مبدأ سلطان الإرادة
مبدا سلطان اراده
authority principle of management - principe de l'autorité de la volonté
أيمن أبو العيال
النطاق الذي يؤخذ فيه بمبدأ سلطان الإرادة
النطاق الذي يؤخذ فيه بمبدأ سلطان الإرادة
أولاً ـ تعريف مبدأ سلطان الإرادة وتاريخ نشأته:
1ـ تعريف مبدأ سلطان الإرادة: إذا كان التصرف القانوني هو اتجاه الإرادة إلى إحداث أثر قانوني يرتبه القانون إعمالاً لتلك الإرادة، فمبدأ سلطان الإرادة يعني أن الإرادة قادرة على أن تنشئ التصرف القانوني، وتحدد الآثار التي تترتب عليه. فهو مبدأ ذو شقين: يتعلق الشق الأول منه بالشكل، وهو مبدأ الرضائية الذي يجعل الإرادة وحدها مجردة عن أي شكلية كافية لإنشاء التصرف. فكل ما هو مطلوب أن يصدر تعبير عن الإرادة، وهذا التعبير يكون بأي صورة، فقد يقع باللفظ أو بالكتابة أو حتى بالإشارة، ويجوز أن يكون ضمنياً (المادة 90 من القانون المدني السوري).
ويتعلق الشق الثاني بالموضوع، ومقتضاه أن تكون الإرادة كذلك صاحبة السلطان في تحديد آثار التصرف. فتسطيع الإرادة أن تنشئ عقداً لا يعرفه القانون، وأن تتجه إلى ما يخالف أحكام العقود التي نظمها القانون، وأن تجعل من العقد الرضائي عقداً شكلياً أو عينياً. وقد نص القانون المدني السوري على أثر هذا المبدأ في العقد في المادة (148) التي تنص على أن «العقد شريعة المتعاقدين، فلا يجوز نقضه ولا تعديله إلا باتفاق الطرفين، أو للأسباب التي يقررها القانون». [ومثله نص المادة (1134) من القانون المدني الفرنسي التي تنص على أن «الاتفاقات التي تعقد على وجه شرعي تقوم مقام القانون بالنسبة إلى عاقديها» وكذلك فعل المشرع المصري في المادة (147) من القانون المدني]. فالقاعدة هي حرية التصرف، فكل ما ليس ممنوعاً فهو جائز.
فموضوع مبدأ سلطان الإرادة هو حرية إرادة المتصرف في أصل التصرف القانوني ونتائجه وحدود تلك الحرية في نظر القانون. ويتعلق بهذا المبدأ أربع حريات في أربع نواح هي:
أ ـ حرية المتصرف في أصل التصرف القانوني، ويسمى المبدأ هنا حرية التعاقد. ب ـ حرية المتصرف في كيفية التعبير عن إرادة التصرف القانوني، ويسمى هذا المبدأ هنا مبدأ الرضائية في التصرفات القانونية، أي كفاية الرضا لإنشاء التصرف القانوني، أياً كانت طريقة التعبير عن هذا الرضا، أي من دون تقييد المتصرف بقيود شكلية ومراسم مخصوصة بحيث لا ينشأ التصرف القانوني إن لم تتحقق. ج ـ حرية المتصرف في إنشاء ما يشاء من أنواع التصرفات القانونية في حدود حقوقه الذاتية من دون التقيد بأنواع التصرفات المسماة التي أقرها القانون ونظمها. د ـ حرية المتصرف في تحديد آثار التصرف القانوني من طائفة التصرفات المسماة وتعديل نتائجه الأصلية باشتراط ما يريد من شروط بحسب إرادته. ويعبر عن هذه الحرية والحرية التي سبقتها بمبدأ «العقد شريعة المتعاقدين»، فلا يجوز نقضه أو تعديله إلا باتفاق الطرفين أو كما ينص القانون.
2ـ تاريخ مبدأ سلطان الإرادة:
الأصل في الشرائع الحديثة هو سيادة مبدأ سلطان الإرادة بتجلياته الأربعة، أما في القانون الروماني فكان الأصل فيه هو الشكلية، ولم يظهر للإرادة سلطان إلا على سبيل الاستثناء وفي عهود حديثة نسبياً وبعد تطور طويل، وقد عبرت النصوص عن إنكار مبدأ سلطان الإرادة في القانون الروماني بعبارة «الاتفاق المجرد لا ينشأ عنه التزام» أو «فيما بين المواطنين الرومان لا تنشأ دعوى عن الاتفاق المجرد». وقد مر القانون الروماني بثلاثة عصور هي:
أ ـ عصر القانون القديم: لم يعرف القانون الروماني في عصوره الأولى سوى الشكلية التامة في جميع المجالات سواء في نطاق الأشخاص أو الأموال أو الالتزامات. ولذلك لم يكن يترتب على الإرادة ذاتها أي أثر قانوني، بل كان هذا الأثر يترتب على الألفاظ والطقوس والشكليات التي يقررها القانون. ومن هنا كان أي خطأ في أي إجراء شكلي يؤدي إلى بطلان التصرف بصرف النظر عما اتجهت إليه الإرادة. وبخلاف ذلك فإن استيفاء الإجراءات الشكلية كان يؤدي إلى ترتيب الأثر القانوني بصرف النظر عن الإرادة ذاتها، فلا ضير أن تكون سليمة أو معيبة أو كانت مطابقة لحقيقة ما قصد إليه المتعاقدان أو غير مطابقة.
ونتيجة لذلك فليس للإرادة أي أثر في إنشاء التصرفات القانونية، ولا تستطيع تحديد آثار التصرف القانوني. ومن هنا كان القانون وحده هو الذي يتكفل بتحديد الشكل الذي يتم به التصرف القانوني وهو وحده الذي يحدد آثار كل تصرف.
وكانت التصرفات القانونية واردة في القانون الروماني على سبيل الحصر وهي كلها تصرفات شكلية، وأهم هذه التصرفات ما كان يتعلق بالأسرة والملكية والحقوق العينية الأخرى وهي: الإشهاد والدعوى الصورية (التنازل أمام الحاكم) وأما في مجال الالتزام فإن الاتفاق لا أثر له ما لم يفرغ في شكل من الأشكال التي حددها القانون وهي: القرض القديم، العقد الكتابي، الاشتراط الشفهي. وهي كلها عقود شكلية حرفية التنفيذ، ولذلك تدخل في عداد القانون الضيق وفي آواخر هذا العصر ظهر عقد عيني هو عقد القرض، نكسوم، وهو:
(1) ـ عقد القرض المسمى نكسوم: عقد شكلي ينعقد بعبارات محددة يتلفظ بها الدائن وحده في حضور المدين وخمسة شهود من الرومان الذكور البالغين وحامل الميزان الذي كان يتولى وزن السبائك .
(2) ـ العقد الكتابي: كان من عادة الرومان أن رب الأسرة يمسك دفاتر يقيد فيها إيراداته ومصروفاته وكل العمليات التي تتعلق بذمته المالية. وعن طريق القيد في هذه الدفاتر كانت تنشأ التزامات على عاتق المدينين الواردة أسماؤهم في هذه الدفاتر أو تجديد التزام سابق في ذمة هؤلاء. وهذا القيد يفترض وجود اتفاق سابق بين الدائن والمدين وفي الغالب يوجد قيد مقابل في دفتر المدين إلا أن هذا القيد الأخير لم يكن لازماً لنشوء الالتزام. فالأصل أن الالتزام ينشأ على عاتق المدين بقيده في دفتر الدائن بموافقة المدين الصريحة أو الضمنية، ومن حق الدائن إثبات هذه الموافقة بجميع الطرق، فالقيد في دفتر الدائن ليس مجرد وسيلة للإثبات ـ كما هو شأن القيد في دفتر التجار في القوانين الحديثة ـ بل هو مصدر الالتزام. وهذا العقد من عقود القانون الضيق ينشئ التزاماً على عاتق المدين وحده، وهو عقد شكلي يستمد نشأته وقوته من القيد الذي يقوم به الدائن ومن ثم يمكن أن يتم بين غائبين. وهو يرد دائماً على مبلغ من النقود، وقد بدأ هذا العقد في الاندثار منذ العصر العلمي بعدما انصرف الرومان عن عادة إمساك الدفاتر ولم يبق مستعملاً إلا في نطاق ضيق بين أصحاب المصارف خلال العصر الامبراطوري.
(3) ـ الاشتراط الشفهي: وهو أهم العقود الشكلية عند الرومان. وينعقد بسؤال بصيغة مقررة يوجهه الدائن (المشترط) إلى المدين ومضمونه هو ما إذا كان المدين يتعهد بعمل معين، يتبعه في مجلس العقد جواب من المدين (المتعهد) في صيغة محددة ومطابقة لألفاظ السؤال ويتضمن رد المتعهد بالإيجاب على الدائن.
ولذلك لا ينعقد إلا بين حاضرين ولا يمكن أن يكون أحد طرفيه أصمَ أو أبكمَ. وكانت صيغة هذا العقد صيغة مجردة ولذلك عدّ قالباً عاماً تفرغ فيه سائر أنواع الالتزامات أياً كان محلها، مثل دفع مبلغ من النقود، تسليم شيء، القيام بعمل أو الامتناع عن عمل…إلخ. ومن أمثلة التطبيقية إبرام عقد بيع، إذ يشترط البائع على المشتري دفع الثمن ويجيبه المشتري بالإيجاب ويشترط المشتري على البائع تسليم المبيع ويجيبه البائع بالإيجاب. فالاشتراط كما هو واضح عقد شكلي من عقود القانون الضيق وينشئ التزاماً على عاتق أحد طرفيه فقط هو المتعهد.
وكانت العقود الشكلية الثلاثة تفي بحاجة الرومان في العصر القديم بالنظر لقلة المعاملات في المجتمع الروماني الصغير.
وكانت هذه الشكلية توفر لهم عدة مزايا: من أهمها أنها تدفع الطرفين إلى التروي قبل الإقدام على إبرام العقد، وتمكن من التفرقة بسهولة بين مرحلة المفاوضات التي تسبق العقد ومرحلة انعقاد العقد، وتمكن المدين من تحديد التزاماته على وجه الدقة وكذلك حقوق الدائن، ذلك كله من دون تدخل من القاضي، لأنه يلتزم بتفسير العقد تفسيراً حرفياً، ولذلك تسمى العقود الشكلية بأنها من عقود القانون الضيق، إذ يلتزم القاضي بالوقوف عند حرفية الاتفاق ولا يتجاوزه إلى محاولة الوقوف على الإرادة الحقيقية للمتعاقدين ولا تفسيرها في ضوء العرف الجاري.
فالالتزام ينشأ بمجرد استيفاء الشكل ولو كانت الإرادة منعدمة أو معيبة، وإذا لم يرد في الاتفاق تحديد موعد للتنفيذ لا يستطيع القاضي تحديد موعد مناسب للتنفيذ.
وظلت الشكلية هي المبدأ السائد طوال عصر القانون القديم، فأي اتفاق لا يأخذ إحدى الصور الثلاث سالفة الذكر، النكسوم، العقد الكتابي، والاشتراط الشفهي لا يحفل به القانون ولا يترتب عليه أثر.
ب ـ العصر العلمي: ظل مبدأ الشكلية هو السائد في العصر العلمي غير أن الرضائية ظهرت بجانبها على سبيل الاستثناء، فتعددت صور العقود غير الشكلية، ومن ناحية أخرى ظهر دور للإرادة في التصرف القانوني عموماً وفي العقد بصفة خاصة. ولكن على الرغم من انفساح المجال أمام الإرادة لاختيار الشكل الذي يرغب فيه من يريد إنشاء التصرف القانوني، إلا أن ذلك بقي بعيداً عن مبدأ سلطان الإرادة، لأن الاتفاق الذي لا يفرغ في أحد الأشكال المقررة لا يقره القانون ما لم يفرغ في قالب الاشتراط الشفهي.
(1) ـ دور الإرادة في العقد في العصر العلمي:
القانون الروماني في العصر العلمي أقر كثيراً من الاتفاقات غير الشكلية واعترف بها مصدراً للالتزام خروجاً على القاعدة العامة التي تقضي بأن الاتفاق المجرد لا ينشأ منه التزام، ولم يبق من العقود الشكلية سوى عقد الاشتراط الشفهي. وبذلك أصبح للإرادة دور كبير في إنشاء التصرفات القانونية وإن ظلت مقيدة باختيار أحد النماذج المقررة التي اعترف بها القانون. فإذا لم يفرغ الاتفاق في أحد هذه النماذج ظل هذا الاتفاق عديم الجدوى ولا سبيل إلى الاعتراف به إلا إذا أفرغ في قالب الاشتراط الشفهي.
ج ـ عصر الامبراطورية السفلى: تدهور مبدأ الشكلية في عصر الامبراطورية السفلى فلم يبق من العقود الشكلية في العصر العلمي سوى عقد الاشتراط الشفهي. وقد بدأت الشكلية تفقد أهميتها مع الزمن. فمنذ آواخر العصر العلمي أجيز استعمال لغة أجنبية في النطق بصيغة السؤال والجواب، بل أجيز أن تكون اللغة المستعملة في الجواب مغايرة لتلك المستعملة في السؤال بشرط أن تكون اللغة المستعملة مفهومة من الطرفين ولو عن طريق ترجمان. ولم يعد ضرورياً أن يكون هناك تطابق دقيق بين الفعل الذي ينطق به المشترط والفعل الذي يجيب به المتعهد. وبعد انتشار الكتابة خلال عصر الامبراطورية السفلى أصبح الاشتراط الشفهي مجرد شرط دارج في العقود، إذ يذكر المتعاقدان أنه قد تم، خلافاً للحقيقة. وفي عام 472 ميلادي صدر مرسوم من الامبراطور «ليون» أطلق بمقتضاه للأفراد حرية اختيار الألفاظ التي يستعملونها مادامت تعبر بوضوح عن إرادتهما، فتغلب بذلك المعنى على اللفظ بحيث أصبحت العبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني. وعلى الرغم من هذه التطورات ظل الاشتراط عقداً شفهياً شكلياً يستلزم لانعقاده التعبير عن الإرادة بألفاظ شفهية في حضور المتعاقدين في مجلس العقد أو الإثبات في محرر أن الطرفين قد حضرا مجلس العقد ونطقا بالسؤال والجواب ولذلك ظل الصم والبكم محرومين من إبرام هذا العقد.
ومن ناحية أخرى ظهر نوع جديد من الاتفاقات غير الشكلية تنعقد بالتراضي وحده عرفت باسم الاتفاقات الشرعية، وهي اتفاقات التحكيم والدوطة والهبة، فقد اعتبر الأباطرة ـ وإرادتهم هي المصدر الوحيد للقانون في هذا العصرـ هذه الاتفاقات صحيحة ومنتجة لآثارها مع أنها تنعقد بمجرد التراضي وبذلك ارتقت هذه الاتفاقات إلى مرتبة العقود على الرغم من أنهم لم يطلقوا عليها قط تعبير العقد. وفي الوقت نفسه تطور العقد غير المسمى تطوراً مهماً فتعددت تطبيقاته وانتظم في نظرية عامة وضعها أساتذة مدرسة بيروت في القرن الخامس الميلادي وتطورت على أيدي شراح القانون الروماني في العصور الوسطى الذين أطلقوا تعبير العقد غير المسمى على كل اتفاق لا يدخل في أحد النماذج المقررة في القانون إذا قام أحد طرفيه بتنفيذ التزامه.
ولم يقتصر الأمر على الاعتراف للإرادة بسلطان كبير في إنشاء العقود بل تعداه إلى الاعتراف بقدرتها على تعديل مضمون العقد وانتظمت الشروط المقترنة بالعقد في نظرية عامة وتحددت عناصر العقد الجوهرية الطبيعية والعرضية.
ولذلك استطاع الفقيه ستيفانوس أحد أساتذة مدرسة بيروت في القرن السادس الميلادي أن يقرر قاعدة أصولية هي «الإرادة هي الأم التي تلد العقد».
وقد أدى بروز دور الإرادة على هذا النحو سواء في إنشاء التصرفات القانونية أو في تحديد آثارها إلى تفسيرها دائماًً بما يطابق حقيقة ما قصده المتعاقدان وعدم الوقوف عند المظهر الخارجي للتعبير عن الإرادة بل التوغل في باطن المتعاقد للكشف عما تكنه سريرته وتحليل عباراته وإشاراته بالاستعانة بشتى الوسائل بغية معرفة إرادته الباطنة، وبذلك غلب فقهاء العصر البيزنطي الإرادة الباطنة على الإرادة الظاهرة الأمر الذي ترتب عليه أن أصبحت نية المتعاقد لا التعبير عن الإرادة هي قوام التصرف القانوني. وتطبيقاً لذلك تقررت في مجموعة جستنيان قاعدة أفضلية التصرف المستتر على التصرف الظاهر إذا وجد تصرفان أحدهما ظاهر والآخر مستتر صدرا عن المتعاقدين نفسيهما في التصرفات غير الشكلية.
وعلى الرغم من هذه التطورات لم يسلم القانون الروماني بمبدأ سلطان الإرادة، بل ظل يعدّ الشكلية هي الأصل العام ولا يعترف للإرداة بسلطان في إنشاء التصرفات القانونية إلا على سبيل الاستثناء، فهي لا تستطيع إنشاء التصرفات القانونية غير تلك التي حددها ونظمها القانون إعمالاً للأصل العام «الاتفاق المجرد لا تنشأ عنه دعوى»، فلا يرقى الاتفاق إلى مرتبة العقد إلا إذا أفرغ في قالب الاشتراط الشفهي أو اندمج في أحد العقود العينية أو الرضائية أو غير المسماة أو الاتفاقات البريتورية أو الاتفاقات الشرعية.
وفي العصور الوسطى وعصر النهضة تلقف شراح القانون الروماني بعض نصوصه وأدخلوا عليها تحريفاً غيَّر في معناها أو اقتطعوا بعض الفقرات من النص الواحد وفصلوها عن بقية النص مما أدى إلى تغيير معناها وقد لجؤوا إلى هذا السبيل بعد تغيُّر ظروف المجتمع التي اقتضت إطلاق الإرادة من أغلالها بتأثير الفلسفة المسيحية والقانون الطبيعي، وكلاهما يوجبان على الشخص أن يفي بما تعهد به.
فهم قد حرفوا القاعدة التي أوردها البريتور في منشوره بأن العهد كان مسؤولاً والتي تعني سأعمل على حماية الاتفاقات، ومعناها «كل اتفاق يجب الوفاء به» وعمل الفقيه دوماً على تغيير نص منسوب للفقيه البيانوس ورد في موسوعة جستنيان يقول بأن «العقود تستمد قانونها من الاتفاق» فقد اعتمد دوماً على هذه الفقرة وترجمها بعبارته المشهورة «العقد شريعة المتعاقدين» وهكذا توصل القانون الحديث إلى استنباط مبدأ سلطان الإرادة من النصوص الرومانية بعد تغيير بعض معانيها.
3ـ المراحل الأخرى التي مر بها مبدأ سلطان الإرادة:
لقد مر مبدأ سلطان الإرادة في مراحل مختلفة كان يعد في كل منها مظهراً لما يسود في كل مرحلة من تيارات اقتصادية واجتماعية وسياسية. وقد تبين أن هذا المبدأ لم يعرفه القانون الروماني كاملاً في أي عصر من عصوره (القانون الروماني هو الأساس التاريخي للعائلة اللاتينية التي ينتمي إليها القانون المدني السوري وأصله المصري). إذ بدأت العقود فيه شكلية تسيطر عليها أوضاع معينة من إشارات وألفاظ، فإذا استوفى المدين الشكل المطلوب ولد التزامه صحيحاً حتى لو لم يكن هناك سبب لهذا الالتزام أو كان هذا السبب غير مشروع أو كانت إرادته معيبة. وكل ما وصل إليه القانون الروماني في تطوره هو الاعتراف بكفاية الإرادة لإنشاء عقود رضائية أربعة، هي البيع والإجارة والشركة والوكالة، ثم أضيف إلى هذه العقود فيما بعد ما يعرف بالعقود غير المسماة والاتفاقات البريتورية والاتفاقات الشرعية. لكنه لم يبلغ في تطوره حد الاعتراف بالمبدأ بوجه عام، فظلت الشكلية في العقد هي الأصل.
وفي القرون الوسطى أخذ مبدأ سلطان الإرادة يقوى تدريجياً، وذلك بفضل عوامل دينية واقتصادية وسياسية مختلفة تضافرت في هذا السبيل. فمبادئ الكنيسة التي تقوم على تعاليم المسيحية، توجب الوفاء بالعهد، ولذلك عد الحنث بالوعد خطيئة دينية، ثم صار إخلالاً بالتزام قانوني يعطي الحق في رفع الدعوى لتنفيذ الاتفاق. كما فهم خطأ من قاموا بدراسة القانون الروماني حينذاك في أنه يقرر هذا المبدأ. كما أن انتشار التجارة وازدياد حركة التعامل اقتضيا التخلص من القيود والشكليات التي تعوق سرعة التدوال. وأما العوامل السياسية فإنه في القرن السابع عشر برزت نظريات في الاقتصاد والفلسفة والسياسة تشبعت بروح الحرية الفردية فساعدت على إقرار هذا المبدأ. وقد بلغت هذه النظريات أوج ازدهارها في القرن الثامن عشر. أما في الثورة الفرنسية التي كانت تنادي بوجود حقوق طبيعية تقوم على حرية الفرد واستقلال إرادته، وتترك هذه الإرادة توجه ما في المجتمع من أنظمة اقتصادية واجتماعية، وقد حمل لواء هذه الدعوة في المجال الاقتصادي الفيزوقراطيون، إذ كانوا ينادون بالحرية الاقتصادية (دعه يعمل دعه يمر)، ونهض بها في المجال السياسي والفلسفي روسو في كتابه المسمى «العقد الاجتماعي». فكان خلاصة الأفكار التي سادت في هذا العصر أن يترك القانون الإرادة تزاول نشاطها، وليس عليه بعد ذلك أن يتدخل لحماية طرف، أو ليرى ما إذا كان هذا النشاط يتفق مع المصلحة العامة؛ فإن هذا الفكر هو الذي يحقق مصلحة الفرد، ومن ثم مصلحة الجماعة. فالفرد هو أساس النظام الاجتماعي، ووظيفة القانون حماية الفرد لا الجماعة، ولا يستكمل الفرد شخصيته إلا بالحرية، ومقتضى هذه الحرية أن تكون إرادة الشخص حرة مستقلة، وقد ترسخت أفكار الثورة الفرنسية، واستلهمها المشرع الفرنسي، فجاء القانون المدني الفرنسي يعتد بسلطان الإرادة الفردية إلى حد كبير. وقد ساد هذا المبدأ في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وبالغ فريق من الفقهاء إلى حد التطرف في الانتصار له، حتى أقاموا أحكام القانون المختلفة على الإرادة، فوصل الأمر بهم إلى نتيجة لا يقبلها عقل أو منطق. فالإرادة عندهم هي أساس كل أنواع الالتزامات والنظم القانونية، وهي تسيطر على جميع مصادر الالتزام، فهي قوام التصرف القانوني. كما يقوم شبه العقد على إرادة مفروضة، وكذلك الجريمة وشبه الجريمة فمردهما إلى الإرادة. وهي أيضاً تولد الحقوق الأخرى. فالملكية تقوم على الإرادة، بل هي الحرية في مظهرها المادي. وحقوق الأسرة مبنية على عقد الزواج الذي تهيمن عليه الإرادة. والميراث يستند إلى وصية مفترضة، وهي عمل إرادي، وطرق التنفيذ الجبري تستند إلى الإرادة لأن المدين قد ارتضاها عند التعاقد، حتى العقوبة الجنائية ترجع إلى الإرادة، ويسوغها أن المجرم قد ارتضى مقدماً أن يوقع عليه الجزاء.
على أن العوامل الاقتصادية والسياسية التي مكنت مبدأ سلطان الإرادة والتطرف من الانتصار أخذت تنمكش تدريجياً لتفسح الطريق أمام عوامل اقتصادية وسياسية أخرى دعت إلى مهاجمة هذا المبدأ. فمع ظهور الصناعات الكبيرة التي تضم الحشود من العمال وتكون الشركات الضخمة برؤوس أموال كبيرة في القرن العشرين أخذ الاختلال في التوازن بين القوى الاقتصادية الجديدة يظهر على أشده، فأدى هذا إلى ظهور نقابات العمال لإعادة هذا التوازن، وبذلك ولدت قوى اجتماعية جديدة، وظهرت أفكار اشتراكية مناهضة للأفكار الفردية التي سادت في القرنين الماضيين، وهي تقيم القانون على أساس التضامن الاجتماعي ورائدها أن تراعى مصلحة الجماعة قبل كل شيء، فإذا تعارضت هذه المصلحة مع مصلحة الفرد قدمت الأولى على الثانية. وهذه الأفكار وتلك المذاهب من شأنها أن تقوض الأساس الذي يقوم عليه المذهب الفردي، وتضعف بالتالي مبدأ سلطان الإرادة.
لهذا انتكس مبدأ سلطان الإرادة وأخذت قوته تذوي يوماً بعد يوم. وقد قام له مناهضون أسرفوا هم أيضاً في نقده كما بالغ أنصاره في تأييده. فذهبوا إلى حد أنه ليست الإرادة في نظرهم هي أساس القوة الملزمة للعقد، وإنما أساسها اعتبارات تتصل بالمصلحة العامة، وأن العقد نظام يراد به تحقيق التضامن الاجتماعي، لا الخضوع لسلطان الإرادة. فالالتزامات الناشئة من العقد لا تستند إلى محض إرادة العاقد، وإنما ترتكز على اعتبارت اجتماعية تتمثل في الاستقرار الواجب في التعامل، وفي النظام الذي يجب أن يسود المجتمع. وشبه العقد لا يقوم على الإرادة، وأولى من ذلك الجريمة وشبه الجريمة، إذ يرتب القانون الالتزام على نقيض ما تهدف إليه إرادة من صدر منه الفعل غير المشروع، وكذلك الأمر في الحقوق الأخرى.
فالملكية ليست إرادة مطلقة للمالك، وإنما هي وظيفة اجتماعية تحيط بها القيود التي يمليها التضامن الاجتماعي. وليس الميراث وصية مفترضة، وإنما هو نظام راعى فيه الشارع المصلحة العامة ومصلحة الأسرة إلى جانب إرادة المورث المفترضة. ولا دخل لإرادة الزوجين في حقوق الأسرة المترتبة على عقد الزواج، لأن هذا العقد يضع الزوجين في مركز قانوني نظمه الشارع بما يتفق مع المصلحة العامة ومصلحة الأسرة. واعتبار الإرادة أساس العقوبة بحسبان أن المجرم قد ارتضاها مقدماً نظرة لا يقبلها المنطق، لأن العقوبة جزاء رادع يقوم على اعتبارات تتصل بسلامة المجتمع وأمنه، ولا يتصور عقلاً أن يكون المجرم قد قبله مقدماً.
ثانياً ـ مضمون مبدأ سلطان الإرادة:
1ـ مبدأ سلطان الإرادة في مرحلة تكوين التصرف القانوني:
يتجلى مبدأ سلطان الإرادة في مرحلة تكوين العقد في ناحتين، حرية الشخص في أصل التصرف القانوني، وحريته في التعبير عن إرادة هذا التصرف.
أ ـ حرية الشخص في أصل التصرف القانوني:
(1) ـ حرية الشخص في رفض التصرف (العقود الجبرية): التصرف القانوني هو اتجاه الإرادة إلى إحداث أثر قانوني يرتبه القانون إعمالاً لتلك الإرادة. وقد يكفي لوجوده وترتيب آثاره إرادة المتصرف بمفردها، وقد يتوقف وجود التصرف القانوني وترتيب آثاره على ارتباط إرادتين على الأقل، فيسمى التصرف القانوني في الحالة الأولى تصرفاً قانونياً بإرادة منفردة، كالطلاق والوصية والوعد بجائزة وإجازة العقد القابل للإبطال… إلخ. ويسمى التصرف القانوني في الحالة الثانية عقداً، كالبيع والإيجار والمقاولة… إلخ. وقد أطلق الفقه الإسلامي على بعض تصرفات الإرادة المنفردة تعبير العقود، فذلك على سبيل المجاز لأن الارتباط الحقيقي إنما يكون بين شخصين، لا بين الشخص وإرادته وعزيمته فهذا ليس ارتباطاً حقيقياً.
ومن مظاهر مبدأ سلطان الإرادة حرية الشخص في الإقدام على التصرف القانوني أو الإحجام عنه. فإذا كانت الرابطة القانونية بين شخصين تنشأ بحكم القانون وبصرف النظر عن إرادتهما، فلا يمكن أن تعد الرابطة القانونية بينهما تصرفاً قانونياً بالمعنى الصحيح.
فالتمديد الحكمي لعقد الإيجار في العقارات بصرف النظر عن إرادة المؤجر استناداً إلى أحكام قانون الإيجارات الصادر بالمرسوم التشريعي رقم /11/ لعام 1952 في سورية والملغى بالقانون 6 لعام 2001، لا يعد عقد إيجار بالمعنى الصحيح؛ لأن القانون هو الذي أنشأ الرابطة القانونية بين المالك والشاغل للعقار، والقانون يحدد آثارها، فليس لها من خصائص العقود إلا الاسم. وقد ألغيت أحكام هذا المرسوم التشريعي الخاصة بما يبرم من عقود إيجار بعد نفاذ قانون الإيجارات 6 لعام 2001، فأصبح التمديد خاضعاً لإرادة المؤجر والمستأجر. وهذا بخلاف الحالات التي لا يُستغنى فيها عن التراضي على الرغم من اضطرار أحد الطرفين لإبرام العقد والتي تسمى بالعقود الجبرية، فالاضطرار لا ينفي الصفة العقدية لاستلزام التراضي لانعقادها، مثل عقد التأمين الإلزامي ضد مسؤولية مالك المركبة عن الأضرار المادية والجسدية التي تلحقها مركبته بالآخرين بسبب استعمالها.
والفضالة ـ وهي تدخل شخص في شأن عاجل وضروري لمصلحة شخص آخر المادة (189) من القانون المدني السوري ـ تنشئ رابطة قانونية تتضمن التزامات وحقوقاً متبادلة بين الفضولي والمستفيد من عمل الفضولي والذي يسمى برب العمل، هذه الرابطة تنشأ بحكم القانون بناء على واقعة الفضالة بصرف النظر عن إرادة الفضولي ورب العمل، فليست تصرفاً قانونياً.
وقد أقر الفقه الإسلامي هذا المظهر من مظاهر سلطان الإرادة. فقد جاء التشريع الإسلامي بالقضاء على جميع عناصر الإكراه العقدي وأطلق حرية الإرادة في تكوين التصرف القانوني وقد جعل القرآن والسنة إرادة الشخص ورضاه أساساً دستورياً في كل تصرف قانوني يلزمه. إلا ما قد توجبه قواعد العدالة والمصلحة العامة للجماعة، كبيع أموال المدين المماطل وفاء بدينه وبيع الأموال المحتكرة جبراً على محتكريها عندما يضر احتكارها بالجماعة وكالاستملاك للمنفعة العامة، فأمثال هذه العقود الجبرية من المؤيدات الفردية للنظام العادل، وهي الغاية من وجود السلطة العامة، وقد أقرتها الشرائع الوضعية حتى التي أخذت بمبدأ سلطان الإرادة بصفة مطلقة، إلا أن لآثار القانونية التي تنشأ من هذه الروابط القانونية ـ كما مرـ لا تعد عقوداً أو تصرفات قانونية بالمعنى الدقيق لأنها بحكم الشرع أو القانون. هذا من حيث حرية الشخص في رفض إنشاء التصرف القانوني، وأما حريته في إنشاء ما يريد من التصرفات القانونية، من دون أن يتقيد بالتصرفات التي نظم القانون أحكامها فتتجلى في ما يأتي:
(2) ـ حرية الشخص في إنشاء ما يشاء من التصرفات القانونية (العقود المسماة والعقود غير المسماة): العقد المسمى هو العقد الذي تكفل التشريع ببيان أحكامه الخاصة به، وخلع عليه بالضرورة اسماً خاصاً به لشيوع التعامل به بين الناس. فالعقود المسماة هي التي تولى التشريع تنظيم أحكامها وآثارها بحيث تكون هذه الآثار نتائج أصلية ينتجها العقد من دون أن يحتاج المتعاقدان إلى اشتراطها وتعدادها.
أما العقد غير المسمى فلم يبين التشريع الأحكام الخاصة به ولم يخلع عليه اسماً خاصاً يعرف به، وإن درج الناس في تعاملهم على إطلاق اسم خاص به.
في الفقه القانوني، طبقاً لمبدأ سلطان الإرادة، يستطيع الأفراد أن يتفقوا على ما يشاؤون من عقود، لا يحد من حريتهم في ذلك إلا مخالفة الاتفاق للنظام العام والآداب والقواعد القانونية الآمرة. فكل تصرف قانوني يناهض النظام العام والآداب أو القواعد الآمرة يكون باطلاً بطلاناً مطلقاً.
أما في الفقه الإسلامي، فالرأي الراجح أن ما ذكره الفقهاء من العقود المسماة إنما هي العقود التي يغلب أن يقع بها التعامل في زمنهم، فإذا استحدثت تطورات الحياة الاجتماعية عقوداً أخرى توافرت فيها الشروط الشرعية للعقد كانت عقوداً مشروعة، فليس في الشريعة الإسلامية ما يدل على أي حصر لأنواع العقود وتقييد الناس بها، فالعقود التي تخرج في موضوعاتها والتزاماتها عن نطاق العقود المسماة التي قررها التشريع الإسلامي غير ممنوعة، بل يجوز أن يتعاقد الناس عليها ويلتزموا بها، ما دامت موضوعاتها غير ممنوعة بنص صريح، أو بمقتضى القواعد والأصول الشرعية. وحينئذ يخضع التعاقد لقوله تعالى: ﴿يأيُّهَا اللذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالعُقُودِ﴾ (المائدة 1) وهذا الراجح هو ما قرره الفقه القانوني ذاته.
فهذا المظهر من مظاهر مبدأ سلطان الإرادة أقره أيضاً جمهور الفقهاء في الشريعة الإسلامية استناداً إلى قول الله تعالى ﴿يأيُّهَا اللذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالعُقُودِ﴾ (المائدة 1). وقوله تعالى: ﴿…لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُم﴾ (النساء 92). فهذه النصوص وأمثالها من القرآن والسنة الشريفة تفيد أمرين: الأول، أن عقد الإنسان وتعهده الذي باشره بإرادته الحرة مقيد له بنتائجه وملزم لإرادته بإرادته، حتى تتوافر الثقة والطمأنينة في آثار المعاملات المالية، وما يبنيه أصحابها عليها. فهذا الإلزام كواحد من مظاهر سلطان الإرادة العقدية، معناه تمام الاحترام لحرية العاقد وللحقوق الناشئة للغير من عقده، فمن يقيد نفسه بنفسه فهو حر. وأن الأصل في استحقاق مال الغير أو استحلال شيء من حقوقه إنما هو رضا صاحبه، إما على سبيل التجارة والمعاوضة، وإما على سبيل المنحة والتبرع عن طيب نفس واختيار. فالأساس في ذلك هو إرادة صاحب المال، الذي له شرعاً تمام الحرية في المعاوضة أو التبرع. والأمر الثاني، لم يشذ من فقهاء الشريعة الإسلامية عن هذه الحرية من حريات سلطان الإرادة إلا مذهب الظاهرية، إذ لم يجوزوا من العقود إلا العقود المسماة، وهي التي ورد فيها نص في الكتاب أو السنة أو التي ثبتت بالإجماع، ببيان مشروعيتها وأحكامها الشرعية وآثارها.
وأما جمهور الفقهاء فأطلقوا حرية التعاقد بالاستناد إلى النصوص القرآنية والنبوية السابقة بما في ذلك العقود المسماة وغير المسماة. فأطلقوا الحرية للأشخاص في إبرام ما يشاؤون من العقود والالتزامات ولو لم يأتِ الشرع أو الإجماع على ذكرها مادامت لا تحل حراماً أو تحرم حلالاً. بدلالة الحديث «المسلمون عند شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً».
ب ـ حرية الشخص في كيفية التعبير عن إرادة التصرف القانوني:
ـ العقود الرضائية والعقود الشكلية والعينية:
تنقسم العقود حسب كفاية الإرادة لإنشاء العقد من دون اشتراط التعبير عنها في شكل مخصوص، إلى عقود رضائية وشكلية وعينية. فالعقود الرضائية هي التي تتم بمجرد تراضي أطرافها على إنشائها وعلى حكم المسائل الجوهرية فيها، سواء أتم التعبير عن هذا التراضي باللفظ أم بالكتابة أم بالإشارة أم باتخاذ أي موقف يدل عليه. ومثالها البيع والإيجار والصلح…إلخ.
أما العقود الشكلية فهي التي يلزم لانعقادها أن يأتي التراضي في شكل مخصوص محدد، ومثالها عقد الشركة، وتكفي فيها الكتابة العادية المادة (475) من القانون المدني السوري، وعقد الهبة ويلزم فيها الكتابة الرسمية المادة (456) من القانون المدني السوري، فإذا كانت الشكلية مطلوبة لإثبات العقد، مثل تطلب الكتابة لإثبات عقدي الصلح المادة (520) من القانون المدني السوري والكفالة المادة (739) من القانون المدني السوري، فإنها لا تضفي الصفة الشكلية على العقد بل يظل رضائياً يجوز إثباته بإقرار المدين أو بتوجيه اليمين الحاسمة إليه، وهو ما لا يقبل في العقود الشكلية التي تكون الكتابة فيها مطلوبة للانعقاد لا للإثبات.
كذلك عندما تكون الشكلية مطلوبة لنفاذ أثر العقد فيما بين المتعاقدين وحيال الغير، مثل تسجيل التصرفات العقارية في السجل العقاري، فإن العقد يظل رضائيا؛ لأن شكلية الشهر في السجل العقاري ليست شرطاً لانعقاد التصرف في العقار، إنما هي مجرد إجراء لاحق لانعقاد التصرف، فبيع العقار غير المسجل بيع صحيح ينتج كل آثاره باستثناء أثر واحد، هو انتقال الملكية ـ ملكية العقارـ إلى المشتري؛ يتراخى حصوله إلى ما بعد تسجيل العقد.
والأصل في القوانين المدنية الحديثة، هو مبدأ الرضائية في العقود، ولكن لم تصل إلى تقرير هذا الأصل إلا بعد تطور طويل، فلم تكن أمة ذات تاريخ تشريعي ثابت اعترفت بكفاية التراضي المجرد عن الشكليات لإنشاء العقد الملزم إلا الشريعة الإسلامية، التي ولد فيها العقد رضائياً محرراً من القيود الشكلية، التي لا مساس لها بالغاية المقصودة من العقد، وإخضاعها لمجرد الإيجاب والقبول الصادرين بالتراضي والأهلية، بأي طريق ظهر هذا التراضي بين المتعاقدين. إلا عقد الزواج الذي اشترطت فيه الشهود والإشهار تمييزاً له من السفاح وصيانة للنساء المحصنات عن الاشتباه بالبغايا. ولعل السر يكمن في الطبيعة الدينية للشريعة الإسلامية، لأن الرضائية لم تظهر ولم يصبح العقد رضائياً في أوربا إلا تحت تأثير الديانة المسيحية والقانون الكنسي، التي تحض على وجوب الوفاء بالعهد وارتباط الإنسان بكلمته كأدب من آداب الدين من دون شكليات (مصادر الحق 1/37) ﴿وأَوْفُوا بِالعَهْدِ إِنّ العَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً﴾ (الإسراء 43).
وكلما تحرر العقد من القيود الشكلية مما لا تتعلق بها مصلحة ذات بال كان أقرب نسباً إلى الرقي والحضارة الكاملة.
على أن الشكل المطلوب في بعض العقود في التقنينات المدنية الحديثة (خلافاً لما كانت عليه الشكلية المطلوبة في القانون الروماني، وخاصة في مراحله الأولى، إذ كانت العبرة فيه للشكل وحده حتى لو كانت الإرادة معدومة أو معيبة)، لا يغني عن وجود الإرادة، فلو أن الهبة أبرمت أمام الموظف المختص بتوثيق العقود (السند الرسمي) ثم اتضح انعدام إرادة أحد المتعاقدين ـ كما إذا كان مجنوناً ـ فإن الهبة لا تنعقد أصلاً ويمكن الطعن ببطلانها.
فالإرادة هي الشكلية في هذه العقود الاستثنائية في التقنينات الحديثة وأما عند الرومان فكان العقد هو الشكلي لا الإرادة فلا يجوز الطعن فيه بغلط أو تدليس.
وإذا تطلب التقنين شكلية معينة لانعقاد عقد معين، وجب استيفاء هذه الشكلية في التوكيل بإبرام هذا العقد المادة (666) من القانون المدني السوري وفي الوعد بإبرام هذا العقد المادة (103) من القانون المدني السوري، وفي إجازته وإقراره وتعديله، لا فيما يضاف إليه من شروط تكميلية أو تفصيلية لا تتعارض مع ما جاء فيه. هذا ما نصت عليه المادة (148) من المشروع التمهيدي للتقنين المدني المصري وقد حذفت لظهور حكمها. فالاتفاق على ترميم منزل بيع بمقتضى عقد مكتوب ليس إلا شرطاً تفصيلياً لا ضرورة للكتابة فيه.
وإذا كان الغرض من إيراد الشكلية، استثناء على بعض العقود، هو تنبيه العاقد إلى خطورة التصرف الذي يقدم عليه حماية له، فليس ثمة ما يمنع الأفراد من الاتفاق في حالة معينة بذاتها على أن يكون عقد رضائي بطبيعته، كعقد البيع، عقداً شكلياً لا ينعقد إلا إذا تم إبرامه أمام الموظف المختص بتوثيق العقود، فعندئذ لا يعتد بالعقد إلا إذا جاء على الشكل الرسمي الذي حددته إرادة الطرفين.
وعندما يدور الشك حول المقصد من اشتراط الشكلية، هل هي للإثبات أم للانعقاد لابد من العودة إلى الأصل وهو الرضائية، فتكون الشكلية للإثبات. مع أن نص المادة (129) من المشروع التمهيدي للقانون المدني المصري قررت العكس، ولكنها حذفت، فلم يعد هناك مجال لإعمال القرينة التي قررتها من أن الشكلية مطلوبة للانعقاد عند الشك «إذا اتفق المتعاقدان على أن يستوفي العقد شرطاً خاصاً لم يشترطه القانون، فالمفروض عند الشك أنهما لم يقصدا أن يلتزما إلا من الوقت الذي يستوفي فيه العقد الشكل المتفق عليه، وهو ما جرى عليه القانون الألماني والبولوني والسويسري».
وفي جميع الأحوال فهي قرينة بسيطة يجوز إثبات عكسها فيما لو بقي نص المشروع التمهيدي.
وقد كان هناك نص أيضاً يقرر مثل هذه القرينة لكل شكلية يفرضها المشرع فهي عند الشك للانعقاد؛ ما لم يثبت العكس، لكن بحذف النص يُرجع إلى الأصل وتكون الشكلية عند الشك هنا للانعقاد؛ لأنه إن كانت الشكلية تحتاج إلى إرادة صريحة في العقود الرضائية قانوناً فإن المشرع بمجرد أن يفرض شكلية فهي للانعقاد وسلطته في ذلك واسعة.
فالرضائية ليست من القواعد الآمرة بعكس شكلية بعض العقود فإنها من القواعد الآمرة إذ لا يقررها القانون إلا مراعاة لمصلحة جديرة بالاحترام، فلا عبرة بالاتفاق على الإعفاء منها.
وإلى جانب العقود الرضائية والشكلية، توجد العقود العينية التي يلزم لانعقادها تسليم المعقود عليه. ومثالها من القانون المدني السوري هبة المنقول (المادة 456/2) ورهن المنقول (المادة 1030).
2ـ مبدأ سلطان الإرادة في تحديد آثار التصرف القانوني ومحتواه:
من مظاهر مبدأ سلطان الإرادة في التصرفات القانونية حرية الشروط العقدية، وقد ورد في نصوص القانون المدني في الشرائع الوضعية، وكذلك في القرآن والسنة القولية والعملية، في الشريعة الإسلامية نصوص كثيرة تثبت للعقود المسماة التي أقرها الشارع آثاراً وأحكاماً والتزامات تربط الطرفين في كل عقد بحسب موضوعه. فالوصية تفيد التمليك مضافاً إلى ما بعد موت الموصي مصراً على وصية. وعقد الزواج يفيد حل المتعة الزوجية ووجوب متابعة المرأة للرجل ووجوب النفقة على الرجل للمرأة وثبوت النسب والحضانة وحرمة المصاهرة والإرث بين الزوجين…إلخ وعقد البيع يفيد ملكية المبيع للمشتري وملكية الثمن للبائع ووجوب التسليم والتسلم وضمان الاستحقاق والعيب الخفي…إلخ وفي المنحى نفسه عقود الإجارة والرهن والكفالة والعارية وغيرها، فكل منها تثبت له النصوص آثاراً ويضيف إليها الفقه والاجتهاد بطريقة الاستنباط.
ولكن ما مدى سلطة العاقد في تعديل آثار هذه العقود كواحد من أهم مظاهر سلطان الإرادة العقدية؟ وهي ما تسمى بحرية الاشتراط سواء بالزيادة في تلك الآثار أم بالإنقاص منها؟.
للعاقدين أن يخالفا باتفاقهما ما رتبه القانون من آثار العقود المسماة، لأن الأصل فيها أنها غير آمرة بل هي من القواعد المكملة التي يجوز الاتفاق على ما يخالف ما ورد فيها من أحكام، فلا تكون نافذة بالأساس إلا حيث لا يوجد اتفاق مخالف، إلا ما كان من النصوص الآمرة التي يقوم الدليل في ألفاظها أو في المقاصد من تشريعها على عدم جواز اتفاق المتعاقدين على ما يخالف حكمها. فالاتفاق على إسقاط ضمان البائع لاستحقاق المبيع وضمان العيوب الخفية فيه، صحيح من الوجهة القانونية ما دام البائع حسن النية، أما إذا كان سيئ النية بأن كتم العيب على المشتري تدليساً وهو عالم به، فإن اشتراطه عدم ضمان العيب الخفي يكون باطلاً لأن الغش يفسد كل شيء.
كذلك فإن الاتفاق على الإعفاء من المسؤولية العقدية أو التخفيف منها نافذ، ما لم يكن الإخلال بالعقد ناشئاً من غش، أي تعمد الإخلال بالعقد، أو من خطأ جسيم لا يقع فيه أقل الناس اهتماماً بشؤونه (المادة 218 من القانون المدني السوري) ففي الأنظمة القانونية الحديثة لا يقيد حرية الاشتراط إلا احترام النظام العام والآداب والقواعد الآمرة.
وفي الفقه الإسلامي وردت نصوص كثيرة في السنة النبوية دلت على أمرين: الأول، أن هناك شروطاً تعد ميداناً فسيحاً لإرادة المتعاقدين أطلق الشرع لإرادتهم فيها سلطانها ضمن حدود حقوقهم، فيعد العقد المسمى قائماً بين المتعاقدين على أساسها ما لم يشترطا خلافها. (دل على هذه النتجة قولهr: «المسلمون على شروطهم» رواه أبو دواد في سننه، وما ورد في السنة العملية من أن النبيr اشترى في السفر من جابر بن عبد الله بعيراً وشرط لجابر ظهر البعير أي أعطاه حق ركوبه بعد البيع حتى يصل عليه إلى المدينة).
والثاني، أن هناك شروطاً ممنوعة شرعاً لا سلطان لإرادة العاقدين فيها لأنها تسمى أحكاماً أساسية تعد من مقاصد الشريعة الإسلامية ونظامها العام، من ذلك قولهr : «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل» وقوله في العارية: «ليس على المستعير غير المغل ضمان» وفي حديث آخر وصف العارية بأنها «مضمونة مؤداة».
فجمهور الفقهاء فيما يتعلق بحريه الاشتراط في التصرفات القانونية يتفقون على مبدأ عام وهو أن ترتيب آثار العقود من عمل الشارع لا من عمل العاقدين وأن الشارع هو الذي ينظم العقود ويحدد آثارها في حقوق الناس، ويجعل كل عقد طريقاً شرعياً إلى نتائج معينة يرتبها عليه. ولا يقتصر هذا التنظيم على ما ورد في نصوص القرآن والسنة والإجماع بل يشمل ما استنبطه الفقهاء المجتهدون بالاجتهاد بالاستدلال بالأدلة الشرعية كالقياس والاستحسان والمصلحة المرسلة وسد الذرائع والاستصحاب…إلخ.
فآثار العقود عمل الشارع لأن العقد سبب شرعي لنتائج حقوقية أقرها الشارع بين طرفين. إنما تستمد إرادة العاقدين سلطانها من الشارع ذاته بالمقدار والحدود التي يحددها، فللشرع نظام يحميه، وهو الكفيل بإقامة الحدود بين الحقوق الخاصة وإرادة أصحابها من جهة وبين المصلحة العامة وإرادة الشارع من جهة ثانية، حفظاً للتوازن والعدالة ومنعاً للتغابن.
إن آثار العقد سواء في الفقه الإسلامي أو في القوانين الوضعية الحديثة ومن بينها القانون المدني السوري تنشئها إرادة المتعاقدين الحرةو وهو ما يعبر عنه في الفقه القانوني الحديث بأن العقد شريعة المتعاقدين، فالإرادة هي التي تنشئ التصرف القانوني وهي التي تحدد آثاره وترتبها عليه. والفارق بين الشرائع الوضعية والشريعة الإسلامية هو في مدى ما تركه الشارع للعاقدين من سلطان في تعديل الأحكام والآثار التي قررها التشريع مبدئياً على كل تصرف قانوني.
وهذا يعني مدى حرية الشروط العقدية المعدلة لتلك الأحكام وليس معناه أن العاقدين هما اللذان يحددان ويشرعان آثار العقود ويوجبانها بينهما. فإذا خلا التصرف القانوني من أي شرط، فلا شك في أنه تثبت الآثار التي قررها التشريع على هذا العقد. وتختلف الشرائع الوضعية فيما بينها بحسب الفلسفة التي تتبناها في صياغة أنظمتها، هل هي فلسفة فردية أم هي فلسفة اجتماعية، تختلف في مدى حرية الاشتراط في العقود، بل في الشريعة الإسلامية ذاتها هناك من المذاهب ما يوسع في دائرة حرية الشروط العقدية ومذاهب أخرى تضيق في حرية الشروط العقدية.
3ـ شأن سلطان الإرادة بعد قيام العقد:
إن كل طرف يستطيع إلى حد بعيد أن يعتصم بالعقد وأن يرفض كل تدخل للسلطة العامة إذا طلب الطرف الآخر مساعدته، وعلى ذلك فليس للقاضي، في الأصل أن يعيد النظر في العقد وكذلك ليس له أن يعدل أحكامه فالقوانين الجديدة لا تطبق، من حيث المبدأ على العقود النافذة عند صدورها والعقد لا يجوز نقضه، ولا تعديله إلا باتفاق الطرفين. وإن المادة (148) إذ تنص على القوة الملزمة للعقد، تعد أكثر النصوص تأكيداً لمبدأ سلطان الإرادة في القانون المدني.
ثالثاً ـ النطاق الذي يؤخذ فيه بمبدأ سلطان الإرادة:
في نطاق القانون العام لا سلطان للإرادة، لأن قواعده تقوم على اعتبارات تتصل بالمصلحة العامة وحدها، وفي نطاق القانون الخاص فإن دور الإرادة في حقوق الأسرة ذو قدر محدود. فعقد الزواج تنشئه الإرادة، ولكن القانون يستقل بتحديد آثاره، ولا دخل للإرادة في غير ذلك من روابط الأسرة. أما فيما يتعلق بالمعاملات المالية فإن للإرادة دورها المهم، وإن كانت في الحقوق العينية أقل شأناً منها في الحقوق الشخصية. فالإرادة مصدر لكثير من الحقوق العينية، ولكنها لا تستطيع أن تنشئ حقوقاً جديدة منها، لأن هذه الحقوق وردت في القانون على سبيل الحصر. كما أن آثار هذه الحقوق لا تستطيع الإرادة أن تعدل في آثارها إلا في أحوال نادرة، إذ إن القانون هو الذي يتولى في الغالب تحديد هذه الآثار. والأمر على خلاف ذلك في الحقوق الشخصية، فالإرادة هي قوام التصرف القانوني الذي يُعدُّ من أهم مصادر هذه الحقوق. إلا أنه لا شأن للإرادة في المصادر الأخرى لهذه الحقوق، وهي العمل غير المشروع، والإثراء بلا سبب والقانون، فهذه مصادر غير إرادية للالتزام، فسلطان الإرادة يبلغ أقصى ما له من قوة في مجال التصرف القانوني.
غير أن سلطان الإرادة حتى في مجال التصرفات القانونية ليس مطلقاً، بل ترد عليه قيود لا بد من الوقوف عندها كي يتضح المدى الحقيقي للدور الذي تقوم به الإرادة في شقي مبدأ سلطان الإرادة،
فالرضائية وهي كفاية الإرادة لإنشاء التصرف ترد عليها قيود آتية من الشكلية التي يقررها القانون في بعض التصرفات ومنها القواعد التي تتعلق بالشهر، وتلك التي تتعلق بالإثبات.
فهناك تصرفات شكلية تجب الكتابة فيها للانعقاد، وهذه الكتابة تكون كتابة رسمية كما هو الحال في الهبة والرهن الرسمي وبيع السفينة والوقف، وقد تكون كتابة عرفية، كما هي الحال في الجمعيات والمؤسسات وعقد المرتب مدى الحياة إذا كان بعوض وعقد إنشاء ملكية الأسرة. إنما يلاحظ أن هذه الشكلية مقررة استثناء ولمصلحة يحرص الشارع على حمايتها، وهي في الغالب هنا مصلحة المتصرف نفسه.
والشهر يوجبه القانون في التصرفات المنشئة والمقررة للحقوق العينية العقارية وبعض الحقوق الشخصية، وهو ليس في حقيقته شكلية، ولكن يعتبر من الناحية العملية قيداً على الإرادة قرره المشرع لحماية الغير الحسن النية.
كذلك الكتابة الواجبة في الإثبات، فهي ليست شكلية مطلوبة لانعقاد التصرف، ولكنها مع ذلك تعد من الناحية العملية قيداً على الإرادة، لأن تخلفها قد يؤدي إلى ضياع الحق، وذلك إذا لم يتيسر الإثبات بالإقرار أو اليمين.
وقدرة الإرادة على تحديد آثار التصرف، وهي الشق الآخر من المبدأ، ترد عليها أيضاً قيود لها خطرها.
فقيد النظام العام والآداب والقواعد الآمرة معروف، إذ يمتنع على الإرادة أن تتجه إلى ما يخالفها، وفكرة النظام العام فكرة مرنة تضيق وتتسع تبعاً للأفكار السائدة في المجتمع، فهي تنحصر في أضيق الحدود في ظل المذاهب الفردية، وتتسع في ظل المذاهب الاشتراكية. وقد انكمش المذهب الفردي وأخذ المذهب الاشتراكي ينتشر بصورة متزايدة إلى جانب نظريات اجتماعية تنادى بالتضامن الاجتماعي. وظهر أثر ذلك في التشريع والقضاء والحياة العملية للمجتمع، حيث تُلاحظ في كل ناحية من هذه النواحي قيود تحد من سلطان الإرادة الفردية إلى درجة كبيرة.
فقد أخذ المشرع يتدخل في العقد بنصوص آمرة جعلته يقترب من مرحلة العقد الموجه. وذلك مراعاة للمصلحة العامة وحماية الجانب الضعيف في العقد. ومن أمثلة ذلك ما استحدثه القانون المدني من أحكام تتعلق بالاستغلال والحوادث الطارئة وعقود الإذعان والشرط الجزائي وما أعطاه للقاضي من سلطة لاستكمال شروط العقد التي لم يتفق عليها الطرفان، وكذلك التشريعات الخاصة التي نظم بها المشرع عقد العمل وعقد الإيجار وحدد بها أسعار السلع.
ويسهم القضاء من جانبه بنصيب في هذه القيود، فهو الذي يتولى تطبيق عيوب الإرادة ويراقب مشروعية السبب، ويتوسع في فكرة النظام العام لحماية المصلحة العامة للمجتمع والطرف الضعيف في العقد، ويحدد مضمون العقد فيضيف التزامات لم تكن من قبل في الحسبان، كما فعل في التزام ضمان سلامة المسافر في عقد النقل.
وفي الحياة العملية للمجتمع الحديث تكونت جماعات من أصحاب المصالح المشتركة لحماية مصالح أعضائها، كنقابات العمال، وقد أسفر نفوذ هذه الجماعات عن نوع جديد من العقود هو العقود النموذجية. وأبرز مثل عن هذه العقود هو عقد العمل الجماعي الذي يبرم بين نقابات العمال وأرباب الأعمال ويسري على جميع أشخاص المهنة، حتى الذين لم يشتركوا في إبرامه أو ليسوا أعضاء في النقابة. وقد زاد شأن العقود الجماعية اليوم إلى الحد الذي يمكن معه أن يقال إنها أصبحت مصدراً لما يسمى بالقانون الجماعي، والخصوصية المميزة لهذه العقود أن أحكامها، وهي تمثل رأي الأغلبية من أصحاب المصلحة المشتركة، تسري في حق الأقلية التي لم توافق عليها، ولهذه الفكرة تطبيقات تشريعية: منها في القانون التجاري الصلح الواقي من الإفلاس، وهو عقد ينطوي على تسوية تتم بين تاجر مدين وأغلبية دائنيه فتقيه شر الإفلاس، وذلك بتأجيل موعد استحقاق ديونه أو بحط جزء منها أو بالأمرين معاً. وأثره ينصرف إلى جميع الدائنين العاديين، حتى من عارض منهم في الصلح أو لم يشترك فيه. ويلاحظ منها في القانون المدني ما يتعلق بإرادة المال الشائع المادة (783) من القانون المدني السوري وملكية الأسرة المادة (806) من القانون المدني السوري وملكية الطبقات المادة (811) من القانون المدني السوري ففي هذه الحالات تكون الإدارة من حق أغلبية الشركاء محسوبة على أساس قيمة الأنصبة وتتقيد الأقلية برأي الأغلبية. وفي هذه الأوضاع وتلك الصور الجديدة من العقود تُلاحظ قيودٌ على الإرادة الفردية ترجع إلى ما هنالك من تنظيمات جماعية يعتد فيها برأي الأغلبية وتهدر إرادة الأقلية.
والخلاصة أن قدرة الإرادة أو حرية الأفراد في إنشاء التصرف وتحديد آثاره مازالت هي القاعدة. لكن ترد على هذه القاعدة قيود زادت في الوقت الحاضر عما كان مقرراً منها قبل ذلك إلى درجة كبيرة. وترجع هذه الزيادة في القيود التي تحد من سلطان الإرادة الفردية إلى نوعين من الأسباب: أولهما دائم، وهو نشوء قوى اجتماعية جديدة أدت إلى تطور في الأفكار، فظهرت نظريات اجتماعية حديثة ناهضت المذهب الفردي الذي كان سائداً من قبل، والثاني عارض، وهو نشوب الحروب والأزمات الاقتصادية التي تجعل المشرع يتدخل في العقد على نطاق واسع لمواجهتها.
مراجع للاستزادة: |
ـ عبد الرزاق السنهوري، مصادر الحق في الفقه الإسلامي (دار النهضة العربية، القاهرة).
ـ مصطفى أحمد الزرقا، المدخل الفقهي العام، الجزءالأول.
ـ عبد المجيد مطلوب، النظريات العامة في الفقه الإسلامي (دار النهضة العربية، القاهرة 1993).
ـ محمد عبد الهادي الشقنقيري، تاريخ النظم القانونية والاجتماعية.
ـ عبد المنعم فرج الصدة، مصادر الالتزام (دار النهضة العربية، القاهرة 1992).
ـ مصطفى أحمد الزرقا، القانون المدني السوري (1969).
ـ محمد وحيد الدين سوار، شرح القانون المدني، النظرية العامة للالتزام (1976).
- التصنيف : القانون الخاص - النوع : القانون الخاص - المجلد : المجلد السادس: علم الفقه ــ المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان - رقم الصفحة ضمن المجلد : 458 مشاركة :