، في آن واحد».

ولما كان النظام السياسي يفترض حتماً وجود سلطة تتولى إدارة الجماعة وتسيير شؤونها، فقد نشأت داخل كل جماعة إنسانية تفرقة بين طائفتين من الأشخاص: الأولى هي صاحبة الإرادة الأقوى التي تحكم وتأمر، والطائفة الثانية هي المحكومة الملزَمة بالطاعة، أي إن الجماعة الإنسانية تفترض دائماً وجود طائفة الرؤساء وطائفة المرؤوسين، أو بعبارة أخرى طائفة الحُكَّام وطائفة المحكومين؛ إذ لا يُتصور أن يكون جميع الأفراد حكَّاماً في الوقت نفسه.

وهذه التفرقة بين الحكام والمحكومين قائمة داخل الأسرة والقبيلة والجمعية والنقابة ومن باب أولى يقوم عليها كل تنظيم سياسي.

أولاً ـ تعريف السلطة:

1ـ المدلول اللغوي: ورد الحديث في معاجم اللغة العربية عن معنى كلمة «السُّلْطَة» في مادة «سَلطَ»، فيقال في اللغة: سَلَّطَ يُسَلِّطُ تَسْلِيْطَاً وسَلاطَةً. و(السَّلاطَةُ): القَهْرُ، وقِيل: هو التَّمَكُّنُ من القَهْرِ، والاسم سُلْطَة بالضَّمِّ. و(السُّلْطَةُ) هي التَّسَلُّطُ والسَّيْطَرَة والتَّحَكُّمُ، فيقال: (سَلَّطَهُ): أي أَطلَقَ له السلطانَ والقُدرة. و(سَلَّطَهُ عليه): أي مَكَّنَهُ منه وحَكَّمَه فيه. و(تَسَلَّطَ عليه): تَحَكَّمَ وتَمَكَّنَ وسيْطَرَ، ومنه: تسلَّطَ الأميرُ على البلاد: أي حَكَمَها وسيطَر عليها، وتَسَلَّطَ القويُّ على الضعفاء: تغلَّبَ عليهم وقَهَرَهم. و(التَّسْليطُ): التَّغْليبُ وإِطلاقُ القَهْرِ والقُدْرَةِ، يُقَالُ: سَلَّطَه الله فَتَسَلَّطَ عَلَيْهِم، أَي جَعَلَ له عَلَيْهِم قُوَّةً وقَهْراً، وفي التَّنزيلِ العَزيز: }وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ{ (النساء 90). و(السُّلْطَانُ من كلِّ شيءٍ): شِدَّتُه وحِدَّتُه وسَطْوَتُه، ومِنْهُ اشْتِقاقُ السُّلْطان. و(السُّلْطَانُ): الوالي ذو السَّلاطة، والنّونُ في السلطانِ زائدةً، وأصله من التَّسليط. و(السُّلْطَانُ والسُّلُطَانُ): قُدْرةُ المَلِكِ وقُدرةُ مَن جُعِلَ ذلك له وإِن لم يكن مَلِكاً، كقولك قد جعلت له سُلطاناً على أَخذ حقِّي من فلان، والسُّلْطَانُ أيضاً: القُوَّةُ والقَهْر، أو الحُجَّةُ والبُرهان.

وبناءً على ما تقدم، فإنَّ المدلول اللغوي لمصطلح «السُّلْطَةُ» يتمثل في المعاني الآتية: القُوَّة والقَهْر والغَلَبَة، والقُدْرَة والمُلْك والسُّلْطَان، والتَّسَلُّطُ والتَّغَلُّبُ، والتَّمَكُّن والتَّحَكُّم والسَّيْطَرَة.

2ـ المدلول الاصطلاحي: لما كان مفهوم السلطة يعدُّ من أكثر المفاهيم السوسيولوجية استخداماً في إطار علم الاجتماع بصفة عامة، وعلم الاجتماع السياسي بصفة خاصة، فإنَّ الدارسين والعلماء والمتخصصين، على الرغم من كثرة الاجتهادات في هذا المجال، لم يتفقوا على تحديد هذا المفهوم اصطلاحاً، بل إنَّ الكثير من الآراء والاجتهادات تتباين أحياناً، وقد تتضارب أحياناً أخرى.

وعلى أي حال يمكن القول إن «السُّلْطَة» في معناها الاصطلاحي تعني «قدرة شخص على فرض إرادته على الآخرين أو التأثير فيهم»، أو هي، على حد تعبير الفقيه الفرنسي جورج بيردو: «قدرة شخص على أن يحصل من آخر على سلوك ما كان ليأتيه هذا الأخير بشكل عفوي (من تلقاء نفسه)»، وهذا ما عبر عنه أيضاً الأمريكي روبرت دال بقوله: «إن قدرة شخص (أ) على شخص (ب)، هي إمكانية (أ) على حمل (ب) على القيام بعمل لم يكن ينوي القيام به لولا تدخل (أ)».

ويعرَّف قاموس أكسفورد الإنكليزي السُّلْطَة Authority بأنها تعني: «الحق أو القدرة على إعطاء الأوامر، وصُنْعِ (أو اتخاذ) القرارات، وفرض الطاعة».

ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى بعض المحاولات الجادة التي يقدمها بعض المفكرين العرب، ولاسيما هذه التي حمل لواءها جميل صليبا، إذ حاول في معجمه الفلسفي أن يقدِّم تعريفاً للسلطة على النحو الآتي: «السلطة Authority (Autorité) في اللغة القُدرة والقوَّة على الشيء، والسلطان الذي يكون للإنسان على غيره، ولها عدة معانٍ:

1ـ السلطة النفسيّة: ويطلق عليها اسم السلطان الشخصي، أي قدرة الإنسان على فرض إرادته على الآخرين، لقوّة شخصيته، وثَبات جنانه، وحُسن إشارته، وسِحر بيانه.

2ـ السلطة الشرعيّة: وهي السلطة المُعترَف بها في القانون، كسلطة الحاكِم، والوالِد، والقائد. وهي مختلفة عن القوة؛ لأن صاحب السلطة الشرعية يوحي بالاحترام والثقة، على حين أن صاحب القوة يوحي بالخوف والحذر. لذلك قيل إن سلطة الدولة في النظام الديمقراطي مستمدة من إرادة الشعب، لأن الغرض منها حفظ حقوق الناس، وصيانة مصالحهم لا تسخيرهم لإرادة مستبدٍ ظالم. ومَن فَرَضَ سلطانَه على الناس بالقوّة، ولم يَقْلِب قوَّتَه إلى حقّ، لم يضمن بقاءَ سلطانه.

3ـ السلطة الدينيّة: وهي مستمَدّة من الوحي الذي أنزله الله على أنبيائه، ومن سنن الرسل، وقرارات المجامع الدينيّة المقدّسة، واجتهادات الأئمة.

4ـ سلطة الأجهزة الاجتماعيّة، التي تمارس السلطات السياسيّة، والسلطات التربويّة، والسلطات الدينية، والسلطات القضائيّة، وغيرها».

يعرِّف أحمد زكي بدوي السلطة Authority بأنها «القوة الطبيعية أو الحق الشرعي في التصرف وإصدار الأوامر في مجتمع معين، ويرتبط هذا الشكل من القوة بمركز اجتماعي يقبله أعضاء المجتمع بوصفه شرعياً، ومن ثم يخضعون لتوجيهاته وأوامره وقراراته». إلا أنه يشير إلى أن التركيز المفرط للسلطة، أو عدم وجود رقابة شديدة على ممارستها، يؤدي إلى إساءة استعمالها، ويطلق على من يتصف بهذا الاتجاه أنه مستبد، أي إنه لا يستمد سلطته من إرادة الشعب، بل يفرضها على الناس بالقوة.

ومن المحاولات الجادة أيضاً، يمكن الإشارة إلى الموسوعة العربية العالمية، التي اشتملت على مفهوم أكثر جدة ومعاصرة للسلطة. وقد جاء في هذه الموسوعة أن: «السُّلطة في العلوم الاجتماعية، تعني قدرة أشخاصٍ أو مجموعاتٍ على فرض إرادتهم على الآخرين. إذ يستطيع الأشخاص ذوو النفوذ فرض قراراتهم بوساطة إنزال عقوبات أو التَّهديد بها على أولئك الذين لا يطيعون أوامرهم أو طلباتهم. وتكاد السُّلطة تكون موجودة في كلِّ العلاقات الإنسانية. إذ يتمتع المُعلِّمون بسلطة على الطُّلاب، وأربابُ العمل على المستخدمين، والآباء على الأبناء، والأقوياء على الضُّعفاء، والدُّول القوية عسكرياً على الدول الضعيفة».

كما جاء في المعجم الفلسفي ـ الصادر عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة ـ أن كلمة «سلطة» Autorité تطلق على: «كلّ ما يحدِّد سلوكاً أو رأياً لاعتباراتٍ خارجة عن القيمة الذاتية للأمر أو القضية المعروضة، وتطلق أيضاً على الشخص الحجّة، وهو كلّ من يصبح مصدراً يُعوَّل عليه في رأيٍ وعلمٍ معين مثل حجَّة الإسلام الغزالي. ومن أقدم صورها في تاريخ البشرية السلطة الأبوية التي ضاقت شيئاً فشيئاً وحلّت محلّها سلطة شيخ القبيلة، ثم سلطة حاكم المدينة، وخضع الفرد اليوم بوجه خاص لسلطة الدولة».

ويرى أندريه لالاند Andre Leland صاحب الموسوعة الفلسفية الشهيرة أن كلمة Autorité تعني: القدرة الشرعية أو القانونية على فرض الطاعة، ويشير في موسوعته إلى أن هذه الكلمة تعني الآتي:

أ ـ في علم النفس: تفوّق أو صعود شخصيَّان، بموجبهما يُصَدَّق المرء، يُطاع، يُحترم، فيَفرِضُ حكمَه على إرادة الآخر ومشاعره.

ب ـ في علم الاجتماع: حقّ (أو على الأقل قدرة قائمة) على التقرير أو الإمرة.

ج ـ في الموضوع الديني بنحو خاص، المرجِع هو الوحي المنزَّل، المُصوغ في الكتب بأمرٍ من الله، والمنقول بالسنَّة والأحاديث عن الرُّسل.

د ـ السلطة أو السلطات: الأشخاص الذين يمارسون السلطان بالمعنى المذكور في الفقرة «ب».

بهذا الصدد، لا بد من الإشارة إلى أن الفيلسوف الفرنسي جاك ماريتان Jaques Maritain يميِّز عند معالجته لقضية السلطة في إطار الديمقراطية بين «السلطة» Authority و«القوّة» Power، ويرى ـ بحقّ ـ أنهما أمران مختلفان: فالقوّة هي التي بواسطتها تستطيع أن تُجبر الآخرين على إطاعتك،و السلطة هي الحق في أن توجِّه الآخرين أو تأمرهم بالاستماع إليك وطاعتك. والسلطة تتطلب قوّة، أما القوّة بلا سلطة فظلم واستبداد، وهكذا فإن السلطة تعني الحق. وما دامت السلطة حقاً، فيجب أن تُطاع بوازعٍ من ضمير، أي على سنة الناس والأحرار، ومن أجل المصلحة العامة.

ثانياً ـ خصائص السلطة:

إن قيام الدولة يفترض وجود سلطة عليا يخضع لها جميع الأفراد المكونين للجماعة، سلطة آمرة تملك وسائل القهر والإكراه المادي اللازمة لفرض سيطرتها وتأمين تنفيذ أوامرها. وتتميز هذه السلطة بالسمات والخصائص الآتية:

1ـ سلطة أصلية Originaire غير مشتقة ولا مفوَّضة من أي سلطة أخرى، على عكس السلطات التأديبية أو المسلكية للنقابات والجمعيات، فهي كلها مشتقة من سلطة الدولة.

2ـ سلطة عليا، فليس فوقها سلطة، بل ليس مثلها سلطة داخل الدولة، وكل من في الدولة من أفراد وجماعات خاضع لها تابع لأوامرها، ولهذا قد يسمى المواطنون تبعة الدولة ورعاياها لأنهم ملزمون بتنفيذ أوامرها.

3ـ سلطة متفردة أو مانعة، فلا يكفي أن تكون السلطة السياسية هي العليا، بل يجب إضافة إلى ذلك أن تملك وحدها، من الناحية القانونية، امتياز إصدار الأوامر وفرض الطاعة داخل إقليم الدولة، ويمتنع على أية سلطة أخرى إصدار القواعد القانونية ومباشرة الإكراه المؤيِّد لها. ويترتَّب على ذلك:

1)ـ تقوم الدولة بفضل هذه السلطة، بدور حاسم في إحداث القواعد القانونية الإلزامية، فهي وحدها التي تسن القوانين وتوجب العمل بها، وليس غيرها قادراً على فرض القواعد الصادرة عنه إلا بمقدار ما تجيزه له.

2)ـ وتأييداً لسلطتها هذه، تستأثر الدولة بأدوات القهر المادي المتمثلة في القوات المسلحة وقوات الشرطة، وأجهزة ومؤسسات العقاب المختلفة، وتحتكرها وتملك تحريكها لتأييد نفاذ أوامرها وقراراتها. وهذا الاحتكار يقتضي أن الجماعات الأخرى الموجودة على إقليم الدولة، كالأحزاب السياسية والجماعات الضاغطة (جماعات المصالح) وغيرها، لا يجوز أن تكون لها أي تشكيلات عسكرية أو شبه عسكرية، ويومَ تسمحُ الدولةُ لمثل هذه الجماعات بإنشاء وحداتٍ عسكرية، فإنها بذلك تكون قد سمحت بالصراع الفوضوي، الذي قد يؤدي إلى انهيار الدولة وزوالها.

والتاريخ مليء بالأمثلة، فسماح جمهورية ألمانيا للحزب النازي بإنشاء منظمات عسكرية أدى إلى استيلاء هذا الحزب على السلطة، وسماح حكومة لبنان للأحزاب السياسية بالاحتفاظ بقوات عسكرية بما يسمى «الميليشيات» أدى إلى الفوضى وفقدان السلام المدني، ونشوب حرب أهلية (منذ عام 1972) كادت تودي بلبنان ذاتها.

4ـ سلطة دائمة ومستمرة، فما دامت السلطة تتصف بأنها سلطة أصلية، فهي تقوم بذاتها، ومن ثم لا توجد سلطة أخرى تنهي حياتها أو تقضي عليها. من هنا تتميز السلطة بأنها دائمة الوجود. وتتمثل دائمية السلطة في بقائها واستمرارها على الرغم من زوال الحكام الذين يمارسونها، كما أنها تبقى بعد انهيار نظامها الدستوري الذي تعمل في إطاره، ذلك أن بقاء السلطة، هو مظهر ونتيجة لتمتع هذه السلطة بالسيادة.

5ـ سلطة مؤسَّساتية: أي إنها تقوم على الفصل بين الحاكم بصفته سلطة عامة، أو هيئة تملك شخصية قانونية اعتبارية، والحاكم بصفته فرداً عادياً. إذ إنّ سلطة الدولة بالمفهوم الحديث أصبحت وظيفة وواجباً يقوم به الحاكم وليس امتيازاً شخصياً له يكتسبه بفضل قدراته ومواهبه.

ثالثاً ـ السلطة والسيادة:

إذا كان وجود «السلطة» يكوِّن ركناً من الأركان الأساسية التي تقوم عليها الدولة، فالدولة لا تختلف في ذلك عن الكيانات الاجتماعية الأخرى، لأنها تفترض جميعاً قيام »سلطة« تُنظِّمها.

ولكن السلطة التي تتمتع بها الدولة لها طابع خاص وصفات ذاتية تميّزها من غيرها من السلطات العامة والخاصة على السواء، فالسلطة ـ كما عرَّفتها موسوعة السياسة ـ هي «المرجع الأعلى المُسَلَّم له بالنفوذ، أو الهيئة الاجتماعية القادرة على فرض إرادتها على الإرادات الأخرى. بحيث تعترف الهيئات الأخرى لها بالقيادة والفصل، وبقدرتها وبحقها في المحاكمة وإنزال العقوبات، وبكل ما يضفي عليها الشَّرعيَّة ويوجِب الاحترام لاعتباراتها والالتزام بقراراتها. وتمثّل الدولة السلطة التي لا تعلوها سلطة في الكيان السياسي. ويتجسد ذلك من خلال امتلاك الدولة لسمة السيادة».

وهكذا، نظراً لما تتمتع به السلطة السياسية في الدولة من صفات ذاتية خاصة، فقد أطلق عليها الفقه الفرنسي التقليدي اسم «السيادة» Le Souveraineté. وفي هذا ـ كما يرى بعضهم ـ خلطٌ بين السلطة السياسية ذاتها وأوصافها؛ فالسيادة ليست في الواقع إلا مجموع الصفات التي تتصف بها السلطة السياسية في الدولة؛ لأن السلطة ركن من أركان الجماعة، أياً كانت هذه الجماعة، تستوي في ذلك الدولة والأشخاص العامة الأخرى والجماعات الخاصة. أما السيادة فهي وصفٌ أو خاصيّةٌ تنفرد بها السلطة السياسية Le pouvoir politique في الدولة، وعلى ذلك يلزم التمييز بين سلطة الدولة وسيادتها.

وجدير بالذكر أن فكرة السيادة هي فكرة قديمة ظهرت أول مرة في عهد الرومان، وقد عبَّروا عنها باصطلاح Imperium الذي كان يطلق على سلطة بعض الحكام في عهد الامبراطورية الرومانية، غير أنَّ الفضل في إبرازها في الفكر السياسي الحديث، ولاسيما الفكر السياسي الغربي، يرجع إلى الفكر الفرنسي، وخاصة إلى الفقيه الفرنسي جان بودان Jean Bodin الذي طرح نظرية السيادة في ثوبها الجديد في مؤلفه الشهير «ستة كتب عن الجمهورية» Les Six livres de la République الذي أصدره في باريس عام 1576م.

(عاصر بودان جانباً من الصراع الديني الذي ساد وطنه بسبب الانقلاب الذي قام به مارتن لوثر Martin Luther وجون كالفن John Calvin في النصف الأول من القرن السادس عشر. وترتَّب على ذلك صراعات وحروب داخلية في فرنسا مزَّقت أواصر الوحدة الوطنية التي كان يفضِّلها بودان ولاسيما إن كانت مصحوبة بالتسامح الديني. وفي سبيل تحقيق ذلك وضع بودان نظريته في السيادة، التي يجب أن تتركَّز في يد الملك دون سواه).

وعرض بودان أفكاره الرئيسية حول «نظرية السيادة» ـ التي أضحت فيما بعد محور القانون العام والعلوم السياسية ـ في الفصلين الثامن والعاشر من الكتاب الأول من مؤلفه المذكور.

وقد عرَّف بودان السيادة بأنها: «السلطة العليا المطلقة الأبدية في الجمهورية (الكومنولث)» وتفصيل ذلك في نظره، أن الشعب في الدولة يتجرد من كل سلطة لمصلحة الأمير بوصفه صاحب السيادة، ومردّ ذلك إلى أن الأمير هو «ظِلُّ الله» The image of God على الأرض، فهو في سيطرته على الجسم السياسي يشبه الله في هيمنته على الكون. ومن ثمّ، فكلاهما يحوز سلطة مطلقة لا تحدّها أي مسؤولية تجاه أحد على الأرض.

(يقول بودان: وكما أنَّ الله، وهو الربُّ العظيم، لا يخلق إلهاً آخر يكون ندَّاً له، لأنه متفرد بالملكوت والجبروت، وطالما أنه لا يمكن لاثنين من الآلهة يشتركان بنفس تلك الصفات أن يتعايشا معاً [ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: }لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا{ (الأنبياء22)، فإنه من الطبيعي أن الأمير الذي قلنا بأنه ظل الله، لا يمكنه أن يجعل واحداً من أفراد رعيته مساوياً له، وإلا يكون قد حكم على نفسه بالهلاك أو الانتحار).

وترتيباً على هذا النظر، اتجه بودان صوب القول إن الشعب حين يتجرَّد من كل سلطة لمصلحة الأمير (الذي أصبح مقرَّاً ومستودعاً لكل سلطة All power is conveyed to him and vested in him)، فإنه يكون قد تخلى عن كل حق في أن يحكم نفسه. وبذلك نشأ للأمير «السيد»» حق طبيعي ومطلق في حكم أتباعه، لا يجوز التصرف فيه أو النزول عنه. ولذا قيل إن ملك فرنسا لا ينزل عن العرش. ويستتبع ذلك أن كل قيد يرد على سلطة الملك لا يُتصور أن يصدر إلا منه في صورة تبرُّعٍ كريمٍ لأتباعه.

ورمت هذه النظرية إلى خدمة أغراضٍ ثلاثة، أولها تأكيد استقلال المَلَكية في مواجهة سلطة البابا، وثانيها دعم هذا الاستقلال في مواجهة الامبراطورية الرومانية الجرمانية المقدَّسة، وثالثها تعزيز مركز الملك إزاء سلطان أمراء الإقطاع. فكانت وسيلة لتوثيق الوحدة الوطنية في إطار الحكم الملكي.

وعلى هذا الأساس، فقد تميزت فكرة السيادة، في نشأتها الأولى، بخاصيَّتَيْن اثنتين: الأولى أنها ارتبطت بشخص الملك، والثانية أنها اصطبغت بطابعٍ سلبي تحَصَّلَ في معنى انتفاء الخضوع لأي سلطة أخرى. غير أنَّه سرعان ما تحوَّل مفهوم هاتين الخاصيتين، إذ أضحى غير سائغٍ ربط هذه السلطة العليا والمطلقة بفردٍ بذاته على سبيل الامتياز الشخصي له، لِتَعَارُضِ ذلك وضعف القدرات البشرية.

كما أن مفهوم السيادة، اكتسب مضموناً إيجابياً، نأى بها عن مجرد كونها رمزاً لاستقلال الدولة، بل أضحت عنصراً أساسياً في تكوين الدولة ذاتها، ومظهراً من مظاهر سلطانها، فاتسع مضمون السيادة، وشمل جميع السلطات التي تمارسها الدولة، فاتسمت بطابع إيجابي مؤدَّاه مجموع القدرات التي تملكها الدولة.

وتأسيساً على هذا النظر؛ عدَّد بودان تحت عنوان «الخصائص المميزة للسيادة» The True Attributes of Sovereignty، السلطات المختلفة التي تمارسها السلطة ذات السيادة Sovereign Power (أي الأمير باعتباره هو صاحب السيادة The Sovereign Prince)، من سن وإلغاء التشريعات، وإعلان الحرب، وإقرار السلام، وتعيين وإقالة كبار موظفي الدولة، وإقامة العدل بين المواطنين من خلال النظر فيما يعرض عليه من شكاوى واعتراضات والتماسات تتعلق بالأحكام والعقوبات الصادرة عن جميع المحاكم، ونقض الأحكام الصادرة عن محاكمه الخاصة، وإصدار العفو الخاص… إلخ.

وترتَّب على هذا التكييف الجديد، أن جنى رئيس الدولة ثمرة المضمون الإيجابي للسيادة. ويبدو ـ كما أوضح جورج بيردو في مؤلَّفه مطوَّل العلوم السياسية ـ أن هذَيْن المظهَرَيْن للسيادة، المجرَّدة للدولة والملموسة للأمير، شكَّلا الأساس الذي قامت عليه نظرية المَلَكيَّة المطلقة، ثم على أساس هذا النظر ذاته، استمدت الثورة الفرنسية، بعد ذلك، فكرة «سيادة الأمة» La souveraineté nationale.

وبهذا الصدد لا بد من الإشارة إلى أن الفيلسوف الفرنسي جاك ماريتان، بعد أن تناول بالشرح والتحليل الدقيق مفهوم نظرية السيادة، كما عبَّر عنها كل من جان بودان وتوماس هوبز وجان جاك روسو ـ وذلك في الفصل الثاني من كتابه القيِّم «الفرد والدولة»ـ خلص إلى نتيجة جوهرية مؤداها أنَّ: «مفهوم السيادة لا يختلف عن مفهوم مذهب الحكم المطلق Absolutisme في شيء. ومثل هذه الخاصة (أي السيادة) لا تعود إلى الدولة، فإذا ما نسبناها إلى الدولة أفسدناها. إنَّ الدول ذات السيادة، حسب منطق فكرة «السيادة» إنما تجنح إلى الدكتاتورية. إنَّ مفهومَيْ «السيادة» و«مذهب الحكم المطلق» قد طُرِقا على سندان واحد، ومن ثمَّ فإنه يجب إسقاطهما معاً».

رابعاً ـ دور السلطة في نشأة الدولة:

لقيام الدولة يلزم وجود سلطة عليا يخضع لها جميع أفراد الجماعة. والسلطة السياسية هي أهم العناصر في تكوين الدولة وحجر الزاوية في كل تنظيم سياسي، حتى إن بعضهم يُعَرِّف الدولة بالسلطة، ويقول إنها «تنظيم لسلطة القهر».

ويشير رجال الفقه عموماً إلى أن المجتمعات الإنسانية البدائية عرفت بذور ظاهرة السلطة حتى قبل أن تنشأ الدول بالمعنى المتعارف عليه حالياً؛ فالسلطة كانت أسبق في الظهور من الدولة، وكانت تمهيداً لها.

خامساً ـ السلطة السياسية:

من الحقائق المسلَّم بها أنَّ النظام السياسي يفترض وجود جماعةٍ سياسيةٍ ينظِّمها ويبيِّن القواعد التي تحكمها، والجماعة السياسية حقيقةٌ أوليةٌ في كل جماعةٍ إنسانية، إذ لا توجد جماعةٌ بلا تنظيمٍ سياسي.

ومنذ الأزل قال الفيلسوف اليوناني القديم «أرسطو» عبارةً اعتبرت من مسلَّمات المعرفة السياسية، وهي أن: «الإنسان كائن سياسي بطبعه»، بمعنى أن الإنسان يظهر على غيره من الكائنات بأنه كائن سياسي، ومن ثم فإن الإنسان معدٌّ بطبيعته لكي يعيش في مجتمع سياسي.

وهذه الفكرة التي قدَّمها «أرسطو» راحت من بعده تُتَّخذ مقدمةٍ لكل الدراسات في مجال المعرفة السياسية على مدى العصور، باعتبارها من مسلَّمات المعرفة السياسية، من دون محاولة تمحيصها من أحدٍ تمحيصاً علمياً، إلى أن جاء علماء السياسة التجريبيون المعاصرون، وباستخدامهم للملاحظة والتجريب راحوا يحلِّلون كينونة الإنسان تحليلاً تجريبياً، فتبيَّن لهم أنه ما من إنسانٍ ـ على مستوى الإنسانية قاطبةً ـ إلا ولديه ـ بطبعه ـ درجة من الاستعداد للطاعة، وفي الوقت نفسه درجة من الرغبة في السيطرة على الآخرين. ولقد اتفق هؤلاء العلماء على تسمية هذين المتناقضين المجتمعين في الإنسان بـ«علاقة الأمر والطاعة».

وهكذا فإن المجتمع السياسي ـ بمجرد قيامه ـ ينقسم حتماً إلى حاكمين ومحكومين، وهذه الظاهرة الحتمية تسمى بظاهرة «التمايز أو الاختلاف السياسي» Différenciation Politique؛ ففي علاقة الأمر والطاعة، استدعى الطبع السياسي في الإنسان تميزاً داخل المجتمعات البشرية قاطبة وأبدياً بين آمر ومطيع، وليس من إنسان يستطيع أن يفلت في تلك المجتمعات من الانتماء إلى فئة من هاتين الفئتين: آمر أو مطيع، حاكم أو محكوم؛ فالحاكم لديه درجة من السيطرة على الآخرين أقوى من درجة الاستعداد للطاعة (وهذا استعداد فطري)، والذين يمتثلون على درجة من الاستعداد للطاعة أقوى من درجة الاستعداد للسيطرة.

وهؤلاء الذين يحكمون لكي تتحقق لهم قيادة الآخرين (أي حمل الآخرين على الامتثال لهم) لا بد أن يجمعوا في أيديهم أدوات قمع مادية يحتكرونها (أي يجردون الآخرين منها)، ومن ثم يتخذونها أداةً لحمل الآخرين (المحكومين) على الالتزام بأوامرهم ونواهيهم، إنها «ظاهرة السلطة السياسية» Phénomène de pouvoir politique والتي تعني ـ من حيث هي حدث اجتماعيـ الاحتكار الفعلي لأدوات العنف والقهر المادي من جانب قلة وحمل الآخرين على الالتزام بأوامرهم لتحقيق المجتمع الهادئ في الداخل ولتحقيق الأمن في الخارج.

من هنا فالسلطة السياسية كظاهرة اجتماعية لها جانبان: جانب مادي وهو الاحتكار الفعلي لأدوات القهر والإكراه في المجتمع، وجانب قيمي هو تمثل ضميري لهذا الاحتكار على أنه أداة لتحقيق الانسجام الاجتماعي والمجتمع الهادئ، وفي هذا تنويه بعنصر الشرعيّة في السلطة.

وبعبارةٍ أخرى تولَد السلطة السياسية مع مولِد الجماعة؛ لأنه بغير السلطة لن يتحقق النظام ولن تكون الحرية، فالسلطة السياسية تعدّ ظاهرةً اجتماعيةً في المقام الأول؛ لأنه لا يُتصوَّر وجودها خارج الجماعة، كما أنه لا قيام للجماعة بلا سلطة.

ويثير موضوع السلطة السياسية تساؤلات عدة بخصوص: ماهية هذه السلطة، ومبررات وجودها، وأصل نشأتها، والأشكال التي اتخذتها في مراحل تطورها، وكيفية اكتساب هذه السلطة شرعيتها لضمان بقائها والمحافظة على استمراريتها؟

1ـ ماهية السلطة السياسية:

إن الحديث عن ماهية السلطة السياسية يتطلب تعريف السلطة السياسية، والفرق بين هذه السلطة والسلطات الأخرى القائمة في التنظيمات الاجتماعية داخل الدولة.

أ ـ تعريف السلطة السياسية:

لم يتفق الفقهاء والكتاب السياسيون على تعريف واحد للسلطة السياسية، وما ذلك إلا نتيجةً لاختلاف مشاربهم وتباين اتجاهاتهم ورغباتهم وتأثرهم بالسلطة السياسية التي يعيشون في ظلها. ولهذا فقد تعددت وكثرت تعريفات الكتاب للسلطة السياسية، ويمكن إجمالها في ثلاثة اتجاهات فكرية معاصرة، وفق الآتي:

الاتجاه الأول ـ السلطة هي الأمر في ذاته ولذاته:

ومن القائلين بهذا الرأي العلامة الكبير بيرتراند دي جوفينيل، الذي يرى أن جوهر السلطة هو الأمر، أي القوة البحتة، فلولا هذه القوة لا تكون سلطة، وأن هذه السلطة قامت بالقوة وفرضت نفسها على الغير، وأنها بطبيعتها سلطة أنانية واستغلالية. ولهذا عرَّف دي جوفينيل السلطة بقوله إن: «السلطة المَحْضة هي الأمر، أمرٌ يوجد بذاته ولذاته»، بغض النظر عن كونها عادلة أم ظالمة.

ومن هنا ينكشف لنا كنه السلطة وحقيقتها الجوهرية. إن الشيء الذي لا يمكن للسلطة أن توجد بدونه، هو »الأمر«؛ فالسلطة يمكنها أن تعيش بمجرد القدرة على الأمر، الأمر لذاته وبذاته، وهو الشرط الضروري والكافي لوجود السلطة.

الاتجاه الثاني ـ السلطة هي قوة في خدمة فكرة Le pouvoir est une force au service d’une idée

من القائلين بهذا الرأي الفقيه والعلامة الفرنسي جورج بيردو، الذي يرى ـ على عكس دي جوفينيل ـ أن السلطة ليست هي الأمر في ذاته، وإنما هي كامنة في الفكرة التي توحي بالأمر، ولهذا فقد عرَّف بيردو السلطة السياسية بأنها: «قوة في خدمة فكرة، قوة نابعة من الوعي (الوجدان) الاجتماعي، ومُعَدَّة لقيادة الجماعة في سعيها وراء الصالح العام (الخير المشترك)، وهي قادرة ـ إن اقتضى الأمر ـ على أن تفرض على أعضاء الجماعة (المحكومين) الموقف الذي تريده».

وهذا التعريف يوضِّح عنصرَيْ السلطة: القوة والفكرة، ويتبين منه أن السلطة ليست قوة خارجية، موضوعة في خدمة فكرة، بقدر ما هي القوة النابعة من هذه الفكرة ذاتها. ولذلك لا يمكن الفصل بين إرادة من يمارس السلطة، والفكرة التي تولِّد القوة الدافعة لهذه الإرادة.

(يقول بيردو: يمكن للفاتح أن يعتقد أنه مدين بثروته لسيفه، وبإمكان المشرِّع أن يعتقد بأن سلطته نابعة من حِكْمته، إنه لمن الجيد أن يفكِّرا هكذا، لأن هذا يؤجِّج حماسهما ويمنعهما من التهور، ولكنهما في الحقيقة، ليسا سوى أداةٍ لفكرة تجد في كل منهما فرصةً لنمو قوتها).

الاتجاه الثالث ـ السلطة هي قوة مخصَّصة لتحقيق غاية معينة:

وهذا الاتجاه يجمع بين الرأيين السابقين ويحاول التوفيق بينهما، وقال بهذا الرأي عبد الله إبراهيم ناصف في كتابه (السلطة السياسية «ضرورتها وطبيعتها»)، حيث يعرِّف السلطة السياسية بأنها: «قوة مخصصة لإدارة جماعة بشرية يتولاها شخص أو أكثر بطريقة مشروعة أو غير مشروعة لتحقيق غايات معينة».

ويتضح من هذا التعريف أنه يقوم على ركنين أساسيين هما: ركن القوة وركن الغاية.

الركن الأول ـ القوة: القوة هي جوهر السلطة عموماً، ولا وجود لسلطة أياً كانت من دون قوة. ولا وجود لدولة من دون قوة قهر لا يمكن مقاومتها. وبتحليل قوة الدولة يتبين أنها مركبة من عدة قوى، بعضها جوهري لا توجد القوة بدونه، وبعضها الآخر خارجي، هذه القوى هي:

(1)ـ القوة المادية: تتكون القوة المادية من أدوات القهر المادي، وهي الأدوات والأجهزة التي تملكها الجماعة وتخصصها لتنفيذ أوامر الحكام ونواهيهم (ومثالها: القوة العسكرية ـ معدات وجنود ـ التي تستخدمها الدولة للدفاع عن سلامة أراضيها ضد أي اعتداء أو غزو خارجي، والقوة المدنية المتمثلة في جهاز الشرطة وقوى الأمن الداخلي التي تستخدمها الدولة لحفظ النظام العام بمدلولاته المختلفة، والأجهزة والمؤسسات العقابية المختلفة). وهذه الأدوات والأجهزة تحتكرها الدولة وحدها، من دون مشاركة من فئة أو جماعة أخرى داخل الدولة، وعن طريقها تستطيع الدولة أن تفرض سلطانها على المستويين الخارجي والداخلي.

(2)ـ القوة الذاتية: ويقصد بها تلك القوة التي تنبع من المَلَكَات والقدرات الذاتية والشخصية التي يتمتع بها الحاكم (ومثالها: قوة الشخصية، وسعة المعرفة والاطلاع، والحنكة السياسية، والاتزان… إلخ)؛ فمن المعلوم أن أدوات القهر المادي في ذاتها ليست شيئاً ذا قيمة من دون إرادة واعية تحركها وتوظفها للغرض المنشود المتمثل بحسن إدارة وتصريف شؤون الحكم، وعلى قدر ما يتمتع به رجل السلطة من ملكات وقدرات وصفات خاصة تظهر فاعلية أدوات القهر المادي في أداء مهامها.

وهكذا فإن القًّوتين ـ المادية والذاتية ـ قوتان متساندتان، كل منهما لازمة للأخرى، والاثنتان معاً تكونان جوهر ركن القوة في السلطة السياسية. غير أن هذه القوة بعنصريها المادي والذاتي لا تكفي وحدها لقيام سلطة سياسية مستقرة ودائمة. حقاً إن السلطة السياسية تستطيع أن تفرض إرادتها على الخاضعين لها مادام جوهرها الذي لا يمكن أن توجد من دونه ـ وهو القوة ـ قائماً، غير أن «القوة البحتة» La Force Brute ـ كما يطلق عليها كل من دي جوفينيل ومارسيل برلوـ إذا وجدت من دون رضاء المحكومين ستكون مزعزعة وغير مستقرة، وحتى تتهيأ لهذه القوة فرصة الدوام والاستقرار يجب أن يقوم بجوارها قوة أخرى، هذه القوة هي القوة المعنوية.

(يقول مارسيل بريلو: إن السلطة لا تنحصر فقط في القوة المادية البحتة la force brute حتى في المجتمعات البدائية، لأنه إذا كانت السلطة السياسية مؤسسة على القوة لزم أن يكون هناك شرطي وراء كل مواطن، بل شرطي وراء كل شرطي. وإلا فمن يحرس الحارس نفسه؟ «qui gardera le gardien lui-même?». ولذا يجب أن يحل محل السلطة القائمة على القهر السلطة القائمة على كل من القهر والاقتناع، أي أن بها عنصراً داخلياً وآخر خارجياً، ومن الناحية النفسية تكمن السلطة في إرادة المحكومين وثقتهم بها أكثر مما تكمن في إرادة الحاكمين. وهنا يظهر تاريخياً ما أسماه بيرتراند دي جوفينيل «سر الطاعة المدنية»).

(3)ـ القوة المعنوية: ويقصد بها تلك القوة التي تنشأ نتيجة رضاء المحكومين بالسلطة القائمة وقبولهم بها. إن القوة المعنوية ليست عنصراً ذاتياً من عناصر قوة الدولة، وإنما هي عنصر خارجي عنها من شأنها أن تضفي على قوة الدولة صفة الشرعية.

وعلى ذلك فإن الشرعية ليست من جوهر قوة الدولة أو السلطة السياسية، فالسلطة قد تكون مشروعة وقد تكون غير مشروعة، ولكنها في الحالتين سلطة. غاية ما في الأمر أن السلطة غير المشروعة تسمى «سلطة فعلية» لأنها تفرض نفسها بالقوة، وتتولى الحكم بطريق الغصب والقهر، والسلطة المشروعة تسمى «سلطة قانونية».

وهكذا فإن رضاء المحكومين بالسلطة القائمة هو الذي يضفي عليها صفة الشرعية، ويحولها من ثم من حكومة فعلية إلى حكومة قانونية، فتكتسب بذلك قوة معنوية.

الركن الثاني ـ الغاية: يُجْمع الفلاسفة منذ القدم على أن الهدف من قيام السلطة وتكوين الدولة يتمثل في «تحقيق الخير المشترك لجميع أفراد الجماعة»، أو بعبارة أخرى تحقيق «المصلحة العامة». ولهذا فإن السلطة التي تنحرف عن فكرة الجماعة أي عن تحقيق الخير المشترك تكون قد تحولت إلى سلطة فعلية غير مشروعة. ولكن لماذا يحيد الحكام عن فكرة الجماعة وتحقيق الخير المشترك؟

لخَّص أرسطو الإجابة عن هذا السؤال بقوله: «إن الناس لا يعملون شيئاً مطلقاً إلا لفائدتهم»، وهم قد تجمعوا معاً وأقاموا الدولة لتحقيق مصالحهم. غير أن قيادة هذه الجماعة وتحقيق مصالحها لا يقوم بها جميع أفراد الجماعة، وإنما يقوم بها فرد واحد ـ أو أكثر ـ هذا الفرد يقوم على تحقيق مصالح الجماعة، بما فيها مصلحته الخاصة.

وهنا يكمن التناقض الذي يفسر خروج الحكام على فكرة الجماعة وعن الخير المشترك (على حد تعبير جورج بيردو)، فالإنسان الذي قال عنه أرسطو إنه لا يعمل شيئاً مطلقاً إلا لفائدته مطلوبٌ منه الآن أن يتولى السلطة ويعمل لفائدة المحكومين! فلأي المصلحتين يعمل هذا الحاكم؟ وأي المصلحتين يقدمها الحاكم على الأخرى؟ أيقدم مصلحة الجماعة أم يقدم مصلحته الشخصية؟ إن واجبه نحو الجماعة وطباعه المجبول عليها يتعارضان. وعلى قدر نجاح الحاكم في التغاضي عن العمل لمصلحته الخاصة والانتصار لواجبه نحو الجماعة يقل التناقض. ولكن هل ينجح؟

وحاصل القول أنه لا ينبغي إغفال غاية السلطة وأهواء ورغبات الحكام، فما من عمل كبير قام به الحكام من أجل مصلحة الجماعة إلا وكان الدافع الشخصي والرغبة الذاتية للحاكم وراء هذا العمل. وهكذا، فإن غاية السلطة مركبة من عنصرين: العنصر الأول هو فكرة الجماعة عن الخير المشترك، والعنصر الثاني هو أهواء ورغبات الحكام.

وبناء على ذلك، فإن غايات الجماعة لا يمكن أن تتحقق كلها، فتحقيق فكرة الجماعة (على حد تعبير جورج بيردو) يكون دائماً منقوصاً؛ لأن السلطة لا تحصر نشاطها في تحقيق هذه الغايات فقط كما سبق القول، وإلا لما قامت الثورات. إن الغايات التي تقوم السلطة على تحقيقها هي غايات مشتركة تجمع بين غايات الجماعة وغايات الحكام. قد يعلو جانب غايات الجماعة في فترة من فترات الحكم، وهنا تسعد الجماعة (وهذا حال الدول الديمقراطية)، وقد يعلو جانب غايات الحكام في فترة أخرى وهنا يكون التذمر والتمرد الذي قد يصل إلى الثورة (وهذا هو حال الدول المتخلفة). والوضع الأمثل للسلطة هو الوضع الذي تستطيع فيه تحقيق التوازن بين الغايتين.

إن هذه الطبيعة المزدوجة والمعقدة هي حقيقة السلطة، ويجب أن يسلم العقل الإنساني بها، فلا ينتظر من السلطة دوماً أن تكون خيرة تعمل دائماً لمصلحة الجماعة، وإنما يجب أن يدرك أنها تعمل في جزء من نشاطها لتحقيق مصالحها الخاصة. كما أن القول بالسلطة المثالية التي تفيض خيراً والتي لا تتصرف إلا من وحي مصالح ورغبات المحكومين في كل وقت وفي كل مناسبة هو قول يتنافى مع الواقع الذي لا يمكن تغييره جذرياً وإن كان يمكن تحسينه.

ب ـ الفرق بين السلطة السياسية والسلطة غير السياسية:

إنَّ كلَّ إنسانٍ يعيش في مجتمعٍ منظَّمٍ يشعر بوجود سلطةٍ قائمةٍ في هذا المجتمع. والمجتمع الكبير، أي الدولة، ينطوي على تجمعات صغيرةٍ تعيش في داخله، وأشكال هذه التجمّعات متعددةٌ ومتباينة الأغراض، وفي كلِّ تجمع من هذه التجمعات توجد سلطة تعمل على تحقيق أغراض الجماعة، كالسلطة القائمة مثلاً في المؤسسات الدينية والتربوية والاجتماعية والاقتصادية وفي النوادي الرياضية…؛ ولهذا قيل إن السلطة هي ظاهرة اجتماعية. غير أن التجمّعات سالفة الذكر هي تجمعات إنسانية صغيرة، والسلطة القائمة فيها لا يمكن أن توصف بأنها سلطة سياسية، وإنما هي سلطة اجتماعية؛ لأنها تسعى إلى تحقيق أهداف اجتماعية ولا تقوم على إدارة الشؤون السياسية في الدولة.

(كان السائد في الفكر السياسي قبل أرسطو أن كل السلطات متشابهة بما في ذلك السلطة السياسية، ولكنَّ أرسطو حينما أصدر كتابه «السياسي» هاجم فيه الرأي السائد وأوضح أن هناك أنواعاً مختلفة من السلطة تختلف كلٌّ منها عن بعضها حسب طبيعة وموضوع كل سلطة. فهناك السلطة السياسية، وهي المتعلقة بشؤون الحكم، وطبيعتها سياسية، وهناك السلطة الأبوية التي تتعلق بعلاقة الأب بأبنائه، والسلطة الزوجية المتعلقة بما يملكه الزوج على زوجته من سلطات، ثم هناك سلطة السيد على عبيد… وهكذا. وقد لخص روبرت ماكيفر هذه الأنواع في نوعين فقط هما: «السلطة السياسية» التي توجد في الدولة، و«السلطة الاجتماعية« التي توجد في المجتمعات الصغيرة الأخرى، كالأسرة والنقابة والمؤسسات الدينية والتربوية والنوادي الرياضية… إلخ).

وتتمثل أوجه الاختلاف بين السلطة السياسية والسلطة غير السياسية في النقاط الآتية:

(1)ـ إن سلطة التجمعات الإنسانية الصغيرة القائمة داخل الدولة هي سلطة غير سياسية، ولذلك فإن الخضوع لهذه السلطة ليس إجبارياً وإنما اختياري، إذ يمكن للأفراد الانضمام إلى هذه الجماعة أو تلك وبمحض اختيارهم، أو الانسحاب منها في أي وقتٍ يشاؤون. وعلى العكس من ذلك، فإن الخضوع لسلطة الدولة هو خضوع إجباري لا اختيار فيه، ولا يمكن الخروج أو الإفلات من هيمنة هذه السلطة، اللهم إلا إذا تنازل الفرد عن جنسيته، وهو إن فعل ذلك فإنه لا يلبث أن يخضع لسلطان الدولة الأخرى التي يلجأ إليها.

(2)ـ إن السلطة غير السياسية لا تملك القوة المادية التي يمكن بواسطتها إجبار الخاضعين لها على طاعتها والخضوع لأوامرها، في حين تملك الدولة القوة المادية (أدوات القهر المادي) لإنفاذ أوامرها على الأفراد.

(3)ـ إن سلطة التجمعات الصغيرة ليست سلطة عليا؛ لأنها تخضع لسلطات أعلى منها وخاصة سلطة الدولة، في حين أن السلطة السياسية هي السلطة العليا الوحيدة داخل الدولة، فلا توجد سلطة أخرى تخضع لها الدولة.

(4)ـ إن ظاهرة السلطة «غير السياسية» هي ظاهرة أعم من ظاهرة السلطة السياسية، فهذه الأخيرة لا توجد إلا في المجتمعات السياسية، أما السلطة غير السياسية فتوجد في كل جماعة إنسانية لها غرض محدد.

(5)ـ إن ظاهرة السلطة غير السياسية أسبق في الوجود من السلطة السياسية، فالأولى توجد بمجرد وجود جماعة من الأفراد ويكون أحد أفراد هذه الجماعة ذا سلطة، أي تكون كلمته مسموعة لدى الآخرين لأي سبب من الأسباب، أما الثانية أي السلطة السياسية فلم تظهر إلا مع قيام تنظيم للجماعة، وهو ما تم بعد مرحلة من تطور البشرية.

(6)ـ إن السلطة غير السياسية تنشأ في التجمعات الصغيرة كالشركات والنقابات والنوادي والمؤسسات الدينية والتربوية… إلخ، وكل سلطة من هذه السلطات تحد الأخرى بحسب قوتها. أما السلطة السياسية فلا تقوم إلا في مجتمع عام يفوق كل التجمعات الصغيرة، وتقوم بوظائفها داخل المجتمع وخارجه، وتكون مسؤولة عن أعمالها أمام الشعب ولا تحدها سلطة أخرى.

(7)ـ إن هدف السلطة غير السياسية هو هدف خاص، إذ تعمل على تحقيق مصالحها الخاصة، أما هدف السلطة السياسية فهو هدف عام، فالحكام لا يعملون ـ في الأصل ـ من أجل مصلحتهم الخاصة، وإنما يعملون لتحقيق مصالح الشعب وتجسيد آماله.

2ـ مبررات وجود السلطة السياسية:

إن وجود المجتمع، يفرض قيام نظام عام، قادر على ضبط أوضاعه وتنظيم العلاقات في داخله. وهذا النظام لا ينشأ إلا إذا توافرت السلطة السياسية القادرة على إيجاده، ومن ثم على صَوْنه. فالسلطة السياسية هي المنظم والضابط لشؤون المجتمع. والخوف من «الفراغ السياسي»» يدفع الناس إلى التعلق بالسلطة، وسد الفراغ سريعاً ـ في حال حصوله ـ بسلطة أخرى، تجنباً لانهيار المجتمع السياسي، لأنه لا يمكن للمجتمع أن يستمر من دون سلطة.

والسؤال الذي يطرح هو الآتي: ما هي أسباب وجود أناس في السلطة (الحكَّام)، وقبول الآخرين (المحكومين) بإطاعتهم؟ لعل الجواب يكمن في عنصرين هما: الإكراه والمعتقدات.

أ ـ الإكراه:

إن الإكراه ملازم للحياة الاجتماعية؛ فهذه الظاهرة، تُشاهد في سائر المجتمعات، على اختلاف أنظمتها السياسية، فلا بد للدولة من قوة إكراه كي تستطيع القيام بمهامها ووظائفها، وقد قال رجل القانون الألماني إيهرنج Ihering «إن دولة ليس لها قوة مادية، هي تناقض بذاتها». ولكن على القوة أن تكون في خدمة الحق والقانون، الذي يجب أن يحقق العدالة قدر المستطاع.

والإكراه يكون على درجات متفاوتة، ويراوح بين حده الأدنى (عقوبات جزائية، تدخل الشرطة، …إلخ)، وحده الأقصى (إبعاد، سجن، إعدام). غير أن القوة وحدها غير كافية لتبرير القبول بالسلطة، فهناك عوامل نفسية وأخلاقية ودينية، يعبَّر عنها بالمعتقدات، تؤدي دوراً أساسياً ـ وإن بنسب متفاوتة حسب العصور ـ في تقبُّل المحكومين لسلطة الحُكَّام.

ب ـ المعتقدات:

إن المعتقدات تبرِّر وجود الحكم، وتقوي الشعور لدى الفرد الذي يعيش في المجتمع بضرورة الخضوع لسلطة ما، وذلك تحت تأثير الحاجة الماسة إلى تنظيم الحياة الاجتماعية، وزيادة فاعلية هذا التنظيم. وقد شكلت نظرية الحق الإلهي، الركيزة الأساسية التي قامت عليها الأنظمة الملكية في أوربا، خلال قرون عديدة. ويوجد في عصرنا الحاضر بعض الأنظمة الثيوقراطية التي تستند إلى عقائد دينية.

وارتكاز السلطة السياسية على معتقدات دينية راسخة، يؤدي إلى ازدياد قوة السلطة وضمان استمراريتها. ولكن ليس ضرورياً أن تستند السلطة إلى معتقد ديني كي تدعم وجودها، فهناك أنظمة سياسية، متماسكة وصلبة، لا علاقة لها بأي معتقد ديني.

3ـ أصل نشأة السلطة السياسية:

إن البحث في منشأ السلطة السياسية وأساسها يختلط مع موضوع أصل الدولة، وإذا كان من الممكن أن نميّز بين الأمرين، على أساس أنَّ الأول بحثٌ قانوني يهدف إلى تحديد الأساس الذي يقوم عليه خضوع المحكومين للحكَّام وسلطة هؤلاء عليهم، والثاني له طابع البحث التاريخي أو الاجتماعي، إذ يرمي إلى تتبُّع الحوادث، وتعيين الوسائل التي أدَّت إلى ظهور فكرة الدولة. إذا كان هذا التمييز ممكناً من الناحية النظرية؛ فإنَّ تحقيقه عسيرٌ عملاً؛ لما يوجد من ارتباطٍ وثيقٍ بين نشأة الدولة وأساس السلطة السياسية فيها. فمتى أمكن تعيين الظروف التي أدَّت إلى ظهور الدولة، أمكن في الوقت نفسه تحديد الأساس الذي تقوم عليه سلطتها. ولذلك فإنَّ النظريات المختلفة في موضوع أصل نشأة الدولة تصلح في الوقت نفسه لبيان الأساس الذي تستند إليه سلطتها، كما أنَّ العكس صحيح.

والنظريات التي ظهرت لتفسير أساس السلطة السياسية، وتبرير ظاهرة خضوع المحكومين للحُكَّام، كثيرةٌ متشعبةٌ والخلافات بين أصحابها لا نهاية لها، ويمكن استعراض ما كان له تأثيرٌ بارزٌ في تطوّر النُّظم السّياسيَّة.

أـ النظريات الثيوقراطية Doctrines Théocratiques (نظريات المصدر الإلهي للسلطة):

إذا كان الحُكَّام بشراً مثل المحكومين، فكيف تكون إرادتُهم حرةً تتحدَّد بنفسها، وإرادات المحكومين تخضع للحُكَّام وتتحدَّد وفقاً لمشيئتهم؟ كيف يُتصوَّر أنَّ إرادتَيْن من طبيعةٍ بشريّةٍ واحدةٍ ليستا على درجةٍ واحدة، وأنَّ إحداهما تعلو على الأخرى؟

للإجابة عن هذا السؤال، اتّجه التفكير أولاً إلى إلباسِ السلطة السياسية ومَن يُمثِّلها لباساً دينياً، أي تأسيس السلطة على أساسٍ إلهي، فقيل إنَّ السلطة مصدرها الله يختار مَن يشاء لممارستها، ومادام الحاكم يستمدّ سلطتَه من مصدرٍ علوي، فهو يسمو على الطبيعة البشرية، ومن ثم تسمو إرادتُه على إرادة المحكومين، إذ هو مُنَفِّذٌ للمشيئة الإلهيّة.

(وفي هذا الصدد يقول عبد الرحمن الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، إنَّ: «عوام البشر ـ وهم السواد الأعظم ـ كان يلتبس عليهم الفَرق بين الإله المعبود بحقّ وبين المستبِدّ المُطاع بالقهر، … يجد العوام معبودهم وجبَّارهم مشتركَيْنِ في كثيرٍ من الحالات والأسماء والصِّفات، وهم ليس من شأنهم أنْ يُفرِّقوا مثلاً بين (الفعَّال المطلق)، والحاكم بأمره، وبين (لا يُسأل عمّا يفعل) وغير مسؤول، وبين (المنعم) ووليّ النعم، وبين (جلَّ شأنه) وجليل الشَّأن. بناءً عليه؛ يُعظِّمون الجبابرة تعظيمهم لله، ويزيدون تعظيمهم على التَّعظيم لله؛ لأنَّه حليمٌ كريم، ولأنَّ عذابه آجلٌ غائبٌ، وأمَّا انتقام الجبَّار فعاجلٌ حاضر. وهذه الحال؛ هي التي سهَّلت في الأمم الغابرة المنحطَّة دعوى بعض المستبدِّين الألوهية على مراتب مختلفة، حسب استعداد أذهان الرَّعية، حتَّى يُقال: إنَّه ما من مستبدٍّ سياسيّ إلى الآن إلا ويتَّخذ له صفة قدسيّة يشارك بها الله، أو تعطيه مقامَ ذي علاقة مع الله»).

وقد أدت هذه الفكرة دوراً كبيراً في التاريخ، وقامت عليها السلطة في أكثر المدنيات القديمة، وأقرَّتها المسيحية في أوّل عهدها، وإنْ حاربتها فيما بعد. ثم استند إليها الملوك في أوربا خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر لتبرير سلطانهم المطلق. على أنَّ هذه الفكرة قد تطورت عبر التاريخ واتخذت ثلاث صورٍ متتابعة هي:

(1)ـ في الأصل كان الحاكم يعدّ من طبيعةٍ إلهية، فهو لم يكن مختاراً من الإله، بل كان هو الإله نفسه. وأُطلق على هذه الصورة «نظرية الطبيعة الإلهية للحاكم La nature divine des gouvernants».

وقد قامت المدنيات القديمة عموماً، في مصر وفي فارس وفي الهند وفي الصين، على أساس هذه النظرية، فكان فراعنة مصر وملوك الشرق الأوسط وأكاسرة الفرس وملوك الهند والصين يُنظر إليهم باعتبارهم آلهة. وقد وجِدَت الفكرة كذلك عند الرومان الذين كانوا يقدِّسون الامبراطور ويعدّونه إلهاً، بل لقد ظلت موجودة في العصور الحديثة عند اليابانيين حتى سنة 1947.

وقد أوضح القرآن الكريم في آيات كثيرة، أن الفراعنة كانوا يعتقدون أنهم آلهة، وأن طاعتهم واجبة على رعاياهم. من ذلك قول فرعون لنبي الله موسىu عندما دعاه لعبادة رب العالمين }قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِين{ [الشعراء 29]، وقوله لرعاياه }مَا عَلِمْتُ لَكُم مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي{ [القصص 38]، وقوله لهم أيضاً }أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى{ [النازعات 24].

وترتَّب على هذا التكييف الإلهي لطبيعة الحاكم أنَّ سلطان الملوك «الآلهة» كان سلطاناً مطلقاً لا حدَّ له، وكانت أوامرهم لا مَردَّ لها؛ إذ لا يجوز للبشر أنْ يناقشوا «الآلهة» أو أنْ ينظروا إلى تصرفاتهم نظرةً انتقادية، لأنهم فوق كلِّ مناقشةٍ ونَقدٍ بشري.

(فإذا كان الله سبحانه وتعالى كما ورد في القرآن الكريم }لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وهُمْ يُسْأَلُونَ{ [الأنبياء 23]، فإن الحكام أيضاً ـ باعتبارهم آلهة ـ لا يُسألون عما يَفعلون، أما المحكومون فهم يُسألون).

(2)ـ تطورت النظرية السابقة مع ظهور المسيحية، إذ رفضت هذه الأخيرة رفضاً حاسماً ذلك التكييف غير البشري للحكَّام، وتقدَّمت الإنسانية في هذا المجال نحو الخطوة الثانية التي كان الحاكم فيها إنساناً كبقية البشر، إلا أن الله يصطفيه ويودعه السلطة. وفي هذه المرحلة تسمى النظرية «نظرية الحق الإلهي المباشر» La théorie du droit divin surnaturel؛ لأن الحاكم يستمد سلطته من الله مباشرةً، دون تدخُّلِ إرادةٍ أخرى في اختياره.

تقوم نظرية حق الملوك المقدس (أو نظرية الحق الإلهي) كما صاغها الأسقف الفرنسي الأب جاك بوسّيه Jacques Bossuet (1627ـ1704) على أربعة أركان: أولها أن السلطة الملكية مقدسة Royal authority is sacred، فالملوك هم خلفاء الله في الأرض وعن طريقهم يدير شؤون مملكته، ولذلك لم يكن العرش الملكي عرش إنسان، بل كان عرش الله ذاته، ولهذا فإن شخص الملك مقدَّس، وذاته مصونة لا تُمَسّ. وثانيها أن السلطة الملكية سلطة أبوية Royal authority is paternal طابعها الحقيقي هو الخير، إذ الملوك يحلون محل الله الذي هو الأب الحقيقي للجنس البشري، وإذ كانت الفكرة الأولى عن القوة لدى الإنسان هي الفكرة التي يملكها عن القوة الأبوية… فقد كان الملوك على غرار صور الآباء. وثالثها أن السلطة الملكية هي سلطة مطلقة Royal authority is absolute لا شي يقيدها أو يحد من إطلاقها، فليس للملك أن يقدم تبريراً لما يأمر به، إذ بغير هذه السلطة المطلقة يكون عاجزاً عن فعل الخير وعن المعاقبة على الشر. وينبغي لسلطته أن تكون من القوة بحيث لا يأمل أحد في الإفلات من قبضته. ورابعها أنه لا ينبغي لهذه السلطة أن تكون موضع تذمر أو اعتراض عليها من طرف الخاضعين لها (المحكومين). وإذا ظهر من عَنَتِ الملوك على الرعية ما تنوء بحمله وبدا من فعل الملوك ما رأت الرعية فيه ظلماً هائلاً فإنه ليس لتلك الرعية أن تعترض على عنف الأمراء إلا متى كان الاعتراض في شكاوى ملؤها الاحترام والتعظيم، من غير فتنة ولا شغب، وفي دعوات لهم بالرشد والهداية.

لقد خاضت المسيحية في أعقاب ظهورها صراعاً رهيباً مع الأباطرة الرّومان، وقدَّمت المسيحية شهداء ضربوا في إصرارهم على دينهم أروع الأمثال، وثبَّتت أقدام العقيدة الجديدة من جهة، وخَفَّتْ حِدَّة الحماسة التي تصاحب العقائد في بدايتها من جهة أخرى، وبدأ بعد ذلك البحث عن نوع من المصالحة بين العقيدة الجديدة والسلطة الزمنية بعد ذلك الصراع المرير.

وكانت نقطة الارتكاز في تلك المصالحة تلك العبارة الشهيرة التي قالها السيد المسيح\: «أَعْطُوا إِذاً مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلَّهِ لِلَّه» (وهذه العبارة ـ بحسب ما ورد في [إِنْجِيل الْمَسِيحِ حَسَب الرَّسُول مَتَّى، الإصحاح22، الآية: [16ـ21]ـ جاءت رداً على سؤال سأله أحد خصوم المسيح من تلامذة الفَرِّيسِيّين وهو: أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ؟ وقد كان الهدف من هذا السؤال الخبيث هو استدراج يسوع إلى التورُّط في معارضة قيصر روما).

وكان مقتضى هذه المصالحة أن يَترك الأباطرة الرومان العقيدة الجديدة ورجالَها يمارسون شعائرهم ويدْعُون لدِينهم وهم آمنون مقابل أن يَترك رجال العقيدة الجديدة السلطةَ الزمنية للأباطرة لا يشاركونهم فيها بل يدْعُون لدعم سلطانهم وتأييده.

وقد أصبح الطابع المميز للفكر المسيحي ـ كما تطور واستقر في عصر الآباء المسيحيين ـ هو القول بوجود ازدواج في تنظيم الجماعة الإنسانية ومراقبتها بغرض المحافظة على أعظم مجموعتين من القيم الخلقية؛ فشؤون الروح والخلاص الأبدي هي من اختصاصات الكنيسة، ومجال تبشيرها وتعاليمها، ويقوم بها القََسَاوِسَة، أما مجريات الأمور الدنيوية اليومية والمحافظة على السلام والنظام والعدالة، فهي اختصاص الحكومة المدنية يقوم بها عمالها ومأموروها. ويجب أن تسود بين هاتين المجموعتين علاقة من القيم الخلقية تعتمد على روح التعاون والتساند.

وكثيراً ما أشير إلى هذا التصوير الفكري لعلاقة هاتين المجموعتين من القيم الخلقية باسم نظرية «السَّيفَيْن» أو السلطتين. وهي نظرية استقرت رسمياً فسجَّلها كتابةً البابا «جلاسيوس الأول» Gelasius I في أواخر القرن الخامس بعد الميلاد. وقد أصبحت هذه النظرية تقليداً مقبولاً في مستهل العصور الوسطى، وأضحت نقطة انطلاق في بحوث الطرفين عندما استعرت المنافسة بين البابا والامبراطور، وقام الجدل الفكري حول علاقة السلطتين الروحية والزمنية.

(تعد نظرية جلاسيوس المعروفة بنظرية «السَّيفَيْن» جزءاً مهماً من الدين المسيحي ذاته، حيث تتلخص فيها تعاليم الآباء المسيحيين بخصوص التمييز بين الروحيات والدنيويات، بين مطالب كل من الروح والجسد. وتقول هذه النظرية بأن الإرادة الإلهية قضت على المجتمع الإنساني أن يخضع لسلطتين: السلطة الدينية (أو الروحية)، والسلطة الدنيوية (أو الزمنية). يدير الأولى رجال الدين طبقاً للقانون السماوي، ويدير الثانية رجال الدنيا طبقاً للقانون الطبيعي. وبمعنى آخر فإن السلطة الدنيوية لها سيفان: الأول، سيف السلطة الدينية ويودعه الرب للبابا في الكنيسة والثاني، سيف السلطة الزمنية ويودعه الرب بإرادته المباشرة للامبراطور).

وبموجب العقيدة المسيحية فإن الجمع بين السلطتين الروحية والزمنية في يدٍ واحدة هو تقليد وَثَنيّ، قد يكون شرعيَّاً في الأزمنة التي سبقت المسيحية، ولكنه بعد ظهور المسيح، ليس إلا تحالفاً صريحاً مع الشيطان، فقد أمر المسيح بفصل هاتين السلطتين تقديراً منه لضعف النفس البشرية، وحَدَّاً لغرورها وكبريائها، وبذلك فقد أصبح حراماً أن يجمع رجل في نطاق الديانة المسيحية بين وظيفتَيْ الملك والقسّ في آنٍ واحد، فلم يعد في مقدور الامبراطور أن يحمل اللقب البابوي ولا أن يحمل البابا لقب الامبراطور.

وقد كتب القديس بولس في خطابه للرومان أعمق ما جاء في العهد الجديد أثراً من الناحية السياسية فقال: «لِتَخْضَعْ كُلُّ نَفْسٍ لِلسَّلاَطِينِ الْفَائِقَةِ، لأَنَّهُ لَيْسَ سُلْطَانٌ إِلاَّ مِنَ اللهِ، وَالسَّلاَطِينُ الْكَائِنَةُ هِيَ مُرَتَّبَةٌ مِنَ اللهِ، حَتَّى إِنَّ مَنْ يُقَاوِمُ السُّلْطَانَ يُقَاوِمُ تَرْتِيبَ اللهِ، وَالْمُقَاوِمُونَ سَيَأْخُذُونَ لأَنْفُسِهِمْ دَيْنُونَةً. فَإِنَّ الْحُكَّامَ لَيْسُوا خَوْفًا لِلأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بَلْ لِلشِّرِّيرَةِ. أَفَتُرِيدُ أَنْ لاَ تَخَافَ السُّلْطَانَ؟ افْعَلِ الصَّلاَحَ فَيَكُونَ لَكَ مَدْحٌ مِنْهُ، لأَنَّهُ خَادِمُ اللهِ لِلصَّلاَحِ! وَلكِنْ إِنْ فَعَلْتَ الشَّرَّ فَخَفْ، لأَنَّهُ لاَ يَحْمِلُ السَّيْفَ عَبَثًا، إِذْ هُوَ خَادِمُ اللهِ، مُنْتَقِمٌ لِلْغَضَبِ مِنَ الَّذِي يَفْعَلُ الشَّرَّ. لِذلِكَ يَلْزَمُ أَنْ يُخْضَعَ لَهُ، لَيْسَ بِسَبَبِ الْغَضَبِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا بِسَبَبِ الضَّمِيرِ. فَإِنَّكُمْ لأَجْلِ هذَا تُوفُونَ الْجِزْيَةَ أَيْضًا، إِذْ هُمْ خُدَّامُ اللهِ مُواظِبُونَ عَلَى ذلِكَ بِعَيْنِهِ. فَأَعْطُوا الْجَمِيعَ حُقُوقَهُمُ: الْجِزْيَةَ لِمَنْ لَهُ الْجِزْيَةُ. الْجِبَايَةَ لِمَنْ لَهُ الْجِبَايَةُ. وَالْخَوْفَ لِمَنْ لَهُ الْخَوْفُ. وَالإِكْرَامَ لِمَنْ لَهُ الإِكْرَامُ». (رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية، الأصحَاحُ الثَّالِث عَشَر، الآية: 1ـ 6).

وقد شدد القديس بولس وغيره من كُتَّاب العهد الجديد على ضرورة التزام المسيحيين باحترام السلطة الشرعية القائمة، وأكَّد معنى أن الطاعة فرض من أمر الله، وهذا التأكيد يسبغ على التعاليم المسيحية طابعاً جديداً يغاير طابع النظرية الدستورية الرومانية، كما دعا إليها رجال القانون، من أن سلطان الحاكم إنما ينبثق من الشعب نفسه.

ومن هنا ظهر المبدأ الذي حكم به الطغاة، واستغله الملوك المستبدون طويلاً في أوربا ألا وهو: «كل سلطة فهي مستمدة من الله». وهو المبدأ الذي يبرِّر واجب الطاعة العمياء، والامتثال والاستسلام الكامل لمشيئة الحُكَّام، فعلى الرغم من نفي الطبيعة الإلهية عن الحُكَّام واعتبارهم بشراً إلا أنهم أصبحوا بشراً يتمتعون بسلطان من الله! وهذا السلطان يجب الخضوع له، والامتناع عن مناقشته، وإرجاء الأمر كله بشأن هذا السلطان إلى الله في الدار الآخرة، أما في هذه الدنيا فالسمع والطاعة والامتثال على اعتبار أن صاحب السلطة ومانحها للحكام هو وحده دون سواه الذي يملك محاسبتهم عن كيفية ممارستهم لهذه السلطة، على حين أن البشر العاديين ـ وفقاً لهذه النظرية ـ لا يحق لهم ولا يجوز أن يناقشوا أولئك الحُكَّام في أمر لم يعهدوا به إليهم ولا شأن لهم فيه، وهو أمر السلطة التي جاءت من عند الله.

وكان على الشعوب أن تدفع ـ بطبيعة الحال ـ النتائج القاسية المريرة لتلك المصالحة بين أباطرة الرومان وآباء الكنيسة. كان على الشعوب أن ترضخ لطغيان الحُكَّام ولسلطتهم التي لا حدود لها باعتبارها سلطة الله أصلاً، واستمر الحال على ذلك النحو ما يقرب من خمسة قرون.

وقد عاشت نظرية التفويض أو الاختيار الإلهي المباشر عصرها الذهبي في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلادي، فكانت أساس حكم الملوك في إنكلترا حتى القرن السابع عشر الميلادي (فقد كان جيمس الأول ملك إنكلترا يصف الملوك بأنهم «صور حية لله على الأرض»)، كما جاء في كتاباته السياسية قوله: «إن مركز الملكية أسمى شيء على الأرض، إذ ليس الملوك فقط نواب الله على الأرض، ويجلسون على عرش الله، ولكن حتى الله نفسه يدعوهم الآلهة».

وتمسَّك بهذه النظرية وقرَّرها صراحة بعض ملوك فرنسا، منهم لويس الرابع عشر، ولويس الخامس عشر، ولويس الثامن عشر، وأعلنوها في مذكراتهم وخطبهم ومقدمات دساتيرهم. وكان شعارهم: «ملك فرنسا لا يستمد مُلْكه إلاّ من الله وسيفه»؛ كما تمسَّك بالنظرية نفسها امبراطور ألمانيا (غليوم الثاني) في بداية القرن الماضي، فكثيراً ما ردَّد مضمونها في خطبه التي ألقاها على الشعب الألماني، فقد ذكر هذا الامبراطور أنه يعتبر نفسه إرادة الله وظله في الأرض، وأنه لا يهدف من وراء تصرفاته إلا خير الوطن ورفعته، وأنه، بصفته ملكاً، يحكم بمقتضى حقّ إلهيّ لا يُسأل إلا أمام الله.

(3)ـ لما بدأ الوهن يتسلَّل إلى الإمبراطورية الرومانية، وأخذت تدخل دور الاضمحلال، كان لا بُدَّ للكنيسة أن تجد للأمر كله تكييفاً آخر غير ذلك التكييف القديم الذي كان يطلق سلطان الأباطرة من كل قيدٍ ويعفيه من كلِّ مناقشة. لقد أصبح الأباطرة من الضعف بحيث لم يَعُدْ من السائغ أن يُقال إنهم يمثلون الله على الأرض، وإن سلطتهم من سلطته وقبسٌ منه، وبدأت نظرية جديدة هي «نظرية الحق الإلهي غير المباشر أو العناية الإلهية» La théorie du droit divin providentiel.

وقد استخدمت هذه النظرية بأشكال شتى منذ القرون الوسطى، وأثناء الصراع بين الكنيسة والامبراطور، والكنيسة والملكيات الناشئة في أوربا.

وتتلخص هذه النظرية الجديدة في أنَّ الحُكَّام إنما يستمدون سلطتهم من الله، لكنهم يمارسونها بموجب رضا الشعب المسيحي، فالله لا يختار الحكام اختياراً مباشراً، وإنما يوجِّه أحداث التاريخ والمجتمع توجيهاً من مقتضاه أن يختار المسيحيون بأنفسهم حاكمهم. ولمَّا كانت الكنيسة هي التي تمثِّل المسيحية؛ فإنها لا بُدَّ أن ترضى عن هذا الاختيار وتباركه.

فعندما أراد لويس التقي Louis the Pious في سنة 817 أن يُمهِّد لكي يخلفه أولاده في العرش، طلع على الناس بالقرار الآتي: «قضت إرادة الله القوي أن تلاقت رغبتنا ورغبة كل أفراد شعبنا في إجماعٍ على انتخاب ولدنا العزيز لوثير Lothair أكبر أبنائنا، وعلى ذلك بدا من الخير لنا ولجميع شعبنا أنه يجب ـ وقد أرشدتنا العناية الإلهية ـ أن نُعَيِّنه وريثاً لعرش الامبراطورية إذا شاء المولى، وذلك بعد تتويجه بالتاج الامبراطوري». ويستفاد من ذلك أن اعتلاء العرش في مطلع العصور الوسطى كان يرتكز على ثلاثة عوامل مجتمعة: كان الملك يرث العرش، وينتخبه الشعب، وكان بالطبع يحكم بإرادة الله أو بإلهام مباشر من الله.

وتأسيساً على ذلك فإن الحاكم ما كان يعد حاكماً شرعياً إلا بعد أن تقوم له الكنيسة ببعض الطقوس المعينة التي تُنبئ عن رضاها عنه. والحاكم يظل حاكماً شرعيّاً ما رضيت عنه الكنيسة وما سار في رعيته وفقاً لقواعد المسيحية كما تُقرِّها الكنيسة بطبيعة الحال.

عندما تسلم جريجوار السابع مهام البابوية عام 1073 قام بإصلاحات كبيرة في الدولة أهمها إنقاذ السلطة الروحية من براثن السلطة الزمنية. ومنذ ذلك الحين استمر تمسُّك أنصار الكنيسة بسمو السلطة الروحية وتفوقها مبتغين تطهير الدولة وإصلاحها. فالحاكم إنما يستمد سلطات الحكم من الله عز وجل ولكن بشكل غير مباشر عن طريق البابا رب الكنيسة، الذي له وحده سلطة تتويج الحكام. والبابا بصفته هذه يتمتع بحق مطلق في أن يتدخل لينتزع من الحاكم سلطانه إذا ما جنح إلى الفساد، وله أن يحوِّل هذه السلطات إلى من يراه صالحاً لتولي مهام الحكم. وظل أرباب الكنيسة إلى القرن الثالث عشر يعتبرون أنفسهم أصحاب الحق المطلق في التوجيه والوصاية على السلطة الزمنية في الإمبراطورية حتى غدت هذه السلطة كأنها فرع من السلطة الروحية ينتقل بالوكالة؛ فالملوك والأباطرة إنما يستمدون سلطانهم من سيد الكنيسة… من البابا مثلما يستمد القمر ضياءه من الشمس. وبذلك تلاشى ذلك التوافق والتوازن بين السلطتين الزمنية والروحية الذي كان قد نادى به وحضَّ عليه البابا جلاسيوس في أواخر القرن الخامس.

وفي ظل هذا التكييف الجديد لم يعد الحاكم مطلق السلطان كما كان من قبل، ولم يعد حسابه مؤجلاً تأجيلاً كاملاً إلى الدار الآخرة، وإنما أصبح من المتصوَّر مساءلته من قبل الكنيسة عن مدى اتباعه للتعاليم المسيحية باعتباره مندوباً منها لمباشرة السلطة الزمنية في إطار تلك التعاليم. وقد ظلت هذه النظرية سائدة حتى بداية عصر النهضة في أوربا.

ولقد كانت نظرية الحق الإلهي غير المباشر هي أول محاولة للحد من السلطان المطلق للملوك في العصور الوسطى المسيحية. ومع ذلك فإن هذه النظرية تصلح لتبرير السلطان المطلق شأنها شأن جميع النظريات الثيوقراطية، فالنظرية تتفق مع غيرها من النظريات في أن السلطة في ذاتها من عند الله، وإن كانت تفترق عنها إذ تجعل اختيار الحاكم للشعب، ولا شك في أن الحاكم الذي يمارس سلطة إلهية يستطيع أن يستبد بها، وإن كان الشعب هو الذي اختاره. فما دام الحاكم يستمدّ سلطته من الله فهو لا يكون مسؤولاً أمام أحدٍ غير الله. فالاختيار الديمقراطي للحاكم لا يعني حتماً أن يكون الحكم حراً، بل يمكن أن يكون استبدادياً.

وعلى هذا الأساس فإن نظرية الحق الإلهي غير المباشر، تصلح أساساً لحكم ديمقراطي حر، كما تصلح بدرجةٍ أكبر وأعمق لحكم استبدادي مطلق.

ويلاحظ في هذا الصدد أن النظريات الثيوقراطية عموماً ـ وقد أرجعت أساس السلطة ومصدرها إلى الله ـ تؤدي إلى إطلاق سلطان الملوك وتحرِّم على الشعوب تحريماً مطلقاً مقاومة حكامهم حتى لو كانوا مستبدين لأنهم ظل العناية الإلهية، ووسيلة الانتقام الإلهي لعقاب المفسدين في الأرض.

وفي الواقع، إن العقل لا يقبل مثل هذه النظريات التي ابتكرت لتبرير استبداد الملوك، فقد حدث صراع مرير في القرون الوسطى بين الدولة والكنيسة أو بين السلطة الزمنية (المدنية) والسلطة الدينية (الروحية)، وانتهى الصراع بغلبة الأولى على الثانية، وانقضى عهد نظريتَيْ التفويض الإلهي المباشر وغير المباشر، وظهرت نظريات جديدة بفعل تحرُّر الفِكر من أغلال الدين والكنيسة، وظهور العلمانية، وهذه النظريات تسمى بالنظريات الديمقراطية (نظريات المصدر الشعبي للسلطة).

ب ـ النظريات الديمقراطية (نظريات المصدر الشعبي للسلطة):

تقوم النظريات الديمقراطية المختلفة على أساس أن السلطة مصدرها الشعب، وبذلك لا تكون السلطة الحاكمة مشروعة إلا إذا كانت وليدة الإرادة الحرة للجماعة التي تحكمها.

وأهم النظريات الديمقراطية هي «نظرية العقد الاجتماعي» التي تقول بوجود حياة فطرية تسبق قيام الجماعة، وأن الانتقال من حياة الفطرة إلى حياة الجماعة قد تم بناء على عقد اجتماعي Social contrat بين الأفراد بقصد إقامة السلطة الحاكمة.

ويعد الإنكليزيان «توماس هوبز» و«جون لوك»، والفيلسوف الفرنسي «جان جاك روسو» من أهم وأبرز فلاسفة العقد الاجتماعي، وقد كان لكل منهم تفسير معين للنظرية، أراد به تدعيم الأفكار السياسية التي كان ينادي بها.

4ـ تطور أشكال السلطة السياسية:

أخذت السلطة ـ منذ نشوء المجتمعات البشرية حتى يومنا هذا ـ أشكالاً مختلفة، وفقاً للمراحل التاريخية التي مر بها تطور هذه المجتمعات، فتطورت ـ كما يقول جورج بيردو ـ من «سلطة مباشرة أو مُغْفَلة» أي مستترة وغير معروفة، إلى «سلطة مجسَّدة» ومن ثم إلى «سلطة مؤسَّسة».

أ ـ السلطة المباشرة أو المُغْفَلة Le Pouvoir anonyme (أو كما يطلق عليها مارسيل بريلو «القوة الشائعة أو المسيطرة» La puissance dominante):

وهذه السلطة هي سمة مميزة للمجتمعات البدائية التي كانت منغلقة على ذاتها اقتصادياً وثقافياً. ففي هذه المجتمعات تنبع السلطة من مجموعة معتقدات وخرافات وأعراف وتقاليد، تَفرِضُ مباشرةً على أعضاء الجماعة سلوكاً معيناً، دونما حاجةٍ إلى وجود قائدٍ قادرٍ على إخضاع هؤلاء؛ فالجميع يحترمون العادات والتقاليد ويحافظون عليها، وليس لأحدٍ وظيفة خاصة، غايتها فرضُ هذه المحافظة باستعمال وسائل الضغط أو الإقناع المشروعة. لا ترهيب في هذه السلطة ولا عقاب سوى الشجب الجماعي والتكفير الضروري تحاشياً للإبعاد، فكأن الطاعة هنا هي طاعة بالغريزة.

وهذه الطاعة تعبر عن نفسها بانقياد الأفراد والجماعة لمجموعة قواعد وطقوسٍ يعدونها مقدسة، بمعنى أن مخالفتها تؤدي إلى إنزال عقوبات طبيعية مرعبة بالمخالف. فالتصورات الميثولوجية (مجموعة الأساطير)، الراسخة في أذهان الشعوب البدائية، هي بمنزلة رادعٍ يمنعها من مخالفة الطقوس الخاصة بالمقدسات Totems والمحرمات Tabous خوفاً من لعنة أو ثأر الآلهة والأجداد، الذي قد لا ينال الفرد فقط إنما الجماعة كلها. من هنا الشعور بأن الانقياد للعادات والتقاليد هو من مستلزمات العيش المشترك ضمن الجماعة. وهو ليس في حاجة إلى أن يُفرَضَ بواسطة شخصٍ يمتلك السلطة؛ لأن الإنسان المذنب يشعر أن كل قوى العالم من طبيعية واجتماعية، أصبحت تناصبه العداء، «إنه حكم بالإعدام ليس بحاجةٍ لقضاةٍ ولا لجلاَّدين». فالسلطة في المجتمعات البدائية هي سلطة مبدَّدة في الجماعة وليست قائمة في شخص أو مجموعة أشخاص أو مؤسسة.

والسلطة المغفلة أو المستترة هي سلطة سياسية ودينية وعسكرية واقتصادية في آن معاً، لأنه لا يوجد في المجتمعات البدائية المغلقة أي قسمة للعمل، أي لوظائف محددة (سياسية، اقتصادية، دينية، …إلخ)، ومتميزة بعضها من بعضها الآخر.

ويشرح بيرتراند دي جوفينيل هذه الحالة بقوله: «إن سلوك الأفراد والعمل الجماعي لم يكن خاضعاً لإرادة فرد، أو لعدة أشخاص، أو لكل أعضاء المجموعة، وإنما كان مفروضاً من جانب قوى تسيطر على المجتمع، ويمتلك بعض الأفراد مهارة في تفسيرها، كذلك فإن الاجتماعات القبلية لم تكن ذات صفة تشاوريّة بمقدار ما كانت مجرد طقوس سحرية هدفها الطلب إلى الآلهة إظهار إرادتها».

من هنا، فإن هذه السلطة المستترة لم تتجاوز مرحلة معينة من تطور الجماعة، لأن تشتتها داخل هذه الجماعة، وعدم تمركزها في جهة معينة، كان عائقاً أمام حيوية الجماعة نفسها، ومنعها من الخروج من حالة الركود التي كانت تعيش فيها. إلا أنه كان لا بد لسنة التطور من أن تتدخل لتنقل المجتمع البدائي، في قفزة نوعية، من الحالة الجنينية التي كان غارقاً فيها إلى حالة أخرى أكثر اتساعاً فرضتها عدة عوامل، تتمثل في: النمو العددي في أعضاء الجماعة وازدياد حجمها، وتشعُّب العلاقات القائمة بين مختلف العائلات الكبرى، واستقرار الجماعة على أرض معينة ومحددة جغرافياً، واتساع دائرة مصالحها المتبادلة.

وكان من شأن هذه العوامل أن أدت إلى تبدل التصورات الجماعية وتطورها باتجاه تشكيل طبقة مسؤولين من زعماء العائلات الكبرى. وشيئاً فشيئاً راحت السلطة المغفلة في كامل المجتمع تتبلور بين أيدي فئة قليلة من الأشخاص، الذين كان لا بد من أن يبرز فيهم قائد يتمتع بمؤهلات القيادة، يدرك معنى السلطة وقيمتها، ويعرف كيف يستخدمها باتجاه تحويل الخضوع للعادات والتقاليد إلى ولاء شخصي له باعتباره الحارس لهذه القيم الاجتماعية، والضامن لها.

وهكذا راحت السلطة التي بقيت، زمناً طويلاً، أسيرة التشتت والإغفال، تدخل في المغامرة، وتتخذ بُعداً إنسانياً جديداً.

ب ـ السلطة الفردية (المُجَسَّدة) Le pouvoir individualisé (أو كما يطلق عليها بريلو «السلطة المقتصرة على فرد واحد أو جهة واحدة: Le pouvoir exclusive)

إن الانقياد التام قلما يترك مجالاً إلى المبادرة عند الإنسان البدائي؛ فتَبَدُّد السلطة في الجماعة يشكل عقبةً في وجه كل دينامية اجتماعية، لأنه يقاوم كل مبادرة، فالمبادرة هي بالضرورة عمل فرد أو أقلية يدفعها حب المغامرة والتطلع نحو الأفضل للسير بالجماعة نحو الأمام.

ففي المجتمعات البدائية المغلقة نسبياً، لا يكون هناك حاجة إلى المبادرة، أما عندما تدخل الجماعة في احتكاك وتبادل اقتصادي وثقافي مع الجماعات الأخرى المدنية (وسائل النقل والاتصال، تقسيم العمل)، تخرج من عزلتها تدريجياً وتتداخل مع الجماعات الأخرى، فينشأ بينها سلسلة من العلاقات الاجتماعية المعقدة، فلا تعود السلطة المباشرة (المغفلة) قادرة على تلبية متطلبات الواقع الجديد، بسبب جمودها، وتأخذ شخصية الفرد بالبروز، بعد أن كانت مشتتة في شخصية الجماعة، ويشعر بالحاجة إلى اتخاذ المبادرات الفردية، فيعمد إلى تثبيت شخصيته بتحويله وسائل العمل والعادات والتقاليد عن مسارها القديم، وإدخالها في عملية خلق طرق وأفكار جديدة نابعة من حقيقة الواقع الجديد، ومن الحاجة إلى تأمين المنفعة، من دون النظر إلى تطابقها وقواعد السلطة المباشرة.

ولكن تضارب مصالح الأفراد والجماعات، بفضل نمو الشخصية الفردية، يفرض وجود سلطة جديدة تحافظ على وحدة المجتمع وتماسكه، وتعمل على تسوية الخلافات بين الأفراد والجماعات داخل إطار المجتمع الكلي، والدفاع عنه إزاء الأخطار المحدقة به من الخارج. فيبرز شخص يمتاز بالقدرة على القيادة وبإمكانات مادية كبيرة، فيتخذ زمام المبادرة في قيادة المجتمع، فيقبض ملكٌ شخصيٌ على السلطة، ويتصرف بها كأنها له، فلا تخضع ممارسته لها لأي قواعد إلزامية، وتؤول لمن يستطيع أن يستولي عليها، وينقاد أفراد المجتمع لمن يمتلك السلطة، فتتحول بذلك من سلطة مباشرة أو مغفلة إلى سلطة مجسَّدة، وهذه الأخيرة قد تتجسد في فرد واحد أو مجموعة أفراد (مجلس، جمعية… إلخ).

هذا التحول في شكل السلطة يؤدي إلى تمايز داخل المجتمع الكلي بين فريقين، قلة تقود وتصدر القرارات، وأكثرية تطيع وتنفذ الأوامر. وهذه السلطة التي تبرز من خلال التمايز بين حاكم ومحكوم، يمكن تسميتها سلطة سياسية، على الرغم من أن العنصر السياسي فيها يبقى مختلطاً، لوقت طويل، بالعنصر الديني، والاقتصادي، والعسكري، بسبب تداخل الوظائف الاجتماعية، وعدم تخصصها.

إن عملية تجسيد أو تشخيص السلطة Personnification (or Personnalisation) du Pouvoir هي رهن بتوافر ظروف وعوامل متعددة، فتبدل حياة المجتمعات، وتغير أنماط عيشها وعلاقات الإنتاج القائمة بداخلها والظروف المحيطة بها، من جهة، والشعور لدى الجماعة بأن هذا الشخص أو هذه المجموعة قادرة على تحقيق مطامحها وتطلعاتها، هذا كله يسهم في تجسيد السلطة.

والسلطة الفردية أو المجسَّدة لا تبرز في كل المجتمعات والعصور بأشكال مطابقة تماماً بعضها لبعضها الآخر، إنما تظهر بأشكال متنوعة ومختلفة، وفقاً للظروف والعوامل التي أدت إلى نشوئها. فهي تراوح بين زعيم العصابة، والسيد الإقطاعي. وقد تميزت غالباً بسيادة الروح الإقطاعية التي تقوم على التبعية والولاء الشخصي. فالشخص يستمد سلطته هنا من قوته الذاتية، لا من قوة الكيان أو «الدويلة» التي يحكمها. ولذا كان ثمة تداخلٌ كبيرٌ، وخلطٌ واضحٌ بين السلطة ذاتها وبين مَن يمارسها.

والسلطة المجسَّدة تحمل في ذاتها الكثير من أسباب زوالها، لأنها كانت محطَّ أنظار الطامعين، ومثارَ نزاعاتٍ وحروبٍ مستمرة، ومن ثم لم تكن تنتقل من شخص لآخر وفق أصولٍ قانونية، بل باستخدام القوة، فقد كانت تزول بزوال صاحبها أو بانهيار قوته أمام قوة أكبر، وهذا ما لا يؤمِّن للسلطة استمراريتها واستقرارها.

كما أن هذه السلطة تتصف، من ناحية أخرى، بأنها سلطة اعتباطية تخضع فقط للأهواء الشخصية التي لا يحد منها أي رادعٍ قانوني، فلا تتحقق العدالة غالباً.

وحالة عدم الاستقرار وعدم الاستمرارية في السلطة، والإجحاف بحق الكثيرين وإلحاق الظلم بهم، تُعرِّض وحدة المجتمع الكلي للتفكك ولا تفي بتلبية احتياجاته المتزايدة، فتصبح الحاجة ماسة إلى شكلٍ جديدٍ من السلطة، فتأخذ «السلطة المؤسَّسة» بالنشوء.

ج ـ السلطة المؤسَّسة Le Pouvoir institutionnalisé:

عندما يبلغ المجتمع الكلي مرحلة متقدمة من التطور، تصبح السلطة الفردية أو المجسَّدة غير قادرة على القيام بأعباء إدارة شؤونه، لأن ذلك يتطلب أداة منظمة وأجهزة متخصصة (إدارة، جيش، شرطة، قضاء، …إلخ)، ويفترض حداً أدنى من التماسك والاستقرار في المجتمع، وسلطة تتمتع بالاستمرارية. عندئذ لا تعود الصفات الشخصية للحاكم ولا إمكانياته المادية قادرة على تبرير السلطة التي يمارسها، حتى موافقة المحكومين على أعمال الحاكم تغدو غير كافية، في نظر الجماعة، كأساس لقدرته.

ولا يمكن تحقيق الاستقرار والاستمرارية والديمومة إلا بإرساء السلطة على قواعد وأصول مستقلة عن إرادة الأفراد، أي على قواعد عرفية أو مكتوبة؛ فتنقل السلطة من الأشخاص إلى القانون، وتصبح سلطة مؤسَّسة بدلاً من أن تكون سلطة مجسَّدة، أي سلطة قائمة في مؤسَّسة، وليست نابعة من القدرة الشخصية؛ فالسلطة السياسية المؤسَّسة هي سلطة القانون، من يمارسها ليس سيدها أو مالكها يتصرف بها كيفما يشاء، بل يكون خاضعاً في ممارستها لتشريعات مستقلة عن إرادته وأهوائه ومصالحه الفردية.

والمؤسَّسة السياسية التي تحيط بالمجتمع الكلي بكامله، هي «الدولة» (ولهذا يصف بريلو الدولة بأنها «مؤسَّسة المؤسَّسات» L’état، «l’institution des institutions»، فسائر المؤسسات داخل الدولة تستمد وجودها من الدولة)، وفيها تكمن السلطة، لأنها الموئل الوحيد للقوة العامة.

فالدولة هي السلطة السياسية المؤسَّسة، فيها تتأسس السلطة، أي تنتقل من أشخاص الحكام الذين لم يعودوا يملكون منها سوى الممارسة، إلى الدولة التي تصبح من الآن فصاعداً الممتلك الوحيد للسلطة.

ولما كانت السلطة المؤسَّسة تتمتع بالاستمرارية والديمومة، فإن زوال الشخص الذي يمارسها لا يعني زوال السلطة. فهي لا تزول لأنها منبثقة من الدولة لا منه، والدولة باقية، فتنتقل ممارسة السلطة إلى شخص جديد، يتبوأ الحكم وفق القواعد المتبعة. وهذا ما يُعَبَّر عنه بالقول المأثور «مات الملك، عاش الملك»؛ فالحكم في الدولة ليس امتيازاً، إنما وظيفة تخضع ممارستها لقواعد وأصول قانونية محددة.

والقول أن السلطة المؤسَّسة هي سلطة القانون، وأنها ليست امتيازاً شخصياً لمن يمارسها، إنما هي وظيفة، لا يعني أن كفاءة وحنكة وشجاعة من يتولى ممارسة السلطة لا أهمية لها؛ فالحقيقة هي عكس ذلك، فليس باستطاعة أيٍّ كان الوصول إلى سدة الحكم، وإذا وصل لا يمكنه أن يقوم بأعباء المسؤولية الملقاة على عاتقه؛ فالمواطنون عامة لا يضعون ثقتهم إلا في الشخص القادر على ممارسة أعباء الحكم، وتحقيق الأهداف التي يطمحون إليها.

غير أنَّ المشاهَد عملاً هو بروز مظاهر «تجسيد السلطة» في ظل «السلطة المؤسَّسة» في كثير من الدول التي نشأت حديثاً نتيجة زوال الاستعمار، وخاصة في بعض دول القارة الأفريقية والشرق الأوسط؛ كما أنَّ هناك أيضاً دول قديمة النشأة تطغى فيها شخصية القائد «البطل المُلْهَم» على المؤسَّسة، فلا يعود المواطن قادراً على التمييز بين السلطة وشخصية من يمارسها، وذلك بفضل قوة شخصية القائد من جهة، والظروف الموضوعية التي رافقت وصوله إلى السلطة (أزمات اقتصادية وسياسية… إلخ) من جهة أخرى.

وهذا ما حصل في فرنسا، إلى حد ما، في أثناء حكم الرئيس «شارل ديغول» مؤسِّس الجمهورية الفرنسية الخامسة، وكذلك في الولايات المتحدة الأمريكية، في أثناء حكم الرئيس «فرانكلين ديلانو روزفلت» Franklin D. Roosevelt الذي واجه أزمة الكساد العظيم ـ التي هزت العالم الرأسمالي في فترة الثلاثينات من القرن العشرين ـ ببرنامجه الإصلاحي المعروف باسم الصفقة (أو السياسة الاقتصادية) الجديدة New Deal.

5ـ شرعيَّة السلطة السياسية:

إن الحاجة إلى السلطة لا تبرر وحدها نفوذ وقدرة الحُكَّام، فمن أجل ضمان استمرارية السلطة، يجب أن تحظى هذه الأخيرة بقبول المحكومين أو غالبيتهم. فالقدرة على الإكراه لا تكفي الحُكَّام للحفاظ على سلطتهم، إنما يجب عليهم التمتع بثقة المحكومين.

وقد برهنت على ذلك الأحداث التاريخية؛ فانهيار الامبراطوريات التي قامت على الغزو، وزوال الاستعمار، هما الدليل القاطع على رفض الخضوع لسلطة الغازي والمستعمر.

كما أن هاجس الحُكَّام، بضرورة إقناع الشعب بصوابية السياسة التي يتبعونها وعدالتها، هو دليل آخر على حاجة الحُكَّام إلى قبول المواطنين بسلطتهم. وهذا القبول يعبر عنه بواسطة الاقتراع الشعبي والاستفتاء. والمهم هو ترك المواطنين يعبرون عن إرادتهم بحرية تامة، وعدم اللجوء إلى التلاعب بنتائج الاقتراع أو الاستفتاء.

إن ضرورة موافقة المحكومين على سلطة الحُكَّام، تؤدي إلى طرح موضوع شرعيَّة السلطة السياسية؛ فالسلطة السياسية التي لا تملك سوى القوة المادية، والتي لا تحوز على رضى غالبية الشعب على الأقل، لا يمكن عدّها سلطة شرعيَّة. والثورة هي التعبير بالعنف عن رفض السلطة التي يشعر الشعب بأنها ليست شرعيَّة. فعندما تتحول السلطة إلى نوعٍ من القهر المادّي فقط، إنما تكشف عن انحرافٍ مَرَضي ولا تُنبئ عن الوضع الطبيعي للأمور، ومن هنا يرى الفقيه الفرنسي موريس ديڤرجيه M. Duverger أن «الدكتاتورية ليست إلا مرضاً من أمراض السلطة، وليست ظاهرة طبيعية».

ولكن ما هي معايير الشَّرعيَّة، أي ما هي الشروط الواجب توافرها في السلطة لتكون سلطة شرعيَّة؟

في الحقيقة لا توجد معايير دقيقة للشرعية، غير أن احترام القواعد القانونية، وعلى الأخصّ الدستور، يعد في الديمقراطية الليبرالية، شرطاً أساسياً لوجود الشَّرعيَّة، ولكنه غير كاف وحده. فقد يصل الشخص إلى السلطة وفق القواعد القانونية المقرَّرة، ولكنه من الممكن أيضاً أن يفقد لاحقاً صفة الشَّرعيَّة، بسبب سلوكه في الحكم (مثلاً إساءة استعمال السلطة). كما أن حكماً قام نتيجة انقلاب عسكري (حكومة الأمر الواقع)، أي على قواعد مخالفة للقواعد الدستورية المتبعة، يمكنه أن يكتسب شرعيَّة مع مرور الزمن، بفعل الأعمال التي يقوم بها، وتصب في مصلحة الشعب.

لذلك يمكن القول إن الشَّرعيَّة ترتكز على عنصرين متكاملين هما الوصول إلى الحكم وفق القواعد القانونية المقرَّرة، واستعمال السلطة في سبيل تحقيق المصلحة العامة، المعبَّر عنها بواسطة هيئة الناخبين من أفراد الشعب بالاقتراع العام والاستفتاء الحر. وموضوع الشَّرعيَّة معقد، بسبب الجدل الإيديولوجي القائم حوله، فالذي يدَّعي لنفسه الشَّرعيَّة، يحاول في الحقيقة البحث عن مبرِّر لسلطته، فيستعمل الحجج التي تناسبه. والمطلوب هو معرفة ما إذا كانت هذه الحجج شرعيَّة أم لا.

إن مفهوم الشَّرعيَّة هو الأكثر رواجاً في العصر الحاضر، وهو يقضي باعتبار كل سلطة، منبثقة من انتخابات عامة، شرعيّة.

وعلى كل، يمكن القول إن فكرة الشَّرعيَّة مهمة جداً، فعليها ترتكز قوة الحكَّام، وبواسطتها تبرر سلطتهم على المحكومين.

 

مراجع للاستزادة:

 

ـ ثروت بدوي، النظم السياسية (دار النهضة العربية، القاهرة 1994).

ـ جاك ماريتان، الفرد والدولة، ترجمة عبد الله أمين، ومراجعة صالح الشماع وقرياقوس موسيس (منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت 2691).

ـ جان وليام لابيار، السلطة السياسيّة، ترجمة إلياس حنّا إلياس (منشورات عويدات، الطبعة الثالثة، باريس ـ بيروت 1983).

ـ جورج هـ. سباين، تطور الفكر السياسي، الكتاب الثاني، ترجمة حسن جلال العروسي، مراجعة وتقديم محمد فتح الله الخطيب (دار المعارف، الطبعة الثانية، مصر 1969).

ـ جورج هـ. سباين، تطور الفكر السياسي، الكتاب الثالث، ترجمة راشد البراوي، تقديم أحمد سويلم العمري (دار المعارف، مصر 1971).

ـ جورج هـ. سباين، تطور الفكر السياسي، الكتاب الرابع، ترجمة علي إبراهيم السيد، مراجعة وتقديم راشد البراوي (دار المعارف، مصر 1971).

ـ جورج بوردو، الدولة، ترجمة سليم حداد (المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 2002).

ـ روبرت م. ماكيفر، تكوين الدولة، ترجمة حسن صعب (دار العلم للملايين، بيروت 6691).

ـ عبد الله إبراهيم ناصف، السلطة السياسيّة «ضرورتها وطبيعتها» (دار النهضة العربيّة، القاهرة 1983).

ـ عصام سليمان، مدخل إلى علم السياسة (دار النضال للطباعة والنشر، الطبعة الثانية، بيروت 1989).

ـ محمد طه بدوي، النظرية السياسية «النظرية العامة للمعرفة السياسية» (المكتب المصري الحديث، طبعة 1986).

- Bertrand de Jouvenel; Du Pouvoir “Histoire naturelle de sa croissance” (Paris, Hachette, 1972).

- Lapierre (Jean William); Le Pouvoir Politique (Paris: Presses Universitaires 5, pp.3, 1953) de France.

- Tome premier: pouvoir, Burdeau(Georges); Traité de science politique, deuxième édition, politique (Paris,1966).

- 12 ème, Burdeau(Georges); Droit constitutionnel et institutions politiques, édition. LGDJ., Paris, 1966).

- Institutions politiques et droit constitutionne, Prélot (Marcel) et Boulouis (Jean) p.13, ,7 édition, Paris Dalloz 1987).

- BOSSUET (Jacques-Bénigne); Politique tirée des propres paroles de l’Ecriture sainte (Paris, 1709).

- BAKER Keith Michael; The Old regime and the French Revolution (University of Chicago Press 1987).


التصنيف : القانون العام
النوع : القانون العام
المجلد: المجلد الرابع: الرضاع ــ الضمان المصرفي
رقم الصفحة ضمن المجلد : 143
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 1048
الكل : 58491404
اليوم : 63918