مبدأ المشروعية
مبدا مشروعيه
principle of legality - principe de légalité
عمار التركاوي
تعريف مبدأ المشروعية ومدلوله وضرورته
جزاء الخروج على مبدأ المشروعية
أولاً ـ تعريف مبدأ المشروعية ومدلوله وضرورته:
1ـ تعريف مبدأ المشروعية:
لئن كان هناك اتفاق عام على أن المقصود بمبدأ المشروعية هو الالتزام بأحكام القانون بالنسبة إلى لجميع حكاماً ومحكومين، وعلى قدم المساواة؛ فإن التعبير عن هذا المعنى قد أطلق عليه مصطلحات عديدة، منها: المشروعية، الشرعية، سيادة حكم القانون، الخضوع للقانون، فالهدف واحد لدى الجميع وإن جرى التعبير عنه بمصطلحات مختلفة.
فالخضوع للقانون أو لحكم القانون يقصد به خضوع الجميع حكاماً ومحكومين لأحكام القانون؛ أي إن القانون يجب أن يكون واحداً بالنسبة إلى الحكام والمحكومين.
وقد يقصد بتعبير "سيادة القانون" أن يكون القانون هو السيد الأعلى، بحيث يعلو على الجميع، فتلتزم به جميع السلطات والهيئات، ويخضع له كل الأفراد حكاماً ومحكومين. وهذا الاصطلاح "سيادة القانون" يعدّ الأكثر استخداماً وشيوعاً في المجال السياسي، حتى إن بعض الدساتير تستخدم هذا الاصطلاح للتعبير عن تقريرها لمبدأ المشروعية، كالدستور المصري لعام 1971 حيث تنص المادة (64) منه على أن: "سيادة القانون أساس الحكم في الدولة"، والدستور السوري الدائم لعام 1973؛ إذ ينص في المادة (25ف2) منه على أن: "سيادة القانون مبدأ أساسي في المجتمع والدولة".
ومن ناحية أخرى يفرق بعض الفقهاء بين اصطلاح "المشروعية" التي يقصد بها احترام قواعد القانون القائمة فعلاً في المجتمع؛ أي المشروعية الوضعية، وبين اصطلاح "الشرعية"؛ وهي الفكرة المثالية التي يقصد بها تحقيق العدالة، حيث تتضمن قواعد أخرى يستطيع عقل الإنسان السليم أن يكشفها، ويجب أن تكون المثل الأعلى الذي يتوخاه المشرع في الدولة، ويعمل على تحقيقه؛ إذا أراد الارتفاع بمستوى ما يصدر عنه من تشريعات.
فالشرعية بنظر هؤلاء أوسع مدى من المشروعية على أساس أن المشروعية تعني الاتفاق مع القانون الوضعي وعدم مخالفته، أما الشرعية فتعني ليس الاتفاق مع قواعد القانون الوضعي فحسب؛ بل أيضاً مع مبادئ الأخلاق.
بيد أن جانباً آخر من الفقه يرى خلاف ما سبق، حيث ذهب إلى أن الشرعية والمشروعية اصطلاحان مترادفان؛ لأن المبدأ يعدّ قيداً على تصرفات السلطات العامة، ويتطلب الالتزام بكل القواعد القانونية المكتوبة وغير المكتوبة، ومن بين هذه القواعد المبادئ القانونية العامة التي يستقر عليها المجتمع؛ فضلاً عن الالتزام بقواعد المشروعية الوضعية، وما دام هذا المبدأ يعني احترام الأفكار المثالية التي تحمل في طياتها معنى العدالة، ويعني احترام قواعد المشروعية الوضعية؛ فلا يكون ثمة مجال للتفرقة بين الاصطلاحين سالفي الذكر.
2ـ مدلول مبدأ المشروعية:
أ ـ تحديد المقصود بالخضوع للقانون:
على الرغم من تعدد المصطلحات المستخدمة للمطالبة بخضوع الجميع لأحكام القانون، فإن الكل متفق على أن ذلك يعني في النهاية أن يكون للقانون السلطة العليا، فهو قانون للجميع وعلى الجميع؛ أي إن القانون عندما يصدر فإنما يصدر؛ ليلتزم به الجميع، وعلى الجميع ـ حكاماً ومحكومين ـ أن يخضعوا لأحكامه ولا يخرجون عليها.
فمن ناحية المحكومين أو الأفراد، يلتزم جميع الأفراد بالخضوع للقانون وعلى قدم المساواة، ومن دون أي تفرقة بسبب الجنس أو اللون أو العقيدة أو السن أو الوضع الاجتماعي أو الاقتصادي، إنه قانون للناس كافة، ويجب أن يطبق على الناس كافة على قدم المساواة.
ومن ناحية السلطات، تلتزم جميع السلطات بالخضوع لأحكام القانون، بما في ذلك السلطة التشريعية، حيث يجب عليها الالتزام بأحكام الدستور فضلاً عن مراعاة المبادئ القانونية العامة. كما أن القضاء مطالب ـ وهو أمر طبيعي بحكم وظيفته ـ باحترام كل القوانين وتطبيقها على المنازعات التي يفصل فيها.
أما السلطة التنفيذية فهي المطالَبَة الأولى بالخضوع للقانون والالتزام بأحكامه، ذلك أن التخوف ـ عادةً ـ يكون من السلطة التنفيذية كحكومة في مستواها الأعلى، وكإدارة في مستوياتها الأخرى.
والواقع أن الهدف الأول لمبدأ المشروعية هو إلزام السلطة التنفيذية بصفة عامة، والإدارة بصفة خاصة؛ بالخضوع لأحكام القانون والالتزام به وعدم الخروج عليه.
على أن المقصود بالقانون هنا هو القانون بمعناه الواسع، أي القاعدة القانونية بصفة عامة وبغض النظر عن مصدرها، سواء كانت نصوص الدستور، أم نصوص القوانين، أم نصوص اللوائح، أم العرف، أم المبادئ القانونية العامة. فهو يعني ضرورة الالتزام بكل قواعد الهرم القانوني في الدولة على تنوع مصادره واختلاف مستوياته، فهو التزام عام بكل القواعد القانونية؛ بالمعنى الواسع لكلمة قانون.
ب ـ تحديد المقصود بخضوع الإدارة للقانون:
وفي مجال القانون الإداري، يعرف المبدأ باسم "خضوع الإدارة للقانون" فما المقصود بذلك؟ أو ما مدى التزام الإدارة بالخضوع للقانون؟
اختلف الفقهاء حول تحديد مدلول خضوع الإدارة للقانون، فظهرت ثلاثة آراء في هذا الخصوص:
الرأي الأول: ويذهب أنصاره إلى أن المقصود بالتزام الإدارة هنا هو ضرورة اتفاق كل أعمالها المادية والقانونية مع حكم القانون.
ومعنى ذلك أن كل ما هو مطلوب من الإدارة حتى يقال: إنها ملتزمة بالخضوع لمبدأ المشروعية عند مباشرتها لأعمالها، ألا تكون هذه الأعمال مخالفة لقاعدة قانونية.
الرأي الثاني: يرى أنصاره أن المقصود بالتزام الإدارة بالخضوع للقانون؛ ليس فقط أن تكون تصرفاتها مطابقة للقانون أو غير مخالفة له، وإنما يجب فوق ذلك أن تكون هذه التصرفات مستندة إلى قاعدة قانونية تجيزها.
الرأي الثالث: يذهب إلى مدى أبعد من الرأيين السابقين، حيث يرى أنه لكي يتحقق خضوع الإدارة للقانون، أو لكي تصبح أفعالها وتصرفاتها المادية والقانونية مشروعة؛ فإنه يجب أن تكون هذه الأفعال أو تلك التصرفات مجرد تنفيذ أو تطبيق لقاعدة قانونية قائمة عند مباشرة الفعل أو التصرف.
وبنظرة فاحصة لهذه الآراء الثلاثة، فإنه يتضح على الفور عدم صحة الثالث والأخير منها؛ ذلك أنه رغم نبل الاعتبارات التي انطلق منها والتي تعبر عن رغبة أكيدة في توفير أكبر قدر من الضمان لحقوق الأفراد وحرياتهم في مواجهة الإدارة، فإنه يتجاهل من ناحية أخرى وظيفة الإدارة خاصةً بعد سيادة مذاهب التدخل وما أدت إليه من زيادة واتساع في الدور الذي تباشره في المجتمع، ذلك الدور الذي أصبح له مكان الصدارة؛ مقارنة بأدوار السلطات الأخرى، وذلك ليس فقط لقدرتها على وضع هذه القرارات موضع التنفيذ، ولكن أيضاً لوجودها في وضع يسمح لها بمعرفة دقائق مختلف مشاكل المجتمع وتفاصيله؛ مما يمكنها من مواجهة كل حالة على حدة والتعامل معها بالأسلوب الذي يتفق وطبيعتها. فالإدارة أصبحت تمثل في حقيقة الأمر المحرك الأساسي لمختلف أوجه النشاط في العالم المعاصر. إضافةً إلى ذلك، فإن هذا الرأي لا يتفق وما يقرره القانون الوضعي للإدارة من امتيازات، حيث يمنحها من ناحية سلطة اتخاذ قرارات ولوائح لا علاقة لها بالتنفيذ بالمعنى الضيق، ومثال ذلك اللوائح المستقلة أو القائمة بذاتها والتي تستمد الإدارة حقها في خصوصها من النصوص الدستورية مباشرة، كما يمنحها من ناحية أخرى سلطة تقديرية في كثير من الحالات، وبمقتضى هذه السلطة تستطيع الإدارة تقدير ملاءمة الأعمال والإجراءات التي تتخذها ومناسبتها. فلها أن تتدخل وتباشر ما تراه من تصرفات وأفعال أو لا تتدخل، ولها أيضاً اختيار الوسيلة الملائمة لمثل هذه التصرفات أو الأعمال…إلخ.
واضح إذن أن ما يقرره القانون للإدارة سواء فيما يتعلق بسلطة إصدار لوائح مستقلة، أم بسلطة تقدير ما ترى اتخاذه من تصرفات وملاءمته؛ لا يعدّ تنفيذاً أو تطبيقاً لقوانين ونصوص قائمة، وإنما يتجاوز هذا المعنى بكثير.
أما فيما يتعلق بالرأيين الأول والثاني، فإنه لا تعارض أو تناقض بينهما، بل إن كلاً منهما يعدّ متمماً ومكملاً للآخر؛ إذ يضع أحدهما ـ وهو الرأي الأول ـ التزاماً سلبياً على عاتق الإدارة، وذلك بعدم مخالفة القانون عند مباشرة أعمالها المادية والقانونية، في حين أن الرأي الثاني يضع على عاتقها التزاماً إيجابياً، وذلك بأن تكون هذه الأعمال مستندة إلى أساس من القانون بمدلوله الواسع. إضافةً إلى أن هذين الرأيين يتفقان مع أحكام القانون وما يقرره للإدارة من سلطات وامتيازات، ولهذا فهو موضع تأييد وقبول من جانب كل من الفقه والقضاء.
وصفوة القول: أنه مع ضرورة التزام الإدارة باحترام القانون والخضوع بالتالي لمبدأ المشروعية، لما في ذلك من ضمانة أساسية لحماية حقوق الأفراد وحرياتهم وصونها؛ فإنه لا يجب من ناحية أخرى تقييد الإدارة لدرجة تشل حركتها وتكبح فعاليتها؛ بما يعوقها عن أداء الواجبات والمهام المنوطة بها.
3ـ ضرورة مبدأ المشروعية:
لعل تقرير مبدأ المشروعية بمضمونه السابق في الدولة القانونية، له أهميته من حيث كفالة الحماية الجدية لحقوق الأفراد وحرياتهم في مواجهة سلطات الدولة. فمبدأ المشروعية هو ضرورة من ضرورات المحافظة على حقوق الأفراد وحرياتهم في الدول التي تحرص على صيانة هذه الحقوق والحريات.
ويزيد من إلحاح هذه الضرورة ما تتمتع به السلطة العامة في الدولة من قوة جبرية تمكنها ـ ما لم تخضع للقانون ـ من أن تبتلع حقوق الأفراد، وتقضي على حرياتهم العامة. ومن غير هذا الخضوع سيكون في مقدور الدولة أن تخرج دائماً ـ ومن غير أن تتعرض لجزاء ما ـ من نطاق القانون. وهو ما ينتهي بها إلى حكم القوة المادية وسياسة التحكم والاستبداد، وفي هذه الحالة لا ضمان لحقوق الأفراد وحرياتهم ولا عاصم لها في مواجهة سلطات الدولة.
وتجدر الإشارة إلى أن القضاء الإداري يؤدي دوراً جوهرياً في حماية حقوق الأفراد وحرياتهم، وذلك عن طريق إلزام السلطة الإدارية باحترام مبدأ المشروعية في جميع تصرفاتها. فهو ـ بما له من خبرة واسعة عن النشاط الإداريـ يزن مبررات الإدارة التي تتذرع بها في المساس بحقوق الأفراد وحرياتهم، حتى إذا ما وجد أن ما استندت إليه من أسباب لا يتفق ومبدأ المشروعية؛ ردها إلى جادة الصواب عن طريق ما يجريه من رقابة على أعمالها؛ حفاظاً على حقوق الأفراد وحرياتهم.
ثانياً ـ مصادر مبدأ المشروعية:
يتطلب إعمال مبدأ المشروعية الخضوع لأحكام القانون بمعناه الواسع، أي الخضوع لكل القواعد القانونية التي يتكون منها النظام القانوني، وذلك بغض النظر عن مصدر هذه القواعد من ناحية، وبغض النظر كذلك عن وضعها في سلم تدرج القواعد القانونية من ناحية ثانية، وبغض النظر أيضاً عما إذا كانت قواعد مكتوبة أو قواعد عرفية من ناحية ثالثة.
فالمشروعية تتطلب احترام كل القواعد القانونية ومراعاتها، سواء وردت في الدساتير، أم وردت في القوانين واللوائح، أم كان مصدرها العرف، أم كانت ترجع إلى المبادئ القانونية العامة؛ أي أنها تتضمن القواعد القانونية كافة ، سواء كانت قواعد مكتوبة أم قواعد غير مكتوبة.
ويمكن توضيح مصادر مبدأ المشروعية المكتوبة وغير المكتوبة على التفصيل التالي:
1ـ المصادر المكتوبة:
تتجسد هذه المصادر في كل من الدستور، والتشريعات العادية، ثم اللوائح أو كما يطلق عليها أحياناً التشريعات الفرعية.
أ ـ الدستور: تعدّ القواعد الدستورية القانون الأعلى والأسمى في الدولة؛ ذلك أنها تتعلق بنظام الحكم في الدولة. فهي التي تحدد الأسس الفكرية أو الإيديولوجية التي يقوم عليها هذا النظام، وهي التي تبين السلطات الأساسية من تشريعية وتنفيذية وقضائية، وكذلك كيفية مباشرة كل من هذه السلطات لاختصاصاتها، وعلاقة كل منها بالأخرى، كما تبين أخيراً حقوق الأفراد وحرياتهم. ولهذا فهي تمثل الإطار القانوني العام الذي يجب أن تدور في فلكه جميع أوجه النشاط القانوني في الدولة، مما يجعل لها مكان الصدارة على سائر القواعد القانونية الأخرى، وهو ما يعرف بمبدأ سمو الدستور أو علوه.
إن سمو الدستور أو علوه على هذا النحو إنما يستند في الواقع إلى أمرين:
الأمر الأول: طبيعة نصوص الدستور ومضمونها، والذي يمثل الدعامة التي يرتكز عليها نظام الحكم في الدولة، ولهذا يطلق على السمو هنا (السمو الموضوعي للدستور)، وهذا المعنى يتحقق وبالدرجة نفسها في سائر الدول سواء كان دستورها مدوناً أم غير مدون؛ مرناً كان أم جامداً. ومن ثم فإن أهمية هذا السمو تتبدى فقط من الناحية السياسية البحتة، بمعنى أن مخالفة مضمون القواعد الدستورية أو موضوعها يرتب فقط آثاراً سياسية واجتماعية من دون أن تكون له أي آثار قانونية. ولذلك فإن احترام هذا المبدأ يتوقف في الواقع العملي على ضمير السلطات الحاكمة؛ وعلى ما وصل إليه الرأي العام من نضج ووعي سياسي.
الأمر الثاني: الطرق والإجراءات التي توضع وتعدل بها القواعد الدستورية، وهو ما يطلق عليه (السمو الشكلي للدستور)، وهذا المعنى لا يتحقق في الواقع إلا في الدول ذات الدساتير الجامدة، وهي الدساتير التي تتطلب لتعديلها إجراءات مغايرة وأصعب من تلك المتبعة في تعديل القوانين العادية. وعلى ذلك تختلف القواعد الدستورية في هذه الحالة عن القوانين العادية ليس فقط من حيث الموضوع؛ وإنما أيضاً من حيث الشكل، ولهذا فهي تحتل قمة التدرج الهرمي للنظام القانوني في الدولة، بحيث يمتنع على المشرع العادي أن يأتي ما يخالف نصاً دستورياً، وإلا كان عمله باطلاً ومجرداً من كل قيمة قانونية.
ومعنى ذلك أنه يترتب على الأخذ بمبدأ السمو الشكلي للدستور ضرورة الأخذ بمبدأ آخر، هو (مبدأ تدرج القواعد القانونية)، ومن مقتضاه أن تتقيد القواعد القانونية الدنيا بالقواعد القانونية العليا في السلم القانوني الذي تقف على قمته القواعد الدستورية؛ تلك القواعد التي تعد ـ والحال هكذا ـ مصدراً وإطاراً لكل القواعد التالية لها في الدرجة أو المرتبة، ومن ثم فهي تعد أول مصدر للمشروعية وأهمه.
وهكذا يصبح من الواجب على جميع السلطات في الدولة ضرورة الالتزام والتقيد بقواعد الدستور، ومن ثم عدم الخروج على ما تقرره من أحكام، وذلك فيما تباشره من مهام واختصاصات. ومعنى ذلك أنه يجب على السلطة التشريعية أن تتقيد بها فيما تصدره من تشريعات، ويجب على السلطة القضائية احترامها في مجال الدعاوى التي تطرح أمامها، كما يتعين على السلطة الإدارية كذلك التقيد بتلك القواعد فيما تجريه من تصرفات وأعمال وإلا عدت هذه الأعمال وتلك التصرفات غير مشروعة.
وإذا كان هناك اتفاق على أن الدستور يمثل قمة البناء الشرعي في الدولة، ويحكم بالتالي بقية القواعد القانونية الأخرى، كما تلتزم بأحكامه جميع السلطات بلا استثناء؛ فإن الجدل والخلاف قد ثار حول القيمة القانونية لما قد يوجد إلى جوار هذا الدستور من مبادئ ومثل عليا تتضمنها وثائق تاريخية منفصلة عن الدستور مثل إعلانات الحقوق، كما هو الحال بالنسبة إلى لإعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي الصادر عام 1789، والمواثيق الوطنية ومنها الميثاق الوطني الجزائري الصادر عام 1976، أو تتضمنها مقدمات الدساتير ذاتها.
وقد اختلف الفقه حول تحديد القيمة القانونية للمواثيق وإعلانات الحقوق ومقدمات الدساتير، فظهرت عدة اتجاهات:
الاتجاه الأول: يذهب إلى القول إن المبادئ والأسس التي تتضمنها أحكام المواثيق وإعلانات الحقوق ومقدمات الدساتير تعدّ القانون الأسمى للدولة، ومن ثم فإن أحكامها واجبة الاحترام، ويتقيد بها القضاء في أثناء فصله في أي نزاع، ولها قوة أعلى من النصوص الدستورية.
ويستند هذا الرأي إلى أن المبادئ التي ترد في هذه الوثائق تتضمن الأسس التي يجب أن يسير على هديها الدستور؛ مما يتعين معه أن على السلطة التي تضع الدستور أن تلتزم بكل ما ورد في هذه الوثائق، ولا يجوز لها مخالفتها.
الاتجاه الثاني: يذهب هذا الاتجاه إلى إعطاء قيمة قانونية للمواثيق وإعلانات الحقوق ومقدمات الدساتير؛ مساوية لقيمة الدستور. فهو لا يرى أنها أعلى من الدستور، وإنما يقرر أن قيمتها مساوية تماماً للقيمة القانونية لنصوص الدستور، ومن ثم فإنها تعدّ ملزمة لكل من المشرع العادي والمشرع اللائحي، بحيث يلتزمان بما جاء بها، ولا يستطيعان مخالفة أحكامها، وإلا عدّ ذلك مخالفاً لمبدأ تدرج القواعد القانونية. فهي تأتي في الهرم القانوني مساوية للقواعد الدستورية، ولكنها أعلى من القواعد التشريعية بنوعيها العادي واللائحي.
الاتجاه الثالث: يذهب هذا الاتجاه إلى أن القيمة القانونية للمواثيق وإعلانات الحقوق ومقدمات الدساتير مساوية ـ من الناحية القانونية ـ لقيمة القواعد القانونية العادية؛ أي إنها في مرتبة أدنى من القواعد الدستورية، بحيث يمكن للقواعد الدستورية أن تلغيها أو تعدلها.
الاتجاه الرابع: ينكر هذا الاتجاه أي قيمة قانونية للمواثيق وإعلانات الحقوق ومقدمات الدساتير، ويرى أنها مجرد إعلان عن مبادئ فلسفية وسياسية تعبر عن أهداف ومثل للدولة لها قيمة أدبية فقط، فهي عبارة عن آمال وأهداف وتطلعات، من دون أن يكون لها أي قيمة قانونية.
الاتجاه الخامس: يذهب هذا الاتجاه إلى ضرورة التمييز بين ما إذا كان ما ورد بالمواثيق وإعلانات الحقوق ومقدمات الدساتير يتضمن قواعد قانونية محددة قابلة للتطبيق من عدمه، فإذا كان ما ورد بها يتضمن قاعدة قانونية محددة يمكن تطبيقها لأنها تنشئ مراكز قانونية؛ فإن هذا النوع يعدّ ملزماً قانوناً، سواء باعتبارها لها قيمة دستورية في رأي بعض الفقهاء، أم لها قيمة فوق دستورية في رأي بعضهم الآخر.
أما إذا كان ما ورد بالمواثيق وإعلانات الحقوق ومقدمات الدساتير هو مجرد توجهات عامة، ولم يتم صياغتها في شكل قواعد قانونية محددة، فلا يكون لها أي قيمة قانونية، وإنما تتمتع بقيمة أدبية أو معنوية فقط.
وفي مجال المفاضلة بين هذه الاتجاهات، يمكن القول: إن الاتجاه الخامس هو الأولى بالاتباع، ويجب التفرقة في نطاقه بين ما إذا كانت هذه المواثيق والإعلانات ومقدمات الدساتير قد تضمنت نصوصاً صريحة بإلزاميتها ـ فإنه يجب في هذه الحالة الالتزام بها وعدّها بمنزلة النصوص الدستورية؛ أي تكون لها قيمة نصوص الدستور ـ وما إذا لم تتضمن المواثيق وإعلانات الحقوق ومقدمات الدساتير ما يفيد بنص صريح أنها ملزمة؛ فلا يكون لها قيمة قانونية، بل تعد ذات قيمة أدبية أو معنوية، قد تكون ملزمة من الناحية السياسية، ولكنها غير ملزمة من الناحية القانونية.
ب ـ التشريع: يعدّ التشريع المصدر الثاني من المصادر المكتوبة للمشروعية، حيث يأتي في ترتيب مصادر المشروعية بعد الدستور، ومن ثم يتقيد التشريع بأحكام الدستور، ولا يمكن له مخالفة أحكامه.
ويقصد بالتشريع كل القواعد القانونية التي تقررها السلطة المختصة بالتشريع في الدولة وفقاً لأحكام الدستور، سواء تمثلت هذه السلطة في البرلمان (مجلس النواب أو مجلس الشعب أو مجلس الأمة أو الجمعية الوطنية… بحسب اختلاف المسميات طبقاً لدستور كل دولة)، أم تمثلت هذه السلطة في هيئة أخرى قرر لها الدستور سلطة التشريع، كرئيس الدولة في حالات غيبة البرلمان أو في الظروف الاستثنائية.وتهدف القواعد القانونية في الغالب إلى بيان الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتحديدها في الدولة، ويجب أن تتسم بالعمومية والتجريد، أي أن تكون عامة وشاملة في إلزامها لمختلف الهيئات العامة والخاصة والأفراد حكاماً ومحكومين؛ حتى يتحقق العدل، ويستقر النظام، ويسود مبدأ المشروعية في الدولة.
والسلطة التشريعية تلتزم عند مباشرة اختصاصاتها بأحكام الدستور، وإلا كانت تصرفاتها غير دستورية لمخالفتها مبدأ المشروعية. ومعنى ذلك أن القواعد القانونية الصادرة عن الهيئة التشريعية تأتي من حيث القوة أو القيمة القانونية في درجة تالية للقواعد التي يتضمنها الدستور، ومن ثم يتحتم على الإدارة أو السلطة التنفيذية بصفة عامة أن تلتزم ـ فيما تتخذه من قرارات ـ بأحكام تلك القوانين، أي إنه يجب أن تعمل في نطاقها ووفقاً لأحكامها، وإلا اتسمت هذه القرارات بعدم المشروعية؛ وكانت بالتالي عرضة للإلغاء، أو التعويض عما تحدثه من أضرار، أو الجزاءين معاً.
وإذا كان هذا هو الأصل العام، فإنه ظهر منذ وقت ليس ببعيد، نوع آخر من القوانين، أطلق عليها القوانين الأساسية أو المكملة للدستور أو التنظيمية، تختلف عن التشريعات العادية سالفة الذكر ـ وإن كانت تصدر عن السلطة التشريعية المختصة ذاتها ـ من ناحيتين:
الأولى: من ناحية الموضوعات التي تتناولها، حيث تتعلق بالموضوعات المتصلة بنظام الحكم من الناحية السياسية، أو بالموضوعات ذات الصلة بالقانون الدستوري كتنظيم السلطات العامة في الدولة، ومثال ذلك القانون الذي يصدر لتنظيم أحكام انتخاب أعضاء السلطة التشريعية، أو لإنشاء محكمة تختص دون غيرها بالرقابة على دستورية القوانين، أو لتنظيم مباشرة الحقوق السياسية بصفة عامة…إلخ.
الثانية: من ناحية الإجراءات اللازمة لإنشاء هذه القوانين وتعديلها، إذ إن هناك من الدساتير ما ينص على ضرورة اتباع الإجراءات ذاتها المتبعة في إنشاء الوثيقة الدستورية وتعديلها، ومثال ذلك ما تطلبه المشرع الدستوري الكويتي في المادة (4 ف 5) من دستور عام 1962، من ضرورة تنظيم سائر الأحكام الخاصة بتوارث الإمارة بواسطة قانون خاص يصدر خلال سنة من تاريخ العمل بالدستور، وتكون له صفة دستورية بحيث لا يجوز تعديله إلا بالطريقة المقررة لتعديل الدستور. ومن الدساتير ما يتطلب إجراءات أقل من تلك المتبعة لإنشاء الوثيقة الدستورية وتعديلها، ولكنها أعلى من إجراءات إنشاء وتعديل القوانين العادية، ومثال ذلك القوانين الأساسية التي تطلب إصدارها الدستور الفرنسي لعام 1958.
هذا وتجدر الإشارة إلى أن هناك من القوانين الأساسية أو التنظيمية ما لم ينص المشرع الدستوري على إجراءات معيّنة لإصدارها أو تعديلها، وهو ما يمثل الاتجاه الغالب في النظم الدستورية للبلاد العربية.
وهنا يثور التساؤل عن وضع هذه القوانين ـ والمسماة القوانين الأساسية أو التنظيمية ـ في سلم التدرج التشريعي في الدولة أو في الهيكل القانوني لمبدأ المشروعية؟
للإجابة عن هذا التساؤل يجب الإشارة بداية إلى أن الدرجة أو القيمة القانونية لنص ما؛ إنما تتحدد على أساس الهيئة التي أصدرت هذا النص وكذلك ما يتبع في شأن إصداره وتعديله من إجراءات. وإن المعيار الإجرائي هو الواجب الاتباع إذا كان صادراً عن هيئة واحدة، هي الهيئة التشريعية أو البرلمان، ومن ثم يمكن القول:
> إن القوانين الأساسية التي تصدر وتعدل بإجراءات إصدار الوثيقة الدستورية وتعديلها ذاتها، تأخذ مرتبة تلك الوثيقة ذاتها، وبالتالي يمتنع على المشرع العادي أن يعدل أو يغير فيها بقوانين عادية لا يتبع في خصوصها تلك الإجراءات.
> إن القوانين الأساسية التي تتبع في خصوصها إجراءات أقل من إجراءات إنشاء الوثيقة الدستورية وتعديلها، ولكنها أعلى من تلك المتبعة لوضع القوانين العادية وتعديلها؛ تكون في مرتبة وسطى بينهما. ومن ثم لا تستطيع القوانين الأساسية تعديل نص دستوري أو تغييره، كما أنه لا يمكن تعديلها أو تغييرها في ذاتها بقوانين عادية تصدر طبقاً للإجراءات العادية.
> وأخيراً تأخذ القوانين الأساسية التي تتبع في إنشائها وتعديلها إجراءات إنشاء القوانين العادية وتعديلها ذاتها؛ المرتبة أو القيمة القانونية نفسها لتلك القوانين.
ج ـ اللوائح أو القرارات الإدارية التنظيمية: إذا كانت اللوائح أو القرارات الإدارية التنظيمية تصدر عن السلطة التنفيذية في الدولة، ومن ثم تفترق ـ والحال هكذا ـ عن التشريعات البرلمانية من الناحية الشكلية، فإنه لا فرق بينها وبين تلك التشريعات من الناحية الموضوعية، ذلك أنها تتضمن ـ مثلها تماماً ـ قواعد عامة ومجردة تسري على كل الأفراد الذين تتوافر فيهم الشروط التي وردت بها.
فمن هذه الناحية، تعدّ اللوائح أو القرارات الإدارية التنظيمية إذن أعمالاً ذات طبيعة تشريعية؛ الأمر الذي يجعلها أحد عناصر البناء القانوني للدولة وبالتالي مصدراً من مصادر المشروعية، مع ملاحظة أن الترتيب الذي تكون عليه بين تلك المصادر هو الترتيب الثالث بعد النصوص الدستورية والتشريعات البرلمانية، على أساس أن هذه النصوص وتلك التشريعات هي التي تضع القواعد التي تنظم السلطة التنفيذية ذاتها، وتحدد كذلك مدى سلطتها في عمل اللوائح أو القرارات الإدارية التنظيمية، ومن ثم وجب على هذه السلطة أن تخضع في خصوص تلك اللوائح لما تمليه أو تفرضه النصوص الدستورية أو التشريعات العادية المشار إليها.
إضافة إلى ذلك فإن هذا السمو يأتي من النظر إلى أن القواعد الدستورية أو قواعد التشريعات العادية؛ ما هي في الواقع إلا تعبير عن إرادة الأمة ممثلة في سلطتها التأسيسية أو السلطة التشريعية، في حين أن اللوائح أو القرارات الإدارية التنظيمية من وضع السلطة التنفيذية، والتي تتمثل مهمتها الأساسية في تنفيذ القوانين.
وهكذا تخضع اللوائح بصفة دائمة ومطلقة لأحكام القوانين، وتعمل فقط في إطارها، وإلا اتسمت بعدم المشروعية.
ويلحق بالقرارات التنظيمية التعليمات والمنشورات التي تشتمل على قواعد عامة مجردة؛ إذ تأخذ هذه التعليمات والمنشورات حكم القرارات التنفيذية، فتصبح بمنزلة اللائحة أو القاعدة القانونية واجبة الاتباع، ويترتب على ذلك أن يلتزم بمراعاتها لا المرؤوسون وحدهم، بل الرئيس الذي أصدرها ذاته، فلا يملك أن يخالفها في التطبيق على الحالات الفردية، ما دام لم يصدر منه تعديل أو إلغاء لها بالأداة القانونية نفسها.
2ـ المصادر غير المكتوبة:
إلى جوار المصادر المكتوبة للمشروعية توجد مصادر أخرى غير مكتوبة، أهمها: العرف، والمبادئ العامة للقانون. ويمكن توضيحها على التفصيل التالي:
أ ـ العرف: يعد العرف المصدر الأول، بل وأقدم مصادر المشروعية بصفة عامة. وإذا كان دور العرف لم يعد يحتل ـ كما كان في الماضي ـ تلك الأهمية، إذ انتشرت حالياً ظاهرة القواعد القانونية المكتوبة، فإنه لا زال رغم ذلك يؤدي دوراً مهماً وأساسياً في هذا الخصوص. إذ إن هناك قواعد عرفية دستورية، وقواعد عرفية مدنية، وأخرى دولية، وكذلك قواعد عرفية إدارية… إلخ.
ومما يؤكد تلك الأهمية اعتداد القانون الوضعي به، والنص على اعتباره مصدراً منشئاً للقواعد القانونية في المجتمع (م1 من القانون المدني السوري).
ب ـ المبادئ العامة للقانون:
توجد إلى جوار القانون المكتوب في كل مجتمعات العالم تقريباً مجموعة من القواعد القانونية غير المكتوبة، يطلق عليها اسم (المبادئ العامة للقانون)، تجسد الأفكار الفلسفية والقيم الاجتماعية القائمة في ضمير الجماعة، والمهيمنة بالتالي على الروح العامة للتشريع، أو على النظام القانوني السائد في المجتمع، يلجأ إليها القاضي عندما لا يجد حلاً للنزاع المطروح أمامه في النصوص التشريعية الوضعية، ويستنبط منها ذلك الحل، ويقرره في أحكامه، فيكتسب بذلك قوة إلزامية، ومن ثم يصبح مصدراً من مصادر المشروعية.
فالمبادئ العامة للقانون إذن هي: "قواعد غير مدونة مستقرة في ذهن وضمير الجماعة، يعمل القاضي على كشفها بتفسير هذا الضمير الجماعي العام. وتلك القواعد المستقرة في الضمير تمليها العدالة المثلى ولا تحتاج إلى نص يقررها". وبذلك يتحتم على الإدارة احترام تلك المبادئ والعمل بمقتضى ما تقرره من أحكام، وذلك فيما تتخذه من أفعال وتصرفات، وإلا كانت هذه الأفعال والتصرفات معيبة، ووقعت باطلة لمخالفتها لمبدأ الشرعية. ومن أمثلة تلك المبادئ:
مبدأ مساواة المواطنين أمام القانون، مبدأ كفالة حق التقاضي والدفاع للأفراد، مبدأ الحرية الفردية، مبدأ حرية العقيدة، مبدأ الأصل في الأشياء الإباحة…إلخ.
ويتضح مما سبق أن المبادئ العامة للقانون ليست من صنع القضاء ولا من خلقه، وإنما فقط من اكتشافاته واستنباطاته، ذلك أن هذه المبادئ إنما هي موجودة أصلاً وقائمة فعلاً ـ كما ذُكر ـ في ضمير الجماعة، أو في مجموعة الأفكار الفلسفية والقيم الاجتماعية المهيمنة على هذا الضمير، وما عمل القاضي في هذه الحالة إلا الاكتشاف والاستنباط، ومن ثم لا يمكن التسليم بما ذهب إليه بعض رجال الفقه من أن دور القضاء هنا لا يقف عند حد الكشف عن المبادئ العامة للقانون وتقريرها، وإنما يصل دوره في هذا المجال إلى حد ابتداع هذه المبادئ وإنشائها وخلقها وابتكارها.
ففي ضمير الجماعة والروح العامة للتشريع إذن ـ وليس في القضاء ـ يكمن مصدر المبادئ العامة للقانون، خاصة أن القضاء ليس من اختصاصه القيام بعمل يدخل في اختصاص المشرع، ولو حدث ذلك لكان هذا المسلك اعتداءً صارخاً على الهيئة التشريعية، وكان عملاً باطلاً لا يصح أن ينتج آثاراً قانونية في مواجهة السلطات أو الأفراد.
ولكن ما هو المركز القانوني للمبادئ القانونية العامة بين مصادر المشروعية؟
إن التزام الإدارة باحترام مبدأ المشروعية لا يعني احترام المبدأ في ذاته فقط، أي احترام مجموعة القواعد القانونية الناجمة عن مختلف المصادر المكونة له، وإنما يعني أيضاً احترام التدرج التبعي الذي تكون عليه هذه القواعد أو مختلف تلك المصادر.
ويترتب على ذلك أن على الإدارة أن تلتزم عند مباشرة أعمالها وتصرفاتها، باحترام قواعد الدستور وأحكامه أولاً، ثم قواعد التشريع العادي وأحكامه ثانياً، ثم اللوائح والقرارات التنظيمية… وهكذا.
وإذا كان الأمر واضحاً بالنسبة إلى تدرج تلك المصادر؛ فإنه ليس كذلك فيما يتعلق بالمبادئ العامة للقانون، حيث اختلف الفقه في تحديد مرتبتها أو درجتها القانونية بالنسبة إلى باقي القواعد القانونية المكونة لمصادر مبدأ المشروعية.
وقد ظهر ثلاثة اتجاهات فقهية في هذا الخصوص:
الاتجاه الأول: يرى أن مرتبة المبادئ العامة للقانون أو درجتها تعادل مرتبة التشريعات العادية أو درجتها؛ مستنداً في ذلك إلى أن هذه التشريعات هي وسيلة التعبير الأولى عن القواعد القانونية، ومن ثم فلا يجوز أن تعلوها المبادئ العامة للقانون التي يقررها القضاء.
صحيح أن القضاء ـ بحسب هذا الاتجاه ـ يستطيع تكملة النقص وسد القصور في التشريع، بيد أنه عند وجود التشريع وأمام صراحته لا يكون من حقه أن يقضي على خلافه مهما كان الوضع، فلا يقرر مبدأً قانونياً يعارض به تشريعاً قائماً؛ لأن هذا العمل من جانبه يعد خروجاً منه على حدود اختصاصه.
وترتيباً على ذلك، يجب على الإدارة عدم احترام قوة إلزام المبادئ القانونية العامة إلا في حالة عدم تعارض تلك المبادئ مع تشريعات عادية وصريحة، فإذا وجد تشريع معارض فإن الأولوية والغلبة تكون للتشريع.
الاتجاه الثاني: يذهب هذا الاتجاه إلى القول إن المبادئ القانونية العامة ـ وإن كانت ملزمة للإدارة مثل القواعد القانونية ـ فإنها تعد في مرتبة أدنى من التشريعات العادية، وبالتالي تكون قوتها القانونية أقل من قوة التشريع الذي يضعه البرلمان.
ويستند هذا الاتجاه في رأيه إلى أن المشرع بما أنه يملك ـ بما يصدره من تشريعات عادية ـ مخالفة المبادئ العامة للقانون أو الخروج عليها، في الوقت الذي لا يكون فيه للقاضي وهو الذي يستنبط ويستخلص هذه المبادئ إلا أن يحترم تلك التشريعات بحيث لا يستطيع الخروج على أحكامها بما يقرره من مبادئ قانونية عامة؛ فإن النتيجة المنطقية لذلك هي الاعتراف بعلو قوة التشريعات العادية وسموها على قوة المبادئ العامة للقانون.
الاتجاه الثالث: يفرق هذا الاتجاه بين ما إذا كانت المبادئ العامة للقانون مستنبطة أو مستخلصة من أصول وقواعد دستورية؛ وبين ما إذا كانت مستنبطة ومستخلصة من مجموعة التشريعات العادية.
ففي الحالة الأولى ـ أي حالة ما إذا كانت المبادئ العامة تستمد كيانها من مجموعة القواعد التي تحكم النصوص الدستورية ـ وجب اعتبار هذه المبادئ مماثلة في قوتها الإلزامية للنصوص الدستورية؛ الأمر الذي يستتبع اعتبارها الأساس أو المصدر الذي تقوم عليه التشريعات المختلفة، ومن ثم لا يجوز للبرلمان أن يقيد هذه المبادئ بما يصدره من تشريعات عادية.
أما في الحالة الثانية ـ وهي حالة ما إذا كانت المبادئ العامة تستمد كيانها من مجموعة القواعد التشريعية التي تحكم المجتمع في زمن معين ـ فلا يجوز في هذه الحالة أن تُجعل لهذه المبادئ قوة أكبر من التشريع العادي الذي استمدت كيانها منه. ومن ثم وجب اعتبارها مماثلة من حيث القوة الإلزامية للقانون العادي، فلا تعدل إلا بنص من المشرع العادي.
وبنظرة فاحصة على الاتجاهات السابق ذكرها يمكن القول: إن الاتجاه الأول والثاني لا يختلفان فيما بينهما إلا من حيث الظاهر أو الشكل فقط، أما من حيث الجوهر أو المضمون فهما متفقان؛ إذ يؤدي كل منهما إلى النتيجة ذاتها التي ينتهي إليها الرأي الآخر.
وبيان ذلك أن الرأي الأول إذ ينتهي إلى القول إنه في الوقت الذي يستطيع فيه المشرع مخالفة المبادئ القانونية العامة والخروج عليها بما يقرره من تشريعات عادية؛ فإن القاضي لا يستطيع أن يقرر مبدأً قانونياً عاماً يخالف به نصاً تشريعياً قائماً، مما يعني ببساطة أن قوة إلزام التشريعات العادية تفوق قوة إلزام المبادئ العامة للقانون، ومن ثم تأتي في درجة متقدمة عليها في البناء القانوني لمصادر المشروعية، وهو ما ينتهي إليه الرأي الثاني.
ولكن ما يعيب هذه النتيجة أنها قد تكون صحيحة ومنطقية بالنسبة إلى بعض المبادئ العامة للقانون، دون بعضها الآخر؛ أي إنها لا تستغرق كل المبادئ العامة للقانون. ذلك أن هذه المبادئ والتي تستخلص من ضمير الجماعة وما ينطوي عليه هذا الضمير من مبادئ فلسفية واجتماعية؛ قد تعبر عن أصول وقواعد لا يستطيع المشرع ذاته مخالفتها أو الخروج عليها، كالأصول الدينية مثلاً، أو قواعد الحرية والعدل والمساواة والتي تمثل حقوقاً طبيعية ولصيقة بالإنسان. ففي هذه الحالة لا يمكن القول إن المشرع يستطيع أن يخرج على تلك المبادئ، ويقرر ما يخالفها بنصوص تشريعية صريحة.
وبناءً على ما تقدم، فالاتجاه الثالث هو الأصح، ولكن فقط فيما انتهى إليه من أن المبادئ العامة للقانون المستنبطة والمستخلصة من الأصول والقواعد الدستورية إنما تكون لها قيمة قانونية أعلى من تلك التي تتمتع بها التشريعات العادية. ومن ثم يمتنع على المشرع العادي مخالفتها أو الخروج عليها.
أما فيما يتعلق بالمبادئ العامة المستخلصة أو المستنبطة من مجموعة القواعد التشريعية التي تحكم المجتمع في زمن معين؛ فإنها ـ وإن كانت تلزم الإدارة فيما تتخذه من لوائح وقرارات فردية ـ فهي تلي في درجتها وقوتها القانونية التشريعات العادية، ما دامت هذه التشريعات قادرة على تعديلها أو إلغائها، في الوقت الذي لا تستطيع فيه تلك المبادئ مخالفة هذه التشريعات، وهو ما يتفق مع الرأي الأول والثاني وذلك على التفصيل السابق بيانه.
وفي ختام الحديث عن مصادر مبدأ المشروعية يطرح التساؤل التالي:
ما هو الدور الذي يؤديه القضاء في خلق القواعد القانونية وإنشائها؟ وهل تعد المبادئ القضائية التي وضعها القضاء أحد مصادر المشروعية؟
الأصل العام أن تكون وظيفة القضاء هي فض المنازعات، وذلك بتطبيق أحكام القواعد القانونية على المنازعات التي تعرض عليه؛ أي إن مهمته تنحصر في تطبيق القواعد القانونية، وليس في صنع هذه القواعد أو إلغائها أو تعديلها.
وهذا الأصل قاعدة عامة تطبق في كل فروع القانون، بما في ذلك القانون الإداري. بيد أن الطبيعة الخاصة لقواعد القانون الإداري، وظروف نشأته من الناحية التاريخية، وعدم تقنين كل قواعده، وزيادة مجالات النشاط الإداري وتعدده؛ أدى كل ذلك إلى أن أصبح القضاء الإداري يؤدي دوراً مميزاً في ابتداع قواعد القانون الإداري في حالة عدم وجود نص يحكم النزاع المعروض عليه. ذلك أن القاضي الإداري ـ شأنه شأن أي قاضٍ ـ مطالب بالفصل في المنازعات التي تعرض عليه وفقاً لأحكام القواعد القانونية القائمة، فإن لم يجد نصاً يحكم النزاع؛ فلا يستطيع الامتناع عن نظر النزاع، وإلا عد مرتكباً لجريمة إنكار العدالة، ومن ثم فإنه يجتهد؛ ليفصل في النزاع بما يتفق مع روح النظام القانوني القائم.
ويقصد بأحكام القضاء ـ بوصفها مصدراً لقواعد القانون الإداري، وبالتالي مصداًر للمشروعية ـ مجموعة القواعد القانونية غير المقننة التي يستنبطها القاضي من ضمير الجماعة وروح التشريع ومبادئ العدالة عندما تنقصه القواعد التشريعية أو العرفية التي تحكم المنازعات المعروضة عليه.
وغني عن البيان أن أحكام القضاء الإداري لا تعد كلها مصدراً لقواعد القانون الإداري، ذلك أن أحكام القضاء الإداري التي تطبق القواعد القانونية القائمة (سواء كان مصدرها الشريعة الإسلامية أم القوانين أم اللوائح أم العرف) تقتصر على تطبيق القاعدة القائمة فعلياً دون أن تنشئ قاعدة قانونية جديدة، حتى لو كان ذلك باجتهاد في التفسير، وذلك عكس الحال في أحكام القضاء الإداري التي تصدر في منازعات لا توجد قواعد قانونية قائمة تحكمها، فيلجأ القضاء الإداري إلى الاجتهاد، وذلك بابتداع قاعدة قانونية تحكم النزاع المعروض عليه.
ومن ثم يقتصر مفهوم المبادئ القضائية ـ بوصفها مصدراِ لقواعد القانون الإداري ـ على الأحكام الإنشائية أو المنشئة؛ دون الأحكام التفسيرية أو المفسرة.
ويمكن أن يُفرق في هذا الشأن بين دول النظام الأنجلوسكسوني أو دول نظام السوابق القضائية؛ ودول النظام اللاتيني أو دول نظام المبادئ القانونية العامة أو دول القضاء الإداري.
ففي دول النظام الأنجلوسكسوني ـ وفي مقدمتها إنكلترا ـ يتم الأخذ بنظام السوابق القضائية الملزمة، حيث تبتدع المحاكم القواعد القانونية التي تحكم المنازعات التي لا تجد نصاً يطبق عليها. فنشأ بذلك ما يسمى بالسابقة القضائية، وهي سابقة ملزمة للمحكمة التي ابتدعتها، وللمحاكم الأخرى؛ بحيث لا يجوز لأي منها الخروج عليها.
أما في دول النظام اللاتيني فالأمر مختلف تماماً، حيث لا تأخذ هذه الدول ـ وفي مقدمتها فرنسا ـ بنظام السوابق القضائية، فما استقرت عليه أحكام المحاكم العليا في مسألة معيّنة لا يعد ملزماً من الناحية الرسمية للمحكمة التي أصدرت الحكم كما أنه غير ملزم للمحاكم الأدنى منها، بل تجتهد المحاكم ـ في حالة عدم وجود نصـ في كل حالة على حدة دون التقيد بما ورد بأحكامها السابقة.
أما من الناحية العملية، فتكون أحكام المحاكم العليا ملزمة ـ أدبياً ـ للمحاكم الأدنى منها. كما أن المحاكم العليا تلتزم بالمبادئ التي قررتها في أحكامها السابقة؛ إلا إذا حدث تغير ترتب عليه ضرورة إعادة النظر في هذه المبادئ بما يحقق التوازن بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة، فتجتهد المحكمة المختصة لابتداع مبدأ قانوني جديد يعيد التوازن بين المصلحة العامة والمصالح الخاصة.
ووفقاً للتحديد السابق يكون القضاء الإداري ليس مجرد قضاء عادي، بل هو قضاء إنشائي يبتدع الحلول المناسبة للروابط القانونية التي تنشأ بين الإدارة في تسييرها للمرافق العامة وبين الأفراد، وهي روابط تختلف عن روابط القانون الخاص.
ويرجع الدور الإنشائي للقضاء الإداري إلى وجود جزء غير مقنن من القواعد التي تحكم النشاط الإداري من ناحية، كما أنه يرجع إلى طبيعة الروابط القانونية التي يحكمها القانون الإداري من ناحية أخرى.
وقد أدى القضاء الإداري الفرنسي (مجلس الدولة) دوراً إنشائياً خلاقاً، فهو الذي ابتدع معظم نظريات القانون الإداري، مثل نظرية القرار الإداري، نظرية العقد الإداري، نظرية الأموال العامة، نظرية المسؤولية الإدارية، نظرية نزع الملكية الخاصة للمنفعة العامة…إلخ.
وقد أقر مجلس الدولة المصري والسوري معظم المبادئ والنظريات السابقة، وطبقها؛ وبالتالي فإن المبادئ القضائية التي يأخذ بها القضاء الإداري في أحكامه عند عدم وجود نص تعدّ أحد مصادر المشروعية، ومن ثم فإن عدم الالتزام بها أو الخروج عليها يعدّ خروجاً على مبدأ المشروعية.
ثالثاً ـ نطاق مبدأ المشروعية وحدوده:
إن التزام الإدارة فيما تباشره من أعمال وتصرفات باحترام مختلف القواعد القانونية الناجمة عن المصادر المتعددة لمبدأ المشروعية؛ يؤدي حتماً ودون أدنى شك إلى نتائج إيجابية في مجال حماية حقوق الأفراد وحرياتهم، على أساس أن هذا الالتزام إنما يمنع الإدارة من سلوك سبل التعسف والاستبداد في علاقتها بالأفراد، ويجعلها تعمل دائماً وأبداً في إطار النظام القانوني السائد في المجتمع.
غير أن مثل هذه النتائج لا يجب أن تحجب عن الأبصار حقيقة في غاية الأهمية، وهي أنه إذا كان إلزام الإدارة باحترام مبدأ المشروعية على هذا النحو يؤدي إلى عرقلة النشاط الإداري والتضحية بالمصلحة العامة من أجل المصلحة الفردية أو الخاصة، فإنه يجب أن يترك للإدارة ـ والحال هكذا ـ قدر من الحرية في العمل تضمن به حسن سير المرافق العامة بانتظام واطراد، وهو يبعد عنها وعن أعمالها سمة النمطية والروتين، بل يبعث فيها روح التطوير والابتكار. وهذه كلها أمور تعود في النهاية إلى مصالح الأفراد أنفسهم.
ومن هنا وجد التساؤل التالي:
كيف يُحقق التوازن المنشود بين احترام الإدارة لمبدأ المشروعية لما في ذلك من ضمان لحماية حقوق الأفراد وحرياتهم، وبين عدم اعتبار هذا المبدأ عامل عرقلة وجمود لنشاط الإدارة؟
للإجابة عن هذا التساؤل أقر الفقه والقضاء ـ بل المشرع في بعض الأحيان ـ بوجود ثلاث نظريات تحدد ضوابط سلطة الإدارة في التصرف، وتقوم بالتخفيف من حدة مبدأ المشروعية وصلابته من ناحية، ولا تضحي بحقوق الأفراد وحرياتهم من ناحية أخرى.
وهذه النظريات هي: نظرية السلطة التقديرية للإدارة، نظرية الظروف الاستثنائية، نظرية أعمال السيادة.
أ ـ نظرية السلطة التقديرية للإدارة:
يقصد بالسلطة التقديرية أن يترك للإدارة قدر من الحرية في التصرف عندما تباشر اختصاصاتها، بحيث يكون لها الحق في أن تقرر بمحض إرادتها مدى ملاءمة تدخلها لممارسة اختصاص ما وأي الوسائل تختار لهذا الغرض وما هو الوقت المناسب لذلك…إلخ.
والسلطة التقديرية على هذا النحو تتقابل مع السلطة المقيدة والتي لا يترك فيها للإدارة أي قدر من الحرية في التصرف، بحيث يحدد لها سلفاً الهدف وكيفية الوصول إليه؛ ومن ثم لا يكون أمامها إلا اتباع الأوامر أو التعليمات المحددة لذلك وتنفيذها، وإلا كان تصرفها باطلاً.
وعلى ذلك لمعرفة ما إذا كانت الإدارة تتمتع بسلطة تقديرية إزاء تصرف ما من عدمه؛ يجب الرجوع إلى النظام القانوني الخاص بهذا التصرف. فإذا كان قد تخلى عن تنظيم جانب أو أكثر من جوانبه كانت السلطة تقديرية للإدارة فيما يتعلق بهذه الجوانب، أما إذا تولى بذاته تنظيم كل جوانب هذا التصرف فتكون السلطة مقيدة للإدارة.
وبعبارة أخرى: إذا كان مسلك الإدارة تجاه تصرف ما قد تحدد سلفاً بواسطة التشريع أو القانون الإداري؛ كانت سلطتها مقيدة، أي لا يكون أمامها إلا الالتزام بهذا المسلك، ومثال ذلك إذا حدد القانون شروطاً معيّنة للحصول على ترخيص ما؛ وجب على الإدارة منح هذا الترخيص بمجرد تحقق هذه الشروط، أما إذا لم تحدد القواعد القانونية أو أحكام القضاء سلفاً مسلك الإدارة؛ فتكون سلطتها تقديرية، ومثال ذلك الترقية بالاختيار إذا لم يكن المشرع قد حدد شروطاً معيّنة لمثل هذا الاختيار.
وإذا كان وجود السلطة التقديرية أمراً حتمياً وواقعياً، بل وهي الأصل؛ بمعنى أن سلطة الإدارة لا تكون مقيدة إلا بنص قانوني ـ أياً كان مصدره ـ فما هي مبررات وجودها؟
يسوق الفقه في هذا الشأن مبررات كثيرة، منها الآتي:
> أن الإدارة هي الأقرب إلى العمل الإداري، والأقرب يرى أكثر مما يراه البعيد.
> أن المشرع يضع قواعد عامة مجردة، وأياً كانت الدقة في مراعاة التفاصيل، فلا يمكنه أن يلم بكل التفاصيل التي تظهر أمام الإدارة عند التطبيق. ولذا فإن من الحكمة أن تترك للإدارة فسحة وقدر من حرية الحركة لمواجهة هذه التفصيلات.
> أن غاية النشاط الإداري هي تحقيق المصلحة العامة والسعي إليها، ولهذا فلا ينبغي المبالغة في تقييد الإدارة وشل يدها عن الحركة، وهي المسؤولة عن تحقيق الرخاء العام والسعادة المشتركة للمواطنين.
ب ـ نظرية الظروف الاستثنائية:
تجدر الإشارة إلى أن نظرية الظروف الاستثنائية هي من ابتداع القضاء الإداري الفرنسي، وكان ذلك بمناسبة نشوب الحرب العالمية الأولى؛ إذ اضطر مجلس الدولة الفرنسي آنذاك، وأمام عجز النصوص التشريعية القائمة عن إيجاد الحلول الملائمة للظروف الناجمة عن قيام الحرب العالمية؛ اضطر إلى أن يتدخل ويدلي بدلوه في هذا الخصوص، ويضع نظرية يواجه بها تلك الظروف، أطلق عليها بداءةً اسم "نظرية سلطات الحرب"؛ إذ كانت قاصرة على معالجة الحالات الناجمة عن الحرب فقط، ثم أطلق عليها فيما بعد اسم "نظرية الظروف الاستثنائية"، فأصبحت تشمل حوادث لا تقل في خطورتها عن حوادث الحرب مثل الفيضانات والكوارث والأوبئة والفتن الداخلية وغيرها.
فتستطيع الإدارة إذا ما استجدت ظروف استثنائية لم توضع مثل هذه التشريعات لمواجهتها؛ تستطيع طبقاً لتلك النظرية أن تتخذ مثلاً إجراءات وتدابير مما تدخل أصلاً في سلطة البرلمان. كأن تعدل القوانين القائمة أو تلغيها أو تعطل نفاذها، ولا يعدّ هذا خروجاً على مبدأ المشروعية، وإنما فقط توسيع لنطاقه أو تعديل لحدوده بما يرخص للإدارة في ممارسة السلطات اللازمة للوفاء بالتزاماتها الجوهرية تجاه نظام الدولة العام ومرافقها الأساسية.
ج ـ نظرية أعمال السيادة:
أعمال السيادة سمة لطائفة من التصرفات التي تباشرها السلطة التنفيذية، ولا تخضع في خصوصها لأي رقابة قضائية سواء من جانب القضاء العادي أم من جانب القضاء الإداري. فهذه الأعمال لا تكون في الواقع محلاً لإلغاء أو تعويض أو وقف تنفيذ أو فحص مشروعية. ومن ثم يقف القضاء أمامها عاجزاً، معلناً فقط عدم اختصاصه بنظرها حتى لو كانت تمس حقوق الأفراد وحرياتهم.
وهكذا يمكن القول: إن أعمال السيادة تعدّ ـ على عكس كل من نظرية السلطة التقديرية ونظرية الظروف الاستثنائية ـ استثناءً حقيقياً وخروجاً صريحاً على مبدأ المشروعية، ولهذا وصفت بأنها نقطة سوداء في جبين هذا المبدأ.
رابعا ًـ جزاء الخروج على مبدأ المشروعية:
يترتب على مخالفة الإدارة لمبدأ المشروعية بطلان التصرف الذي خالفت فيه القانون؛ والتزام الإدارة بالتعويض عن الأضرار التي تصيب الأفراد من جراء التصرف أو العمل المخالف للقانون.
وتمارس الرقابة للتأكد من الالتزام بمبدأ المشروعية بطريقين رئيسين؛ هما: الرقابة الإدارية والرقابة القضائية.
ويترتب على بطلان التصرف القانوني للإدارة عند الطعن فيه أمام القضاء إلغاء التصرف وزواله وما ترتب عليه بأثر رجعي، والتعويض عن الأضرار التي أصابت الأفراد نتيجته. أما عدم مشروعية أعمال الإدارة المادية؛ فإنها تلزم الإدارة بإصلاح الضرر وبإعادة الوضع إلى ما كان عليه، وتعويض الأفراد عما سببه العمل المادي من ضرر.
مراجع للاستزادة: |
ـ أحمد الموافي، المشروعية الاستثنائية (بلا دار نشر، 2004).
ـ أنور رسلان، وسيط القضاء الإداري (دار النهضة العربية، القاهرة 1999).
ـ رأفت دسوقي، هيمنة السلطة التنفيذية على أعمال البرلمان (منشأة المعارف، الإسكندرية 2006).
ـ رأفت فودة، دروس في قضاء المسؤولية الإدارية (دار النهضة العربية، القاهرة 1994).
ـ رمزي الشاعر، النظرية العامة للقانون الدستوري (دار النهضة العربية، القاهرة 1983).
ـ رمضان بطيخ، تزايد دور السلطة التنفيذية وأثره على الديمقراطية (دار الفكر العربي، القاهرة 1988).
ـ رمضان بطيخ، الرقابة على أداء الجهاز الإداري "دراسة علمية وعملية في النظم الوضعية والإسلامية" (دار النهضة العربية، القاهرة 1998).
ـ رمضان بطيخ، الاتجاهات المتطورة في قضاء مجلس الدولة الفرنسي للحد من سلطة الإدارة التقديرية وموقف مجلس الدولة المصري منها (دار النهضة العربية، القاهرة 1994).
ـ سام دلة، مبادئ القانون الدستوري والنظم السياسية (منشورات جامعة حلب، 2005).
ـ سليمان الطماوي، القضاء الإداري، الكتاب الأول، قضاء الإلغاء (دار الفكر العربي، القاهرة 1996).
ـ عبد الله طلبة، الرقابة القضائية على أعمال الإدارة، القضاء الإداري (منشورات جامعة حلب، 1990).
ـ عبد الناصر عثمان حسين، استقلال القضاء الإداري، دراسة مقارنة (دار النهضة العربية، القاهرة 2007).
ـ علي عبد العال، فكرة القوانين الأساسية، دراسة مقارنة (دار النهضة العربية، القاهرة 1990).
ـ محمد أنس قاسم جعفر، الوسيط في القانون العام، القضاء الإداري (بلا دار نشر، 1990).
ـ محمد مرغني خيري، القضاء الإداري ومجلس الدولة، ج1، مبدأ المشروعية، مجلس الدولة، قضاء الإلغاء (بلا دار نشر وبلا تاريخ).
ـ محمود عاطف البنا، الوسيط في القضاء الإداري (بلا دار نشر، 1999).
- التصنيف : القانون العام - النوع : القانون العام - المجلد : المجلد السادس: علم الفقه ــ المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان - رقم الصفحة ضمن المجلد : 492 مشاركة :