الاستصناع
استصناع
al-istisnaa - al-istisnaa
الاستصناع
وهبة الزحيلي
الفرق بينه وبين الإجارة والسَّلَم
الاستصناع في اللغة: طلب الصنعة، والصنعة: عمل الصانع في صنعته، أي حرفته، وفي الاصطلاح الفقهي: طلب العمل من الصانع في شيء مخصوص على وجه مخصوص، وبعبارة أخرى: هو عقد مع صانع على عمل شيء معيّن في الذمة، كصناعة مفروشات أو ألبسة أو أحذية، وقد تطور العمل به في عصرنا، فصار يستعمل في صناعة السيارات والبواخر والطائرات والقطارات، وكذا المنازل ونحوها، وينعقد بالإيجاب والقبول بين المستصنع والصانع.
وتكون المواد الأولية عادة من الصانع، وكذا العمل كله، ويدفع المستصنع عربوناً، وليس كل الثمن، فقد يكون الثمن معجلاً أو مقسطاً، أو مؤجلاً.
وهو ليس مواعدة، ولا وعداً ببيع، ولا سَلَماً، ولا إجارة على العمل، وإنما هو في الصحيح الراجح لدى الحنفية بيع للعين المصنوعة، لا لعمل الصانع، فلو أتى الصانع بما لم يصنعه هو، أو صنعه قبل العقد بحسب الأوصاف المشروطة؛ جاز ذلك.
وهو جائز لدى فقهاء الحنفية استحساناً لتعامل الناس وتعارفهم عليه في سائر العصور من غير إنكار. وقد استصنع الرسول r خاتماً، واحتجم وأعطى الحجام أجره.
وقد لا يكون المتعاقد مع المستصنع صاحب صنعة كالبنك الإسلامي في عصرنا، ونحوه، وإنما يتعاقد البنك مع صانع بمثل مواصفات عقد الاستصناع وشروطه ومدته، بينه وبين المستصنع الأصلي كتصنيع كبلات أو أنابيب ألمنيوم أو حديد ونحو ذلك، فيقال للعقد الثاني «عقد الاستصناع الموازي»: وهو أن يعبر البنك عن رغبته في استصناع الشيء الذي التزمه في عقد الاستصناع الأول، ويتفق مع الصانع على الثمن والأجل المناسبين، ويكون البنك قد ضمَّ لنفسه ربحاً معيّناً زائداً على الثمن مع الصانع الحقيقي. ويلتزم هذا الصانع (البائع) تصنيع السلعة المعيّنة وتسليمها في الأجل المحدد المتفق عليه.
ويتم تسليم المبيع إما مباشرة من البنك إلى المشتري وإما عن طريق أي جهة يفوضها بالتسليم، ويظل الحق للمشتري في التأكد من مطابقة المبيع للمواصفات التي طلبها في عقد الاستصناع الأول، وتنحصر المسؤولية بين كل عاقد ومن تعاقد معه. ويصح كون الاستصناع والاستصناع الموازي حالاًّ أو مؤجلاً.
يشترط في عقد الاستصناع أربعة شروط:
1- بيان جنس المصنوع ونوعه وقدره وصفته: لأنه مبيع، فلابد من كونه معلوماً، فإذا كان شيء مما ذكر مجهولاً، فسد العقد؛ لأن الجهالة في عقود المعاوضات تفضي إلى المنازعة. ويجوز في المصنوع أن يكون من الأموال المثلية، أو من الأموال القيمية إذا انضبطت بالوصف.
2- أن يكون المصنوع مما يجري فيه تعامل الناس كالمصوغات والأواني ووسائل المواصلات ومفروشات المنازل والملابس والأحذية ونحوها؛ لجريان التعامل بها.
3- إن بيان المدة لتسليم المصنوع لا يجوز في رأي أبي حنيفة، ففي بيانها ينقلب العقد سَلَماً إن كانت المدة شهراً فما فوقه، فإن كانت أقل من شهر؛ كان استصناعاً إن تعامل الناس فيه، أو كان القصد من الأجل الاستعجال بلا إمهال.
ولم يشترط الصاحبان (أبو يوسف ومحمد) عدم اشتمال الاستصناع على أجل، والعقد استصناع على كل حال، سواء حدِّد فيه أجل أم لم يحدد؛ لأن العادة تحديد الأجل في الاستصناع، وهذا ما أخذت به مجلة الأحكام العدلية في المادة (389)، فإن حددت مدة لتقديم المصنوع، فانقضت دون أن يفرغ الصانع منه ويسلّمه؛ فالظاهر أن يتخير المستصنع بين الانتظار أو فسخ العقد، كالمقرر في عقد السَّلَم.
4- لابد من بيان مكان تسليم المبيع إذا كان يحتاج إلى حمل ومصاريف نقل.
والشرط اللاحق بالعقد كالشرط الداخل في العقد إن كان شرطاً صحيحاً باتفاق الحنفية، فإن كان شرطاً فاسداً (كالجهالة في ناحية فرعية متممة للعقد) التحق بالعقد، وأفسده في رأي أبي حنيفة. وقال الصاحبان: لا يلتحق الشرط الفاسد بالعقد، بل يبقى العقد صحيحاً، ويلغى الشرط حرصاً على سلامة العقد الذي وجد.
حكم العقد أي أثره الجوهري المترتب عليه: هو ثبوت الملك للمستصنع في العين المصنوعة في الذمة، وثبوت الملك للصانع في البدل المتفق عليه.
وصفة عقد الاستصناع اللزوم عملاً برأي أبي يوسف، وبه أخذت المجلة (م392)؛ لأنه بمجرد العقد يثبت الملك لازماً للمستصنع في العين المصنوعة في الذمة، ويثبت الملك للصانع في الثمن المتفق عليه، فليس لأحد الطرفين الرجوع - ولو قبل الصنع - إلا إذا جاء المصنوع مغايراً للأوصاف المشروطة، فيكون الخيار للمستصنع بفوات الوصف.
ولا يتعلق حق المستصنع في الشيء المصنوع إلا بعرضه عليه من قِبَل الصانع، وعلى هذا فإن للصانع أن يبيع المصنوع لغير المستصنع قبل عرضه عليه، كما تقدم بيانه.
الفرق بينه وبين الإجارة والسَّلَم:
هناك أوجه شبه وافتراق بين الاستصناع والإجارة والسَّلَم كما سنبين:
أما الفرق بينه وبين الإجارة: فهو أنه يختلف عنها من حيث إن الصانع يصنع مادة الشيء المصنوع من ماله، والإجارة ترد على عمل العامل (إجارة الأعمال) أو على المنافع (إجارة المنافع) كمنفعة العقار المستأجر. فإن كانت مواد الصنع في المصنوع من الصانع فهو استصناع، وإن كانت المواد من المستصنع، لا من الصانع؛ فيكون العقد إجارة لا استصناعاً. وأما التوافق فهو أن كلاًّ من العقدين يرد على شيء معدوم عند التعاقد، ويشبه الاستصناع الإجارة في أنه يجوز تأجيل الأجرة فيها.
وكذلك الاستصناع والسَّلم (وهو بيع آجل بعاجل) هما متطابقان في أن كلاًّ منهما بيع لشيء معدوم عند التعاقد، أجيز للحاجة إليه وتعامل الناس به، لكن الباعث على عقد السَّلَم شدة حاجة البائع إلى نقود ينفقها على نفسه وأهله، أو على منتوجه الزراعي، وهو لا يملك ذلك في الحال، لذا سمي «بيع المفاليس». وأما الاستصناع فهو عقد تجاري يحقق الربح للبائع الصانع، ويلبي حاجة المستصنع المعتادة، فيكون الدافع إليه حاجة المستصنع العادية.
وهناك فروق أربعة بين العقدين هي:
1- المبيع في عقد السلم دين (وهو ما يثبت في الذمة) تحتمله الذمة، فهو إما مكيل وإما موزون وإما مذروع وإما عددي متقارب كالجوز والبيض. أما المبيع في الاستصناع فهو عين (أي ما يتعين بالتعيين أو الشيء المعيّن المشخص بذاته أو هي المال الحاضر) لا دين كاستصناع إناء أو أثاث أو وسيلة نقل كما تقدم.
2- لابد في السلم من تعيين أجل لوفاء المسلم فيه (المبيع)، فهو لا يصح عند أغلب الفقهاء غير الشافعية إلا لأجل كشهر فما فوقه، أما الاستصناع في اجتهاد أبي حنيفة رحمه الله؛ فإن حدد فيه أجل انقلب سَلَماً، ولا خيار شرط في السلم. لكن قال الصاحبان - وبرأيهما أخذت المجلة كما تقدم -: يصح الاستصناع لأجل أو لغير أجل؛ لأن عرف الناس تحديد الأجل فيه، كما تقدم. وأجاز الشافعية السَّلَم الحال الذي يتم بوساطته بيع الشيء الغائب عن المجلس.
3- عقد السَّلم لازم لا يجوز فسخه بإرادة أحد العاقدين، وإنما بتراضيهما واتفاقهما معاً على الفسخ. وأما الاستصناع فهو في الأصل عقد غير لازم، فيجوز لأي طرف من العاقدين فسخه في ظاهر الرواية، ويسقط خيار الصانع إذا أحضره على الصفة المشروطة، وللمستصنع الخيار.
وقد رأى أبو يوسف -وبرأيه أخذت المجلة- أن عقد الاستصناع لازم، لا يجوز لأحد الطرفين فسخه ولو قبل الصنع؛ إلا إذا جاء المصنوع مغايراً للأوصاف المشروطة، وحينئذ لا يبقى هنا فرق بين السلم والاستصناع.
4- يشترط في عقد السَّلم قبض جميع الثمن أو رأس مال السلم كله في مجلس العقد، حتى لا يكون العقد بيع دين بدين، ولا يشترط قبضه في الاستصناع، ويكتفي الناس عادة بدفع عربون أو جزء من الثمن كالنصف أو الثلث أو الربع؛ عملاً بمذهب الحنابلة. وهذا من أهم الفروق العملية بين الاستصناع والسَّلَم، حيث يكون الأول أيسر على الناس؛ خلافاً للثاني الذي يشترط فيه قبض جميع الثمن.
مراجع للاستزادة: |
- علاء الدين أبو بكر بن مسعود الكاشاني الحنفي، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (مطبعة الجمالية، مصر، الطبعة الأولى 1328هـ/1910م).
- وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته (دار الفكر، دمشق، الطبعة الأولى 1404هـ/1984م والطبعات اللاحقة).
- عز الدين خوجة، أدوات الاستثمار الإسلامي (دلة البركة، جدة، الطبعة الأولى 1413هـ/1993م).
- التصنيف : العلوم الشرعية - النوع : العلوم الشرعية - المجلد : المجلد الأول: الإباحة والتحريم ـ البصمة الوراثية - رقم الصفحة ضمن المجلد : 206 مشاركة :