سنه النبويه
sunna - sunna

 السنة النبوية

السنة النبوية

وهبة الزحيلي

 

تعريفها والفرق بينها وبين غيرها

حجيتها

مشتملات السنة

قواعد فهم الحديث

منزلة السنة بالنسبة إلى القرآن الكريم

 

تعريفها والفرق بينها وبين غيرها:

السنة لغة: هي السيرة والطريقة المعتادة، سواء أكانت حسنة أم سيئة، قال الله تعالى: }سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً{ [الإسراء 77]، وقال النبيr: "من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء" (أخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه).

واصطلاحاً عند الفقهاء: هي ما يقابل الواجب من العبادات، وقد تطلق على ما يقابل البدعة، فالسنة: ما أقره الشرع، والبدعة ما أنكره الشرع. والسنة عند الأصوليين: هي كل ما صدر عن الرسولr من الأدلة الشرعية مما ليس بمتلو ولا هو معجز، ولا داخل في المعجز. أو هي كل ما صدر عن الرسولr من قول أو فعل أو تقرير. وأضاف المحدِّثون: "أو صفة" لتشمل صفات النبيr.

وهي بهذا المعنى المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم. أما ما يسمى بسنة الصحابة: فهي ما عمل به الصحابة، ويعمل بها ويرجع إليها في رأي أكثر العلماء. وأما سنة آل البيت: فهي ما عمل به آل بيت النبوة، وأهل البيت في رأي الشيعة: هم علي وفاطمة وابناهما الحسن والحسين رضي الله عنهم.

أنواعها:

السنة أو الحديث أو الأثر بحسب درجتها عند المحدثين صحة وغيرها ثلاثة أنواع: حديث صحيح، وحسن، وضعيف، علماً أن السنة أهم من الحديث، والأثر قد يطلق على ما يراه الصحابي.

أما الحديث الصحيح: فهو ما اتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله إلى منتهى السند، من غير شذوذ ولا علة قادحة. والشذوذ: يراد به ما تفرد به راوٍ واحد مخالفاً بذلك رواية الثقات. والعلة القادحة إما في السند غالباً لدى المحدثين: مثل انقطاع السند أو تدليس الراوي، أو ضعفه في الحفظ أو غفلته أو كذبه، (أي ما نافى العدالة والضبط). سواء كانت العلة ظاهرة أم خفية.

وإما في المتن في الغالب عند الفقهاء والأصوليين، كمخالفة ظواهر الشرع أو مقتضى القياس أو اضطراب الرواية.

وقولهم: "من غير شذوذ ولا علة قادحة": احتراز عن الحديث المرسل، والمنقطع، والمعضل، والشاذ، وما فيه علة قادحة، وما في راويه نوع جرح أو طعن.

وأما الحديث الحسن: فهو ما اتصل سنده بنقل عدل خف ضبطه من غير شذوذ ولا علة، وهو نوعان: حسن لذاته: وهو الذي يرويه راوٍ خف ضبطه. وحسن لغيره: وهو ما كان في إسناده مستور لم تتحقق أهليته، وتعضد براوٍ معتبر من متابع أو شاهد.

وأما الحديث الضعيف: فهو ما لم تجتمع فيه صفات الصحيح ولا صفات الحسن، أو ما لم تجتمع فيه صفات القبول، سواء في سنده أم في متنه.

وهناك ما يسمى بالحديث الموضوع: وهو المكذوب المنتحل المنسوب إلى النبيr كذباً، وعلامات الوضع إما في السند وإما في المتن.

فمن علامات الوضع في السند: كون الراوي كذاباً، أو معترفاً بالوضع، أو روى عن شيخ لم يثبت اللقاء به، أو ولد بعد وفاته، أو كان الوضع لمصلحة أو هوى، كالأحاديث التي وضعتها الفرق والمذاهب السياسية المعارضة، من خوارج وشيعة متطرفة، أو مجاملة للخلفاء، أو ترويجاً لسلعة، أو ترهيباً من شيء أو ترغيباً فيه، مثل أغلب أحاديث فضائل السور القرآنية، وثواب الأعمال المبالغ فيه.

ومن علامات الوضع في المتن: ركاكة اللفظ، بحيث يدرك العربي الفصيح أن مثل هذا اللفظ ركيك، لا يصدر عن فصيح ولا عن بليغ، ومنها فساد المعنى، بأن يخالف الحديث بدهيات العقول، أو يخالف قواعد الأخلاق، أو يدعو إلى الشهوة والفساد، أو يخالف الحسّ والمشاهدة، أو يعارض قواعد الطب المتفق عليها، أو يصادم ما يوجبه العقل أو الفطرة من تنزيه الله وكماله، أو يشتمل على سخافة أو أسطورة أو خرافة.

ومنها: مخالفة صريح القرآن بحيث لا يقبل التأويل، أو يخالف السنة المتواترة، أو يخالف قواعد القرآن والسنة، أو يخالف الإجماع، أو يخالف قواعد العلم والواقع.

ومنها: مخالفة حقائق السيرة والتاريخ، ومنها تأييد أهواء الراوي، ومنها معارضة الحديث لما تتوافر الدواعي على نقله، بأن يتفرد راوٍ فيما شأنه الاشتهار والتداول.

وقد برع المحدثون في تفنيد هذه المزاعم، وصنفوا الكتب في الموضوعات، مثل كتاب: "اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة" للعلامة جلال الدين السيوطي.

وللسنة تقسيمان آخران: الأول باعتبار الوصف، والثاني باعتبار السند.

أما التقسيم الأول باعتبار الوصف فهي ثلاثة أنواع:

1ـ السنة القولية: هي الأحاديث التي قالها الرسولr في مختلف الأغراض والمناسبات، مثل قوله: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" (أخرجه البخاري ومسلم عن عمر، وهو مشهور).

 وقوله: "لا ضرر ولا ضرار" (أخرجه ابن ماجه والدارقطني ومالك مرسلاً، وهو حديث حسن عن أبي سعيد الخدري)، وقوله: "لا وصية لوارث" (أخرجه الدارقطني وابن عدي وابن أبي شيبة، عن جابر، وهو متواتر عن اثني عشر صحابياً).

2ـ السنة الفعلية: هي الأفعال التي قام بها الرسول[، مثل أداء الصلوات الخمس، وأداء شعائر الحج، والقضاء بشاهد واحد ويمين المدعي إذا لم يوجد شاهدان.

3ـ السنة التقريرية: وهي أن يسكت النبيr عن إنكار قول أو فعل صدر أمامه، أو في عصره، وعلم به، وذلك إما بموافقته أو استبشاره أو استحسانه، وإما بعدم إنكاره وإقراره. مثل أكل الضب على مائدة رسول اللهr (أخرجه الجماعة: أحمد وأصحاب الكتب الستة إلا الترمذي عن ابن عباس)، وإقراره معاذ بن جبل في اليمن على الاجتهاد، وإقراره العمل بالقيافة (أخرجه أحمد وأصحاب الكتب الستة عن عائشة رضي الله عنها).

وأما التقسيم الثاني باعتبار السند: فهي ثلاثة أنواع في رأي الحنفية، ونوعان في رأي الجمهور (المتواتر وخبر الآحاد).

1ـ السنة المتواترة: هي ما رواها عن الرسولr جمع يمتنع في العادة تواطؤهم على الكذب، في القرون الثلاثة الأولى (عصر الصحابة، والتابعين، وتابعي التابعين) لأن النقل بعدئذٍ صار بطريق التدوين، مثل أداء ركعات الصلاة، وشعائر الحج، ومقادير الزكوات، وكيفية الوضوء ونحو ذلك. ومثل الأحاديث القولية وهي (331 حديثاً)، كحديث "لا وصية لوارث" المتقدم، وحديث "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" (أخرجه الجماعة: أحمد وأصحاب الكتب الستة عن أنس بن مالك وعلي وغيرهما) وحديث "ويل للأعقاب من النار" (أخرجه مسلم عن أبي هريرة، وأحمد عن جابر بن عبد الله، وأحمد والدارقطني عن عبد الله بن الحارث).

وحكم المتواتر: أنه قطعي الثبوت عن النبيr، ويفيد العلم أو اليقين، ويكفر جاحده.

2ـ السنة المشهورة: وهي ما كان من الأخبار مروياً من واحد أو اثنين في الأصل، ثم يشتهر في القرن الثاني أو الثالث الهجري بعد الصحابة، كحديث "إنما الأعمال بالنيات" المتقدم، وحديث "بني الإسلام على خمس" (أخرجه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما) وحديث المسح على الخفين (أخرجه أحمد والبخاري ومسلم عن جرير بن عبد الله، وأحمد والبخاري عن ابن عمر عن سعد).

وحكم السنة المشهورة: أنها قطعية الورود عن الصحابة الذين رووها، ولكنها ليست قطعية الثبوت عن الرسولr، وهي تفيد الطمأنينة والظن القريب من اليقين، ويفسق جاحدها.

3ـ خبر الواحد أو سنة الآحاد: وهي ما رواها عن الرسولr واحد أو اثنان فصاعداً، دون المتواتر والمشهور، في العصور الثلاثة الأولى. وأكثر الأحاديث أخبار آحاد.

وحكمها: أنها تفيد غلبة الظن، لا اليقين ولا الطمأنينة، ويجب العمل بها، ولا تفيد الاعتقاد؛ للشك في ثبوتها.

حجيتها:

أجمع المسلمون على أن السنة النبوية هي المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن العظيم، حيث قالوا: إنها أصل من أصول الشريعة، وحجة في استنباط الأحكام الشرعية، بأدلة كثيرة نقلية وعقلية، بشرط ثبوتها عن النبيr بطريق من الطرق المعتمدة. فهي أساس لتبيان أحكام الشريعة قولاً وعملاً وسيرة ومنهاج حياة، بل هي ضرورة شرعية تلازم النبوة، وتوضح الوحي الإلهي، فمن أهملها أو خالفها عمداً أو عطّلها فقد أهدر مهمة النبوة، ما لم تتصادم مع القرآن.

وأدلة حجيتها ومكانتها أربعة، من القرآن والسنة والإجماع والمعقول:

1ـ أما القرآن الكريم: فإنه تعالى أوجب على المؤمنين إطاعة النبيr في كل ما أمر به أو نهى عنه، وجعل الله تعالى طاعة النبي طاعة له، وحذَّر من مخالفته وتبديل سنته، وأمر برد المتنازع فيه في كل زمان إليه وإلى رسوله، ولم يجعل لأحد الخيار في قضاء الله والرسول، ومن كانت طاعته واجبة فأوامره ونواهيه ملزمة للمأمور، ومن آمن بالله وبالرسول وجبت عليه طاعته في أقواله وأفعاله.

وهذه نصوص صريحة آمرة بالطاعة لله ورسوله، منها:

ـ }يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ{ [النساء 59].

ـ }وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون{ [آل عمران 132].

ـ }يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ{ [الأنفال 20].

ـ }وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ{ أي: قوتكم [الأنفال 46].

ـ }يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ{ [محمد 33].

ـ }مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ{ [النساء 80].

ـ }وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً{ [النساء 69].

ـ }وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا{ [الحشر 7].

ـ }قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ{ [آل عمران 31].

ـ }وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ{ [الأحزاب 36].

ـ }فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيما{ [النساء 65].

ـ }فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ{ [النور 63].

2ـ السنة الشريفة: أكدت السنة النبوية ما دلت عليه الآيات القرآنية من وجوب اتباع النبيr وطاعته في كل ما أمر به، ونهى عنه، مما يدل دلالة قاطعة على حجية السنة.

ـ منها: "ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم من حرام فحرِّموه، ألا وإن ما حرَّم رسول الله كما حرَّم الله" (أخرجه أبو داود والترمذي والحاكم عن المقداد بن معديكربt).

  ـ ومنها: "تركت فيكم أمرين ما إن اعتصمتم بهما، فلن تضلوا أبداً: كتاب الله، وسنة نبيه" (أخرجه مالك بن أنس في الموطأ بلاغاً). وأخرجه الحاكم عن أبي هريرة بلفظ: "تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض".

وأخرج الطبراني في الكبير عن الحسن بن عليt أنه قال: صعِد رسول اللهr المنبر يوم غزوة تبوك، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "يا أيها الناس، إني ما آمركم إلا ما أمركم به الله، ولا أنهاكم إلا عما نهى الله عنه، فأجملوا في الطلب، فوالذي نفس أبي القاسم بيده، إن أحدكم ليطلبه رزقه كما يطلبه أجله، فإن تعسّر عليكم شيء، فاطلبوه بطاعة الله عز وجل".

ـ وأخرج الشيخان (البخاري ومسلم) عن أبي هريرةt، أن رسول اللهr قال: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني" وفي رواية للبخاري بزيادة: "ومن عصى أميري فقد عصاني".

3ـ الحاجة إلى السنة: يتعذر العمل بالقرآن وحده من دون بيان السنة، فلا تفهم إطلاقات القرآن، وعموماته ولا إجمالاته، ولا مرامي الشريعة، وجميع تفاصيل أحكامها إلا بالسنة التي أنزل الله بها وحياً بالنص أو بالمعنى إلى النبيr، أو استنبطها النبيr باجتهاده من القرآن ومفاهيمه ومبادئه أو قواعده، وأقره الله عليها. فلولا السنة لما تبين المسلمون أحكام الشريعة، وتلك هي مهمة النبي وخصائص النبوة، قال الله تعالى: }بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ{ [النحل 44]. وذلك مثل تفاصيل أحكام الصلاة والصيام والحج، وأحكام المعاملات والعقوبات والزواج والطلاق وتوابعهما، والمواريث، وعلاقات المسلمين بغيرهم محلياً وخارجياً.

قال الشيخ محمد الخضري: وفي الجملة فإن حجية السنة من ضروريات الدين، أجمع عليها المسلمون، ونطق بها القرآن الكريم.

4ـ السنة وحي أو في حكم الوحي: الصادر عن النبيr أمران: إما تبليغ الأحكام عن الله تعالى، وإما تعليم وإرشاد.

أما تبليغ الأحكام: فهو وحي قطعاً، والنبي فيه معصوم عن الخطأ والسهو فيه، وذلك إما بالتصريح وهو القرآن، والحديث القدسي: وهو ما يرويه الرسولr عن ربه عز وجل بوساطة جبريل\، قائلاً: قال الله عز وجل، وإما بالمعنى وهو الحديث العادي، فهو وحي من الله بالمعنى، لقول الله عز وجل: }وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ٭ إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى{ [النجم 3ـ4]، وقوله سبحانه: }إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ ما يُوحَى إِلَيَّ{ [يونس 15]. وصياغة ألفاظه من النبي[.

وأما إرشادات النبيr وتعاليمه: فإن أقره الله عليه فهو بمنزلة الوحي وفي حكمه، لأن التقرير يدل على الصحة والرضا الإلهي، كالأحكام الاجتهادية الصادرة عن اجتهاده r فيما لم ينزل فيه وحي.

5ـ عصمة النبي r: رسولنا كغيره من الرسل معصوم عن الخطأ في تبليغ الوحي، وعن جميع المعاصي الكبيرة والصغيرة، وعن الكذب والخطأ والنسيان، وعن الكفر قبل النبوة وبعدها، والعصمة: شرط من شرائط النبوة. وأجمع أهل الشرائع على وجوب عصمة الأنبياء والرسل عن أي شيء يخل بالتبليغ، قال الله تعالى: }يا أَيُّها الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاس{ [المائدة 67].

والعصمة تقتضي كون أخبار الأنبياء حقاً وصدقاً، وأن جميع ما يبلّغونه من الأحكام الشرعية صحيح مطابق للوحي الإلهي الشامل للقرآن والسنة الثابتة.

6ـ الإلزام بالسنة في العصر النبوي وما بعده:

التزم الصحابة الكرام بالسنة النبوية واتبعوا أوامر النبيr ونواهيه في جميع أقواله وأفعاله وتقريراته، فمن القول: حديث مشهور أخرجه البخاري ومسلم عن عمرt ونصه: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" ومن الأفعال: أمره عليه الصلاة والسلام باتباعه في أحكام الصلاة والحج قائلاً: "صلّوا كما رأيتموني أصلّي" (أخرجه أحمد والبخاري عن مالك بن الحويرث)، "خذوا عني مناسككم" (أخرجه أحمد ومسلم والنسائي عن جابر بن عبد الله) ومن الإقرارات: إقرار النبيr معاذ بن جبل على الاجتهاد، إن لم يجد نصاً من قرآن أو سنة.

وسار التابعون ومن بعدهم على هذا المنهج جيلاً بعد جيل، وعصراً بعد عصر إلى هذا اليوم، وإلى المستقبل، اتباعاً لأصول الإسلام.

7ـ الإجماع:

أجمع الصحابة رضي الله عنهم في حياته r، وبعد وفاته، من السلف والخلَف على وجوب اتباع السنة، فكانوا في حياته ـ كما تقدم ـ يلتزمون أوامره ووصاياه ونواهيه، ولا يفرقون بين حكم في القرآن الكريم، أو حكم صدر عن الرسول r. قال الإمام الشافعي: «أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله r لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس».

 8ـ المعقول:

وهو أن الله تعالى أمر رسوله بتبليغ رسالته واتباع وحيه. والتبليغ كان بإقراء القرآن وبالبيان النبوي، فالشريعة تتمثل بالقرآن الكريم، وبأقواله r وأفعاله وتقريراته.

هذه وغيرها أدلة حجية السنة النبوية ولا ينكرها إلا فاجر أو مكابر.

أنواع أفعال الرسول r:

الفعل الصادر من النبيr بقصد التشريع أو الاقتداء والاهتداء به مثل القول، والمقتدى به: إما مباح، وإما مستحب، وإما واجب، كما جاء في كشف الأسرار للبخاري على أصول البرذوي 2/920.

وبه يتبين أن أفعال النبيr ثلاثة أقسام:

الأول: الأفعال الإنسانية أو الجبلِّية التي يفعلها النبيr بحكم الفطرة أو الطبيعة الإنسانية، من قيام وقعود ومشي وأكل وشرب ونحوها، فهي ليست تشريعاً، وإنما على الإباحة في حقه وحق أمته بشرطين:

ألا يكون هذا الفعل بياناً لمجمل القرآن، فيكون تابعاً للمبيَّن في الوجوب والندب والإباحة.

ألا يكون الفعل امتثالاً وتنفيذاً لأمر سابق، فيكون تابعاً للأمر في الوجوب وغيره.

الثاني: الأفعال التي ثبت كونها من خصائص النبيr، كإباحة الوصال في الصيام، واختصاصه بوجوب صلاة الضحى والأضحى والوتر والتهجد بالليل، وإباحة الزواج بأكثر من أربع نسوة، خدمةً لنشر دعوته في القبائل العربية، ونحو ذلك.

الثالث: الأفعال المقصود بها التشريع: فهذه يطالب بالتأسي والاقتداء بها، لقوله تعالى: }لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً{ [الأحزاب 21]. ولأن الصحابة كانوا يرجعون إلى فعلهr احتجاجاً واقتداء به في وقائع كثيرة، كتقبيل عمرt الحجر الأسود قائلاً: "لقد علمتُ أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول اللهr يقبّلك ما قبّلتك" [أخرجه الجماعة: أحمد وأصحاب الكتب الستة عن عمر].

إلا أن صفة هذه الأفعال الشرعية تختلف وجوباً أو ندباً أو إباحة.

أ ـ فإن كانت هذه الأفعال واردة بياناً لمجمل في القرآن، أو تقييداً لمطلق، أو تخصيصاً لعام، فحكمها حكم ما بيَّنه من وجوب وندب، كأفعال الصلاة والحج، وكالتيمم إلى المرفقين لسفر أو مرض، فإنه بيان لقوله تعالى: }فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ{ [المائدة 6].

ب ـ وإن لم يظهر كون الفعل للبيان، بل ورد مبتدءاً، فإن عرفت صفته من وجوب أو ندب أو إباحته فإن أُمَّته في الفعل مثله، وإن جهلت صفة الفعل الشرعية: فإن ظهر فيه قصد القربة إلى الله تعالى، كصلاة ركعتين، من غير مواظبة عليهما فيدل الفعل على الندب، لأنه أقل ما يفيده جانب الرجحان؛ مما يدل على أن الفعل مطلوب، وإن لم يظهر فيه قصد القربة كالبيع والمزارعة ونحو ذلك من المعاملات ففعله يدل على الإباحة بالإجماع.

التعارض بين الفعلين:

لا إشكال في وجود التعارض بين الأفعال ولا يصح ذلك في حال الإمكان، بحيث يكون أحدهما ناسخاً للآخر أو مخصصاً له، لأنه إن لم تتناقض أحكام الفعلين فلا تعارض. وإن تناقضت فلا تعارض أيضاً، لأن المتماثلين كصلاة الظهر في وقتين، أو المختلفين الجائز اجتماعهما كالصلاة والصيام لا تعارض بينهما أيضاً، لأنه في حال التماثل يجوز أن يكون الفعل في وقت واجباً، ثم يصير غير واجب، لأن الفعل لا عموم له، حيث لا يشمل الأوقات المستقبلية، ولا يدل الفعل على التكرار عند جمهور الأصوليين.

وأما في حال اختلاف الفعلين اللذين لا تتناقض أحكامهما، كما لو صام النبيr في وقت معين، وأكل في مثل ذلك الوقت فإنه لا تعارض بينهما أيضاً، لجواز أن يكون الفعل واجباً أو مندوباً أو مباحاً في وقت، ثم يصير في مثل ذلك الوقت بخلافه، من غير إبطال حكم الأول، حيث لا عموم للفعل ولا يدل على التكرار كما تقدم.

لكن إذا كان مع الفعل الأول قول مقتضٍ لتكراره، فإن الفعل قد يكون ناسخاً أو مخصصاً للقول، لا للفعل ذاته، فلا يتحقق التعارض بين الفعلين أصلاً.

تعارض القول والفعل:

إن حدث تعارض بين القول والفعل، كالنهي عن استقبال القبلة واستدبارها في أثناء قضاء الحاجة، واستقبال القبلة لهذه المهمة في المنازل، فإما أن يكون القول متقدماً، وإما متأخراً، وإما يجهل الحال:

ـ فإذا كان القول متقدماً على الفعل، ووجب علينا الاتباع فيه فينسخ الفعل القول المتقدم، مثل قولهr: صوم يوم كذا واجب علينا، ثم يفطر ذلك اليوم.

أما إن لم يدل الدليل على أنه يجب علينا اتباعه عليه الصلاة السلام في ذلك الفعل فلا يكون الفعل ناسخاً للقول، بل مخصصاً له.

ـ وإذا كان القول متأخراً عن الفعل الذي دلّ الدليل على أنه يجب علينا اتباعه فيه، كصلاة النبيr إلى بيت المقدس، ثم النهي عن ذلك، فهنا ثلاثة احتمالات:

أ ـ إذا كان القول المتأخر عاماً للنبيr ولأمته فإنه يكون ناسخاً للفعل المتقدم، كصوم يوم عاشوراء، ثم النهي عنه، فينسخ القول الفعل المتقدم.

ب ـ إذا كان القول المتأخر خاصاً بالنبيr، كأن يقول في صوم عاشوراء: لا يجب علي صيامه، فيكون القول ناسخاً في حقهr من دون أمته.

ج ـ إذا كان القول المتأخر خاصاً بالأمة: كقوله عليه الصلاة والسلام في صوم عاشوراء: لا يجب عليكم صيامه، فيكون القول المتأخر ناسخاً في حق الأمة دونه عليه الصلاة والسلام.

ـ وإذا كان المتأخر من القول والفعل مجهولاً: فيقع التعارض، ويرجح بينهما في رأي الحنفية بأحد طرق الترجيح، كترجيح المحرِّم على المبيح، وترجيح أحد خبري الآحاد بضبط الراوي أو عدالته أو فقهه مثلاً، فإن تعذر الترجيح يلجأ إلى الجمع والتوفيق بين القول والفعل، بالتخصيص أو غيره. فإن لم يكن الجمع فيقدَّم في رأي الجمهور القول على الفعل؛ لأن القول يدل بنفسه على مقتضاه بغير واسطة، أما الفعل فإنه لم يوضع للدلالة، وإن دل فإنما يدل بوساطة القول، مثل: "صلوا كما رأيتموني أصلي". فإن دلالة الفعل وهو صلاة الرسولr التشريعية مثل أقواله في الحجية.

والحاصل: أن أفعال الرسولr التشريعية مثل أقواله في الحجية. ويكون المتأخر من قول أو فعل ناسخاً للمتقدم إذا عرف تاريخ كل منهما، فإن جهل تأخر أحدهما قدم القول. ولا يتصور التعارض بين الفعلين، لأن الفعل لا عموم له، فلا يشمل جميع الأوقات المستقبلية، ولا يدل على التكرار.

مشتملات السنة:

اشتملت السنة النبوية على ستة موضوعات هي:

أحاديث العلم والمعرفة والإخلاص والنية.

عقائد الإيمان والإسلام، والغيبيات والسمعيات، والبعث وأهوال القيامة، وصفات الجنة والنار.

أحكام العبادات والمعاملات والجنايات والحدود، والأسرة (الأحوال الشخصية) والمواريث، والجهاد، وعلاقات المسلمين بغيرهم في الداخل والخارج.

أحاديث الفضائل والآداب والأخلاق، والبر والصلة، والعادات (في الطعام والشراب واللباس والنوم والجلوس والرؤيا والسلام والسفر ونحوها).

أحاديث التوبة والزهد، وقراءة القرآن والتفسير، والأذكار والأدعية، وكرامات الأولياء وفضلهم. وهذه لبناء الشخصية المسلمة.

أحاديث الشمائل والخصال (الأخلاق) والسيرة النبوية، والمعجزات وتنبؤات المستقبل، وقصص الأنبياء السابقين، والطب النبوي.

والمهم في علم الفقه والأصول: هو أحاديث الأحكام التي هي نحو خمسة آلاف حديث، وفيها كتب كثيرة مثل: "بلوغ المرام من جمع أدلة الأحكام" لابن حجر العسقلاني (ت 852هـ) بشرح سبل السلام للصنعاني (1182هـ) وأحاديثه 1488 حديثاً. و"منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار" لابن تيمية الجد وهو أبو البركات مجد الدين بن عبد السلام (ت 652هـ) وأحاديثه (5029 حديثاً) بشرح نيل الأوطار للإمام محمد بن علي بن محمد الشوكاني (ت 1250هـ).

قواعد فهم الحديث:

يتطلب استنباط الأحكام الشرعية من أحاديث الأحكام مراعاة ما يأتي:

1ـ معرفة معاني الأحاديث لغة وشرعاً: أي معرفة معاني الألفاظ لغة وشرعاً. أما المعرفة اللغوية فتكون بمعرفة معاني المفردات والمركبات وخواصها في إفادة المعنى. وأما معرفة المعاني الشرعية أو الاصطلاحية: فتتم بمعرفة المعاني والعلل التي هي علامات على الأحكام، وأوجه دلالة اللفظ على المعنى، من المنطوق والمفهوم، والمحكم والمفسر، والعبارة والإشارة، والدلالة والاقتضاء، وأنواع الأمر والنهي من عام وخاص ومشترك ومجمل ونحوها من الحرام والمكروه ونحوها. ومعرفة المصطلحات الشرعية للألفاظ.

ولا بد من معرفة سند الحديث الذي هو طريق وصوله إلينا، والعلم بمتن الحديث الذي تضمنه النص، ورفع التعارض بين المتون أحياناً.

2ـ إدراك مقاصد الشريعة العامة: وهي الكليات الخمس الضرورية وهي حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسب أو العرض، والمال، لفهم النصوص الشرعية وإدراك الغاية من الشريعة وأسرارها، والتمكين للترجيح بين النصوص الشرعية عند وجود التعارض.

3ـ الاستعانة بعلم أصول الفقه: لأن دلالة النص على الحكم يكون بوساطة كون النص أمراً أو نهياً أو عاماً أو خاصاً ونحو ذلك، وفهم الدلالات اللفظية يتوقف على قواعد الأصول.

4ـ الاطلاع على مسائل الإجماع ومواقعه: لأن دلالة الإجماع قطعية (يقينية) ودلالة أغلب الأحاديث ظنية، علماً أن مرتبة الإجماع متأخرة عن السنة النبوية، ولا يتصور تصادم الإجماع مع النص، ولا بد لكل إجماع من مستند: وهو نص القرآن أو السنة أو المصلحة المعتبرة شرعاً أو القياس، ولكن تفهم دلالة النص في ضوء الإجماع.

5ـ معرفة الناسخ والمنسوخ من السنة أحياناً: حتى لا يعتمد الفقيه على المنسوخ المتروك مع وجود الناسخ، ومن أفضل الكتب في هذا: "شرح مشكل الآثار" لأبي جعفر الطحاوي (ت 321هـ).

6ـ العلم بمصطلح الحديث ورجال الحديث: وذلك ضروري لمعرفة ضوابط قبول الحديث متناً وقبول رواية الرواية سنداً. ولا بد أيضاً من العلم بأخبار التواتر والشهرة والآحاد، والناسخ والمنسوخ، وبيان طبقات المخرِّجين والمجروحين، والعلم بقواعد الجرح والتعديل. ويلاحظ أن معرفة التواتر والآحاد والناسخ والمنسوخ هي من وظيفة الفقيه لا المحدِّث.

قواعد نقد الحديث:

يحتاج الفقيه إلى معرفة القواعد أو المعايير التي وضعها العلماء لنقد الحديث، وأهمها خمس عشرة قاعدة (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي للدكتور مصطفى السباعي: ص 250 وما بعدها) هي:

ألا يخالف أصول العقيدة من صفات الله ورسله.

ألا يخالف سنة الله في الكون والإنسان.

ألا يخالف القرآن أو محكم السنة أو المجمع عليه أو المعلوم من الدين بالضرورة (البداهة) بحيث لا يحتمل التأويل.

ألا يكون ركيك اللفظ، بحيث لا يقوله بليغ أو فصيح، وإنما يتفق مع اللغة وعاء القرآن والسنة وأداة التعبير عنهما.

ألا يعارض بدهيات العقول أو منطق العقل السديد، بحيث لا يمكن تأويله، ويؤدي ذلك إلى ألا يصادم النظريات العلمية القطعية.

ألا يخالف القواعد العامة في الآداب والأخلاق وحكمة التشريع ومقصد الشريعة.

ألا يعارض المحسوسات المشاهدة.

ألا يصادم بدهيات الطب والحكمة.

ألا يدعو إلى رذيلة تنافي الشرائع.

10ـ ألا يشتمل على سخافات أو أساطير يصان عنها العقلاء.

11ـ ألا يعارض حقائق السيرة والتاريخ في عصر النبيr.

12ـ ألا ينفرد راوٍ واحد برواية أمر وقع بمشهد عظيم.

13ـ ألا ينشأ من باعث نفسي دفع الراوي إلى روايته.

14ـ ألا يوافق مذهب الراوي الداعي إلى مذهبه.

15ـ ألا يشتمل على مبالغة في الثواب أو الوعيد على الفعل الصغير أو الأمر الحقير.

منزلة السنة بالنسبة إلى القرآن الكريم:

السنة من حيث الثبوت في المرتبة الثانية بعد القرآن الكريم، فهي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي؛ لأن القرآن الكريم قطعي الثبوت، لنقله بالتواتر حفظاً وكتابة أو تدويناً. وأما السنة: فهي ظنية الثبوت، والقطعي مقدم على الظني.

وأما منزلة السنة من ناحية ما ورد فيها من أحكام فهي أربعة أنواع:

النوع الأول: أن تكون السنة مقررة ومؤكدة لحكم في القرآن: فهي موافقة له من حيث الإجمال والبيان، كالأمر بأركان الإسلام الخمسة، من إعلان الشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً. وتحريم الشرك بالله، وشهادة الزور، وعقوق الوالدين، وقتل النفس عمداً بغير حق، والنهي عن أكل مال الغير بالباطل، والإحسان إلى النساء والصغار والناس جميعاً. فحديث "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه" (أخرجه الدارقطني عن أنس بن مالك) فإنه يوافق قوله تعالى: }وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ{ [البقرة 188]. وحديث "اتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيراً" (أخرجه مسلم عن أبي هريرة) فإنه مؤيد لقوله تعالى: }وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ{ [النساء 19].

النوع الثاني: أن تكون السنة مبيِّنة لما في القرآن الكريم: من تفصيل مجمله، أو توضيح مشكله، أو تقييد مطلقه، أو تخصيص عامه، مثل الأحاديث التي فصلت كيفية إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وبيان الخيط الأبيض (طلوع الفجر) من الخيط الأسود (الظلام)، في آية الصيام: }حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ{ [البقرة 187]. وبيان المقصود من كلمة [الكنز] في آية: }وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ{ [التوبة 34] وهو عدم إخراج الزكاة، فكل مال أديت زكاته ليس بكنز، وتقييد المراد بقطع يد السارق، من الرسغ في آية: }وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ{ [المائدة 38]، وتحديد المراد من كلمة [الظلم] في آية: }الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ{ [الأنعام 82] وهو الشرك، وأغلب السنة من هذا النوع.

النوع الثالث: أن يستدل بالسنة على ناسخ القرآن ومنسوخه. وهذا يتفق مع مذهب الإمام الشافعي الذي لا يجيز نسخ القرآن بالسنة، خلافاً لرأي الجمهور الذين قرروا أن "السنة قد تنسخ القرآن" مثل حديث "لا وصية لوارث" المتقدم، فإنه ناسخ لآية الوصية لوارث وهي قوله تعالى: }كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ{ [البقرة 180] وليس الناسخ هو آية المواريث، إذ لا تنافي بينها وبين آية الوصية للأقربين، فإن الأولى في ثلثي المال، والوصية تنفذ في الثلث.

النوع الرابع: أن تكون السنة منشئة حكماً سكت عنه القرآن، كالأخبار الدالة على تحريم الرضاع كما يحرم بالنسب: "يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب" (أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن عائشة) وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وتقرير حق الشفعة للشريك أو الجار، والرهن في الحضر، والحكم بشاهد ويمين، وبيان ميراث الجدة، وكفارة الجماع في نهار رمضان، وتحريم لُبس الذهب والفضة والحرير على الرجال، وصدقة الفطر، ووجوب الدية على العاقلة (العصبة) وتحريم لحوم الحمر الأهلية، وفكاك الأسير، وبيان الأصناف التي يجري فيها الربا، وتحريم بيع الشيء قبل القبض، وتحريم بيع الغرر (الأشياء الاحتمالية) كبيع السمك في الماء والطير في الهواء، ونحو ذلك من أحاديث الأحكام.  

 

مراجع للاستزادة:

 

ـ محمد بن علي الشوكاني، إرشاد الفحول (مطبعة صبيح، القاهرة 1349هـ).

ـ تقي الدين وتاج الدين السبكي، الإبهاج في شرح المنهاج الأصولي للقاضي البيضاوي (مطبعة التوفيق الأدبية، مصر).

ـ وهبة الزحيلي، أصول الفقه الإسلامي (دار الفكر، الطبعة الأولى، دمشق 1406هـ/1986م).

ـ أحمد شاكر، الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث (دار الكتب العلمية، بيروت).

ـ ابن أمير الحاج، التقرير والتحبير على تحرير ابن الهمام في علم الأصول الجامع بين اصطلاحي الحنفية والشافعية (المطبعة الأميرية، بولاق 1316هـ).

ـ محمد بن إدريس الشافعي، الرسالة (مطبعة البابي الحلبي، الطبعة الأولى، مصر).

ـ مصطفى السباعي، السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي (المكتب الإسلامي، ط 2، بيروت 1396هـ/1976م).

ـ اللكنوي الأنصاري، فواتح الرحموت شرح مسلّم الثبوت في أصول الفقه بهامش المستصفى للغزالي (المطبعة الأميرية، بولاق 1322هـ).

ـ البخاري، كشف الأسرار على أصول البزدوي (مكتب الصنائع، مصر 1307هـ).

ـ ابن بدران الدمشقي، عبد القادر بن أحمد، المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل (إدارة الطباعة المنيرية، مصر).

ـ أبو حامد محمد الغزالي، المستصفى من علم الأصول (مطبعة مصطفى محمد، 1356هـ).

ـ التلمساني المالكي، مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول (المطبعة الأهلية، تونس 1346 هـ).

ـ وهبة الزحيلي، موسوعة الفقه الإسلامي المعاصر (دار المكتبي، الطبعة الأولى، دمشق 1427هـ/2007م).


- التصنيف : العلوم الشرعية - النوع : العلوم الشرعية - المجلد : المجلد الرابع: الرضاع ــ الضمان المصرفي - رقم الصفحة ضمن المجلد : 208 مشاركة :

بحث ضمن الموسوعة

من نحن ؟

الموسوعة إحدى المنارات التي يستهدي بها الطامحون إلى تثقيف العقل، والراغبون في الخروج من ظلمات الجهل الموسوعة وسيلة لا غنى عنها لاستقصاء المعارف وتحصيلها، ولاستجلاء غوامض المصطلحات ودقائق العلوم وحقائق المسميات وموسوعتنا العربية تضع بين يديك المادة العلمية الوافية معزَّزة بالخرائط والجداول والبيانات والمعادلات والأشكال والرسوم والصور الملونة التي تم تنضيدها وإخراجها وطبعها بأحدث الوسائل والأجهزة. تصدرها: هيئة عامة ذات طابع علمي وثقافي، ترتبط بوزير الثقافة تأسست عام 1981 ومركزها دمشق