اللقطة واللقيط
لقطه ولقيط
find and foundling - trouvaille et enfant trouvé
وهبة الزحيلي
تعريف اللقطة ومشروعيتها وحكمتها | حكم لقطة الحرم المكي |
أحكامها | حكم تملك اللقطة |
نوع اللقطة وما يصنع بها | أما اللقطاء وأحكامهم فهي ما يأتي |
تعريف اللقطة ومشروعيتها وحكمتها:
اللقطة لدى الحنفية: هي مال يوجد، ولا يعرف مالكه، وليس بمباح كمال الحربي. وعبارة المالكية: مال معصوم (أي محترم شرعاً [بأن لا يجوز لأحد أن يتصرف فيه بغير إذن مستحقة، وهو تفسير المال المعصوم] وهو ملك غير الحربي) عَرَض للضياع، بأن وجد في فلاة من الأرض أو عامر (غير الخراب) وإن كان المال المعصوم كلباً مأذوناً فيه وفرساً وحماراً. وتعريف الشافعية: هي مال أو اختصاص محترم، وجد في مكان غير مملوك، لم يحرز، ولا عرف الواجد مستحقه. والاختصاص: هو القابلية للحيازة. وعرفها الحنابلة: بأنها المال الضائع من ربه يلتقطه غيره. وهي تعاريف متحدة المعنى، متقاربة الألفاظ.
ومشروعيتها ثابتة في السُّنة، لقولهr حين سئل عن الالتقاط، فقال: «اعرف وكاءها وعفاصها [الوكاء: رباط الكيس ونحوه، والعفاص: الوعاء الموضوعة فيه اللقطة]، ثم عرِّفها سنة، فإن لم تَعْرف فاستنفقها [التعريف: الإعلان عنها مدة سنة، فإن لم تًعرف أي صاحبها، فتملكها وتصّرف بها]، ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يوماً من الدهر، فأدها إليه» (أخرجه البخاري ومسلم وبقية أصحاب الكتب الستة).
وحكمتها: الحفاظ عليها لردها إلى صاحبها، وحمايتها من امتداد الأيدي الآثمة إليها، لقول الله عز وجل: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ (سورة المائدة 2) وقولهr: «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» (أخرجه مسلم). ويكون للملتقط أجر عند الله تعالى، لقولهr: «من نفَّس عن مؤمن كُرْبة من كُرَب الدنيا، نفَّس الله عنه كُربة من كُرَب يوم القيامة» (أخرجه مسلم).
1ًـ حكم الالتقاط: يستحب الالتقاط في إحدى الروايتين عن أبي حنيفة وأحد قولين عند الشافعي لواثق من أمانـة نفسـه إذا خاف ضياع اللقطة لئلا يأخذها فاسـق (عاصٍ) فإن لم يخف ضياعها فالتقاطها مباح، وإن علم من نفسـه الخيانـة بأن يأخذ اللقطة لنفسه، لا لصاحبها، فيحرم الالتقـاط، لقولهr: «لا يؤوي الضالة إلا ضـال [الضالة: الشيء الضائع. والضال: الفاسق، والإيواء: الالتقاط]، ما لـم يعرّفها» (أخرجـه أحمد ومسـلم وأبو داود وابن ماجه عن جرير بن عبد الله).
وذهب المالكية والحنابلة [بداية المجتهد: 2/299 وما بعدها] إلى القول بكراهيـة الالتقـاط، لقـول ابـن عمر وابن عباس، ولأن الالتقاط تعريض لنفسه لأكل الحرام، وللخوف أيضاً من التقصير فيما يجب للقطة من تعريف ورد لصاحبها وترك التعدي عليها.
2ًـ حكم ضمان اللقطة: اللقطة أمانـة فـي يد الملتقط، لا يضمنها إلا بالتعدي عليها أو التقصير في حفظها، أو بمنع تسليمها لصاحبها عند الطلب. إلا إذا أقر الملتقط أنه أخذها لنفسه فيضمنها لأنه أخذ مال غيره من دون إذنه.
3ًـ الإشهاد على اللقطة: اختلف الفقهاء على رأيين في الإشهاد على الالتقاط، فذهب الحنفية إلى وجوب الإشهاد، لأن الملتقط أخذ اللقطة ليحفظها ويردها على صاحبها، لأن الأخذ على هذا النحو مأذون فيه شرعاً، لقولهr: «من وجد لقطة، فليشهد ذوي عدل» (أخرجه أحمد وابن ماجه، وأبو داود والنسائي والبيهقي والطبراني، وصححه ابن خزيمة وابن حبان وابن الجارود عن عياض بن حمار) وقوله «فليشهد» أمر، والأمر يقتضي الوجوب، ولأنه إذا لم يشهد كان الظاهر أنه أخذها لنفسه، ويكفيه للإشهاد أن يقول: من سمعتموه ينشد لقطة فدلوه علي.
وتكون أمانة أيضاً في رأي الحنفية إذا تصادق صاحب اللقطة والملتقط أنه التقطها ليحفظها للمالك.
فإن لم يشهد الملتقط، ولم يتصادقا، وإنما قال الآخذ: أخذتها للمالك، وكذّبه المالك، يضمن اللقطة في رأي الإمام أبي حنيفة ومحمد، لأن الظاهر أنه أقر بسبب الضمان وهو أخذ مال الغير وادعى ما يبرئه وهو الأخذ للمالك فوقع الشك فلا يبرأ وهو المعتمد لدى الحنفية [المبسوط للسرخسي: 11/12، تبيين الحقائق للزيلعي: 2/301].
وذهب الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) [الشرح الكبير للدردير: 4/121، مغني المحتاج: 2/407، المغني: 5/644 وما بعدها] إلى أنه لا يشترط الإشهاد على اللقطة، وإنما يستحب فقط، وإذا لم يشهد الآخذ، فلا يضمن فـي رأيهـم. وهـو رأي أبي يوسف أيضاً؛ لأن اللقطة وديعة، فلا ينقلها ترك الإشهاد من الأمانة إلى الضمان، لحديث سليمان بن بلال وغيره أنه قال: «إن جاء صاحبها، وإلا فلتكن وديعة عندك» (أخرجه مسلم في صحيحه) وعدم اشتراط الإشهاد؛ لأن رسول اللهr أمر زيد بن خالد وأبُي بن كعب بتعريـف اللقطـة فقط دون الإشـهاد (أخرج حديث زيد أحمد والبخاري ومسلم، وأخرج حديث أُبيّ أحمد ومسلم والترمذي).
ومن المعلوم في الأصول: أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فلو كان الإشهاد واجباً لبيَّنه النبيr حينما سئل عن حكم اللقطة، وحينئذ تعيَّن حمل الأمر بالإشهاد في حديث عياض الذي استدل به الحنفية على الندب أو الاستحباب فقط.
وترتب على الاختلاف المذكور الاختلاف في بعض المسائل وهي ما يأتي [فتح القدير: 4/428، بداية المجتهد: 2/299 وما بعدها، مغني المحتاج: 2/209، المغني: 5/631]:
أ ـ ترتب على رأي أبي حنيفة ومحمد: أن الشخص لو أخذ اللقطة، ثم ردها إلى مكانها الذي أخذها منه، لا ضمان عليه في ظاهر الرواية (الرواية المعتمدة في المذهب) لأنه أخذها محتسباً متبرعاً، ليحفظها على صاحبها، فإذا ردها إلى مكانها، فقد فسخ التبرع، فصار كأنه لم يأخذها أصلاً. وهذا إذا كان المالك قد صدّق الملتقط في أنه أخذها ليحفظها، أو كان الملتقط قد أشهد على ذلك ثم ضاعت. فإن كان لم يشهد، يجب عليه الضمان في رأي أبي حنيفة ومحمد، كما تقدم.
وذهب أبو يوسف إلى أنه لا يجب الضمان، سواء أَشْهَدَ أم لم يُشْهِد، ويكون القول قول الملتقط بيمينه أنه أخذها ليحفظها لصاحبها.
واتجه الإمام مالك: إلى أنه لا ضمان على من رد اللقطة إلى موضعها، لما روي عن عمر أنه قال لرجل وجد بعيراً: أرسله حيث وجدته. وهذا متفق مع رأي أبي حنيفة ومحمد، والمشهور في مذهب المالكية: أن الملتقط يضمن اللقطة إذا ردها لموضعها أو لغيره، بعد أخذها للحفظ.
وهذا المشهور متفق مع مذهب الشافعية والحنابلة القائلين: إذا أخذ إنسان اللقطة، ثم ردها إلى موضعها ضمنها، لأنها أمانة صارت في يده، فلزمه حفظها، فإذا ضيَّعها، لزمه ضمانها، كما لو ضيع الوديعة.
فصار هنا رأيان فقط في ضمان اللقطة إذا ردت لموضعها.
ب ـ يضمن الملتقط اللقطة إذا دفعها إلى غيره بغير إذن القاضي؛ لأنه يجب عليه حفظها بنفسه، بالتزامه الحفظ بالالتقاط.
ج ـ إن هلكت اللقطة أو تلفت في يد الملتقط، فإن أشهد على اللقطة، بأن قال للناس كما تقدم «إني وجدت لقطة فمن طلبها فدلوه علي» فإنه لا يضمن. أما إن لم يُشهد فقال أبو حنيفة ومحمد: يضمن. وقال أبو يوسف: لا يضمن إذا كان قد أخذ اللقطة ليردها إلى صاحبها، ويحلف على فعله إن لم يصدقه صاحبها، كما تقدم.
د ـ لو أقر الملتقط أنه كان قد أخذ اللقطة ليتملكها لنفسه، لا يبرأ عن الضمان، إلا بالرد على المالك، لأنه ظهر أنه أخذها غصباً، فكان الواجب عليه الرد إلى المالك، لقولهr: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» (أخرجه أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن الحسن بن سمرة، وصححه الحاكم).
اللقطة نوعان: إما حيوان: وهو الضالة من الإبل والبقر والغنم من البهائم. وإما غير حيوان: وهو المال الساقط الذي لا يعرف مالكه.
والحيوان يكره التقاطه في رأي الإمامين مالك وأحمـد، وكذا لقطة المال أيضاً، كما تقدم، لما أخرجه أصحاب الكتب السـتة (البخاري ومسـلم وأبو داود والترمذي والنسـائي وابن ماجه) عن زيد بن خالد الجُهني قال: «سئل رسول اللهr عن لقطة الذهب والورق (أي الفضة) فقال: اعرف وكاءها وعفاصها، ثم عرِّفها سـنة، فإن لم تعرف فاستنفقها (أي انتفع بهـا وتغرم بدلها أو تتركها لديك وديعة حتى يأتي صاحبها) ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يوماً من الدهر، فأدها إليه، وسـأله رجل عن ضالة الإبل، فقال: مالك ولها، دعها، فإن معها حذاءها (خفها) وسقاءها (جوفها) ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها، وسأله عن الشاة، فقال: خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب».
ويلاحظ أن أصحاب هذا الـرأي عمموا الحكم بكراهة الالتقاط لا بهذا التفصيل، لحديث جرير بن عبد الله: أنه أمر بطرد بقرة لحقت ببقرة حتى توارت، فقال: سمعت رسول اللهr يقول: «لا يؤوي الضالة إلا ضال» <تقدم تخريجه>. وورد في حديث آخر: «إن ضالة المسلم حَرَق النار» (أخرجه أحمد وابن ماجه والطحاوي وابن حبان وغيرهم عن عبد الله بن الشِّـخير). ويؤكده حديث أبُي بن كعب أن النبيr قال: «عرِّفها، فإن جاء أحد يخبرك بعدتها ووعائها ووكائها، فأعطها إياه، وإلا فاستمتع بها» <(أخرجه مسلم وأحمد والترمذي كما تقدم).
وأجاز الحنفية، والشافعية في الأصح التقاط الحيوان وغيره لحفظه لصاحبه صيانة لأموال الناس، ومنعاً من ضياعه ووقوعه في يد خائنة. وأجابوا عن أدلة الفريق الأول بأن حكمها كان في الماضي حين غلبة أهل الصلاح والأمانة، فلا تصل إليها يد خائنة، أما في زماننا فنظراً لكثرة الخيانة، يكون في أخذها حفظها على صاحبها.
لكن فصل الشافعية في الحكم فقالوا: إن كان الشيء الضائع غير حيوان جاز التقاطه مطلقاً كالحيوان غير الممتنع كالغنم ونحوها، لإطلاق حديث زيد بن خالد وحديث أبيّ بن كعب المتقدمين.
وإن كان الحيوان مما يمتنع بنفسه (أي يحمي نفسه) إما لقوته كالفرس والبعير، وإما لسرعة جريه كالغزال والأرنب، فإن وجد في صحراء لم يجز التقاطه، لحديث زيد بن خالد المتقدم في ضالة الإبل، وقيس على الإبل أمثالها مما يقدر على حماية نفسه.
وأما إن وجد الحيوان وغيره في مدينة أو قرية، فيجوز التقاطه مطلقاً، لاختلاف حاله في مباني البلد عن الصحراء، لعدم اعتياد الناس ترك الحيوان في البلد ليرعى وحده.
الحرم المكي: هو مكة وما حولها من الأماكن التي تعرف بالحرم، والتي لا يجوز الصيد فيها ولا قطع شجرها، ويشمل ذلك لقطة الحاج أو المعتمر، وحكمها في الرواية المشهورة عن الإمام أحمد أنه لا تجوز هذه اللقطة إلا لمن يُعرِّفها، لقولهr في بلد مكة يوم الفتح (فتح مكة): «ولا تحل لقطتها إلا لمعرِّف» وفي لفظ: «ولا تحل لقطتها إلا لمنشد» (أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس). وأما لقطة الحاج فللنهي عنها في حديث عبد الرحمن بن عثمان قال «نهى رسول اللهr «عن لقطة الحاج» (أخرجه أحمد ومسلم).
لكن جميع أحكام تعريف اللقطة الآتي بيانها تنطبق على لقطة الحرم المكي، إلا أن الشافعية على الصحيح عندهم قالوا: لا يملكها بعد سنة ويجب تعريـف لقطة الحرم أبداً، لأنـه لا تحـل لقطة الحـرم للتملك، بل للحفظ، لخبـر الصحيحيـن: «إن هـذا البلد حرَّمـه الله، لا يلتقط لقطته إلا مـن عرفها». وفي رواية للبخاري: «لا تحل لقطة الحرم إلا لمنشد». وفي القول الآخر عندهم كقول أبي حنيفة ومالك أن لقطة الحرم كغيرها من اللقطات في جميع أحكامها (الإفصاح عن معاني الصحاح 57).
وأما ما يصنع باللقطة: فهو أن يقوم الملتقط بتعريفها، لحديث زيد بن خالد الجهني المتقدم، قال: «سأل رجل رسول اللهr عن اللقطة، فقال: عرّفها سنة» وفي حديث آخر: «لا تحل اللقطة، فمن التقط شيئاً فليعرِّف سنة» ومعنى الجملة الأولى: أنه لا يحل تملك اللقطة حين التقاطها.
كيفية تعريف اللقطة ومكانه وزمانه [الدر المختار: 2/350، فتح القدير 4/426، الشرح الكبير للدردير: 4/120، مغني المحتاج: 2/411ـ 413، المهذب: 1/429، المغني: 5/631ـ 633 وما بعدها]: تعريف اللقطة: هو المناداة عليها أو الإعلان عنها حيث وجدها، وفي التجمعات العامة كالأسواق وأبواب المساجد والمقاهي ونحوها.
والتعريف يكون بذكر أوصافها، كأن يذكر جنسها فيقول: من ضاع له نقود أو ثياب ونحوها، وأن يبين وعاءها ووكاءها (رباطها) الذي يربط به الكيس، ولا يصف أوصافها التفصيلية، لأنه لو وصفها، لعلم صفتها من يسمعها، فلا يبقى وصفها دليلاً على ملكيتها.
وتعريف اللقطة واجب عند الجمهور؛ لأن ظاهر أمر الرسولr لزيد بن خالد في قوله: «عرّفها سنة» يقتضي الوجوب، إذ ظاهر الأمر للوجوب، كما هو المقرر في علم الأصول.
وقال أكثر الشافعية: لا يجب تعريفها لمن أراد حفظها لصاحبها؛ لأن الشرع إنما أوجب التعريف إذا كان بقصد التملك، لكن المعتمد عند الشافعية وجوب التعريف كبقية المذاهب.
وللملتقط أن يتولى تعريفها بنفسه، أو يستنيب عنه أحداً يقوم بالتعريف.
وأما مدة التعريف أو زمانه: فاتفق العلماء على أن لواجد ضالة الغنم في المكان القفر البعيد عن العمران أن يأكلها، لقولهr في الشاة، كما تقدم: «هي لك أو لأخيك أو للذئب».
واختلف العلماء في ضمان قيمة الشاة لصاحبها، فقال الجمهور: إن المنتفع بالشاة الضالة: يضمن قيمتها، لأنه «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» (أخرجه الحاكم وابن حبان في صحيحه عن أبي حميد الساعدي).
وقال الإمام مالك في أشـهر أقوالـه: إنه لا يضمن أخذاً بظاهر الحديث: «هي لك أو لأخيك أو للذئب».
وأما غير ضالة الغنم: فاتفق العلماء على تعريف ما كان منها له أهمية وشأن، مدة سنة؛ لأن النبيr أمر بتعريف اللقطة سنة واحدة، كما تقدم.
وأما الشيء الحقير: فذهب الشافعية في الأصح إلى أن الشيء القليل المتمول وهو بقدر دينار أو درهم لا يعرّف سنة، لقول عائشة رضي الله عنها: «لا بأس بما دون الدرهم أن ينتفع به» وهو بقدر ربع دينار عند الجمهور، وعشرة دراهم أو دينار في رأي الحنفية، بل يعرف زمناً يظن أن فاقده يُعرض عنه غالباً.
وهذا هو الراجح لدى المالكية، وكذا في رواية عن أبي حنيفة مضمونها إن كانت قيمة الشيء أقل من عشرة دراهم، يعرّفه أياماً، أي بحسب ما يرى.
وإن كانت عشرة دراهم فصاعداً عرَّفها حولاً، إلا أن هذه الرواية ليست المعتمدة لدى الحنفية، لقول الطحاوي: وإذا التقط لقطة، فإنه يعرفها سنة، سواءً أكان الشيء نفيساً أم خسيساً في ظاهر الرواية (أي المعتمدة). وهذا هو ظاهر المذهب الحنبلي.
وأما الشيء التافه: فلا خلاف في إباحة أخذ اليسير من الأشياء والانتفاع به من غير تعريف كالتمرة والكسرة والخرقة؛ لأن النبيr لم ينكر على واجد التمرة أكلها، بل قال له: لو لم تأتها لأتتك.
وشاهد النبيr تمرة، فقال: «لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها» (أخرجه البخاري ومسلم عن أنس بن مالك).
ومكان التعريف: هو المكان الذي وجدها فيه لأن صاحبها يطلبها غالباً حيث فقدها، وفي الأسواق وأبواب المساجد ومجامع الناس؛ لأن المقصود إشاعة خبرها وإظهارها ليعلم بها صاحبها، ولا ينشـدها في المسـجد، لأن المسـجد لم يبن لهذا، قال النبيr: «من سـمع رجلاً ينشـد ضالة في المسجد، فليقل: لا ردَّها الله إليه، فإن المساجد لم تبن لهذا» (أخرجه مسلم وأبو داود عن أبي هريرة).
وقد أوضح الشافعية سبيل التعريف باللقطة في أثناء السنة قائلين: يعرّف اللقطة في أول السنة كل يوم مرتين في طرفي النهار، ثم يعرف في كل يوم مرة، ثم كل أسبوع مرة أو مرتين، ثم كل شهر مرة تقريباً.
نفقات التعريف وما تحتاج إليه الدابة: للفقهاء آراء ثلاثة في الإلزام بالنفقة: فذهب الحنفية والحنابلة إلى أن نفقة التعريف على الملتقط؛ لأن هذا أجر واجب على المعرف نفسه، فكان عليه كما لو قصد تملك اللقطة.
وذهب المالكية إلى أن الملتقط إن أنفق على اللقطة شيئاً من عنده، فيخير صاحبها بين أن يفتديها من الملتقط بدفع نفقتها، أو يسلِّم اللقطة لملتقطتها مقابل نفقتها.
وقال الشافعية: بما أن تعريف اللقطة واجب على الملتقط، فلا يلزم بمؤنة التعريف إن أخذ اللقطة بقصد حفظها لمالكها، وإنما يرتبها القاضي من بيت المال، أو يقترض على المالك. أما إن أخذ اللقطة لتملكها، فيلزمه مؤنة التعريف، سواء تملكها أم لا.
وأما ما تحتاج إليه الدابة الضالة أو اللقطة من نفقة: فعلى من تطوع بحفظها، ولا يرجع بشيء من النفقة على صاحب اللقطة، لكن إن أراد الملتقط الرجوع على صاحبها استأذن الحاكم في رأي الشافعية والحنفية وإن أنفق الملتقط على اللقطة بغير إذن الحاكم فهو متبرع.
رد اللقطة لصاحبها: يشترط لرد اللقطة لصاحبها أن يذكر علامة تميزها من غيرها، أو يثبت أنها له بالبينة، أي بشهادة شاهدين، وعلاماتها الوعاء والرباط والوزن والعدد ونحو ذلك.
وهل لا بد من الشهادة عند رد اللقطة؟ للفقهاء رأيان:
يرى الحنفية والشافعية [فتح القدير: 4/431، مغني المحتاج: 2/416]: أن الملتقط لا يجبر على تسليم اللقطة إلى من يدعيها بلا بينة، لأنه مدعٍ، فيحتاج إلى بينة كغيره، عملاً بالقاعدة النبوية: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» (أخرجه البخاري ومسلم وأحمد والبيهقي) لكن يجوز للملتقط تسليم اللقطة لمن يدعيها بإصابة العلامة في رأي الحنفية، أو إذا غلب على ظن الملتقط صدق المدعي، عملاً بالحديث المتقدم: «فإن جاء صاحبها وعرف عفاصها (وعاءها) ووكاءها (رباطها) وعددها، فأعطها إياه، وإلا فهي لك».
وذهب المالكلية والحنابلة [بداية المجتهد: 2/302 ، المغني: 5/644] إلى أن الملتقط يجبر على تسليم اللقطة لصاحبها إذا وصفها بصفاتها الموجودة، ولا يحتاج إلى بينة، عملاً بظاهر حديث زيد بن خال الجهني: «فإن جاء صاحبها يوماً من الدهر فأدها إليه…» الحديث في مسلم (3/1349).
للفقهاء رأيان في هذا:
قال الحنفية [المبسوط: 11/4 وما بعدها، فتح القدير: 4/432 وما بعدها]: إذا عرّفها سنة ولم يجد صاحبها وكان الملتقط غنياً لم يجز له أن ينتفع باللقطة، وإنما يتصدق بها على الفقراء؛ لأنه مال الغير، ولقوله r: «لا تحل اللقطة، فمن التقط شيئاً فليعرَّف سـنة، فإن جـاء صاحبها، فليردها عليه، وإن لم يأت فليتصدق» (أخرجه البزار والدار قطني عن أبي هريرة، لكنه لم يثبت).
وأما إذا كان الملتقط فقيراً، فيجوز لـه الانتفاع باللقطـة بطريق التصدق، للحديث المتقـدم: «فليتصدق».
وذهب جمهـور الفقهاء [الشرح الكبير للدردير: 4/121، مغني المحتاج:2/415، المغني: 5/636 وما بعدها] إلى أنه يجوز للملتقط بعد سنة أن يتملك اللقطـة، للحديـث السـابق عـن زيد بن خالد: «فإن لم تعرف فاستنفقها» أو «وإلا فهي كسبيل مالك» أو «ثم كُلْها» أو «فانتفع بها» أو «فشأنك بها».
واتفق أكثر العلماء على أن الملتقط إذا أكل اللقطة، ضمنها لصاحبها.
أما اللقطاء وأحكامهم فهي ما يأتي:
تعريف اللقيط: اللقيط عرفاً: هو الطفل المطروح على الأرض عادة، خوفاً من مسؤولية إعالته، أو فراراً من تهمة الريبة، فلا يعرف أبوه ولا أمه.
أحكامه: أحكامه كثيرة أهمها أربعة [البدائع: 6/197 وما بعدها، فتح القدير: 4/417، الدر المختار ورد المحتار: 3/342 وما بعدها]، علماً بأن مشكلة اللقطاء الاجتماعية تحتاج إلى حلول:
1ـ نفقة اللقيط: الملتقط أولى بإمساك اللقيط من غيره: فإن شاء تبرع بتربيته والإنفاق عليه، وإن شاء رفع الأمر إلى الحاكم، ليأمر أحداً بتربيته على نفقة بيت المال؛ لأن بيت المال معدّ لحوائج جميع المسلمين، ولقول عمرt في حديث أبي جميلة: «اذهب فهو حر ولك ولاؤه وعلينا نفقته…» وفي رواية «من بيت المال» (موطأ مالك 2/738). هذا إذا لم يكن له مال، فإن كان له مال، بأن وجد معه شيء من الأموال، فتكون النفقة من مال اللقيط؛ لأنه غير محتاج إليه، فلا يثبت حقه في بيت المال، باتفاق العلماء. [مغني المحتـاج: 2/421 وما بعدها، بداية المجتهد لابن رشد: 2/205، المغني: 5/683].
أما لو أنفق عليه الملتقط من مال نفسه: فإن فعل ذلك بإذن القاضي فله أن يرجع على اللقيط بعد بلوغه، وإن فعل ذلك بغير إذن القاضي يكون متبرعاً، ولا يرجع على اللقيط بما أنفق عليه بعد استكماله البلوغ.
2ـ الولاية على اللقيط: الولاية على اللقيط في نفسه وماله للحاكم، أي استثمار ماله، وحفظ شخصه وتعليمه وتربيته وتزويجه لقولهr: «السلطان ولي من لا ولي له» (أخرجه أصحاب الكتب الستة عن عائشة رضي الله عنها) وليس للملتقط ولاية التزويج أو التصرف في المال.
وإذا زوَّج الحاكم اللقيط، فالمهر يدفع من بيت المال، إلا إذا كان للقيط مال، فيكون في ماله، وكذلك يدفع للقيط من بيت المال ما يحتاج إليه من نفقة وكسوة ودواء ونحو ذلك، لما روي في هذا عن عمر وعلي رضي الله عنهما؛ ولأن بيت المال معدّ للصرف إلى مثله من المحتاجين، كالمقعد الذي لا مال له، ولأن ميراثه لبيت المال، و[الخراج بالضمان] أي لبيت المال غنمه (أي ميراثه) وديته، وعليه غُرمه (ضمان إتلافه).
3ـ حريته ودينه: اللقيط حر مسلم؛ لأن الأصل في الإنسان هو الحرية، والأصل بقاء ما كان حتى يوجد ما يغيره، ولأن وجوده في بلاد الإسلام قرينة واضحة على إسلامه تبعاً للبلاد وكون المسلمين هم الأكثرية.
ويترتب على هذا: أنه إذا وجَد مسلم لقيطاً في بلد إسلامي يكون مسلماً، حتى لو مات يغسّل ويصلى عليه، ويدفن في مقابر المسلمين. أما لو وجده غير مسلم أو مسلم في معبد لليهود أو النصارى أو في قرية ليس فيها مسلم يكون معاهداً وغير مسلم، تحكيماً للظاهر. ولو وجده غير مسلم في بلد إسلامي محض يكون مسلماً، وهذا يعني أن العبرة للمكان.
لكن قال الكاشاني الحنفي: والصحيح رواية اعتبار اللقيط مسلماً بحسب حال الواجد أو المكان، فإذا وجده مسلم في بلد إسلامي يعتبر مسلماً تبعاً للدار، وإذا وجده كافر في دار الإسلام كان مسلماً، أو وجده غير مسلم أو مسلم في كنيسة كان ذمياً (أي معاهداً). يعني أن الأقوال عند الحنفية ثلاثة: العبرة للمكان، أو العبـرة للواجد، أو العبرة للمكان أو الواجد، والقـول الثالث هو الأصح.
وذهب الشافعية والحنابلـة: إلى أنـه إذا وجد لقيط بدار الإسـلام فهو مسـلم، وإن وجـد بدار الكفار، فهو كافر إن لم يسكنها مسلم كأسير وتاجر، فإن سكنها مسلم فهو مسلم في الأصح تغليباً للإسلام لحديث أخرجه أحمد والدار قطني: «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه».
4ـ حكم النسب: يعتبر اللقيط مجهول النسب، حتى لو ادعى إنسان نسبة اللقيط تصح دعواه، ويثبت النسب منه. وبناءً عليه: لو ادعى الملتقط أو غيره أن اللقيط ابنه تسمع دعواه من غير بيِّنة، والقياس ألا تسمع إلا ببينة. وجه القياس (القاعدة العامة أصولياً): أنه يدعي أمراً يحتمل الوجود وعدمه، فلا بد من ترجيح أحد الجانبين على الآخر بمرجح، وذلك بالبينة، ولم توجد.
ووجه الاستحسان (وهو استثناء) وهو الراجح: أن هذا الادعاء إقرار بما ينفع اللقيط، لأنه يتشرف بالنسب، ويعير بفقده، وتصديق المدعي في مثل هذا لا يتطلب البينة.
فإن ادعاه مسلمان لأحدهما بينة، وللآخر مجرد علامة، فصاحب البينة أولى؛ لأنه ترجح جانبه بمرجح.
واتجه الشافعية إلى القول إنه إذا ادعى اللقيط اثنان، ولم يكن لأحدهما بينة، عرض اللقيط على القائف (وهو الذي يعرف الأنساب بالشبه، وتكررت منه الإصابة) فيلحق بمن ألحق به، لأن في إلحاقه أثراً في الانتساب عند الاشتباه.
وإن ادعت امرأة أن اللقيط ابنها: فإن لم يكن لها زوج، لا يصح ادعاؤها، لأن فيه حمل نسب شخص على الغير وهو الزوج، وهو لا يجوز إلا بتصديق زوج.
وإن كان لها زوج، فصدّقها في ادعائها أو شهدت لها القابلة، أو شهد لها شاهدان، ثبت النسب منها.
ولو ادعت امرأتان نسب اللقيط، وأقامت إحداهما البينة، فهي أولى به، وإن أقامت كل منهما البينة، فهو ابنهما في رأي أبي حنيفة. وفي رأي أبي يوسف: لا يكون لواحدة منهما. وعن محمد بن الحسن روايتان: في رواية: يجعل ابنهما كأبي حنيفة، وفي رواية: لا يجعل ابن واحدة منهما كأبي يوسف.
مراجع للاستزادة: |
ـ علاء الدين الكاشاني، بدائع الصنائع (مطبعة الجمالية، الطبعة الأولى، مصر 1328هـ).
ـ أبو البركات أحمد الدردير، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (محمد عرفة الدسوقي) (مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، مصر 1219هـ).
ـ محمد الخطيب الشربيني، مغني المحتاج (مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر 1352هـ/1933م).
ـ أبو محمد عبد الله بن محمد بن قدامة، المغني (دار المنار، الطبعة الثالثة، القاهرة 1367هـ).
- التصنيف : العلوم الشرعية - النوع : العلوم الشرعية - المجلد : المجلد السادس: علم الفقه ــ المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان - رقم الصفحة ضمن المجلد : 432 مشاركة :