الجرائم الواقعة على أمن الدولة الداخلي
جرايم واقعه علي امن دوله داخلي
crimes against State internal security - infractions contre la sécurité intérieure de l’E'tat
الجرائم الواقعة على أمن الدولة الداخلي
عبد الجبار الحنيص
الإرهاب | |
الجرائم التي تنال من الوحدة الوطنية أو تعكر الصفاء بين عناصر الأمة | |
الفتنة | النيل من مكانة الدولة المالية |
ترتكب هذه الجرائم Les infractions contre la sécurité intérieure de l’ État ضد الدولة باعتبارها شخصاً من أشخاص القانون الداخلي، فهي لا تهدف إلى النيل من استقلالها أو الانتقاص من سيادتها أو تهديد سلامة أراضيها، وإنما تهدف إلى الانتفاض على أجهزة الحكم، أو التمرد على مؤسسات السلطة القائمة بموجب الدستور، أو إجراء تغيير في القواعد التي نص عليها الدستور لتحديد شكل الحكم وأصول ممارسته، ولتعيين علاقات السلطات بعضها ببعض، كتغيير دستور الدولة بطرق غير مشروعة، أو إثارة عصيان مسلح ضد السلطات القائمة، أو منع هذه السلطات من ممارسة وظائفها المستمدة من الدستور، أو اغتصاب سلطة سياسية أو مدنية أو قيادة عسكرية، أو النيل من مكانتها المالية، أو من وحدتها الوطنية، أو إثارة الفتنة بين مختلف الطوائف فيها، أو القيام بأعمال إرهابية. وقد نص المشرع السوري على الجرائم الواقعة على أمن الدولة في المواد (291-310) من قانون العقوبات، وهي: الجنايات الواقعة على الدستور - اغتصاب ســـــــــــــلطة سياسية أو مــــــــــــــدنية، أو قيادة عسكريـــــــــــــــة- الفتنة - الإرهاب - الجرائم التي تنال من الوحدة الوطنية أو تعكر الصفاء بين عناصر الأمة - النيل من مكانة الدولة المالية.
أولاً- الجنايات الواقعة على الدستور Les crimes contre la constitution:
تستمد الدولة شرعيتها من الدستور، ومن حق سيد الدستور - أكان رئيس جمهورية أم ملكاً أم أميراً - أن يعد نفسه ممثلاً للشرعية الدستورية مادام أنه قد أتى إلى الحكم بمقتضاها. ويُعدّ الدستور المعين الأساسي الذي تنبع منه القوانين والمراسيم والأنظمة؛ الأمر الذي يجعله يسمو على هذه القوانين والمراسيم والأنظمة لكونه مصدرها الوحيد. وتختص الدولة التي أنشأها الدستور بترسيخ ضوابط الحكم، وسيادة سلطانه، مستندة في ذلك إلى إقليم معيّن من الأرض في حدوده المعروفة بمقتضى القانون الدولي. إذ إن الأرض تلتصق بالدولة بواسطة القيمين عليها في شكل أسرة وطنية ومواطنية واحدة، ترتبط بالولاء والوفاء للوطن، والامتثال لأوامر الحاكم الممنوحة له بمقتضى الدستور، وهو يمارسها بواسطة السلطات المختلفة في الدولة.
وقد أفرد المشرع السوري أحكاماً خاصة بالجنايات الواقعة على الدستور في المواد (291-295) من قانون العقوبات، وهي:
1- تغيير دستور الدولة،
2- سلخ جزء من الأرض السورية،
3- العصيان المسلح ضد السلطات القائمة،
4- منع السلطات من ممارسة وظائفها.
1- تغيير دستور الدولة:
نصت على هذه الجريمة المادة (291) من قانون العقوبات بقولها: «1- يعاقب على الاعتداء الذي يستهدف تغيير دستور الدولة بطرق غير مشروعة بالاعتقال المؤقت خمس سنوات على الأقل. 2- وتكون العقوبة الاعتقال المؤبد إذا لجأ الفاعل إلى العنف».
يتضح من هذا النص أنه يشترط لقيام جناية تغيير الدستور توافر أركانها، وهي: الموضوع الذي ينصب عليه الاعتداء، والركن المادي المتمثل بالسلوك الإجرامي، والركن المعنوي المتمثل في القصد الجرمي.
أ- الدستور محل الحماية الجزائية: قصر المشرع السوري في هذه الجريمة الحماية الجزائية على دستور الجمهورية العربية السورية دون سواه. أما الاعتداء على دستور دولة أجنبية فقد تناولته المادة (279) من قانون العقوبات تحت عنوان الجرائم الماسة بالقانون الدولي. وقد يكون الغرض من الاعتداء هو مجرد تغيير دستور الدولة؛ بتعديل modification القواعد الأساسية التي يقوم عليها نظام الدولة. وقد يحصل أن يتجاوز الجناة ذلك إلى ما هو أكبر وأهم، ولكن هذا التجاوز يبقى مرتبطاً بتغيير الدستور - ولو بصورة ضمنية - كما في حالة الانقلاب على الدستور وإسقاطه، وإقامة نظام حكم جديد يتضمن إجراء تعديل جذري ينال جميع المؤسسات العامة للدولة.
وقد ينجح القائمون بالحركة الانقلابية في مشروعهم، وقد يفشلون، ففي حال نجاحهم من ذا الذي ينتقم منهم لأمن الدولة؟
ومما لاشك فيه أن الحركة الانقلابية الفاشلة هي الحركة المجرمة، أما إذا انقلبت إلى حركة مظفرة، فلا تزول الصفة الجرمية عن أفعال الاعتداء بصورة آلية وبحكم النجاح وحده، وإنما يلجأ الثائرون الناجحون - وقد أصبحت مقاليد الحكم في أيديهم - إلى استصدار قانون عفو عام، يسدلون به الستار على جريمة اعتدائهم على الدستور، أو إلى استفتاء شعبي يضفون به المشروعية على ما قاموا به. ومهما يكن؛ فإن الاعتداء على الدستور لا يكفي فيه مجرد نجاح الانقلابيين لإزالة الصفة الجرمية عنه ونفي المسؤولية الجزائية عن مقترفيه.
وإن المادة (261) من قانون العقوبات السوري لا تفرق بين العقوبات المقررة على جرم الاعتداء التام أو الناقص أو المشروع فيه، وإنما تجعلها واحدة في جميع الصور.
ب- الاعتداء attentat: لم يعرف المشرع السوري الاعتداء على أمن الدولة، كما عرف «المؤامرة»، وإنما اكتفى بتعيين الغرض أو الهدف من الاعتداء في كل نص قانوني يعاقب على الاعتداء. وأخرج «المؤامرة» من مفهوم الاعتداء، وجعل منها جرماً مستقلاً، ثم استبعد من نطاق الاعتداء الأفعال التحضيرية، أي يتحقق الاعتداء حيثما تتوافر شرائط الشروع في الجريمة. وعليه يوجد الاعتداء كلما توافرت شرائط الشروع المنصوص عليها في المادة (199) من قانون العقوبات في النشاط الإجرامي الذي قام به الفاعل إخلالاً بأمن الدولة. ويبنى على ذلك أن كل فعل من الأفعال التي تعدها أحكام المادة (199) شروعاً يمكن أن يشكل جريمة الاعتداء إذا كان هذا الفعل يتصل اتصالاً مباشراً بالغرض الذي يسعى المعتدي إلى تحقيقه. إذاً فإن الاعتداء يتطلب وقوع فعل مادي خارجي، ووجود صلة تربط بين هذا الفعل وبين الغرض من الاعتداء. ويترتب على ذلك الحكم ببراءة المدعى عليه إذا لم تتوافر هذه الرابطة، ولم يكن الفعل المادي يشكل بحد ذاته جريمة مستقلة معاقباً عليها.
لذلك فإن المؤامرة لا تدخل في مفهوم الاعتداء، وكذلك لا تدخل فيه الأفعال التمهيدية أو التحضيرية التي تتبع المؤامرة مباشرة، وإنما يعاقب المتآمرون على مؤامرتهم، كما يعاقب فاعلو الأفعال التحضيرية على أفعالهم هذه بصفتها جرائم خاصة، وذلك بموجب نصوص مستقلة. إذ لا يجوز القول بوجود جريمة اعتداء على أمن الدولة إذا لم يتعدَّ النشاط الإجرامي للفاعل مرحلتي الاتفاق والتحضير أو التمهيد، ولكن عندما يتجاوز هذا النشاط الإجرامي مرحلة التحضير، ويبدأ الفاعل أعمال التنفيذ فإن الاعتداء على أمن الدولة يعدّ متحققاً قانوناً؛ ويعاقب الشارع بالتنفيذ بعقوبة جريمة الاعتداء التامة، وإن لم يستطع الاستمرار في ارتكاب الأفعال التنفيذية المؤدية إلى تمام هذه الجريمة، وحصول النتيجة الجرمية التي يسعى الفاعل إلى تحقيقها من خلال نشاطه الإجرامي. وهذا ما أكدته المادة (261) من قانون العقوبات بقولها: «يتم الاعتداء على أمن الدولة سواء كان الفعل المؤلف للجريمة تاماً أو ناقصاً أو مشروعاً فيه».
إذاً لا يتحقق الاعتداء ما لم يقم الدليل القاطع على أن الفاعل قد ارتكب فعلاً مادياً من أفعال التنفيذ، وعلى أن هذا الفعل التنفيذي يقصد فاعله به تحقيق الغرض الذي حددته المادة (291/1) من قانون العقوبات، وهو تغيير دستور الدولة، وعندئذٍ يعاقب هذا البادئ بالتنفيذ بعقوبة الاعتداء كاملة كما لو أتم جريمته.
ومما يجدر الإشارة إليه أن إثبات ارتكاب الفعل المادي يكون سهلاً وميسراً، ولكن إثبات الصلة التي تربط بين هذا الفعل بالهدف المجرّم صعب جداً في أغلب الحالات، حتى يكاد يكون متعذراً. فإذا تعذر ذلك فلا يسأل الفاعل عن جريمة الاعتداء، وإنما يعاقب على ما قام به من أفعال إذا كانت تشكل بحد ذاتها جرائم.
ج- طرق تغيير الدستور: إن دستور أي دولة ليس ناموساً لا يمكن تعديله أو تغييره، بل يمكن إعادة النظر فيه بالوسائل المشروعة؛ وذلك لجعله يواكب مختلف ظروف الحياة المعاصرة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتنموية والثقافية والتربوية. فإن النظم الديمقراطية تسمح بإعادة النظر في دساتير بلدانها إما بالاستفتاء الشعبي، وإما بواسطة المجالس البرلمانية أو النيابية باعتبارها السلطات التمثيلية التي تمثّل إرادة الأمة، ولها الحق بإبداء مطلب تعديل الدساتير أو تغييرها. ويمكن للحاكم تعليق الدستور لفترة زمنية معيّنة، إذا وجد أن هناك ضرورة تقتضيها المصلحة العامة في ترسيخ الأمن والنظام والسلامة العامة.
ولكن تصبح أعمال طالبي الإصلاح الدستوري غير مباحة حينما يتجاوزون الحدود المشروعة والمقررة بالدستور نفسه، وذلك بسلوكهم طرق تحريض الجماهير على تغيير كيان الدولة والتعرض لدستورها، والقيام بأعمال الشغب والعنف والعصيان، واستنفار جماعات للتظاهر ضد السلطات القائمة وحيازة السلاح. إذ إن اللجوء إلى هذه الطرق لتغيير الدستور يعدّ انتهاكاً صارخاً لحرمة دستور الدولة واغتصاباً له. ويمكن لهؤلاء مدّعي الإصلاح الدستوري الاستعانة بقوى مسلحة خارجية، أو يكتفون بالتلويح بذلك، لإخافة الحاكم والمواطنين.
وقد نص المشرع السوري في المادة (291) من قانون العقوبات على تجريم تغيير دستور الدولة بالطرق غير المشروعة Les voies illicites من دون تحديد ماهيتها ونوعها ومصدرها، إذ جاء النص مطلقاً بحيث يشمل مختلف الوسائل غير المشروعة. ويستوي أن يكون مصدر الاعتداء جهة حزبية أو أمنية أو جماعات منظمة أو غير منظمة أو كانوا أفراداً عاديين، ما دام الغرض هو تغيير الدستور.
وخلافاً لما ذهبت إليه بعض التشريعات الأجنبية في جعل العنف la violence عنصراً أساسياً في الجريمة؛ فإن المشرع السوري عدّه سبباً مشدداً للعقاب. ولا يشترط في العنف استعمال وسائل الشدة والقوة في تغيير الدستور. إذ قد يقوم الانقلابيون بتجهيز الوسائل والأسلحة والرجال، ولكنهم توصلوا إلى مبتغاهم دون استخدام القوة، ومع ذلك يعدّ عملهم قد حصل بطريقة العنف، أو بنية استعماله عند الحاجة.
د- القصد الجرمي: إن جريمة الاعتداء على دستور الدولة بتغييره من الجرائم المقصودة التي يتخذ فيها الركن المعنوي صورة القصد الجرمي العام والخاص. ويتحقق القصد الجرمي العام بتوافر عنصريه، وهما العلم والإرادة. فينبغي أن ينصب علم الجاني على جميع عناصر الجريمة، أي علمه المسبّق بكون موضوع الجريمة هو دستور الجمهورية العربية السورية، والعلم بالأفعال التي تتحقق بها هذه الجريمة مادياً، وأن تتجه إرادته الواعية إلى ارتكاب جريمة الاعتداء رغم علمه بها؛ وإلى النتيجة الجرمية المتمثلة بتحقيق الغرض من هذا الاعتداء، وهو تغيير الدستور.
والقصد الجرمي على النحو السابق بيانه لا يكفي لقيام جريمة الاعتداء على الدستور، وإنما يجب أن يتوافر إضافة إليه قصد خاص يتمثل في نية تغيير دستور الدولة. وهذا ما عبرت عنه صراحة المادة (291/1) من قانون العقوبات بقولها: «يعاقب على الاعتداء الذي يستهدف تغيير دستور الدولة…». وهذه النية مفترضة من طبيعة الجريمة، فمجرد توافر القصد الجرمي العام وعناصر الركن المادي فيها؛ فإن نية تغيير دستور الدولة متحققة افتراضاً.
هـ- العقوبة المقررة لجريمة تغيير الدستور: عاقب المشرع السوري على جناية تغيير دستور الدولة بطرق غير مشروعة بالاعتقال المؤقت خمس سنوات على الأقل، ويكون حدها الأعلى خمس عشرة سنة (المادتان 44 و291/1 من قانون العقوبات). وتشدد العقوبة إلى الاعتقال المؤبد إذا لجأ الفاعل إلى العنف؛ وذلك عملاً بأحكام الفقرة الثانية من المادة (291) من قانون العقوبات. كما عاقب على المؤامرة التي تستهدف ارتكاب جناية الاعتداء بقصد تغيير الدستور بالإقامة الجبرية الجنائية من ثلاث سنوات إلى خمس عشرة سنة (المادتان 44 و295 من قانون العقوبات).
2- سلخ جزء من الأرض السورية:
مما لاشك فيه أن المحافظة على سلامة أراضي الدولة إنما يعني المحافظة على عنصر وجودها وكينونتها المادية، وعلى حقها في البقاء وقدرتها على الاستمرار في الحياة، فالأرض هي تجسيد الدولة ورمز وجودها المادي. وقد اختلفت التشريعات الجزائية الأجنبية حول موقع جريمة الاعتداء على الأرض الوطنية. إذ إن البعض من هذه التشريعات أوردها في معرض الجرائم الواقعة على أمن الدولة الخارجي، وعدّها خيانة عظمى؛ في حين صنفتها تشريعات أخرى ضمن الجرائم الواقعة على أمن الدولة الداخلي في متن النص المتعلق بتغيير الدستور باستخدام وسائل العنف والشدة، على أساس أن هذه الجريمة ترتبط بنظام الدولة وبطريقة الحكم.
أما المشرع السوري فقد نهج في التجريم والمعاقبة، في هذا المضمار - نهجاً غريباً- إذ قسم الأفعال الماسة بسلامة الأراضي السورية إلى فئتين مستقلتين: الأولى تؤلف جريمة واقعة على أمن الدولة الخارجي، ونص عليها في المادة (267) من قانون العقوبات، والثانية تؤلف جريمة واقعة على أمن الدولة الداخلي، ونص عليها في المادة (292) من القانون ذاته.
أ- الفروق القائمة بين أحكام المادتين (267 و292) من قانون العقوبات: جاء في المادة (292) أنه: «1- من حاول أن يسلخ عن سيادة الدولة جزءاً من الأرض السورية عوقب بالاعتقال المؤقت، 2- وتكون العقوبة الاعتقال المؤبد إذا لجأ الفاعل إلى العنف». وتعدّ هذه الجريمة من الجنايات الواقعة على الدستور، فهي إذاً تخل بأمن الدولة الداخلي.
وجاء في المادة (267) أنه: «1- يعاقب بالاعتقال المؤقت خمس سنوات على الأقل كل سوري أو أجنبي مقيم في سورية أو ساكن فعلاً فيها، حاول بأعمال أو خطب أو كتابات أو بغير ذلك أن يقتطع جزءاً من الأراضي السورية ليضمه إلى دولة أجنبية، أو يملكها حقاً أو امتيازاً خاصاً بالدولة السورية 2- إذا كان الفاعل عند ارتكابه الفعل منتمياً إلى إحدى الجمعيات أو المنظمات المشار إليها في المادتين (288 و308) عوقب بالاعتقال مؤبداً».
ولابد من إجراء مقارنة بين هذين النصين لإزالة التباس بينهما؛ لكونهما يتعلقان بجريمتين تظهران شكلاً وكأنهما جريمة واحدة. وتتجلى الفوارق الأساسية بين هاتين الجريمتين في المسائل الآتية:
(1) تطبق أحكام المادة (292) أياً كان الفاعل، إذ يستوي أن يكون الفاعل سورياً أو أجنبياً مقيماً أو غير مقيم في سورية. في حين لا تطبق أحكام المادة (267) إلا إذا كان الفاعل سورياً أو أجنبياً مقيماً في سورية أو له سكن فعلي فيها.
(2) تشترط المادة (267) أن يهدف الفاعل من وراء محاولته اقتطاع جزء من الأرض السورية إلى تحقيق قصد خاص هو ضم الجزء المبتور إلى دولة أجنبية. في حين لا تنطوي المادة (292) على مثل هذا القيد، إذ يبغي الفاعل من وراء محاولة سلخ هذا الجزء من الأرض عن سيادة الدولة السورية غرض آخر، كأن يدعو إلى إقامة دويلة مستقلة أو قاعدة عسكرية في ذلك الجزء مثلاً.
(3) عددت المادة (267) الوسائل التي تتجلى فيها محاولة الاقتطاع، وهي الأفعال والخطب والكتابات وغير ذلك. إذ إن التعبير الوارد في هذه المادة لا يقتصر على الأفعال فحسب، بل يتناول أيضاً الأقوال؛ أي إنه يشمل النشاط المادي الخارجي المحسوس بجميع صوره وأشكاله، من أعمال واجتماعات وخطب ومحاضرات ودعوات وكتابات وغيرها.
أما المادة (292) فلم تحدد الوسيلة التي تتجلى فيها محاولة سلخ جزء من الأرض السورية عن سيادة الدولة. ويبدو أن تطبيق أحكام هذه المادة يقتصر على الأفعال من دون الأقوال، إذ ليس بكافٍ القول المجرد، كالخطبة أو المقالة. في حين يرى آخرون من مفسري نص المادة (302) من قانون العقوبات اللبناني المطابقة تماماً لنص المادة (292) من قانون العقوبات السوري أنها تشمل ضمناً جميع التصرفات التي يقوم بها الجاني أياً كانت.
(4) لا تتناول أحكام المادة (292) حماية الحقوق والامتيازات الخاصة بالدولة السورية، وإنما ينحصر تطبيقها في حماية الأرض السورية في حدودها الإقليمية فحسب. أما المادة (267) فإنها تعاقب كل محاولة اقتطاع جزء من الأرض السورية لضمه إلى دولة أجنبية، وكل محاولة يرمي من ورائها الفاعل تمليك أي دولة أجنبية حقاً أو امتيازاً خاصاً بالدولة السورية.
(5) تختلف المادة (292) عن المادة (267) في تحديد مقدار العقوبة وفي تلمس أسباب التشديد. فالعقوبة المنصوص عليها في المادة (292) هي الاعتقال المؤقت، وإذا لجأ الفاعل إلى العنف عُدّ ذلك سبباً موجباً لتشديد العقوبة إلى الاعتقال المؤبد. أما العقوبة الواردة في نص المادة (267) فهي الاعتقال المؤقت خمس سنوات على الأقل. ولا تفرق هذه المادة بين لجوء الفاعل إلى العنف أو عدم لجوئه إليه، وإنما تتلمس أسباب التشديد في صفة الفاعل لا في ظروف الفعل. فإذا كان منتمياً إلى منظمة أو جمعية سياسية أو اجتماعية ذات طابع دولي أو إلى جمعية أخرى أنُشئت بقصد إثارة النعرات المذهبية أو العنصرية أو الحض على النزاع بين الطوائف ومختلف عناصر الأمة؛ عُدّ ذلك سبباً موجباً لتشديد العقوبة إلى الاعتقال المؤبد.
وبعد تبيان الفروق القائمة بين أحكام المادة (267) وأحكام المادة (292) من قانون العقوبات، لا بد من شرح أحكام المادة (292) موضوع البحث.
ب- أحكام المادة (292) من قانون العقوبات: تنص هذه المادة على ما يلي: «1- من حاول أن يسلخ عن سيادة الدولة جزء من الأرض السورية عوقب بالاعتقال المؤقت، 2- وتكون العقوبة الاعتقال المؤبد إذا لجأ الفاعل إلى العنف».
يشرط لقيام الجريمة المنصوص عليها في المادة السابقة توافر ركنيها المادي والقصد الجرمي.
أما ركنها المادي فيتألف من محاولة سلخ جزء من الأرض عن سيادة الدولة. فقد جعل المشرع من «المحاولة» جريمة مستقلة قائمة بذاتها، وعاقب على ارتكابها، وإن لم يصل الفاعل من ورائها إلى تحقيق النتيجة المتوخاة. ويستلزم قيام الركن المادي في هذه الجريمة أن تكون الأعمال الرامية إلى محاولة سلخ جزء من الأرض جديّة تدل على عزم وتصميم حقيقيين لدى الفاعل. وغني عن البيان أن الجزء الذي يحاول الفاعل سلخه ينبغي أن يؤلف رقعة من أرض الدولة السورية، تخضع لسيادتها، وتشكل قسماً منها، وتدخل ضمن حدودها.
أما القصد الجرمي المطلوب في هذه الجريمة، فهو القصد العام، إذ يكفي لقيامها توافر القصد الجرمي العام، ويتجلى هذا القصد في انصراف إرادة الفاعل إلى محاولة سلخ جزء من الأرض السورية عن سيادة الدولة عن وعي وإحاطة وعلم.
تراوح العقوبة المقررة على فاعل هذه الجريمة بين ثلاث سنوات وخمس عشرة سنة اعتقالاً مؤقتاً. وتشدد العقوبة فتصبح اعتقالاً مؤبداً إذا لجأ الفاعل إلى العنف. وكما سبق بيانه أن العقاب يجب أن ينزل بالفاعل؛ وإن لم يحقق غرضه بسلخ جزء من الأرض السورية عن سيادة الدولة. ويعاقب على المؤامرة التي تستهدف ارتكاب هذه الجريمة بالإقامة الجبرية الجنائية من ثلاث سنوات إلى خمس عشرة سنة عملاً بأحكام المادة (295) من قانون العقوبات.
3- العصيان المسلح L’insurrection armée ضد السلطات القائمة:
نص المشرع على هذه الجريمة في المادة (293) من قانون العقوبات، فجاء فيها: «1- كل فعل يقترف بقصد إثارة عصيان مسلح ضد السلطات القائمة بموجب الدستور يعاقب عليه بالاعتقال المؤقت 2- إذا نشب العصيان عوقب المحرض بالاعتقال المؤبد، وسائر العصاة بالاعتقال المؤقت خمس سنوات على الأقل».
من استعراض هذا النص يتضح أنه يشترط لقيام الجريمة توافر ركنين، هما الركن المادي والقصد الجرمي. ويتألف الركن المادي لهذه الجريمة من قيام الفاعلين بأفعال معيّنة، غرضها إثارة العصيان المسلّح ضد السلطات القائمة بحكم الدستور. فقصد الجناة لا ينصرف أصلاً إلى الأعمال التي قاموا بها، وإنما إلى النتيجة المتمثلة بإثارة العصيان المسلح ضد هذه السلطات. فالفاعلون الأصليون يكتفون عادة، بالتحريض l’incitation على العصيان المسلح أو إثارته provocation في صفوف عامة الشعب، حتى في صفوف الموظفين، دون أن يشاركوا في أعمال هذا العصيان. والتحريض على العصيان المسلح أو إثارته يتم بوسائل وأساليب متعددة، كالدعوة إلى الامتناع والرفض وعدم الطاعة، والمهرجانات والاجتماعات العامة، واستثارة عواطف الشعب ونزواته على مختلف طبقاته ومستوياته، وذلك من أجل الضغط على السلطات القائمة بحكم الدستور بالعنف والشدة لحمل المسؤولين فيها على الاستقالة، فتدب الفوضى، كما لو كان هناك انقلاب بالفعل على الدستور نظراً لارتباط هذه السلطات به.
أما القصد الجرمي المطلوب لقيام هذه الجريمة فهو القصد العام الذي يتجلى في إرادة إثارة العصيان المسلح ضد السلطات القائمة بحكم الدستور عن وعي وإحاطة وعلم.
وعاقب المشرع على جريمة التحريض على العصيان المسلح بالاعتقال المؤقت من ثلاث سنوات إلى خمس عشرة سنة. وإذا نشب هذا العصيان عوقب العصاة بالاعتقال المؤقت من خمس سنوات إلى خمس عشرة سنة، وشددت عقوبة المحرضين إلى الاعتقال المؤبد. كما عاقب المشرع على المؤامرة التي تستهدف ارتكاب جناية العصيان المسلح بالإقامة الجبرية الجنائية من ثلاث سنوات إلى خمس عشرة سنة.
4- منع السلطات القائمة من ممارسة وظائفها:
نصت على هذه الجريمة المادة (294) من قانون العقوبات بقولها: «الاعتداء الذي يقصد منه منع السلطات القائمة من ممارسة وظائفها المستمدة من الدستور يعاقب عليه بالاعتقال المؤقت».
من استعرض هذا النص يتبين أن الركن المادي لهذه الجريمة يتكون من الاعتداء attentat الذي يهدف إلى منع السلطات القائمة بحكم الدستور من ممارسة وظائفها المستمدة كذلك مباشرة من الدستور. ويتخذ هذا الاعتداء صوراً متنوعة ومتعددة، كاستخدام مختلف ضروب العنف والشدة، والتهديد والإكراه، وأي وسيلة أخرى يستدل منها على نية الفاعلين باستعمال القوة؛ وكل ذلك بقصد خلق جو من الخوف لدى المسؤولين المعنيين بالشؤون العليا المصيرية؛ الأمر الذي يجعلهم يمتنعون عن القيام بوظائفهم أو أعمالهم الدستورية، أو يمتنعون عن متابعة نشاطاتهم المستمدة من الدستور إذا كان قد بُوشر بها.
إذاً فالاعتداء الوارد في المادة (294) من قانون العقوبات لا يهدف إلى تغيير أصحاب السلطات الدستورية، ولا يقصد منه العصيان ضدهم، وإنما يقصد به الحؤول بينهم وبين ممارسة صلاحياتهم.
ولا يكفي لقيام هذه الجريمة توافر القصد الجرمي العام المتمثل في إرادة ارتكاب الاعتداء عن إحاطة وعلم، وإنما لا بد من توافر قصد خاص يتمثل في نية منع السلطات القائمة من ممارسة وظائفها المستمدة من الدستور.
وقد فرض المشرع لهذه الجريمة عقوبة الاعتقال من ثلاث سنوات إلى خمس عشرة سنة. كما عاقب على المؤامرة التي تستهدف ارتكاب جناية الاعتداء بقصد منع السلطات القائمة من ممارسة وظائفها بالإقامة الجبرية الجنائية من ثلاث سنوات إلى خمس عشرة سنة وفقاً لأحكام المادة (295) من قانون العقوبات.
ثانياً- اغتصاب السلطة وتأليف فصائل مسلحة:
تعدّ جنايات اغتصاب السلطة وتأليف فصائل مسلحة من الجند المنصوص عليها في المادتين (296 و297) من قانون العقوبات؛ تعرضاً للسلطات الشرعية القائمة، ومخالفة سافرة للدستور ولواجبات الوظيفة العامة وشرفها بوصفها خدمة عامة.
1- اغتصاب السلطة أو الاحتفاظ بها:
نصت المادة (296) من قانون العقوبات على ما يلي: «يعاقب بالاعتقال المؤقت سبع سنوات على الأقل:
أ- من اغتصب سلطة سياسية أو مدنية أو قيادة عسكرية،
ب- من احتفظ خلافاً لأمر الحكومة بسلطة مدنية أو قيادة عسكرية،
ج- كل قائد عسكري أبقى جنده محتشداً بعد أن صدر الأمر بتسريحه أو بتفريقه».
يستفاد من هذا النص أن المشرع السوري عاقب على ثلاثة أنماط للنشاط الإجرامي، وهي اغتصاب سلطة سياسية أو مدنية أو قيادة عسكرية، والاحتفاظ بالسلطة، وإبقاء القائد العسكري جنده محتشداً.
ويقوم باغتصاب السلطة السياسية أو المدنية أو العسكرية أشخاص عاديون، لا يمارسون أصلاً أياً من هذه السلطات. وتختلف هذه الجريمة عن جريمة انتحال الوظيفة المنصوص عليها في المادة (382) من قانون العقوبات تحت عنوان انتحال الصفات أو الوظائف، وعدّها المشرع من الجرائم الواقعة على السلطة العامة. إذ إن نشاط الفاعل الإجرامي في الأخيرة لا يعني اغتصاب السلطة، بمركزها وأعمالها، وإنما يتمثل فقط بانتحال الوظيفة في ممارسة الغش والخداع والاحتيال، ودون اللجوء إلى العنف؛ أي إقدام المنتحل بطريق الغش والاحتيال على تصريف مصالح الناس وشؤونهم، فيتعامل معهم وكأنه صاحب سلطة رسمية، فيضفي على شخصه صفة الوظيفة الرسمية بعد أن تولدت القناعة لديهم بهذه الحالة القائمة. أما في جناية اغتصاب السلطة فيلجأ الفاعل إلى العنف والشدة بقصد الاستيلاء على السلطة بمركزها وأعمالها، فهي أشد خطورة من جريمة انتحال الصفة الوظيفية، لما تشكله من انتهاك لدستور الدولة واعتداء على سلطاتها القائمة بحكم الدستور.
أما الاحتفاظ بسلطة مدنية أو عسكرية خلافاً لأمر الحكومة؛ فيفترض أن الفاعل كان يمارس أعمال السلطة الموكولة إليه قانوناً، وصدر أمر من الحكومة القائمة بحكم الدستور بإعفائه من ممارستها أو إقالته منها، أو نقله إلى وظيفة أخرى، ويمتنع عن القبول بما حصل رغم إبلاغه ذلك شخصياً ورسمياً.
أما بالنسبة إلى إبقاء الجند محتشداً؛ فينبغي أن يكون قد صدر أمر من السلطة المختصة بتسريح الفاعل من الخدمة العسكرية، أو بتفريقه عن جنده، ويشترط لتجريمه ومعاقبته أن يكون قائداً للجند المحتشد.
وتعدّ الجرائم السابقة من الجرائم المقصودة، فلا يمكن التذرع فيها بالخطأ الجزائي غير المقصود، إذ يتكون القصد الجرمي فيها بمجرد ارتكابها عن معرفة وإرادة (القصد العام)، وتوافر القصد الخاص المتمثل في نية اغتصاب سلطة سياسية، أو مدنية، أو عسكرية، أو قيادة عسكرية، أو الاحتفاظ بهذه السلطة؛ وقد زالت صفتها عن الفاعل.
ويعاقب المشرع على جرائم اغتصاب السلطة والاحتفاظ بها بالاعتقال من سبع سنوات إلى خمس عشرة سنة.
2- تأليف فصائل مسلحة من الجند:
نصت على هذه الجريمة المادة (297) من قانون العقوبات بقولها: «يستحق الاعتقال المؤقت من أقدم دون رضا السلطة على تأليف فصائل مسلحة من الجند، أو على قيد العساكر أو تجنيدهم، أو على تجهيزهم أو مدهم بالأسلحة والذخائر».
إن هذه المادة تتضمن جريمة من جرائم اغتصاب السلطة، وتخل هذه الجريمة بأمن الدولة الداخلي؛ لأن الأفراد أياً كانوا ممنوعين من تأليف الفصائل المسلحة وتجييش الجيوش. إذ إن القاعدة الأساسية من قواعد بنيان الدولة في العصر الحديث تقوم على حق هذه الدولة وحدها دون سواها في تشكيل القوة العامة وحق استخدامها، وكل إخلال بهذه القاعدة الأساسية هو زلزال يعصف بأمنها، ويهدد كيانها بالفوضى والاضطراب. لذلك فإن تأليف الفصائل المسلحة أو تجنيد الجنود دون رضا الدولة يعد افتئاتاً على حق الدولة في أن تكون وحدها صاحبة السلطة الآمرة ضمن حدود المبادئ الدستورية والقواعد القانونية، وبالتالي فقد عدّ المشرع ذلك جريمة قائمة بذاتها نصت عليها المادة (297) من قانون العقوبات.
من استعراض نص هذه المادة يتضح أنه يشترط لقيام جريمة تأليف فصائل من الجند توافر ركنين أساسيين، هما الركن المادي والركن المعنوي. ويتكون الركن المادي لهذه الجريمة من تشكيل فصائل مسلحة من الجند، أو قيد العساكر وتجنيدهم، أو تجهيزهم أو مدهم بالأسلحة والذخائر. ويعدّ الركن المادي متوافراً إذا ثبت أن تجييش الأفراد المجندين - أي جمعهم - قد بدأ فعلاً بالاتصال بالأشخاص المنوي تجنيدهم، أو بتحرير قوائم بأسمائهم، أو بتدوين بيانات عنهم، في سجلات معدة لذلك خصوصاً، أو فتح مكتب للتجنيد، أو تسليم الأفراد المنوي سوقهم نقوداً أو ألبسة أو أسلحة وذخائر… إلخ. ولا يشترط في الأشخاص الذين يجري تجنيدهم أن يكونوا من الرعايا السوريين، فلا عبرة لجنسياتهم، فيستوي أن يكونوا من السوريين أو من الأجانب. وكذلك لا يشرط أن يكون هؤلاء الجنود من العسكريين، وإنما يشمل لفظ «تأليف فصائل مسلحة» الوارد في المادة المذكورة آنفاً العسكريين والمدنيين على حد سواء. أما الفاعل في هذه الجريمة فلا يستلزم أن يكون سورياً، إذ جاء نص المادة (297) مطلقاً فهو يشمل السوريين والأجانب على السواء. كما لا يشترط النص أن يكون الفاعل عسكرياً، أو موظفاً، أو قائماً بخدمة عامة، وإنما يشمل كل فرد يقوم بتأليف فصائل مسلحة أو تجنيد جنود بصرف النظر عن صفته.
وينبغي أن يكون الفاعل قد أقدم على تأليف الفصائل المسلحة من الجند، أو على قيد العساكر، أو تجنيدهم، أو على تجهيزهم، أو مدهم بالأسلحة والذخائر من دون موافقة الحكومة السورية القائمة بحكم الدستور. فعدم الموافقة هو الذي يجعل هذه الأفعال التي يقوم بها الأفراد محرمة ومعاقباً عليها؛ إذ إن موافقة السلطة الشرعية المختصة القائمة حين وقوع الجرم تمحو الصفة الجرمية عن الأفعال المعاقب عليها في المادة (297) من قانون العقوبات.
وهي من الجرائم المقصودة التي يتخذ فيها الركن المعنوي صورة القصد الجرمي العام، ولا يستلزم أن يكون لدى فاعلها عند ارتكابه إياها غرض معيّن أو قصد خاص. ويتمثل القصد الجرمي بالإرادة الواعية للعمل المادي، أي تأليف فصائل مسلحة من الجند، أو قيد العساكر، أو تجنيدهم، أو تجهيزهم، أو مدهم بالأسلحة والذخيرة من دون موافقة الحكومة.
ويفرض المشرع على فاعل هذه الجريمة عقوبة الاعتقال المؤقت، وتراوح مدته بين ثلاث سنوات وخمس سنوات، وهي عقوبة جنائية.
ثالثاً- الفتنةémeute :
نص المشرع السوري على جرائم الفتنة في المواد (298-303) من قانون العقوبات، وتُعدّ هذه الجرائم من الجرائم الخطيرة الواقعة على أمن الدولة الداخلي؛ لأنها تعكر صفوة العيش المشترك بين أبناء الوطن الواحد، وتنم على فصم روابط الولاء الذي يشعر كل مواطن به نحو وطنه وأمته ودولته، وهي جميعها جنائية الوصف. إذ إن محاولة إثارة الحرب الأهلية والاقتتال الطائفي بين أبناء الوطن الواحد بتسليحهم بعضهم ضد بعض، أو محاولة تسليحهم وحضهم على الاقتتال؛ لا يُقدم عليه إلا كل مارق خائن فقد حسه الوطني والقومي، وتجرد من القيم الأخلاقية والإنسانية التي ينبغي أن يتحلى بها كل مواطن شريف يحب وطنه، ويرغب بالعيش المشترك مع جميع أفراد وطنه بمختلف طوائفهم. لذلك فقد أخرجها المشرع من نطاق الجرائم السياسية، وعدّها جرائم عادية، وشدد العقاب عليها الذي يمكن أن يصل إلى الإعدام في حال حصول الاعتداء فعلاً. وسيتم شرح النصوص المتعلقة بالفتنة على النحو الآتي:
1- الاعتداء بهدف إثارة الحرب الأهلية أو الاقتتال الطائفي، أو الحض على التقتيل والنهب:
نصت المادة (298) على ما يلي: «يعاقب بالأشغال الشاقة مؤبداً على الاعتداء الذي يستهدف إما إثارة الحرب الأهلية، أو الاقتتال الطائفي بتسليح السوريين، أو بحملهم على التسليح بعضهم ضد البعض الآخر، وإما بالحض على التقتيل والنهب في محلة أو محلات، ويقضى بالإعدام إذا تم الاعتداء».
ومن استعراض هذا النص يتضح أنه يشرط لقيام جريمة الفتنة أن يتوافر فيها الركن المادي والركن المعنوي. ويتألف الركن المادي في جريمة الفتنة المنصوص عليها في المادة (298) من قانون العقوبات من فعل الاعتداء، ويتخذ هذا الفعل صورة إثارة الحرب الأهلية أو الاقتتال الطائفي؛ تسليح السوريين أو حملهم على التسليح بعضهم ضد بعضهم الآخر، أو صورة الحض على التقتيل والنهب. ويقصد بالاعتداء - كما بُيّن سابقاً - وقوع الجريمة تامة، أو مجرد الشروع في تنفيذها، وبذلك يخرج من مفهوم الاعتداء المؤامرة والأعمال التحضيرية. ويترتب على ذلك أن الاعتداء المنصوص عليه في المادة (298) لا يتحقق إلا إذا توافرت شرائط الشروع التي تناولتها المادة (199) من قانون العقوبات في النشاط الإجرامي الذي قام به الفاعل. فلا يعاقب الفاعل إلا إذا ثبت قيامه بأفعال ترمي مباشرة إلى إثارة الحرب الأهلية أو الاقتتال الطائفي، أو الحض على التقتيل والنهب، وإن حالت دون إتمام هذه الأفعال ظروف خارجة عن إرادة الفاعل. ويتحقق هذا الاعتداء بتقديم الفاعل الأسلحة والذخيرة لفئة أو طائفة من السوريين، أو بحثّه لأفرادها على التسلح؛ بعضهم ضد البعض الآخر، أو بحضهم على التقتيل والنهب بأي وسيلة كانت. ولا عبرة بتاتاً لجنسية الفاعل، وقد يقع فعل الاعتداء من السوري والأجنبي على السواء.
أما الركن المعنوي لهذه الجريمة فيتخذ صورة القصد الجرمي، ولا يكفي لقيامها توافر القصد الجرمي العام المتمثل بإرادة العمل المادي الواعية، أي التسليح أو الحمل على التسليح، وإنما ينبغي أن يقترن هذا القصد العام بالنية الجرمية الخاصة (أو القصد الخاص) التي أفصحت عنها إرادة المشرع في نص المادة (298)، وهي: أن يكون هدف الفاعل من التسليح أو الحث على التسليح إثارة الحرب الأهلية، أو الاقتتال الطائفي، أو التقتيل والنهب.
ويفرض المشرع على فاعل الجريمة المنصوص عليها في المادة (298) من قانون العقوبات عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة، وفي حال نشوب الحرب الأهلية أو الاقتتال الطائفي الذي قصده الفاعل بارتكابه أعمال التسليح أو الحث عليه؛ فإن عقوبته تشدد إلى الإعدام.
2- الانخراط في عصابات مسلحة:
لم يكتف المشرع السوري في تجريم الاعتداء الذي يرمي إلى إثارة الحرب الأهلية، أو الاقتتال الطائفي، أو الحض على التقتيل والنهب فحسب، بل جرّم أيضاً كل من يترأس عصابة مسلحة أُلفت بغرض ارتكاب أعمال الحرب الأهلية أو الاقتتال، أو تقتيل الناس وسلبهم ممتلكاتهم، أو تولى فيها وظيفة أو قيادة (ميدانية كانت أم إشرافية أم توجيهية). فنصت المادة (299) من قانون العقوبات على أنه: «يعاقب بالأشغال الشاقة مؤبداً من رأس عصابات مسلحة، أو تولى فيها وظيفة أو قيادة أياً كان نوعها، إما بقصد اجتياح مدينة أو محلة، أو بعض أملاك الدولة، أو أملاك جماعة من الآهلين، وإما بقصد مهاجمة، أو مقاومة القوة العامة ضد مرتكبي هذه الجنايات».
ومن استعراض نص المادة المشار إليها آنفاً يتضح أنه يفترض وجود عصابة أو عصابات مسلحة مشكلة لغرض القيام بأعمال الحرب الأهلية أو الاقتتال الطائفي أو بغرض تقتيل الناس ونهب ممتلكاتهم، وانخرط فيها الفاعل بصفته رئيساً لها، أو موظفاً فيها يتولى أعمالاً إدارية أو إشرافية، أو قائداً لمجموعة من أفرادها. ولا يشرط أن يكون الفاعل هو من قام بتأليف هذه العصابة أو العصابات، ويستوي أن يكون هذا الفاعل سورياً أو أجنبياً.
وهي من الجرائم المقصودة التي لا يكفي لقيامها توافر القصد الجرمي العام المتمثل في الإرادة الواعية للفعل المادي؛ أي إرادة الفاعل رئاسة العصابة المسلحة أو تولي وظيفة أو قيادة فيها، مع علمه بحقيقتها، وإنما لابد أيضاً من توافر نية خاصة لديه تتمثل في اجتياح مدينة أو محلة معيّنة أو بعض أملاك الدولة أو أملاك جماعة من الآهلين، أو مهاجمة القوى العامة العاملة ضد مرتكبي جرائم الفتنة وتقتيل الناس ونهب ممتلكاتهم أو مقاومتها.
وعاقب المشرع فاعل الجريمة المنصوص عليها في المادة (299) من قانون العقوبات بعقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة، وتشدد هذه العقوبة إلى الإعدام عملاً بأحكام المادة (247) من القانون ذاته في الأحوال الآتية: إذا كان الفاعل يحمل سلاحاً ظاهراً أو مخبأً، أو إذا كان يرتدي زياً أو يحمل شعاراً آخر مدنيين كانا أو عسكريين، أو أقدم على أعمال تخريب أبنية مخصصة بمصلحة عامة أو تشويهها أو في سبل المخابرات أو المواصلات أو النقل.
وقد جرّم المشرع السوري جميع الأشخاص المشتركين في العصابة المسلحة المؤلفة للقيام بأعمال الحرب الأهلية أو الاقتتال الطائفي، أو بأعمال تقتيل الناس ونهب ممتلكاتهم، أو اجتياح مدينة أو محلة أو أملاك الدولة أو أملاك جماعة من الآهلين، أو مهاجمة القوة العامة أو مقاومتها. حيث نصت المادة (300) في فقرتها الأولى من قانون العقوبات على أنه: «يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبــــــــــــــدة المشتركون في عصابات مسلحة، ألفت بقصد ارتكاب إحـــــــــــــــدى الجنايات المنصوص عليها في المادتين 298 و299».
ولكن المشرع أراد أن يعطي المشتركين في عصابات الفتنة فرصة للندم والتوبة، فأعفى من العقاب كل من انخرط في عصابة مسلحة مؤلفة بقصد إثارة الحرب الأهلية أو الاقتتال الطائفي، أو تقتيل الناس ونهب ممتلكاتهم، أو اجتياح مدينة أو محلة، أو بعض أملاك الدولة أو أملاك الآهلين، أو بقصد مقاومة السلطات العامة؛ إذا لم يتولَّ فيها وظيفة أو خدمة، ولم يوقف في أماكن الفتنة، واستسلم بسلاحه دون مقاومة، وذلك شريطة أن يحصل هذا قبل صدور أي حكم بحقه. أي إنه يستفيد من عذر محل حتى لو اتخذت ضده إجراءات الملاحقة على أن يكون استسلامه قد تم قبل الحكم عليه بالعقوبة المقررة قانوناً. وهذا ما نصت عليه الفقرة الثانية من المادة (300) بقولها: «غير أنه يعفى من العقوبة من لم يتولَّ منهم في العصابة وظيفة أو خدمة، ولم يوقف في أماكن الفتنة، واستسلم بسلاحه دون مقاومة، وقبل صدور أي حكم».
وبالمقابل فقد شدد المشرع عقوبة كل من انخرط في عصابة مسلحة بأي صفة كانت، وأقدم على اجتياح مدينة أو محلة، أو بعض أملاك الدولة أو الأملاك العائدة لجماعة من الآهلين، أو على مهاجمة قوة عامة أو مقاومتها، بحيث تصبح الإعدام بدلاً من الأشغال الشاقة المؤبدة، وذلك في الأحوال الآتية: إذا كان يحمل سلاحاً ظاهراً أو مخفياً؛ إذا كان يرتدي زياً أو يحمل شعاراً آخر مدنيين كانا أو عسكريين؛ إذا أقدم على أعمال تخريب أبنية مخصصة بمصلحة عامة أو تشويهها أو في سبل المخابرات أو المواصلات أو النقل. وهو ما نصت عليه المادة (301) من قانون العقوبات بقولها: «تشدد بمقتضى المادة 247 عقوبة من أقدم على ارتكاب إحدى الجنايات المنصوص عليها في المادتين 299 و300:
أ- إذا كان يحمل سلاحاً ظاهراً أو مخفياً
ب- إذا كان يرتدي زياً أو يحمل شعاراً آخر مدنيين كانا أو عسكريين
ج- إذا أقدم على أعمال تخريب أو تشويه في أبنية مخصصة بمصلحة عامة، أو في سبل المخابرات أو المواصلات أو النقل».
3- تسهيل ارتكاب أعمال الفتنة:
نصت على هذه الجريمة المادة (302) من قانون العقوبات حيث جاء فيها أنه: «من أقدم بقصد اقتراف أو تسهيل إحدى جنايات الفتنة المذكورة، أو أية جناية أخرى ضد أمن الدولة على صنع أو اقتناء أو حيازة المواد المتفجرة أو الملتهبة والمنتجات السامة أو المحرقة أو الأجزاء التي تستعمل في تركيبها أو صنعها يعاقب بالأشغال الشاقة المؤقتة، فضلاً عن العقوبات الأشد التي يستحقها المتدخلون في تلك الجنايات إذا اقترفت، أو شرع فيها، أو بقيت ناقصة».
يستفاد من النص السابق أن المشرع السوري عاقب على أعمال تسهيل ارتكاب الجرائم الواقعة على أمن الدولة - ومنها جنايات الفتنة - لكونها تعدّ جريمة قائمة بذاتها، ومستقلة عن هذه الجرائم؛ إذ إن مجرد صنع المواد المتفجرة أو الملتهبة والمنتجات السامة أو المحرقة أو الأجزاء التي تستعمل في تركيبها أو صنعها أو اقتنائها أو حيازتها لا يُعد شروعاً في جرائم الفتنة، وإنما هي أعمال تحضيرية لهذه الجرائم عاقب عليها المشرع باعتبارها جرائم قائمة بذاتها ومستقلة عن جرائم الفتنة وغيرها من جرائم الاعتداء على أمن الدولة. وللإحاطة بأحكام هذه الجريمة ينبغي تحديد ركنيها المادي والمعنوي، ثم العقوبات المقررة لها.
أما الركن المادي لهذه الجريمة فيتمثل بالسلوك الذي حدد المشرع صوره. وصور السلوك الإجرامي هي الصناعة أو الاقتناء والحيازة. ويراد بالصناعة إنتاج المواد المتفجرة أو الملتهبة والمنتجات السامة أو المحرقة، كما يراد بها كل عمل فني يستهدف جعل هذه المواد صالحة للاستعمال في عمليات الاقتتال والحرب. والاقتناء يقصد به حيازة هذه المواد أياً كانت صفة الحائز، ولو كانت حيازة عارضة، وتعبير الاقتناء تعبير عام يشمل كل أشكال السيطرة على المواد المتفجرة أو الملتهبة أو السامة أو المحرقة أو أجزائها، سواء كان مالكاً لها أم غير ذلك. وقد نص المشرع على الصناعة والاقتناء أو الحيازة باعتبارها صوراً للسلوك الإجرامي لقيام الجريمة مادياً. ويترتب على ذلك أنه يكفي أي فعل من هذه الأفعال لقيام الجريمة فلا يشترط اجتماعها. فإذا كان صانع المواد هو حائزها أو مالكها؛ فلا يرتكب إلا جريمة واحدة.
أما الركن المعنوي فيتمثل في القصد الجرمي بنوعيه العام والخاص. ويقوم القصد العام على العلم والإرادة. فينبغي أن يعلم المدعى عليه بماهية المواد التي يصنعها أو يحوزها (أي أنها مواد متفجرة أو ملتهبة أو سامة أو محرقة)؛ وأن من شأنها أن تستخدم في عمليات الاقتتال والحرب. وهذا العلم مفترض فيمن يصنع هذه المواد أو يحوزها أو يمتلكها، أي يفترض أن الصانع أو الحائز يعلم بماهية ما يصنعه أو يحوزه، وحقيقة الهدف منه، لكن هذا الافتراض قابل لإثبات العكس. وأيضاً يجب أن تتجه إرادة الجاني رغم علمه إلى صناعة تلك المواد أو حيازتها أو امتلاكها. ولا يكفي القصد الجرمي العام لقيام جريمة صنع مواد متفجرة أو ملتهبة أو سامة أو محرقة أو اقتنائها أو حيازتها، بل لا بد من توافر قصد خاص يتمثل في نية استخدام هذه المواد في جرائم الحرب الأهلية أو الاقتتال الطائفي، أو في تقتيل الناس ونهب ممتلكاتهم، أو في اجتياح مدينة أو محلة، أو بعض أملاك الدولة أو أملاك جماعة من الآهلين، في مهاجمة قوة عامة أو مقاومتها، في أي جناية أخرى ضد أمن الدولة.
وقد عاقب المشرع على جريمة تسهيل ارتكاب أعمال الفتنة المنصوص عليها في المادة (302) من قانون العقوبات بالأشغال الشاقة المؤقتة من ثلاث سنوات إلى خمس عشرة سنة. هذا فضلاً عن العقوبات الأشد التي يستحقها المتدخلون في جنايات الفتنة أو أي جناية أخرى على أمن الدولة الداخلي إذا اقترفت، أو شرع فيها، أو بقيت ناقصة.
4- المؤامرة على ارتكاب أعمال الفتنة:
لم يكتف المشرع بمعاقبة أفعال الفتنة فحسب، وإنما عاقب أيضاً على الاتفاق الجنائي الذي يستهدف ارتكاب هذه الأفعال، فنص في المادة (303) من قانون العقوبات أنه: «يعاقب بالأشغال الشاقة المؤقتة على المؤامرة بقصد ارتكاب إحدى الجنايات المذكورة في المواد 298 إلى 302».
يستفاد من هذا النص أن المشرع السوري جرم الاتفاق الجنائي بين شخصين فأكثر الذي يرمي إلى ارتكاب الأفعال التي يقصد منها إثارة الحرب الأهلية أو الاقتتال الطائفي، أو تقتيل الناس ونهب ممتلكاتهم، أو الاشتراك بعصابات مسلحة منشأة لغرض الفتنة، أو صناعة مواد متفجرة أو ملتهبة والمنتجات السامة أو المحرقة أو الأجزاء التي تستعمل في تركيبها أو صنعها أو اقتناؤها أو حيازتها. وعلة هذا التجريم يكمن في كون الاتفاق الجنائي هنا يستهدف ارتكاب جرائم شديدة الخطورة على أمن الدولة الداخلي. وعاقب المتآمر على ارتكاب جرائم الفتنة بالأشغال الشاقة من ثلاث سنوات إلى خمس عشرة سنة. ويستفيد من العذر المحل أو المخفف كل من اشترك في مؤامرة تستهدف القيام بأفعال الفتنة الذي يخبر السلطة بالمؤامرة، أو أتاح القبض على شركائه الآخرين أو الذين يعرف مخبأهم، وذلك وفقاً لأحكام المادة (262) من قانون العقوبات.
رابعاً- الإرهاب le terrorisme:
عرف المشرع السوري الإرهاب في المادة (304) من قانون العقوبات حيث جاء فيها ما يلي: «يقصد بالأعمال الإرهابية جميع الأفعال التي ترمي إلى إيجاد حالة ذعر، وترتكب بوسائل كالأدوات المتفجرة والأسلحة الحربية والمواد الملتهبة والمنتجات السامة أو المحرقة والعوامل الوبائية أو الجرثومية التي من شأنها أن تحدث خطراً عاماً».
وقد نص المشرع على ثلاث جرائم عدّها من جرائم الإرهاب، وهي: القيام بعمل إرهابي، والمؤامرة على ارتكاب أعمال إرهابية، والانتماء إلى جمعية أنشئت بقصد تغيير كيان الدولة الاقتصادي أو الاجتماعي أو أوضاع المجتمع الأساسية بوسائل الإرهاب.
1- القيام بعمل إرهابي:
نصت الفقرة الثانية من المادة (305) المعدلة بالقانون رقم (36) تاريخ 26/3/1978 من قانون العقوبات على أنه: «كل عمل إرهابي يستوجب الأشغال الشاقة من خمس عشرة سنة إلى عشرين سنة».
وقد حدد المشرع كما ورد آنفاً المقصود بالأعمال الإرهابية، وهي تتميز بأنها من صنع جماعات من الناس، أو عصابات غالباً ما ينتمي أفرادها إلى أكثر من دولة واحدة؛ مما يجعل نشاطها شديد الخطورة ومن شأن هذه الأعمال الإرهابية بحكم طبيعتها أو غرضها نشر الرعب والذعر في نفوس شخصيات معيّنة أو جماعات من الأشخاص أو عامة الناس، وذلك من خلال استخدام الانفجارات، ونسف الخطوط الحديدية والجسور والمباني، وتسميم مياه الشرب، ونشر الأوبئة. فهي تعد أخطاراً عامة وشاملة.
والجدير بالملاحظة أن المشرع السوري يقف (في نص المادة 196 من قانون العقوبات) من الأعمال الإرهابية الموقف ذاته الذي تمليه مقررات المؤتمر الدولي السادس لتوحيد القانون الجزائي الذي عقد في كوبنهاغن سنة 1935، إذ إنه بحث جرائم الإرهاب على الصعيدين الدولي والداخلي، وجاء في مقرراته النص التالي: «إن الجرائم التي تخلق خطراً عاماً أو حالة رعب لاتعد جرائم سياسية». أي إن أعمال الإرهاب تعدّ جرائم عادية وإن كان الدافع إليها أو الغرض منها سياسيين، لا يختلف النشاط الإرهابي من حيث ركنه المادي عن أي جريمة عادية، لا بل إنه يتعداها من ناحية الخطورة الإجرامية. وجريمة الإرهاب من الجرائم المقصودة التي يتخذ فيها الركن المعنوي صورة القصد الجرمي بنوعيه العام والخاص. إذ لا يكفي أن تتجه الإرادة الواعية للقيام بالأعمال الإرهابية، وإنما لا بد من قصد خاص يتمثل في نية تحقيق الغرض من القيام بهذه الأعمال.
وعاقب المشرع على هذه الجريمة بالأشغال الشاقة من خمس عشرة إلى عشرين سنة، وتشدد هذه العقوبة بحيث تصبح الإعـــــــــــــدام إذا نجـــــــــــــــم عن العمل الإرهابي التخريب - ولو جزئياً - في بناية عامة أو مؤسسة صناعية أو سفينة أو منشآت أخرى أو تعطيل في سبل المخابرات والمواصلات والنقل، أو إذا أفضى الفعل الإرهابي إلى موت إنسان (المادة 305 من قانون العقوبات).
2- المؤامرة على ارتكاب أعمال إرهابية:
عاقب المشرع في المادة (305/1) من قانون العقوبات على الاتفاق الجنائي بين شخصين أو أكثر الذي يستهدف ارتكاب عمل واحد أو عدد من أعمال الإرهاب المنصوص عليها في المادة (304) من القانون ذاته، وذلك استثناءً من القواعد العامة. إذ إن قانون العقوبات جاء بنص صريح يعدّ الاتفاق على ارتكاب أعمال إرهابية مؤامرة يستحق فاعلها العقاب، وهي من الجرائم المخلة بأمن الدولة الداخلي. وجعل عقوبة المتآمر من عشر سنوات إلى عشرين سنة. ويستفيد من العذر المحل أو المخفف كل من اشترك بهذه المؤامرة، وأخبر السلطة بها، أو أتاح القبض على شركائه الآخرين أو على الذين يعرف مخبأهم، وذلك وفقاً للشروط المنصوص عليها في المادة (262) من قانون العقوبات.
3- الانتماء إلى جمعية أنشئت بقصد تغيير كيان الدولة أو أوضاع المجتمع الأساسية:
نصت على هذه الجريمة المادة (306) من قانون العقوبات بقولها:
«1- كل جمعية أنشئت بقصد تغيير كيان الدولة الاقتصادي، أو الاجتماعي، أو أوضاع المجتمع الأساسية بإحدى الوسائل المذكورة في المادة (304)، تحل، ويقضى على المنتمين إليها بالأشغال الشاقة المؤقتة، 2- ولا تنقص عقوبة المؤسسين والمديرين عن سبع سنوات، 3- إن العذر المحل أو المخفف الممنوح للمتآمرين بموجب المادة (262) يشمل مرتكبي الجناية المحددة أعلاه».
من استعراض النص السابق يتضح أن نشاط هذه الجمعية يكون هدَّاماً وشديد الخطورة على أمن الدولة الداخلي من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ لكونها تضم في عضويتها مجموعة من المفكرين؛ ولأن الأفعال والخطب والكتابات والكتب التي تصدر عنها والمهرجانات التي تنظمها تؤثر سلباً في تغيير كيان الدولة الاقتصادي أو الاجتماعي، أو أوضاع المجتمع الأساسية (كيانها الدستوري).
ومن المسلم به أن هذه الجمعية تُعدّ نشاطاً قائماً بذاته، لا يتشابه مع ما قد يشبهه، إذ يختلف نشاط هذه الجمعية عن أنشطة الجمعيات السياسية أو الاجتماعية ذات الطابع الدولي المنصوص عليها في المادة (288) من قانون العقوبات، وعن أنشطة جمعية إثارة النعرات المذهبية أو العنصرية المنصوص عليها في المادة (308)، وعن جمعيات الأشرار والجمعيات السرية المنصوص عليها في المواد (325-328).
ويشرط لقيام الجريمة المنصوص عليها في المادة (306) من قانون العقوبات توافر ركنيها المادي والمعنوي. إن ركن الجريمة المادي يتحقق بمجرد انتماء الفاعل - سورياً كان أم أجنبياً - إلى جمعية أنشئت لغرض تغيير كيان الدولة الاقتصادي أو الاجتماعي أو أوضاع المجتمع الأساسية. والانتماء إلى هذه الجمعية يعني الانتساب أو الانضمام إليها، أو الاشتراك فيها، بأي صورة وعلى أي وجه كان. فقد حصر المشرع السوري نشاط هذه الجمعية وأهدافها في إطار الدولة السورية وفي تغيير كيانها الاقتصادي أو الاجتماعي أو أوضاع المجتمع الأساسية (كيانها الدستوري). وعدّ هذا النشاط الإجرامي من الأنشطة الإجرامية الخطيرة التي تمس أمن الدولة الداخلي، إذ إن الانقلاب الاقتصادي على كيان الدولة القائم في حركة المرافق الزراعية والصناعية والتجارية والمصرفية والسياحية؛ ومحاولة تغيير كيانها الاجتماعي هي من الخطر بمكان؛ لأنها تمويه لانقلاب سياسي قد يؤدي بالبلاد إلى الهاوية؛ إضافة إلى أن أوضاع المجتمع الأساسية ليست سوى نظام الحكم القائم والسلطة القيمة عليه بموجب الدستور. ويفيد نص المادة (306) أنه ينبغي أن يقترن نشاط الجمعية بإحدى الوسائل الإرهابية المذكورة في المادة (304)؛ أي محاولة حصول التغيير بوسائل إرهابية تتجلى باستخدام مواد متفجرة أو أسلحة حربية أو مواد ملتهبة أو منتجات سامة أو محرقة أو عوامل وبائية أو جرثومية، والتي من شأنها أن تحدث خطراً عاماً. ويعاقب الفاعل بمجرد الانتساب إلى هذه الجمعية.
أما ركنها المعنوي فيتخذ صورة القصد الجرمي العام، وهو إرادة انتماء المدعى عليه الواعية إلى جمعية غرضها تغيير كيان الدولة الاقتصادي أو الاجتماعي أو الدستوري؛ مع علمه بحقيقة نشاطها المتمثل باستهداف هذا التغيير كيان الدولة بوسائل إرهابية.
وعاقب المشرع على الانتماء إلى هذه الجمعية بالأشغال الشاقة من ثلاث سنوات إلى خمس عشرة سنة، ولا تنقص هذه العقوبة عن سبع سنوات إذا كان الفاعل من المؤسسين أو من الذين يتولون وظيفة مديرين فيها. وعلة هذا التشديد تكمن في أن مسؤولية الأعضاء الذين قاموا بتأسيس الجمعية، أو احتلوا فيها مناصب قيادية وإدارية وتوجيهية هي أعظم وأفدح من مسؤولية الأعضاء العاديين. ولكن المشرع نص على أن العذر المحل أو المخفف الممنوح للمتآمرين بموجب المادة (262) من قانون العقوبات يشمل مرتكبي جناية الانتماء إلى جمعية أنشئت بقصد تغيير كيان الدولة الاقتصادي أو الاجتماعي أو الدستوري. إذ رأى المشرع أن المصلحة العامة تتطلب إعفاء الجاني من العقاب أو تخفيفه عليه؛ توصلاً إلى الكشف عن هذه الجريمة الخطيرة قبل استفحالها، والقبض على فاعليها، أو تشجيعاً لهم على التوبة، وإعانة على الخروج مما تورطوا فيه. وعليه يعفى من العقوبة من انتسب إلى هذه الجمعية، وأخبر السلطات العامة بها قبل البدء بأي عمل مادي مهيئ لتنفيذ مشروعها، وإذا ارتكب فعل كهذا فلا يكون العذر إلا مخففاً، ويستفيد أيضاً من هذا العذر المخفف المنتسب إلى تلك الجمعية الذي يخبر السلطة بأمر تحول الجمعية إلى منظمة مسلحة قبل إتمامها، فأتاح القبض - ولو بعد مباشرة الملاحقات - على المجرمين الآخرين أو الذين يعرف مخبأهم، على أنه لا يستفيد من هذا الإعفاء أو التخفيف المحرضون على ارتكاب الجناية المنصوص عليها في المادة (306) من قانون العقوبات؛ لأن تبعة المحرض مستقلة عن تبعة الفاعل.
وفضلاً عما تقدم فقد نص المشرع على حل هذه الجمعية، إذ يفترض هنا أن يكون قد تم تأليفها بموجب ترخيص من الحكومة لأغراض إنسانية أو اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية مشروعة، ولكنها انحرفت عن هذه الأهداف المعلنة والمحددة في نظامها الداخلي الذي على أساسه تم منحها الترخيص، إذ استخدم مؤسسوها طلب الترخيص على سبيل التمويه، وإنما غرضها الحقيقي هو القيام بأنشطة تهدف إلى المساس بأمن الدولة الداخلي عن طريق تغيير كيانها الاقتصادي أو الاجتماعي أو الدستوري؛ مما يستوجب حلها ومعاقبة المنتمين إليها.
وقد خص المشرع العسكريين بعقوبات خاصة في قانون العقوبات العسكري. إذ عاقب بالأشغال الشاقة مدة لا تزيد على عشر سنوات وبغرامة لا تقل عن ألف ليرة سورية ولا تتجاوز عشرة آلاف ليرة سورية كل عسكري أنشأ أو أسس أو نظم أو أدار حزباً أو جمعية أو هيئة أو جماعة أو منظمة أو فروعاً لها، ترمي إلى القضاء على طبقة اجتماعية أو إلى قلب نظم الدولة الأساسية الاجتماعية أو الاقتصادية، أو هدم أي نظام من النظم الأساسية للهيئة الاجتماعية متى كان استعمال القوة أو الإرهاب أو أي وسيلة أخرى غير مشروعة ملحوظاً في ذلك (المادة 147 من قانون العقوبات العسكري المعدلة بالقانون رقم 152 تاريخ 7/6/1959). ويعاقب العسكري الذي ينضم إلى أحد الأحزاب أو الجمعيات أو الهيئات، أو الجماعات، أو المنظمات، أو الفروع المشار إليها آنفاً، أو اشترك فيها بأي صورة بالاعتقال المؤقت من ثلاث سنوات إلى خمس عشرة سنة، وبغرامة من خمسمئة إلى ألفي ليرة سورية (الفقرة الثانية من المادة 147 المشار إليها). ويعاقب العسكري الذي يتصل بالذات أو بالواسطة بأحد الأحزاب أو الجمعيات أو الهيئات أو الجماعات أو المنظمات المذكورة أو فروعها لأغراض غير مشروعة، أو شجع غيره على ذلك بالاعتقال المؤقت من ثلاث إلى خمس سنوات (الفقرة الثالثة من المادة 147 المشار إليها). كما يعاقب كل عسكري أو مدني دعا غيره إلى ارتكاب الأفعال المذكورة أعلاه أو سهل له ذلك بالاعتقال المؤقت من ثلاث إلى خمس سنوات (الفقرة الأخيرة من المادة 147 المشار إليها).
كما أن المشرع عاقب بالحبس مدة لا تتجاوز خمس سنوات وبغرامة من خمسمئة إلى خمسة آلاف ليرة سورية على مجرد الترويج أو التحبيذ بأي طريقة من الطرق تغيير مبادئ الدستور الأساسية أو النظم الأساسية للهيئة الاجتماعية، أو تسويد طبقة اجتماعية على أخرى أو للقضاء على طبقة اجتماعية، أو لقلب نظم الدولة الأساسية الاجتماعية أو الاقتصادية أو لهدم أي نظام من النظم الأساسية للهيئة الاجتماعية متى كان استعمال القوة أو الإرهاب أو أي وسيلة أخرى غير مشروعة ملحوظاً في ذلك (المادة 148/1 من قانون العقوبات العسكري المعدلة بالقانون رقم 152 تاريخ 7/6/1959). وعاقب بالعقوبة السابقة نفسها على حيازة محررات أو مطبوعات تتضمن ترويجاً أو تحبيذاً للأغراض المذكورة في المادة 147 المذكورة آنفاً أو إحرازها، وحيازة وسائل طباعة أو تسجيل أو إذاعة النداءات أو الأناشيد أو الدعاية الخاصة بمذهب أو جمعية أو هيئة أو منظمة ترمي إلى غرض من هذه الأغراض غير المشروعة (المادة 148/2 المشار إليها).
خامساً- الجرائم التي تنال من الوحدة الوطنية أو تعكر الصفاء بين عناصر الأمة:
نصت على هذه الجريمة المادة (307) من قانون العقوبات المعدلة بالقانون رقم (27) تاريخ 7/2/1979، بقولها: «1- كل عمل وكل كتابة وكل خطاب يقصد منها أو ينتج عنها إثارة النعرات المذهبية أو العنصرية أو الحض على النزاع بين الطوائف ومختلف عناصر الأمة، يعاقب عليه بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين وبالغرامة من مائة إلى مائتي ليرة، وكذلك بالمنع من ممارسة الحقوق المذكورة في الفقرتين الثانية والرابعة من المادة (65)، 2- ويمكن للمحكمة أن تقضي بنشر الحكم».
من استعراض النص السابق يتضح أن جريمة النيل من الوحدة الوطنية وتعكير الصفاء بين عناصر الأمة لا تقوم إلا بتوافر ركنيها المادي والمعنوي. أما ركنها المادي فيتألف من النشاط الإجرامي الذي يتخذ صورة قيام الفاعل بعمل أو كتابة أو خطاب، بحيث يسعى من خلاله إلى نشر آراء وأفكار معيّنة أو تحويرها أو تثبيتها، والترويج لها وحمل الآخرين على الاقتناع بها واعتناقها، واتخاذها أساساً في سلوكهم. إذ يمكن أن يتم نشر هذه الآراء أو الأفكار وترويجها بكل وسائل الدعاية من قول وكتابة، ورسم وتصوير وسينما، وتلفزيون، وإذاعة. والأصل في ذلك أن يجري بطريقة منظمة، وبأساليب بارعة، وعلى يد أشخاص مدربين يكرسون في التأدية جهودهم وأعمارهم، ويستخدمون ألسنتهم وأقلامهم. وهذا يتطلب قدراً من الديمومة والاستمرار؛ لأن نشر الآراء والأفكار والترويج لها للتأثير في سلوك الفرد أو الجماعة يتم من خلال برنامج موضوع وخطة مرسومة يسعى القائمون بها إلى تنفيذها، وهم يواصلون نشاطهم، ويبثون ما يبثون في آذان كل من يصادفون؛ وفي كل مكان استطاعوا أن ينفذوا بنشاطهم إليهم. ولكن المشرع السوري لا يشرط لقيام الجريمة المنصوص عليها في المادة (307) من قانون العقوبات تكرار الأفعال التي يتكون منها نشاط الفاعل الإجرامي، بل يكفي فعل واحد لتحقق الخطر الذي قصده المشرع في هذه الجريمة.
ويقصد بلفظة «الإثارة» الإيقاظ، والإذكاء، والتغذية، والتشجيع. أما لفظة «النعرات» فيراد بها العصبيات. وتنصرف لفظة «المذهبية» إلى الطوائف والفرق الدينية التي ينتمي إليها المواطنون، كالإسلام والمسيحية، وما تفرع منهما من مذاهب كالمذهب الإسلامي السني، والمذهب الإسلامي الشيعي، وكالمذهب المسيحي الكاثوليكي والأرثوذكسي والبروتستنتي… إلخ. وأما كلمة «العنصرية» فتنصرف إلى الجماعات العرقية المختلفة والسلالات التي تتألف منها الأمة عبر عصور التاريخ.
وليست العصبيات المذهبية (أو الدينية) ولا العصبيات العنصرية (أو العرقية) وحدها هي التي تفتك في جسد الأمة، وإنما يُعدُّ من هذا القبيل أيضاً العصبيات القبَلية، والإقليمية. ومهما يكن فإن كل نعرة عصبية تستأثر بولاء المواطن دون الدولة تؤلف خطراً على أمنها الداخلي، وتنال من الوحدة الوطنية، وتعكر الصفاء بين عناصر الأمة، وينبغي أن تعدّ إثارتها جريمة يعاقب عليها القانون.
ومما يجدر الإشارة إليه أنه يكفي لقيام الجريمة المنصوص عليها في المادة (307) من قانون العقوبات توافر أحد الغرضين التاليين: إما إثارة النعرات المذهبية أو العنصرية، وإما الحض على النزاع بين الطوائف ومختلف عناصر الأمة.
ولا يشترط لقيام هذه الجريمة أن يؤدي سلوك الفاعل إلى تحقيق الغرض الذي قصده، وهو اتقاد جذوة التعصب المذهبي أو العنصري، أو نشوب النزاع بين الطوائف أو مختلف عناصر الأمة؛ إذ لا يُستلزم تحقق الخطر أو الضرر فعلاً، وإنما يكفي في قيامها أن يكون الخطر ممكناً أو محتملاً؛ أي أن يثبت أن الفاعل كان يرمي بسلوكه إلى تحقيق إثارة النعرات المذهبية أو العنصرية، أو نشوب نزاع طائفي.
أما الركن المعنوي للجريمة المنصوص عليها في المادة (307) المشار إليها آنفاً فيتخذ صورة القصد الجرمي بنوعيه العام والخاص؛ إذ يجب أن يثبت علم المدعى عليه بطبيعة الأفعال التي يقوم بها، واتجاه إرادته - على الرغم من علمه - إلى القيام بها، وتحقيق النتائج المترتبة عليها. وينبغي أيضاً أن يتوافر قصد خاص يتمثل في نية إثارة النعرات المذهبية أو الطائفية، أو نشوب نزاعات طائفية.
والجدير بالملاحظة أنه لا يجوز أن يُؤوَّل نص المادة (307 ) من قانون العقوبات تأويلاً يفقدها الغاية من وجودها، أو يخرج بها عن مراد المشرع، كأن يُعدّ تمجيد القيم الروحية في الأديان السماوية مثلاً إثارة للنعرات المذهبية أو حضاً على النزاع بين الطوائف، أو كأن تُعدّ الدعوة إلى الإيمان بالقومية العربية أو العمل لوحدة الأمة العربية إثارةً للنزاعات العنصرية أو حضاً على تفريق عناصر الأمة. ذلك أن هذا السلاح الذي وضعه القانون الجزائي في خدمة القومية العربية ضد أعدائها لا يجوز أن يصوَّب إلى صدور دُعاتها والمؤمنين بها والعاملين لها. وهذا التفسير ينسجم مع ما جاء في دستور الجمهورية العربية السورية الذي يعدّ الشعب السوري جزءاً من الأمة العربية، ويوجب على السلطة القضائية أن تصدر أحكامها باسم الشعب العربي في سورية.
وعاقب المشرع على فاعل الجريمة المنصوص عليها في المادة (307) من قانون العقوبات بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين، والغرامة من مئة إلى مئتي ليرة سورية، وهي عقوبة جنحوية؛ ويمنع من ممارسة حقوقه المدنية الآتية: الحق في تولي الوظائف والخدمات العامة - الحق في تولي الوظائف والخدمات في إدارة شؤون الطائفة المدنية أو الإدارة النقابية التي ينتمي إليها - الحق في أن يكون ناخباً أو منتخباً في جميع مجالس الدولة - الحق في أن يكون ناخباً أو منتخباً في جميع منظمات الطوائف والنقابات - الحق في حمل أوسمة سورية أو أجنبية (المادتان 307 و65 من قانون العقوبات)؛ ويجوز للمحكمة أن تقضي بنشر الحكم بوصفه عقوبة تكميلية. ويمكن للمحكمة أن تقرر منع المحكوم عليه بعد الإفراج عنه من الإقامة في أمكنة محددة تعينها في حكمها (المادتان 311 و82 من قانون العقوبات)؛ وإذا كان الفاعل أجنبياً يمكن للمحكمة أن تقضي بإخراجه من البلاد مؤبداً أو لمدة تراوح بين ثلاث سنوات وخمس عشرة سنة (المادتان 311 و88 من قانون العقوبات).
وقد نصت المادة (308) من قانون العقوبات على جريمة الانتماء إلى جمعية أنشئت لغرض النيل من الوحــــــــــــــدة الوطنية وتعكير الصفاء بين عناصــــــــــــر الأمة، بقولها: «1- يتعرض للعقوبات نفسها كل شخص ينتمي إلى جمعية أنشئت للغاية المشار إليها في المادة السابقة، 2- ولا ينقص الحبس عن سنة واحدة والغرامة عن مائة ليرة إذا كان الشخص المذكور يتولى وظيفة عملية في الجمعية، 3- كل ذلك فضلاً عن الحكم بحل الجمعية ومصادرة أملاكها عملاً بالمادتين 109 و69».
إن الجريمة الواردة في هذا النص تتطلب توافر ركنين اثنين، وهما: الركن المادي والركن المعنوي. أما الركن المادي فيتحقق بمجرد انتماء الفاعل - سورياً كان أم أجنبياً- إلى جمعية أنشئت لغرض إثارة النعرات المذهبية، أو الطائفية، أو العنصرية، أو الحض على النزاع بين الطوائف ومختلف عناصر الأمة. والانتماء إلى هذه الجمعية يعني الانتساب أو الانضمام إليها، أو الاشتراك فيها بأي صورة وعلى أي وجه كان. وقد حصر المشرع نشاط هذه الجمعية في إطار النيل من الوحدة الوطنية وتعكير الصفاء بين عناصر الأمة، ولكن إذ تعدى نشاطها ذلك، كأن يستهدف هذا النشاط تغيير كيان الدولة الدستوري أو الاقتصادي أو الاجتماعي، أو إثارة حرب أهلية أو اقتتال طائفي فلا يطبق نص المادة (308)، وإنما تطبق الأحكام المتعلقة بجرائم الفتنة والإرهاب.
أما الركن المعنوي لهذه الجريمة فيتخذ صورة القصد الجرمي العام، وهو إرادة انتماء المدعى عليه الواعية إلى جمعية غرضها النيل من الوحدة الوطنية أو تعكير الصفاء بين عناصر الأمة؛ مع علمه بحقيقة هذا الغرض.
وقد عاقب المشرع على هذه الجريمة بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين، وبالغرامة من مئة إلى مئتي ليرة سورية، ولا تنقص عقوبة الحبس عن سنة وعقوبة الغرامة عن مئة ليرة سورية إذا كان الفاعل يتولى وظيفة عملية في الجمعية المذكورة في المادة (307) من قانون العقوبات. ويمكن للمحكمة أن تقضي بنشر الحكم؛ وبالمنع من الحقوق المدنية، أو منع الإقامة، أو بالإخراج من البلاد إذا كان الفاعل أجنبياً، وذلك تطبيقاً لأحكام المادتين (307 و311) من قانون العقوبات. هذا فضلاً عن الحكم بحل الجمعية ومصادرة أملاكها عملاً بأحكام المادتين (109 و69). إذ يفترض أنه تم إنشاء هذه الجمعية بموجب ترخيص من الحكومة وفقاً للأصول القانونية المعمول بها، ولكنها انحرفت عن هدفها المعلن، وقامت بممارسة أعمال ينجم عنها إثارة النعرات المذهبية أو العنصرية، أو تحض على النزاع بين الطوائف ومختلف عناصر الأمة؛ لذا على المحكمة أن تقضي بحلها ومصادرة أملاكها إضافة إلى معاقبة المنتسبين إليها بأي صفة كانت.
سادساً- النيل من مكانة الدولة المالية:
قد يلجأ بعض الأشخاص إلى التلاعب بالأسعار، واختلاق وقائع ومزاعم كاذبة، وترويجها في الأسواق المالية؛ الأمر الذي يخلق حالة من القلق والخوف والاضطراب عند الناس، ويحملهم على سحب أموالهم المودعة في المصارف الوطنية، وإبدالها بعملة أجنبية، أو تهريبها وإيداعها في المصارف الأجنبية في الخارج، أو استخدامها بشراء عقارات…إلخ. وهذا يؤدي إلى زعزعة الثقة العامة في أوراق الدولة النقدية، وسنداتها المصرفية والمالية، وينال بالنتيجة من مكانتها المالية؛ لما يسببه من انخفاض في قيمة هذه الأوراق النقدية والسندات الوطنية، ويقابله ارتفاع في قيمة العملات والسندات الأجنبية؛ لذا فقد عاقب المشرع السوري كل من تسول له نفسه ارتكاب أفعال من شأنها النيل من مكانة الدولة المالية، وذلك في المادتين (309 و310) من قانون العقوبات.
نصت المادة (309) من قانون العقوبات على أنه: «1- من أذاع بإحدى الوسائل المذكورة في الفقرتين الثانية والثالثة من المادة 208 وقائع ملفقة، أو مزاعم كاذبة لإحداث التدني في أوراق العملة الوطنية، أو لزعزعة الثقة في متانة نقد الدولة وسنداتها وجميع الأسناد ذات العلاقة بالثقة المالية العامة؛ يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وبالغرامة من مائتين وخمسين ليرة إلى ألف ليرة، 2- ويمكن فضلاً أن يقضى بنشر الحكم».
من استعراض هذا النص يتضح أنه يشترط لقيام هذه الجريمة تحقق ركنين اثنين، هما: الركن المادي والركن المعنوي. ويتجلى الركن المادي في إذاعة وقائع ملفقة أو مزاعم كاذبة لإحداث التدني في أوراق العملة السورية، أو لزعزعة الثقة في متانة نقد الدولة وسنداتها، وجميع الأسناد ذات العلاقة بالثقة المالية. ويراد بإذاعة الوقائع الملفقة أو المزاعم الكاذبة تداول روايتها وبثها ونشرها بين الناس. وقد حدد المشرع الوسائل التي تحصل بها هذه الإذاعة، حيث يشترط أن تتم بصورة علنية بإحدى الوسيلتين الآتيتين: الوسيلة الأولى، وهي أن تحصل إذاعة الوقائع الملفقة أو المزاعم الكاذبة بالكلام أو الصراخ سواء جُهر بهما، أم نقلا بالوسائل الآلية بحيث يسمعها في كلا الحالين من لا دخل له بالفعل. أما الوسيلة الثانية فهي أن تحصل إذاعة هذه الوقائع أو المزاعم بالكتابة والرسوم والصور اليدوية والشمسية والأفلام والشارات والتصاوير على اختلافها إذا عرضت في محل عام أو مكان مباح للجمهور أو معرض للأنظار. وتقتضي الإذاعة أن تتواتر رواية الوقائع الملفقة أو المزاعم الكاذبة، فينقلها بعض الناس إلى بعضهم، أو أن يعلمها فريق كبير منهم في آن واحد، كما لو أُبلغت إلى عدد منهم وهم مجتمعون، أو كأن يقوم الفاعل بنقل الواقعة الملفقة أو المزاعم الكاذبة إلى من صادفه حتى ينتشر خبرها، ويعرفه عدد كبير من الأفراد. هذا ولا يشترط في إذاعة تلك الوقائع أو المزاعم أن تبلغ إلى مسامع جميع الناس، وإنما يكفي أن يمتد أثر الإذاعة إلى عدد كبير من الأفراد لا تربطهم بعضهم ببعض أي صلة. والوقائع الملفقة أو المزاعم الكاذبة هي اختلاق وقائع أو مزاعم لا أصل لها، ولا ظل من الحقيقة، أو تشويه هذه الوقائع وتحريفها بحيث يخرجها الفاعل عن طبيعتها، ويصطنع منها بذلك صورة زائفة يبتغي بثها في نفس الجمهور. أما إذا كانت الأخبار التي أذاعها الفاعل صحيحة وحقيقية ومنتشرة ومعلومة من الجميع، أو على الأقل من الأكثرية؛ تنتفي الصفة الجرمية عن سلوكه. ويستوي أن تتم إذاعة هذه الوقائع أو المزاعم داخل الإقليم السوري أو خارجه، كما يستوي أن يكون الفاعل سورياً أو أجنبياً. ولا يكفي أن تكون الوقائع أو المزاعم التي أذاعها الفاعل ملفقة أو كاذبة، وإنما ينبغي فوق ذلك أن تستهدف هذه الأخبار إحداث تدنٍّ في أوراق النقد السورية، أو زعزعة الثقة في متانة نقد الدولة وسنداتها، وجميع الأسناد ذات العلاقة بالثقة المالية العامة. إذ إن الفاعل في هذه الجريمة هو الذي يتولى عملية نشر الوقائع الملفقة أو المزاعم الكاذبة وإذاعتها، وقد يكون شخصاً عادياً لا تربطه صلة بأي مصرف من المصارف الخاصة، وربما تكون له علاقة معها مشبوهة، أو يتاجر هو نفسه في عمليات البيع والشراء، والمقايضة والمبادلة، ويهمه انخفاض الليرة السورية لارتفاع المنفعة التي يجنيها.
أما الركن المعنوي للجريمة المنصوص عليها في المادة (309) المشار إليها آنفاً؛ فيتخذ صورة القصد الجرمي بنوعيه العام والخاص. إذ ينبغي أن يقدم الفاعل على إذاعة الوقائع الملفقة أو المزاعم الكاذبة وهو على بينة من الأمر، أي يجب أن يذيع هذه الأخبار وهو عالم أنها ملفقة أو كاذبة، ومدرك الخطر الذي يمكن أن تلحقه بمكانة الدولة المالية، واتجاه إرادته الواعية - على الرغم من ذلك - إلى ارتكابها، وإلى تحقيق النتيجة المترتبة عليها. وإذا لم يقم الدليل على علم الفاعل بكذب الأخبار التي أذاعها أو لفقها، وعلى علمه أيضاً بأنه سيترتب عليها تدنٍّ في أوراق النقد الوطنية أو زعزعة في الثقة بالمالية العامة للدولة؛ فلا مجال لتطبيق المادة (309) من قانون العقوبات. ولا يكفي توافر القصد الجرمي العام على النحو السابق بيانه، وإنما لا بد من توافر قصد خاص يتمثل في انصراف نية المدعى عليه إلى إحداث تدنٍّ في أوراق النقد الوطنية، أو زعزعة في الثقة المالية العامة للدولة.
وقد عاقب المشرع السوري كل من يذيع وقائع ملفقة أو مزاعم كاذبة لإحداث تدنٍّ في أوراق النقد الوطنية، أو لزعزعة الثقة في متانة نقد الدولة وسنداتها وجميع السندات ذات العلاقة بالثقة المالية العامة بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات، وبالغرامة من مئتين وخمسين إلى ألف ليرة سورية. ويمكن فضلاً عن ذلك أن تقضي المحكمة عليه بنشر الحكم، وبالمنع من الحقوق المدنية، أو منع الإقامة، أو الإخراج من البلاد بالنسبة إلى الأجنبي، وذلك تطبيقاً لأحكام المادة (311) من قانون العقوبات.
وقد يعمد بعض الأشخاص لمنافع شخصية إلى سحب أموالهم من المصارف أو الصناديق العامة، وإبدالها عملة أجنبية، وإيداعها المصارف الأجنبية في الخارج، أو شراء أسهم وعقارات والقيام بأعمال تجارية خارج سورية، وتحريض الناس على تقليدهم في ذلك؛ الأمر الذي قد يؤدي إلى إفلاس المصارف والصناديق العامة، وإلى عدم استقرار الأوضاع المالية للدولة؛ لذا فقد أفرد المشرع السوري نصاً خاصاً في المادة (310) من قانون العقوبات يقضي بتجريم كل من يحض الجمهور على القيام بمثل هذه الأفعال.
ونصت المادة (310) على أنه: «يستحق العقوبة نفسها كل شخص تذرع بالوسائل عينها لحض الجمهور: أ- إما على سحب الأموال المودعة في المصارف والصناديق العامة، ب- أو على بيع سندات الدولة وغيرها من السندات العامة، أو على الإمساك عن شرائها».
يشترط لقيام الجريمة الواردة في نص المادة (310) المشار إليها تحقق ركنين اثنين، وهما: الركن المادي والركن المعنوي. ويتجلى الركن المادي في سلوك الجاني الذي يتخذ صورة تحريض الجمهور على سحب أموالهم المودعة في المصارف والصناديق العامة، أو على بيع سندات الدولة وغيرها من السندات أو على الإمساك عن شرائها. واشترط المشرع أن يحصل هذا التحريض بالوسائل العلنية المشار إليها في معرض شرح نص المادة (309) من قانون العقوبات. ولا يُستلزم لقيام هذه الجريمة أن يؤدي سلوك الفاعل إلى تحقيق الغرض الذي قصده، وهو إقدام الناس على سحب أموالهم المودعة في المصارف أو الصناديق العامة، أو على بيع سندات الدولة وغيرها من السندات العامة، أو على الإحجام عن شرائها بالاكتتاب عليها. إذ لا يشترط حصول النتيجة المتمثلة بتحقق الضرر من جراء سلوك الفاعل، وإنما يكفي في قيام الجريمة أن يكون هذا الضرر ممكناً أو محتملاً؛ أي أن يَثبُت أن الفاعل كان يهدف بسلوكه إلى حمل الناس على سحب ودائعهم، أو على بيع السندات المشار إليها، أو على الامتناع عن شرائها.
أما الركن المعنوي للجريمة المنصوص عليها في المادة (310) من قانون العقوبات فيتخذ صورة القصد الجرمي بنوعيه العام والخاص. إذ لا يكفي إقدام الفاعل - مع علمه بما يقوله أو يفعله بإحدى الوسائل العلنية المنصوص عليها في الفقرتين الثانية والثالثة من المادة (208) من قانون العقوبات - على حض الجمهور على سحب أموالهم من المصارف أو الصناديق العامة، أو على بيع سندات الدولة وغيرها من السندات العامة، أو على الإمساك عن شرائها، وإنما لا بد أن يتوافر لديه قصد خاص يتمثل في نية إلحاق الضرر في مكانة الدولة المالية.
وعاقب المشرع على هذه الجريمة بالعقوبات نفسها المقررة للجريمة المنصوص عليها في المادة (309) من قانون العقوبات، والتي سبق بيانها في معرض شرح هذه المادة.
مراجع للاستزادة: |
- عبد الوهاب حومد، الإجرام السياسي (دار المعارف، بيروت 1963).
- عبد الوهاب حومد، المفصل في شرح قانون العقوبات - القسم العام (المطبعة الجديدة، دمشق 1990).
- فريد الزغبي، الموسوعة الجزائية، المجلد العاشر (دار صادر، بيروت 1995).
- محمد الفاضل، محاضرات في الإجرام السياسي (مطبعة جامعة دمشق، الطبعة الثالثة، 1967).
- محمد الفاضل، الجرائم الواقعة على أمن الدولة (المطبعة الجديدة، الطبعة الرابعة، دمشق 1977- 1978).
- التصنيف : القانون الجزائي - النوع : القانون الجزائي - المجلد : المجلد الثاني: بطاقة الائتمان ــ الجرائم الواقعة على السلطة العامة - رقم الصفحة ضمن المجلد : 487 مشاركة :