النظام الرئاسي
نظام رياسي
presidential regime - régime présidentiel
جميلة الشربجي
يرتبط النظام الرئاسي Le régime
Présidentiel
بنظرية "الفصل بين السلطات" التي لاقت إقبالاً كبيراً في القرن الثامن
عشر حينما كان المؤسسون الأمريكيون يضعون دستورهم الجديد، ويعزى هذا الإقبال
الكبير على نظرية "الفصل بين السلطات" إلى أفكار كاتبين شهيرين هما: جون
لوك ومونتسكيو فقد وجد جون لوك ـ في نهاية القرن السابع عشرـ أن النزاع المستحكم
بين الملك والبرلمان في بريطانيا لن يحل بنجاح إلا إذا تم فصل السلطة التنفيذية ـ
وعلى رأسها الملك ـ عن السلطة التشريعية المتمثلة في مجلسي البرلمان (العموم
واللوردات)؛ بحيث يكون لكل منهما اختصاصاته المستقلة عن اختصاصات الطرف الآخر.
وفي منتصف القرن الثامن عشر دافع الكاتب الفرنسي
مونتسكيو عن مبدأ فصل السلطات في كتابه "روح القوانين" باعتباره سلاحاً
من أسلحة الكفاح ضد الحكومات المطلقة التي كانت قائمة على تركيز السلطات بيد
الملوك؛ ممتدحاً النظام الملكي الإنكليزي الدستوري؛ مفضلاً إياه على النظام الملكي
المطلق؛ موضحاً مدى المخاطر التي ستنجم عن تركيز السلطات في يد واحدة والتي ستؤدي
إلى القضاء على الحرية، ولذلك إذا أريد تحقيق أعظم قدر من الحرية فلا بد من توزيع السلطات
على هيئات مختلفة، تحد الواحدة منها الأخرى وتحول دون طغيانها بحيث "توقف
السلطة السلطة".
وقد كان لكتابات هذين المفكرين أثر كبير في صياغة مواد
الدستور الأمريكي الذي أخذ بالنظام الرئاسي؛ إذ وجد واضعوا الدستور في هذا المبدأ
سياجاً منيعاً للحريات وسلاحاً يقي من الاستبداد والطغيان، فقد كانوا يعتقدون أن
خطأ الحكومة البريطانية الذي دفع المستعمرات الأمريكية إلى الثورة التحريرية؛ هو
عدم احترام تلك الحكومة لمبدأ "الفصل بين السلطات".
أولاً ـ
ماهية النظام الرئاسي
النظام الرئاسي ـ وكما تبناه المؤسسون الأمريكيون ـ كان
تطويراً للنظام الملكي المطلق الذي كان سائداً في القارة الأوربية؛ مع فارق مهم هو
استبدال رئيس منتخب بالملك؛ مع الفصل شبه التام بين سلطاته والسلطة التشريعية التي
يتولاها "الكونغرس"؛ إذ أراد واضعو الدستور الأمريكي تقوية مركز رئيس
الجمهورية وتدعيم سلطته الفعلية.
صحيح أن النظام الرئاسي مشتق من كلمة "الرئيس"
وهو الأمر الذي يدل على المكانة الخاصة التي يتمتع بها رئيس الدولة فيه، بيد أن
ذلك لا يعني بحال من الأحوال تركيز السلطة في يد الرئيس، وإنما الصحيح هو تركيز
"السلطة التنفيذية" فقط في يد رئيس الدولة باعتباره رئيس الحكومة في
الوقت ذاته من دون تركيز جميع السلطات من تشريعية وتنفيذية وقضائية بين يديه؛ ذلك
لأن لوظيفة التشريع هيئة قائمة ومستقلة بذاتها هي البرلمان، ولوظيفة القضاء جهة
مستقلة تمارسها على نحو مستقل عن رئيس الدولة، هي المحاكم بمختلف درجاتها.
هذا المركز المتفوق الذي يتمتع به الرئيس في هذا النظام؛ هو الذي دفع الدكتور
عبد الحميد متولي لتعريف النظام الرئاسي بأنه "ذلك النظام الذي يتقرر فيه
للرئيس الرجحان في كفة ميزان السلطان".
ثانيا ًـ
خصائص النظام الرئاسي
يتميز النظام الرئاسي بعدد من الخصائص التي تميزه من غيره من النظم السياسية وهي:
1ـ رئيس
منتخب من قبل الشعب: يقوم النظام الرئاسي
على أساس وجود رئيس دولة منتخب من قبل الشعب، وهذا شرط مهم يجد تبريره في تلك
السلطة الفعلية المركزة في يد الرئيس؛ والتي تجد أساسها الديمقراطي الشرعي في
انتخاب الشعب للرئيس.
هذه الخاصة تعني أن ثمة تعارضاً مطلقاً بين النظام
الرئاسي والنظام الملكي، ففي النظام الأخير يصل رئيس الدولة إلى السلطة بطريق
الوراثة، أما في النظام الرئاسي فيحتل الرئيس منصبه عن طريق الانتخاب؛ بمعنى أن
النظام الرئاسي يفترض حتماً نظاماً للحكم له الشكل الجمهوري لا الملكي.
وهنا لا يشترط أن يتم انتخاب الرئيس مباشرة من قبل
الشعب؛ بمعنى أنه ليس لازماً أن تقوم "هيئة الناخبين" ـ المكونة من كل
من له حق مباشرة الحقوق السياسية ـ باختيار رئيس الدولة مباشرة من دون وساطة؛ لأن
من الممكن أن يتم انتخاب الرئيس على درجتين بحيث تقوم هيئة الناخبين بانتخاب
مندوبين يتولون بالنيابة عنها اختيار الرئيس.
ويبدو أن اشتراط الانتخاب الشعبي للرئيس ـ سواء أكان
مباشراً أم غير مباشرـ قصد منه وضع الرئيس في مركز مساوٍ للبرلمان الذي ينتخب
أعضاؤه من قبل الشعب، بل إن ذلك الانتخاب يضعه من الناحية الواقعية في مركز متميز
من البرلمان؛ لأنه منتخب من جميع أفراد الشعب وحائز موافقة أغلبية أفراده، في حين
أن أعضاء البرلمان لم يحوزوا إلا ثقة أغلبية الناخبين في دائرة معينة.
فالانتخاب الشعبي للرئيس يؤدي دوراً جوهرياً في تمييز
النظام الرئاسي، وذلك على عكس ما ذهب إليه بعض الفقه من الرأي بأن ذلك الانتخاب
الشعبي للرئيس ليست له قيمة مطلقة في تمييز النظام الرئاسي، ضاربين مثلاً لذلك
"النظام النمساوي" حيث ينتخب رئيس الدولة مباشرة من قبل الشعب؛ بناء على
التعديل الدستوري الذي تم عام 1962، من دون أن يكون له الحق في ممارسة الاختصاصات المعترف
بها للرئيس في ظل النظام الرئاسي، بل هو على العكس يمارس اختصاصات رئيس الدولة
طبقاً لما يقرره النظام البرلماني، بيد أن "النظام النمساوي"ـ وكما لاحظ
بعض الفقه ـ لا يصح القياس عليه، فالنمسا بلد صغير له ظروفه الخاصة والتي لا يمكن
تعميمها، والدليل على ذلك أن رئيس الدولة في فرنسا وتحديداً الجنرال شارل ديغول
مارس منذ لحظة انتخابه المباشر من قبل الشعب ـ بناء على التعديل الدستوري الذي تم
عام 1962ـ اختصاصات رئيس الدولة في ظل النظام الرئاسي، وذلك على الرغم من مظاهر
النظام البرلماني التي قررتها النصوص الدستورية.
2ـ تركيز السلطة
التنفيذية في يد الرئيس: ففي النظام الرئاسي
يستقل رئيس الدولة بممارسة السلطة التنفيذية قانونياً وواقعياً حيث يجمع بين صفتي
رئيس الدولة ورئيس الحكومة، أي إن هذا النظام لا يعرف فكرة التمييز بين منصبي رئيس
الدولة ورئيس الحكومة، وهو الأمر الذي يميز النظام الرئاسي من نظيره البرلماني؛
والذي يكون فيه رئيس الدولة صاحب السلطة اسمياً فقط من دون أن يباشرها بنفسه من
الناحية الواقعية، وهو ما يعبر عنه بعبارة: "رئيس الدولة يسود ولا يحكم"
ذلك أن اختصاص مباشرة السلطة التنفيذية في النظام البرلماني يعود إلى الوزارة
وحدها.
أما في النظام الرئاسي فرئيس الدولة هو الذي يمارس
وبنفسه اختصاصات السلطة التنفيذية فهو الذي يسود ويحكم في الوقت ذاته، فهو الذي
يقوم بتمثيل الدولة في المؤتمرات الدولية لكونه صاحب الحق في وضع سياستها العامة
والتي تطبق في الداخل وفي الخارج في علاقاتها الدولية، وهو صاحب الحق في تعيين
الموظفين وعزلهم، وهو صاحب الاختصاص العام في مجال تنفيذ القوانين وإدارة شؤون
الحكم، حيث تنفذ قراراته مباشرة من دون حاجة إلى توقيع وزير أو رئيس وزراء عليها
لتنفذ، أما الوزراء والذين يعرفون باسم السكرتيرين Secrétaires فهم مجرد مساعدين لرئيس الدولة،
يقتصر عملهم على تنفيذ سياسته وأوامره، ولذلك صح تسميتهم بالسكرتيرين أو بالأمناء
وذلك للتدليل على عدم أحقيتهم في رسم سياسة خاصة بهم؛ ولكونهم مجرد أدوات في يد
رئيس الدولة الذي يستخدمهم في تنفيذ سياسة الدولة التي له فيها الكلمة الأولى
والأخيرة.
ونتيجة لتركز السلطة التنفيذية في يد الرئيس فلا وجود في
النظام الرئاسي لما يسمى بـ"مجلس الوزراء" بالمعنى الفني والسياسي
المعروف في النظام البرلماني، وبالتالي لا وجود لـ"رئيس مجلس الوزراء"
ولا "للوزراء"، فرئيس الدولة في النظام الرئاسي يجمع في يده مقاليد
السلطة التنفيذية ويقرر السياسة العليا للدولة من دون أن يكون محتاجاً إلى جمع
الوزراء ليصدروا قراراتهم، بل إن كلاً منهم يعمل منفرداً تحت إشراف رئيس الدولة
المباشر واضعاً نفسه تحت تصرف الرئيس لتنفيذ السياسة التي يراها ملائمة.
وهؤلاء الوزراء لا يكونون هيئة جماعية متضامنة كمجلس
وزراء، ذلك لأن كلاً منهم يتولى إدارة شؤون وزارة معينة مستقلاً عن الآخرين؛ إذ
يشرف على عدد من الموظفين التابعين له والذين يعتمد عليهم في تنفيذ سياسة الرئيس
وأوامره في حدود نشاط الوزارة التي يشرف عليها، ويكون مسؤولاً عنها أمام الرئيس
وحده مباشرة.
صحيح أن الرئيس قد يجمع وزراءه من وقت إلى آخر بهدف
التشاور والمناقشة، بيد أن هذا الاجتماع ليس لاتخاذ القرارات وإنما بهدف التشاور
معهم والاستئناس برأيهم في بعض الأمور أحياناً؛ لأن سلطة التقرير والفصل هي من
اختصاص رئيس الدولة وحده والذي له أن يصدر قراراته بالاعتماد على رأيه وحده حتى لو
كانت متعارضة مع رأي أغلبية الوزراء أو كلهم، لأن النظام الرئاسي لا يعرف هيئة
اسمها "مجلس الوزراء"؛ الذي يهيمن على مصالح الدولة ويرسم سياستها
العامة ويتخذ قراراته بالأغلبية، وإنما يمكن القول: إن الوزراء في النظام الرئاسي
يخضعون لرئيس الدولة خضوع المرؤوس لرئيسه الإداري الأعلى في السلم الإداري،
وبالتالي فالقرار الصادر عنهم عند اجتماعهم مع الرئيس لا يعد قراراً صادراً عن
مجلس الوزراء وإنما ينسب فقط إلى رئيس الدولة.
ومن مظاهر تفوق الرئيس في المجال التنفيذي حريته في
اختيار وزرائه من دون أن يكون مقيداً برأي الأغلبية البرلمانية؛ إذ يكون له الحق
في تعيين الوزراء وعزلهم، بحيث يدين هؤلاء بوجودهم في مواقعهم بهدف تنفيذ السياسة
التي قررها هذا الرئيس للرئيس وحده، وإذا حدث أن خالف أحدهم هذه السياسة أو حاول
وضع سياسته الخاصة من دون الالتفات إلى السياسة التي قررها الرئيس؛ كان لهذا
الأخير الحق في عزله وإبعاده عن منصبه واختيار وزير آخر يكون أكثر التزاماً في
أداء واجبه ضمن السياسة العامة للدولة التي انفرد الرئيس برسمها.
3ـ الفصل شبه المطلق
بين السلطات: يقوم النظام الرئاسي في نموذجه
النظري على مبدأ توازن الهيئتين التشريعية والتنفيذية واستقلالهما في مباشرة
اختصاصاتهما؛ بحيث تستقل السلطة التشريعية بمباشرة اختصاصها في وضع القواعد العامة
والمجردة عن السلطة التنفيذية والتي تستقل هي أيضاً في ممارسة اختصاصاتها، الأمر
الذي يعني نظرياً انعدام أي علاقة تعاون بين هاتين السلطتين، وذلك على عكس النظام
البرلماني الذي يقوم على أساس التعاون والرقابة المتبادلة بين السلطتين التشريعية
والتنفيذية نظراً لتبنيه مبدأ الفصل النسبي أو المرن.
ففي النظام الرئاسي تستقل السلطة التشريعية بممارسة
وظيفتها كما حددها الدستور وذلك من دون أدنى مشاركة لها من السلطة التنفيذية، ومن
هنا امتنع على رئيس السلطة التنفيذية دعوة البرلمان إلى الانعقاد، كما لا يجوز له
فض اجتماعات البرلمان أو تأجيل أدوار انعقاده أو وضع حد لوجوده القانوني من خلال
"حله" قبل حلول الأجل المحدد قانوناً لإجراء الانتخابات الجديدة، وذلك
على عكس النظام البرلماني والذي تتمتع به السلطة التنفيذية بالقدرة على حل
البرلمان وذلك كسلاح مقابل وموازن لحق البرلمان في تحريك المسؤولية السياسية
للوزارة وإجبارها بالتالي على الاستقالة أحياناً.
كما أن من مقتضى استقلال السلطة التشريعية في ممارسة
وظيفتها التشريعية؛ عدم قدرة السلطة التنفيذية على الاشتراك معها في ذلك بأي صورة
من الصور، فلا تستطيع تلك الأخيرة أن تقدم أي اقتراحات بقوانين حتى لو كانت ذات
طبيعة مالية؛ إذ ليس من حق السلطة التنفيذية قانونياً إعداد مشروع الميزانية،
وإنما هذا الاختصاص عائد إلى البرلمان الذي يقوم بإعداد الميزانية العامة للدولة
عن طريق لجانه الفنية ويكون له الحق في مناقشتها وإقرارها، وكل ما يسمح به من جانب
السلطة التنفيذية هو تقديم تقرير سنوي يبين الحالة المالية للدولة ومصروفات
الحكومة في السنة المنقضية واحتياجاتها للسنة الجديدة.
عدا عن أن الجمع بين منصبي الوزارة وعضوية المجلس
النيابي غير جائز في النظام الرئاسي؛ إذ لا يمكن تعيين الوزراء من بين أعضاء
البرلمان، ولو حصل أن قام رئيس الدولة باختيار بعض وزرائه من بين أعضاء البرلمان؛
فعلى هؤلاء أن يقدموا استقالتهم من البرلمان مباشرة ليتم انتخاب من يحل محلهم، ولا
يحق للوزراء حضور اجتماعات المجلس بصفتهم هذه لشرح سياسة الرئيس أو الدفاع عنها؛
أو حتى الاشتراك في المناقشات البرلمانية أو الاقتراع على القوانين، وإن كان لهم ـ
إن أرادواـ الحق في الحضور إلى البرلمان لمشاهدة جلساته فإنه بصفتهم أفراداً
عاديين فقط من دون أن يكون لهم الحق في الاشتراك في النقاش.
وكما يستقل البرلمان في ممارسته لوظيفته التشريعية عن
السلطة التنفيذية فإن هذه الأخيرة تستقل في ممارستها لوظيفتها عن البرلمان، فمن
ناحية ليس لهذا الأخير أي سلطة بمواجهة رئيس الدولة والذي يستمد سلطته ـ شأنه شأن
أعضاء البرلمان ـ من الشعب الذي قام بانتخابه من دون أدنى تدخل من البرلمان.
ومن ناحية أخرى لا يكون للبرلمان أي سلطة في مواجهة
الوزراء، فلا يكون له أي حق في محاسبتهم أو مراقبة أعمالهم من خلال وسائل الرقابة
المعروفة في النظام البرلماني؛ كتوجيه الأسئلة أو الاستجوابات أو تقرير مسؤوليتهم
السياسية أمامه ونزع الثقة عنهم، لأن الوزراء مسؤولون أمام رئيس الدولة وحده، بل
الأكثر من ذلك أن البرلمان لا يملك أي حق في محاسبة الرئيس سياسياً؛ وإن كان له
هذا الحق من الناحية الجنائية إذ يمكن للرئيس ووزرائه أن يكونوا موضع اتهام
ومحاكمة عن الجرائم التي يرتكبونها.
ومن خلال ما سبق يتضح أن النظام الرئاسي يعمل على إقامة
الفصل شبه المطلق بين السلطتين التشريعية والتنفيذية؛ بهدف تحقيق المساواة الكاملة
بين هاتين السلطتين واستقلال كل سلطة عن الأخرى استقلالاً كاملاً، بحيث لا يجوز
لإحدى السلطتين التدخل في عمل السلطة الأخرى.
ومع ذلك يقرر الفقه أن هذا الفصل الجامد بين السلطات ـ
كما يقرره النظام الرئاسي من الناحية النظرية ـ غير متحقق عملياً؛ إذ إن الدساتير
التي أخذت بهذا النظام لطفت من حدته من خلال تقريرها للعديد من الاستثناءات والتي
ستتضح بمناسبة استعراض النظام السياسي للولايات المتحدة الأمريكية؛ باعتباره
النموذج العملي للنظام الرئاسي باتفاق الفقهاء.
ثالثاً ـ
تطبيقات النظام الرئاسي
نشأ النظام الرئاسي وتطور في الولايات المتحدة الأمريكية
التي كانت الدولة الأولى في العالم التي هجرت النظام الملكي الذي كان سائداً في
أوربا في ذلك الوقت وطبّقت النظام الرئاسي، فأركان هذا النظام وخصائصه الأساسية
كُتبت في الدستور الأمريكي الذي تم وضعه في مؤتمر فيلادلفيا عام 1787.
ومن الولايات المتحدة الأمريكية انتشر هذا النظام انتشاراً كبيراً في كثير من
دول العالم التي حاولت تقليد النظام الرئاسي السائد في الولايات المتحدة الأمريكية
بعد أن أصبح نموذجاً يحتذى به.
ومن بين الدساتير التي أخذت بهذا النظام الدستور الأرجنتيني لسنة 1853؛ والذي
نصت المادة (74) منه على أن "السلطة التنفيذية في الدولة خولها المواطنون
لرئيس الدولة".
والدستور البرازيلي لسنة 1967؛ والذي أوضح المركز المتفوق للرئيس عندما نص على أن
"رئيس الدولة يمارس مهام عمله بمساعدة الوزراء".
إضافة إلى العديد من دول أمريكا اللاتينية والجنوبية والتي عملت على تقليد ذلك
النظام، بيد أن هذا التقليد كان ظاهرياً أكثر منه حقيقياً. ذلك أن هذه الدول وإن
عملت على تقوية مركز رئيس الدولة من خلال توسيعها لسلطاته واختصاصاته، بيد أنها لم
تعمل على صيانة الحريات والحقوق العامة للمواطنين كما فعل دستور الولايات المتحدة
الأمريكية، وإنما اتسمت تلك النظم التي حاولت تقليد النظام الرئاسي بالشخصانية
والبعد عن الديمقراطية.
ودول أخرى أنشأت نظماً هجينة حيث عملت على تبني النظام
الرئاسي وإلى جواره بعض مظاهر النظام البرلماني، ومنها فرنسا في ظل دستورها الحالي
لعام 1958 والتي ابتكرت نظاماً جديداً أطلق عليه الفقه الدستوري اسم النظام
"شبه الرئاسي" أو "نصف الرئاسي". وكذلك
الأمر في جمهورية مصر العربية في ظل دستورها الحالي الصادر عام 1971، والجمهورية
العربية السورية في ظل دستورها الحالي لعام 1973.
بيد أنه وعلى حد قول الأستاذ الفرنسي موريس دوفرجيه تبقى
الولايات المتحدة الأمريكية الدولة الوحيدة في العالم التي تطبق النظام الرئاسي
البحت.
رابعاً ـ
النظام
السياسي للولايات المتحدة الأمريكية كنموذج للنظام الرئاسي
الدستور الذي ينظم الولايات المتحدة الأمريكية اليوم هو
الدستور ذاته الذي وضع في مؤتمر فيلادلفيا عام 1787؛ والذي كان من نتيجته انصهار
الدول الثلاث عشرة؛ المستقلة حديثاً عن بريطانيا في دولة واحدة ذات نظام سياسي
لامركزي (فيدرالي).
وقد تبنى ذلك الدستور النظام
الرئاسي والذي تتضح مظاهره من خلال ما يلي:
1ـ الانتخاب
الشعبي لرئيس الدولة: يتولى الرئيس الأمريكي
منصبه عن طريق انتخاب الشعب له، الأمر الذي يعزز مركزه في الدولة ويحقق استقلاله
تجاه السلطة التشريعية نظراً لاتحاد مصدرهما؛ إذ ينتخب كلاهما من قبل الشعب.
وقد اشترط الدستور الأمريكي في المرشح للرئاسة توافر
الشروط الثلاثة التالية:
أولها: أن يكون أمريكياً بالميلاد؛ وعلى ذلك فمن يحصل على الجنسية الأمريكية
بطريق التجنس لا يحق له أن يرشح نفسه لمنصب الرئاسة، وذلك أنه شرط لضمان انتمائه
القومي إلى الدولة التي قد يصبح رئيساً لها.
وثانيها: أن يكون المرشح قد
أقام في الولايات المتحدة الأمريكية مدة لا تقل عن أربعة عشر عاماً؛ وذلك بقصد
التحقق من ارتباط المرشح بالتراب الوطني.
وثالثها: أن يكون بالغاً من
العمر خمسة وثلاثين عاماً؛ بحيث يكون بالتالي ناضجاً ومؤهلاً للبت في المسائل ذات
الطابع القومي.
ومنذ قيام الأحزاب السياسية المنظمة سيطرت هذه الأخيرة
على الانتخابات، فأصبح من المستحيل لأي شخص مهما كانت مؤهلاته أو شخصيته أن يصبح
رئيساً للولايات المتحدة إلا إذا وجد من ورائه حزباً يدعمه، الأمر الذي أضاف إلى
هذه الشروط الثلاثة شرطاً عرفياً جديداً لا يمكن تجاهله تحت طائلة خسارة
الانتخابات الرئاسية.
أما عن طريقة انتخاب الرئيس فهي تتم من قبل الشعب ولكن
بطريقة غير مباشرة، وهي بحسب النص الأصلي للدستور ـ قبل التعديلات التي طرأت عليه
ـ تتم على أساس قيام الولايات الأعضاء، باختيار عدد من المندوبين ـ يطلق عليهم اسم
الناخبين الرئاسيين ـ يساوي عدد ممثليها في مجلسي الكونغرس (مجلس النواب ومجلس
الشيوخ)، وهؤلاء المندوبون يتم اختيارهم من قبل برلمانات الولايات ثم يقوم هؤلاء
المندبون بانتخاب الرئيس.
على أنه تم العدول عن هذا الأسلوب في الاختيار؛ إذ يتم حالياً اختيار الرئيس على ثلاث مراحل:
أ ـ تعيين مرشحي الأحزاب: تبدأ أولى خطوات الترشيح للرئاسة في إعلان الراغبين في المنصب عن أملهم في
ترشيحهم من قبل الحزب الذي ينتمون إليه قبل سنة من اجتماعات المؤتمر العام للحزب،
وعندها يعقد الحزبان الديمقراطي والجمهوري مؤتمراتهما القومية لتحديد مرشح الحزب
لمنصب الرئاسة، حيث تتم تسمية المرشحين للرئاسة عن طريق "المندوبين"
والذين تختلف طريقة اختيارهم باختلاف الولايات الأعضاء في الاتحاد، وبعد اختيار
المندوبين ينعقد المؤتمر الخاص بكل حزب لاختيار مرشحيه للرئاسة؛ حيث يتم أخذ أصوات
مندوبي الولايات، والمرشح الذي يحصل على الأغلبية المطلقة للأصوات يتم ترشيحه من
قبل المؤتمر. أما إذا لم يحصل أحد على الأغلبية المطلوبة
فتعاد عملية التصويت حتى يحصل أحدهم على الأغلبية المطلوبة، فيكون هو المرشح لمنصب
الرئاسة؛ والذي يقوم بالتالي بترشيح نائب الرئيس وذلك بعد التشاور مع قادة الحزب
الذي ينتمي إليه.
ب ـ انتخاب الناخبين الرئاسيين: كل أربعة أعوام وفي يوم الثلاثاء الذي يلي أول اثنين من شهر تشرين
الثاني/نوفمبر؛ يقوم الشعب الأمريكي في الولايات الأعضاء بانتخاب "ناخبيه
الرئاسيين"، وهو بهذا يحدد بدقة شخصية الرئيس ونائبه، ذلك لأن الناخبين
الرئاسيين ينتخبون بناء على موقفهم المعلن، بمعنى أنهم ملزمون بانتخاب من تعهدوا
بانتخابه؛ إذ تقوم كل ولاية بانتخاب عدد مماثل لعدد ممثليها في مجلسي النواب
والشيوخ، وبهذا يبلغ العدد (538) ناخباً، وهذا عدد مساوٍ لعدد أعضاء مجلس النواب
(435 عن الولايات جميعها + 3 أعضاء عن منطقة كولومبيا) مضافاً إليه أعضاء مجلس
الشيوخ والبالغ عددهم (100) عضو. وتبدأ عملية انتخاب "ناخبي الرئيس"
بقيام كل حزب بتقديم قائمة بمرشحيه، ويقوم كل ناخب في كل ولاية بالإدلاء بصوته
لمصلحة قائمة واحدة فقط من هذه القوائم؛ إذ تأخذ الولايات الأمريكية كلها بنظام
القوائم المغلقة، بحيث لا تسمح بنظام المزج بين القوائم، وتفوز القائمة التي تحصل
على الأغلبية النسبية لأصوات الناخبين، وبالتالي يفوز مرشحو حزب واحد فقط في كل
ولاية بتمثيلها في الهيئة الانتخابية للرئيس.
ج ـ انتخاب الرئيس: يجتمع الناخبون الرئاسيون في العاصمة لاختيار الرئيس، ويعتقد الأمريكيون
أن هذه العملية شكلية، نظراً لأن الرئيس سيكون معروفاً ضمناً منذ لحظة اختيار
الناخبين الرئاسيين له، وأكثر من ذلك فقد ذهب بعضهم إلى الرأي بأن انتخاب رئيس
الولايات المتحدة الأمريكية المنصوص عليه في الدستور إنما يتم في الواقع بواسطة
الشعب بطريق مباشر، ذلك أن ناخبي الدرجة الأولى الذين يقومون بانتخاب
"المندوبين" إنما يختارون في الواقع رئيس الدولة؛ لأن هؤلاء المندوبين
المختارين ملتزمون أدبياً بإعطاء أصواتهم لمرشح الحزب الذي ينتمون إليه، وبما أن
هؤلاء المندوبين يتم اختيارهم عن طريق الانتخاب الشعبي؛ فقد أصبح الناخبون يعلمون
مسبقاً أن أصواتهم ستؤدي إلى انتخاب مرشح الرئاسة الذي يؤيدونه في حال فوز القائمة
المقدمة من حزب هذا المرشح.
يقوم هؤلاء "الناخبون الرئاسيون" بالتصويت في
اقتراع سري؛ محدداً كل منهم الشخص الذي ينتخبه لمنصب الرئيس، وهنا يتم إعداد قوائم
يتم إرسالها إلى مقر الحكومة الاتحادية في واشنطن باسم رئيس مجلس الشيوخ الذي يقوم
بفتح هذه القوائم في حضور أعضاء مجلس الشيوخ والنواب، ويفوز بالرئاسة الشخص الذي
يحصل على الأغلبية المطلقة لأصوات الناخبين الرئاسيين.
ويتولى هذا الأخير مهام منصبه مدة أربع سنوات قابلة
للتجديد مرة واحدة فقط؛ بناء على التعديل الثاني والعشرين للدستور والذي نص على
أنه "لا يجوز انتخاب أي شخص لمنصب الرئاسة لأكثر من مرتين اثنتين"،
وبذلك لا تزيد مدة الرئاسة المحددة دستورياً على ثماني سنوات.
2ـ حصر السلطة
التنفيذية في يد رئيس الدولة: يعد الرئيس الأمريكي
من أكثر الرؤساء المنتخبين سلطاناً في العالم وأقواهم، ومرجع ذلك إلى الاختصاصات
الواسعة التي يتمتع بها؛ والتي جعلت منه رمزاً لوحدة الوطن وسيادته؛ إذ تنص المادة
الثانية من الدستور على أن "السلطة التنفيذية منوطة برئيس الولايات المتحدة
الأمريكية" فهو:
أ ـ رئيس الدولة ورئيس
الحكومة في الوقت ذاته: فرئيس الولايات المتحدة الأمريكية هو صاحب السلطة الفعلية في ميدان السلطة
التنفيذية، فهو الذي يتولى ممارسة هذه السلطة باعتباره الرئيس الفعلي لها؛ إذ لم
يرد في الدستور أي نص يتعلق بمشاركته في رئاسة هذه السلطة من قبل أي فرد أو هيئة.
ويستتبع ذلك عدم وجود مجلس وزراء بالمعنى القانوني المعروف في النظام البرلماني،
فلا وجود لمجلس متضامن ذي إرادة واحدة يتولى مهمة البت والتقرير في شؤون الدولة
بأغلبية أعضائه، فالوزراء هم مجرد مساعدين للرئيس يطلق عليهم اسم "السكرتيرين"،
ولذلك لا يكون لهم أن يجتمعوا ويصدروا أي قرارات مستقلة عن الرئيس، وإذا اجتمع
الرئيس بوزرائه فإن ذلك يكون لمجرد التشاور والمداولة بحيث ينفرد وحده بالرأي
النهائي في الموضوعات محل المداولة، ويذكر الفقه في هذا الصدد واقعة تتلخص في أن
الرئيس لنكولن جمع وزراءه لبحث مسألة من المسائل، وبعد البحث والمناقشة تبين أن
الوزراء جميعاً قد تبنوا رأياً مخالفاً لرأيه، فما كان من الرئيس لنكولن إلا أن
ذكر عبارته الشهيرة: "سبعة أصوات قالوا (لا) و(نعم) واحدة، إذاً نعم هي التي
تغلب" وذلك دلالة على أن رأي الرئيس يتغلب على رأي الوزراء جميعاً وليس
لرأيهم أي إلزام للرئيس.
ب ـ رئيس الدولة هو صاحب
القول الفصل بصدد تعيين الوزراء: وذلك على الرغم
من وجود نص في الدستور يوجب الحصول على موافقة مجلس الشيوخ على تعيينهم. ذلك أنه
من الناحية الواقعية يمارس الرئيس سلطاته كاملة في هذا المجال، فقد جرى العرف على
عدم اعتراض مجلس الشيوخ على هذا الترشيح وذلك طبقاً لقاعدة "مجاملة
الشيوخ"، فبمقتضى هذه القاعدة يترك مجلس الشيوخ للرئيس الحرية المطلقة في
اختيار وزرائه من دون تدخل منه إلا في استثناءات بسيطة، وبالرغم من ذلك فإن سلطة
الرئيس في تعيين وزرائه ليست مطلقة، ذلك أنه يتوجب عليه مراعاة
اعتبارين:
(1) ـ يجب على الرئيس اختيار وزرائه من الحزب الذي
ينتمي إليه، فإذا كان الرئيس جمهورياً اختار وزراءه من الحزب الجمهوري، أما إذا
كان ديمقراطياً فيختارهم من الحزب الديمقراطي.
(2) ـ يلتزم الرئيس أدبياً تجاه رجال المال والسياسة الذين
دعموه في أثناء الحملة الانتخابية، الأمر الذي يحتم عليه تعيين بعضهم وزراء له.
وفيما عدا ذلك يكون للرئيس الحرية في اختيار وزرائه
ومساعديه وذلك نتيجة طبيعية لانفراده برسم السياسة العامة للدولة وتنفيذها؛ نظراً
لاستحالة قيامه بهذه المهمة منفرداً.
ج ـ لرئيس الدولة وحده
سلطة عزل وزرائه: من دون حاجة إلى موافقة الكونغرس
على ذلك، فالوزراء هم مجرد مساعدين للرئيس في تنفيذ إرادته وسياسته وتقديم المشورة
له بغية الوصول إلى قراره، من دون أن يكون لهم أي سياسة خاصة بهم، لذلك فإنهم
مسؤولون أمامه وحده وغير مسؤولين أمام السلطة التشريعية التي ليس لها أي سلطة
عليهم، فلا تملك الحق في إجبار الرئيس على عزل أحد وزرائه ما دام هذا الأخير
راضياً عن أدائه وعن حسن تنفيذه للسياسة العامة، ويترتب على ذلك أن يبقى هؤلاء
الوزراء محتفظين بمناصبهم ما داموا حائزين ثقة الرئيس بهم.
د ـ لرئيس الدولة ممارسة جميع اختصاصات السلطة التنفيذية: فهو المخول استناداً
إلى الدستور بمهمة تنفيذ القوانين بوصفه الرئيس الفعلي لهذه السلطة.
ونظراً لاستحالة قيام الرئيس بهذه المهمة منفرداً كان
عليه أن يستعين بمرؤوسيه لينفذها من خلالهم، وقد افترض القضاء الأمريكي وجود تفويض
من جانب الرئيس إلى رؤساء الإدارات التنفيذية المختصة في أن يقوموا بواجباته
التنفيذية، من دون حاجة إلى صدور تفويض صريح منه بذلك.
وتتبع السلطة التنفيذية الأمريكية في قيامها بواجبها هذا
أسلوب "الإدارة المباشرة" حيث تقوم بتنفيذ القوانين والقرارات الاتحادية
ـ داخل الولايات الأعضاء ـ بنفسها، وذلك عن طريق إدارات تنشئها وتكون تابعة لها
مباشرة ومستقلة عن الولايات.
ويملك الرئيس في سبيل تنفيذ القوانين الاتحادية في
الولايات اتخاذ جميع الإجراءات اللازمة، فيكون له الحق في استخدام القوة المادية
عند الحاجة، كما يكون له الحق في إصدار القرارات التنفيذية اللازمة لتنفيذ
القانون.
3ـ الفصل شبه المطلق
بين السلطتين التشريعية والتنفيذية: تبنى الدستور
الأمريكي مبدأ الفصل بين السلطات ضمنياً، فهو لم ينص على ذلك صراحة في أي موضع
منه، وإنما يفهم ذلك من تحليل نصوصه التي قامت بتوزيع الاختصاصات الدستورية على
سلطات مستقلة، تقوم جنباً إلى جنب وتعمل معاً في سبيل أداء وظائف الحكومة
الاتحادية.
أ ـ فالكونغرس بمجلسيه (مجلس الشيوخ ومجلس النواب)
يستقل بمباشرة الوظيفة التشريعية من دون مشاركة من قبل السلطة التنفيذية، فهو وحده
الذي يحق له اقتراح القوانين وإقرارها.
وفي هذا المجال يتمتع كلا المجلسين بسلطات متساوية فيما عدا "القوانين
المالية" التي أوجب الدستور عرضها على مجلس النواب أولاً، ولكنها كسائر
مشروعات القوانين تناقش وتعدل في كلا المجلسين؛ إذ لا يمكن لمشروع قانون أن يصبح
قانوناً إلا بموافقة المجلسين معاً. أما السلطة التنفيذية فليس لها أي سلطة أو حق
دستوري في تقديم اقتراحات بقوانين أو مشاريع قوانين، فهذا الحق ملك للكونغرس وحده،
كما أنه يمتنع على الوزراء الجمع بين مناصبهم وعضوية الكونغرس، فلا يجوز للوزير أن
يكون عضواً في الكونغرس، بل ولا يحق له الحضور إلى الكونغرس بصفته وزيراً للاشتراك
في المناقشات البرلمانية؛ وإن كان له هذا الحق أسوة بغيره من المواطنين العاديين.
كما يمتنع على رئيس الدولة باعتباره رئيساً للحكومة دعوة
الكونغرس إلى دورة انعقاد عادي، وإنما يكون للكونغرس الحق الدستوري في الاجتماع من
تلقاء نفسه بالنسبة إلى دورات الانعقاد العادية، كما يمتنع على رئيس الدولة فض
دورات انعقاد الكونغرس أو تأجيلها، وأخيراً ليس لرئيس الدولة أي حق في حل أي من
مجلسي الكونغرس.
ب ـ أما السلطة التنفيذية، فهي كذلك تستقل بممارسة اختصاصاتها عن الكونغرس،
ويعد رئيسها على قدم المساواة مع الكونغرس الذي لا يكون له أن يمارس عليه نفوذاً
أو ضغطاً من أي نوع، فلا يكون للكونغرس أي حق في محاسبة الوزراء عن أعمالهم أمامه
بأي أسلوب من الأساليب؛ سواء أكان ذلك بتوجيه الأسئلة إليهم أو استجوابهم أم
بتقرير مسؤوليتهم السياسية أو عزلهم، وإنما هذا الحق هو ملك للرئيس وحده الذي يكون
له الحق في تعيين وزرائه وعزلهم إذا خسروا ثقته.
وإذا كانت تلك هي القاعدة في الفصل شبه المطلق بين السلطتين التشريعية
والتنفيذية في الدستور الأمريكي، بيد أن هناك حالات استثنائية ورد النص عليها في
ذلك الدستور كنموذج للنظام الرئاسي والتي تمثل وسائل للتأثير والرقابة المتبادلة
بين هاتين السلطتين:
أ ـ وسائل
تأثير الرئيس في الكونغرس: يملك الرئيس الأمريكي العديد من الوسائل التي تمكنه من التأثير على
الكونغرس ومنها:
(1) ـ اقتراح القوانين:
لم يرد في الدستور الأمريكي أي نص يمنح الرئيس حق اقتراح القوانين، وإنما اقتصر
هذا الحق على الكونغرس باعتباره صاحب السلطة التشريعية.
ولكن هذا الدستور منح الرئيس الحق في "تقديم
معلومات عن حالة الاتحاد، وتوصيات بالتدابير التي يعتقد
أنها ضرورية ومناسبة".
وقد قام الرؤساء الأمريكيون باستغلال حقهم السابق ذكره
فقرروا لمصلحتهم حق اقتراح تشريعي خارج النص الدستوري، وذلك من خلال توجيههم
لرسائل مكتوبة أو شفهية إلى الكونغرس يقومون فيها بإخطاره عن حالة الاتحاد
ويضمنونها مقترحات تشريعية، بعضها في صورة قوانين تامة الصياغة وبعضها الآخر في
صورة فكرة لم تتم صياغتها بعد.
والرئيس إذ يقدم هذه المقترحات لا يفرض رأيه على المجلس
ولا يلزمه به وإنما يدعوه إلى الموافقة عليها؛ معتمداً على تأييد الرأي العام له؛
إذ يؤدي هذا التأييد إلى التأثير في الكونغرس للتصويت لمصلحة هذه المقترحات.
ويمكن للرئيس أن يلجأ إلى طريقة أخرى غير مباشرة لتقديم
هذه المقترحات، وذلك من خلال تقديمها بواسطة أحد رجال حزبه الأعضاء في الكونغرس
مستغلاً زعامته الحزبية للأغلبية البرلمانية، ومع أن القول الفاصل بالنسبة إلى هذه
المقترحات يعود إلى الكونغرس الذي له أن يأخذ بها أو يهملها، بيد أن لهذه
المقترحات أهمية كبيرة، فقد أصبح الرئيس مصدر معظم التشريع القومي، الأمر الذي دفع
بعضهم إلى القول إن» الرئيس قد أصبح المشرع الرئيسي فعلاً.
(2) ـ الموافقة
والاعتراض على مشروعات القوانين: أعطى الدستور
الأمريكي للسلطة التنفيذية ممثلة برئيسها الحق في إيقاف مشروعات الهيئة التشريعية
حتى لا تستبد بها أو تسلبها اختصاصاتها، وذلك تطبيقاً لمبدأ الفصل بين السلطات
الذي يقوم على فكرة "وقف السلطة للسلطة" من خلال منح كل منهما سلاحاً
تشهره في وجه السلطة الأخرى.
فبمقتضى حق الموافقة يكون للرئيس الحق في الموافقة على
مشروعات القوانين المعروضة عليه، وهذه الموافقة إما أن تكون صريحة وإما ضمنية.
فالموافقة الصريحة تتم من خلال توقيع الرئيس على القانون
خلال عشرة أيام من تاريخ تقديم مشروع القانون إليه، فإذا انقضت هذه المدة من دون
أن يقوم الرئيس بإعادة مشروع القانون إلى الكونغرس مصحوباً باعتراضه؛ عُدّ في هذه
الحالة موافقاً عليه ضمناً وأصبح المشروع قانوناً صالحاً للتنفيذ من دون حاجة إلى
توقيعه من الرئيس، وذلك استناداً إلى أن انقضاء تلك المدة يعدّ قرينة قانونية على
موافقة الرئيس على مشروع القانون.
أما حق الاعتراض فيكون أيضاً صريحاً أو ضمنياً. فالاعتراض الصريح يكون من خلال رفض الرئيس التوقيع على
مشروع القانون، فيقوم بإعادته إلى المجلس الذي اقترحه خلال عشرة أيام من تاريخ
وروده إليه مبيناً الأسباب التي دعته إلى رفض الموافقة عليه، وفي هذه الحالة تتم
إعادة بحث مشروع القانون أمام المجلس الذي أعيد إليه في ضوء الاعتراضات التي قدمها
الرئيس، فإذا وافقت عليه أغلبية ثلثي الأعضاء الحاضرين أرسل إلى المجلس الثاني
الذي يناقشه مع اعتراضات الرئيس عليه، فإذا وافق عليه ثلثا أعضائه الحاضرين أصبح
هذا المشروع قانوناً على الرغم من اعتراض الرئيس عليه وعدم موافقته.
ويكون الاعتراض ضمنياً إذا حدث أن قدم مشروع القانون إلى
الرئيس قبل فض دورة انعقاد الكونغرس بأقل من عشرة أيام؛ إذ يحق للرئيس الاحتفاظ
بالمشروع من دون أن يوقعه ومن دون أن يعترض عليه صراحة، وفي هذه الحالة يتم القضاء
نهائياً على مشروع القانون، والغرض من ذلك منع الكونغرس من حرمان الرئيس من حقه في
الاعتراض الصريح على القانون خلال فترة عشرة أيام تالية لتقديمه؛ بحيث يفرض
الدستور على الكونغرس تقديم مشروع القانون للرئيس في وقت مناسب يمكنه من استعمال
حقه الدستوري كاملاً.
(3) ـ إعداد الميزانية:
تطبيقاً لمبدأ فصل السلطات فقد كان تحضير الموازنة ـ حتى عام 1921ـ يدخل في اختصاص
الكونغرس وتقوم به لجنتان تابعتان له؛ إحداهما للإيرادات والثانية للنفقات، ولم
يكن للرئيس أي دور في إعداد الميزانية.
وقد أثار هذا الوضع النقد استناداً إلى أن إعداد
الميزانية يتطلب معرفة جيدة بأوجه الإنفاق التي تتطلبها المرافق العامة؛ وكيفية
تقدير الإيرادات التي تتكون منها الميزانية، مما يدخل أساساً في صميم عمل السلطة
التنفيذية وليس التشريعية، واستجابة لذلك قام الكونغرس بإصدار قانون الميزانية
والمحاسبة عام 1921 معترفاً فيه لرئيس الدولة بسلطات واسعة في مجال إعداد
الميزانية.
وتطبيقاً لهذا القانون فقد أصبح إعداد مشروع الموازنة
يدخل في اختصاص الرئيس يعاونه في ذلك مكتب الميزانية الذي يقوم بالتنسيق بين مختلف
الأنشطة الحكومية؛ مستمداً سلطاته من الرئيس الذي يقوم بتوجيه نظره إلى الخطوط
العريضة للسياسة المالية التي يرى اتباعها في العام التالي، وبعد انتهاء المكتب من
إعداد مشروع الميزانية يقوم الرئيس بتوقيعه ثم إرساله إلى الكونغرس الذي يكون له
مطلق الحرية في إقراره أو الاعتراض عليه.
وقد أتاح هذا الحق للرئيس إمكانية توجيه السياسة المالية
في البلاد بحسب أولوياته؛ استناداً إلى أن من يملك مبادرة التقدم بمشروع
الميزانية؛ يملك التحكم في خطوطه أكثر مما تملكه السلطة المدعوة إلى المصادقة
عليه.
(4) ـ دعوة البرلمان: الأصل ـ
وتطبيقاً لمبدأ فصل السلطات ـ أنه لا يجوز للرئيس دعوة البرلمان إلى الانعقاد أو
فض أدوار انعقاده أو تأجيلها؛ إذ إن مثل هذه الأمور، تعد من الأمور الداخلية التي
يختص بها البرلمان وحده. بيد أن الدستور أوجد استثناء
على هذا الأصل عندما سمح للرئيس بالتدخل في أعمال الكونغرس في حالتين:
> دعوة الكونغرس أو أحد مجلسيه إلى عقد دورة خاصة، وذلك إذا طرأت ظروف
استثنائية تستدعي وجود البرلمان.
> فض الدورة البرلمانية
في حالة اختلاف المجلسين على موعد فضها؛ وذلك إلى الموعد الذي يراه مناسباً.
وفيما عدا هاتين الحالتين لا يملك الرئيس الحق في التدخل في تاريخ انعقاد
الكونغرس؛ لأن هذا الموعد محدد دستورياً بـ"اليوم الثالث من شهر يناير/كانون
الثاني، ما لم يحدد الكونغرس يوماً مختلفاً بواسطة قانون يصدره في هذا
الصدد".
ب ـ وسائل
تأثير الكونغرس في سياسة رئيس الدولة:
يملك الكونغرس وسيلتين مهمتين تمكنانه من التأثير في سياسة رئيس الدولة.
(1) ـ سلطة الكونغرس
في عرقلة تنفيذ سياسة الرئيس: وذلك من خلال الامتناع
عن الموافقة على مقترحاته.
وتأخذ سلطة المنع هذه صوراً شتى، ففي المجال التشريعي يملك الكونغرس الحق في رفض
المشروعات والمقترحات التي يتقدم بها الرئيس إما مباشرة من خلال خطابه السنوي
الموجه للكونغرس؛ وإما بصورة غير مباشرة بوساطة أحد أعضاء الكونغرس المنتمين إلى
حزب الرئيس.
وفي المجال المالي يكون للكونغرس أيضاً السلطة في رفض
الاعتمادات التي يطلبها الرئيس لتنفيذ سياسته أو تعديلها، وثمة دليل على سلطة
الكونغرس الفعالة في هذا المجال، فقد توقف القصف الأمريكي لكمبوديا في آب/أغسطس
عام 1973 وذلك نتيجة رفض الكونغرس الموافقة على الاعتمادات المخصصة لذلك والتي سبق
للرئيس نيكسون أن طلب الموافقة عليها.
وفي مجال تعيين كبار موظفي السلطة المركزية يمكن لمجلس الشيوخ أن يقوم بعرقلة
عمل السلطة التنفيذية، وذلك من خلال امتناعه عن الموافقة على قرارات الرئيس
المتعلقة بتعيين كبار الموظفين الاتحاديين.
أما في مجال السياسة الخارجية فإن مجلس الشيوخ يتمسك
بحقه في الموافقة على تعيين السفراء والوزراء المفوضين في الخارج، الأمر الذي
يمكنه من بسط رقابة مؤثرة وفعالة في السياسة الخارجية للرئيس، ويستطيع هذا المجلس
أن يعرقل عمل الرئيس من خلال رفضه الموافقة على المعاهدات التي يقوم بإبرامها مع
الدول الأخرى؛ إذ يشترط الدستور ضرورة موافقته ـ وبأغلبية ثلثي أعضائه ـ على
المعاهدات التي يبرمها الرئيس، وهكذا فقد رفض مجلس الشيوخ الموافقة على معاهدة ڤرساي
وعهد عصبة الأمم عام 1919 بالرغم من أن ميثاق عصبة الأمم صيغ في معظمه بناء على
توجيهات من رئيس الولايات المتحدة، وكذلك رفض الموافقة على انضمام الولايات
المتحدة إلى محكمة العدل الدولية.
(2) ـ سلطة الكونغرس
في اتهام رئيس الدولة وعزله: يحق للكونغرس عزل
الرئيس والوزراء في حالة ثبوت ارتكابهم لجريمة "الخيانة أو الرشوة أو غير ذلك
من الجنايات أو الجنح الكبرى"؛ إذ يكون لمجلس النواب الحق في توجيه الاتهام
إلى الرئيس بالأغلبية البسيطة لأعضائه ليحال إلى المحاكمة أمام مجلس الشيوخ الذي
يترأسه عندها استثنائياً وعوضاً عن نائب الرئيس "رئيس المحكمة العليا"،
ويشترط لإدانة الرئيس صدور قرار بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ الذي يكون له
عندها الحق في عزله وإقالته وحرمانه من أي وظيفة رسمية في المستقبل ليتم بعد ذلك
تقديم الرئيس إلى المحاكمة الجنائية أمام المحكمة المختصة بتوقيع الجزاء المقرر في
قانون العقوبات.
ولما كانت العقوبة الوحيدة التي يملك مجلس الشيوخ
توقيعها على الرئيس هي العزل؛ فإن استقالة الرئيس المتهم تؤدي حتماً إلى وقف
المحاكمة، وهو ما حدث عندما استقال الرئيس نيكسون في آب/أغسطس عام 1974 على أثر
اتهامه في فضيحة "ووترجيت"، فقد وجهت له اتهامات في محاولته إعاقة سير
العدالة من خلال رفضه تسليم الوثائق التي في حوزته؛ حتى تتمكن السلطات المختصة من
إجراء ما تراه من تحقيقات.
مراجع للاستزادة: |
ـ حسين عثمان محمد عثمان،
النظم السياسية والقانون الدستوري (دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية 1998).
ـ جميلة الشربجي، الاتحاد الفيدرالي دراسة تطبيقية عن
الوطن العربي، رسالة دكتوراه، مقدمة لجامعة القاهرة، كلية الحقوق، 2003 (غير
منشورة).
ـ رمزي طه الشاعر، النظم السياسية (د. ن، د.ت).
ـ عبد الحميد متولي، القانون الدستوري والأنظمة السياسية
مع المقارنة (منشأة المعارف، الإسكندرية 1989).
ـ علي يوسف الشكري، النظم السياسية المقارنة (ايتراك
للطباعة والنشر، القاهرة 2003).
ـ عصمت عبد الله الشيخ، النظم
السياسية (د.ن، 1999).
ـ ماجد راغب الحلو، الدولة في
ميزان الشريعة (دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية 1994).
ـ محمد أحمد فتح الباب، النظم السياسية (دار النهضة
العربية، القاهرة 2000).
ـ محمد الحلاق، أحمد إسماعيل ،
نجم الأحمد، النظم السياسية (مطبوعات مركز التعليم المفتوح، دمشق 2004).
ـ محمد رفعت عبد الوهاب،
إبراهيم عبد العزيز شيحا، النظم السياسية والقانون الدستوري (دار المطبوعات
الجامعية، الإسكندرية 1998).
ـ محمد كامل ليلة، النظم
السياسية (د.ن، د.ت).
ـ محمد محمد بدران، النظم السياسية المعاصرة (دار النهضة
العربية، القاهرة 1997).
ـ سعيد السيد علي، حقيقة الفصل
بين السلطات في النظام السياسي والدستوري للولايات المتحدة الأمريكية (دار النهضة
العربية، القاهرة 1999).
- التصنيف : القانون العام - النوع : القانون العام - المجلد : المجلد السابع: المحكمة الجنائية الدولية _ ولاية المظالم في الإسلام - رقم الصفحة ضمن المجلد : 416 مشاركة :