سلطه تقديريه اداره
discretionary power of management - pouvoir discrétionnaire de l’administration

 السلطة التقديرية للإدارة

السلطة التقديرية للإدارة

مهند نوح

تعريف السلطة التقديرية مجال السلطة التقديرية
الأساس القانوني للسلطة التقديرية للإدارة الرقابة القضائية على نواحي السلطة التقديرية في القرارات الإدارية
مبررات السلطة التقديرية للإدارة الرقابة على نواحي السلطة التقديرية في اجتهاد القضاء الإداري السوري
 

أولاً ـ تعريف السلطة التقديرية:

اختلف الفقه في تحديد مفهوم السلطة التقديرية للإدارة Le pouvoir discrétionnaire، فقد ذهب جانب منه إلى القول إن مصدر هذه السلطة إنما يكمن في إرادة المشرع وحدها، مما يعني أن المشرع في نظرهم هو صاحب القول الفصل فيما إذا كان للإدارة تجاه نشاط معين قدر من حرية التقدير من عدمه، وذلك بتدخله أو عدم تدخله في تنظيم ذلك النشاط أو تحديد عناصره تحديداً دقيقاً، لذلك فقد أعطى هذا الجانب من الفقه للسلطة التقديرية تعريفاً إيجابياً معتبراً إياها بمنزلة حق للإدارة معترف به من قبل المشرع الذي قد يجد نفسه في وضع يستحيل معه أن يبين للإدارة الأسلوب أو المسلك الذي تباشر به نشاطاً معيناً، أو قد يرى أنه من الأفضل أن يترك لها قدراً من الحرية في مباشرة أعمالها، حتى تتمكن من أداء المهام الموكلة إليها. وهذا يعني في النهاية أن الإدارة تتمتع، في حالة السلطة التقديرية، بحرية شرعية في ممارسة نشاطها، فلا تكون خاضعة في ممارسة هذا النشاط لأي التزام قانوني، ومن ثم لا يمكن أن توصم عند إجرائه بعدم الشرعية.

وإضافة إلى ما تقدم فقد تبنى جانب من الفقه تعريفاً سلبياً للسلطة التقديرية، فلا يرتبط أساساً بالقيود التي يضعها القضاء الإداري على نشاط الإدارة وهو بصدد رقابته لهذا النشاط، ومن ثم فإنهم ينتهون إلى تعريف تلك السلطة بطريقة سلبية حيال هذا الدور، أي حيال ما يمارسه القضاء الإداري من رقابة على أعمال الإدارة، على أساس أن السلطة التقديرية لا تتحقق أو لا يعترف بها للإدارة إلا فيما لا يخضع من تصرفاتها لرقابة هذا القضاء، لذلك عبر بعض الفقه الذي ينتمي إلى هذا الاتجاه بأن السلطة التقديرية لا توجد إلا في الحالات التي تستقل فيها الجهة الإدارية وبمعزل عن الرقابة القضائية، بتقدير تناسب الواقعة مع قاعدة القانون، وتتوقف هذه السلطة عن كونها تقديرية متى خضعت الإدارة عند إجرائها لهذا التقدير للرقابة القضائية. وبناء على ذلك، يمكن القول إن السلطة التقديرية تقاس بمدى رقابة القاضي الإداري على أعمال الإدارة. وفي الحقيقة إن الاتجاهين السابقين يتكاملان، إذ تكون السلطة التقديرية للإدارة هي المجالات الإدارية التي لا يحدد المشرع مسلك الإدارة اتجاهها مسبقاً، وتكون سلطة القضاء الإداري تجاهها مقيدة عند نهوضه بمهمة الرقابة القضائية على أعمال الإدارة.

ثانياً ـ الأساس القانوني للسلطة التقديرية للإدارة:

إن الاعتراف بالسلطة التقديرية سلطةً قانونية ممنوحة للإدارة، يستلزم تحديد الأساس القانوني لهذه السلطة، وفي هذا الشأن ظهرت عدة أفكار أو نظريات لعل من أهمها:

1ـ فكرة تدرج القواعد القانونية: وهي فكرة ترجع في الأساس إلى الفقيه النمسوي كلسن في تفسير خضوع الدولة للقاعدة القانونية، وبمقتضى هذه الفكرة تتدرج القواعد القانونية في الدولة في مراتب مختلفة، بحيث تكون كل قاعدة قانونية في هذا التدرج تنفيذاً للقاعدة الأعلى منها مرتبة من ناحية، ومنشئة للقاعدة الأدنى من ناحية أخرى، وعندما يتولى رجل الإدارة تنفيذ القاعدة القانونية، فإن اختصاصه يكون مقيداً إذا وقف بقراره عند حدود التنفيذ الحرفي للقاعدة القانونية التي يستمد منها اختصاصه، في حين يكون القرار تقديرياً إذا أضاف في قراره بعض العناصر غير الموجودة في القاعدة القانونية التي استمد منها اختصاصه، وهو ما يمكن عده بمنزلة التخصيص لعمومية القاعدة القانونية. ولعل أهم ما يؤخذ على هذه النظرية أنها تضيق من نطاق السلطة التقديرية في إطار التخصيص ووضع العناصر الجديدة، في حين أنها تتحقق كذلك في حال الاختيار بين قرارين أو أكثر، أو الامتناع عن اتخاذ القرار أو اتخاذه، أو اختيار الوقت المناسب لاتخاذ القرار، وفي هذه الحالات جميعها لا توجد أية إضافات لعناصر جديدة على القاعدة القانونية الأعلى.

2ـ نظرية الحقوق الشخصية: وتقوم هذه النظرية على الربط بين الحقوق الشخصية والاختصاص المقيد، وبمفهوم المخالفة فإن السلطة التقديرية تتحقق في حالة غياب هذه الحقوق، وأساس ذلك أن الحقوق الشخصية تتميز بأن لها وسيلة قانونية لحمايتها تتمثل في الدعوى القضائية، وعن طريقها يمكن للأفراد مطالبة الإدارة بعمل أو الامتناع عن عمل بوصفه التزاماً يقع على عاتق الإدارة، ومن ثم لا يستطيع الأفراد المطالبة بشيء لانتفاء الالتزام أو الرابطة القانونية بين الإدارة وبينهم، وعلى العكس من ذلك، فإنه في حالة الاختصاص المقيد، يكون هناك من الحقوق الشخصية ما يتولد مباشرة من المراكز المنصوص عليها في القوانين، ومن ثم يمكن حمايتها بالدعوى القضائية المتصلة بهذه الحقوق اتصالاً وثيقاً، إذ تتوافر المصلحة الشخصية لدى صاحب الحق للحصول على ما يطالب به من حقوق.

3ـ فكرة المشروع: تقوم هذه الفكرة على أساس النظر إلى النشاط الإداري بحسبانه نوعاً من المشروعات التي تشبه إلى حد كبير المشروعات الخاصة أو الفردية، وإذ يتمتع الأفراد عند إدارتهم لمشروعاتهم وأوجه نشاطهم بقدر كبير من حرية التقدير، فإن الإدارة كذلك تتمتع بقدر واسع من السلطة التقديرية عندما تتولى إدارة وتسيير مشروعاتها، أو بالأحرى عندما تباشر نشاطها الإداري. وبناء على ذلك إذا تخلى المشرع عن تحديد النشاط الإداري أحياناًً، ومن ثم أعطى للإدارة سلطة تقديرية، فإن ذلك يعود إلى صفة المشروع التي يتمتع بها هذا النشاط الإداري.

ثالثا ًـ مبررات السلطة التقديرية للإدارة:

تعد السلطة التقديرية الممنوحة للإدارة من أهم امتيازات السلطة العامة الممنوحة لها، إذ تمارس الإدارة في الواقع نشاطاً إنسانياً يستعصي بطبيعته على التقييد التام، لذلك فمن مسلمات القانون الإداري المعاصر أن يعترف بها للإدارة، وعلى كل حال تتلخص مبررات الاعتراف بالسلطة التقديرية للإدارة بما يلي:

1ـ عجز المشرع عن الإحاطة مقدماً بكل دقائق الأمور أو تفصيلات العمل الإداري، لذلك فإن المشرع يكتفي بصوغ قواعد التشريع على نحو عام ومجرد تاركاً مواجهة دقائق الأمور وتفصيلاتها للإدارة صاحبة الاختصاص الأول في التنفيذ، لذلك لا بد أن يترك للإدارة السلطة التقديرية لمواجهة المواقف المتغيرة. فيمكن، على الصعيد النظري، أن يعالج أحد القوانين المسائل التفصيلية لموضوع معين فيحددها بالدقة اللازمة، إلا أنه من الناحية العملية ليس سائغاً أن يتخبط المشرع في الجزئيات الدقيقة والافتراضات المتعددة، والتي تتسم بطابع التغيُّر المستمر، فلا شك في أن الإدارة بما لها من أجهزة إدارية فنية متخصصة هي الأقدر على تحديد هذه التفصيلات والجزئيات ذات الطابع الفني.

2ـ إن خبرة الإدارة وتجاربها المكتسبة في إدارة المشروعات العامة، نتيجة احتكاكها الدائم بالعمل وظروفه المتغيرة، يجعلها في الواقع أقدر من غيرها على تقدير مناسبة الأعمال المختلفة، وكذلك على استنباط الضوابط الإدارية المناسبة لتلك الأعمال، الأمر الذي يبرر الاعتراف لها بقدر من حرية التصرف والتقدير عند مباشرة مختلف أوجه نشاطها، خاصة أن معظم النصوص التشريعية لا تحدد بطريقة صحيحة ومحددة كيفية تنفيذها، تاركة مثل هذه المسائل للإدارة صاحبة الإمكانيات الفنية والخبرة العملية في هذا المجال.

3ـ ولا خطر من تمتع الإدارة بسلطة تقدير ملاءمة أعمالها وقراراتها الإدارية، إذ استقر الأمر على وجوب أن تتغيا الإدارة المصلحة العامة في ممارستها لهذه السلطة، وذلك بالبحث عن الحل الأكثر ملاءمة، وهو أمر يجعل الإدارة في مواجهة التزام قانوني داخل إطار المشروعية، ومن ثم فإن السلطة التقديرية ليست سلطة تحكمية أو تعسفية، إنما هي سلطة قانونية، تخضع مثل سائر سلطات الإدارة للرقابة على مشروعيتها، ولا تتحقق هذه المشروعية إلا بالتأكد من أنها قد استهدفت المصلحة العامة، وهو الدور الذي يتولاه القاضي الإداري في حدود خبراته وقدراته ومدى اتصاله بالإدارة العامة ونشاطها.

رابعاً ـ مجال السلطة التقديرية:

إن المجال الطبيعي للسلطة التقديرية إنما يتمثل في القرارات الإدارية، ومن ثم فإن تحديد مواضع السلطة التقديرية، إنما يمكن التطرق إليه من خلال أركان هذا القرار، فإذا كان القرار يقوم على أركان خمسة، هي السبب والمحل والغاية والإجراءات والأشكال، والاختصاص، فيلاحظ أولاً أن السبب قد يكون حالة واقعية وقد يكون حالة قانونية، فإذا كان حالة واقعية يعني أن الواقعة التي تدفع إلى اتخاذ القرار لم يقننها المشرع، وتملك الإدارة إزاءها سلطة تقدير اتخاذ أو عدم اتخاذ القرار، أما إذا كان السبب حالة قانونية، فإن المشرع يكون قد تبنى الواقعة التي يستند عليها القرار وقننها، ومن ثم فإن الإدارة لا يكون لها الحق في تقدير اتخاذ أو عدم اتخاذ القرار. يستنتج من ذلك أن سلطة الإدارة تكون تقديرية إذا كانت أسباب القرار حالات واقعية، وتكون مقيدة إذا كانت أسباب القرار حالات قانونية.

وكذلك يلاحظ أن السلطة التقديرية تظهر في المحل بحسبانه الأثر القانوني الناجم عن القرار، وذلك يتحقق إذا لم يفرض المشرع أثراً قانونياً محدداً للقرار، عندئذ يكون للإدارة السلطة التقديرية في تحديد هذا الأثر، أما إذا حدث العكس، فإن سلطة الإدارة تكون مقيدة، وفي بعض الأحيان تكون سلطة الإدارة في مجال ركن المحل تقديرية بدرجة أقل، وذلك حين يحدد المشرع للإدارة عدة بدائل تقوم بالاختيار فيما بينها، كما هو الحال في مجال العقوبات المسلكية، إذ يحدد قانون العاملين للإدارة عدداً من العقوبات تقوم بالاختيار فيما بينها وفقاً لسلطتها التقديرية، ويلاحظ أن درجة سلطة الإدارة التقديرية أقل في هذه الحالة؛ لأن المشرع قد رسم الإطار العام، وحدد دائرة الاختيار، إلا أنه لم يقيد الإدارة بخيار معين.

وحسب إجماع الفقه، فإن السلطة التقديرية لا تظهر في ركن الغاية؛ وذلك لأن هذا الركن إما أن يحدد من قبل المشرع مسبقاً، فتكون الإدارة أمام هدف محدد، يجب أن تحققه، أو لا يحدد لها المشرع هذا الهدف، فتلتزم عندئذ جانب المصلحة العامة عند إصدارها لقرارها، وإلا فإنها تكون قد خرجت إلى إطار الانحراف في السلطة.

وكذلك الحال فإن السلطة التقديرية لا تظهر في إطار ركن الاختصاص، وذلك لأن الصلاحية التي تعطى لموظف معين أو لجنة إدارية، في سبيل إنجاز صلاحيات تكون محددة بموجب النص القانوني، ومن ثم فإنه إذا كان القانون هو الذي يحدد الاختصاصات ضمن المنظمة الإدارية، فإنه لا دور للإدارة في تحديدها، إنما يقيد كل موظف بصلاحياته المحددة في القانون عند إصدار القرار، ولا تكون هناك أي سلطة تقديرية إزاء ذلك. ومن ثم فإن سلطة الإدارة تكون مقيدة دائماً تجاه ركن الاختصاص.

أما في إطار ركن الإجراءات والأشكال، فإن سلطة الإدارة تكون مقيدة دائماً إذا فرض المشرع الإجراء أو الشكل عند اتخاذ قرار معين، بمعنى أن الإدارة لا بد أن تتبع هذا الإجراء أو الشكل، عند اتخاذ القرار، كما هو الحال مثلاً في قرارات الصرف من الخدمة (المادة 137 من قانون العاملين رقم 50/2004)، إذ لا يجوز اتخاذ قرار الصرف من الخدمة قبل القيام بالإجراء المحدد في المادة 137 سالفة الذكر، والمتمثل في أخذ رأي لجنة خاصة حددتها المادة ذاتها. أما إذا لم يلزم القانون الإدارة بإجراء أو شكل محدد فإن الإدارة تتمتع بالسلطة التقديرية في اتباع ما تشاء من إجراءات وأشكال قبل اتخاذ القرار، وفي الحقيقة فإن العنصر البيروقراطي يظهر لدى الإدارة في هذه الحالة، أي في الحالة التي تكون لها سلطة تقديرية تجاه الإجراءات والأشكال المحيطة بالقرار، إذ إن القرار الرشيد يفترض الحد الأدنى والضروري من الإجراءات والأشكال، وهذا يعني أن الإدارة تسيء استعمال السلطة التقديرية إجرائياً إذا لم يفرض القانون أي إجراءات أو أشكال لاتخاذ القرار، وأحاطت قرارها بترسانة من الإجراءات والأشكال غير متناسبة مع الآثار الناجمة عن هذا القرار ولا مع أهميته.

ولا بد من ملاحظة أن هناك موضعاً مهماً للسلطة التقديرية في القرارات الإدارية، وهو المتعلق بالتناسب بين سبب القرار الإداري ومحله، وذلك إذا كان هذان العنصران تقديريين، ومن ثم فإن الإدارة تقيس تناسب الوقائع اللازمة لاتخاذ القرار بالآثار الناجمة عنه، ويجب أن يكون هذا القياس دقيقاً، وإلا تكون الإدارة قد تعسفت في استعمال سلطتها التقديرية، وكما هو الحال في المجال المسلكي، حيث يجب قياس العقوبة (بحسبانها المحل) بالمخالفة المرتكبة (بحسبانها السبب)، بحيث يكون هناك تناسب بين السبب والمحل. وإذا كانت السلطة التقديرية للإدارة بمفهومها الكلاسيكي تتشكل من خلال فكرة استقلال الإدارة في ممارسة السلطات الممنوحة لها، وذلك ضمن القيود المرسومة من جانب قاعدة القانون، فإن هناك مفهوماً آخر للسلطة التقديرية، هو السلطة التقديرية غير العادية anormal، وهي التي تتولد من خلال مركز الإدارة في معرض ممارستها للاختصاص المقيد، فحتى لو كان القانون قد أملى على الإدارة القرار واجب الاتخاذ، فإنه لا يمكن القول بانعدام السلطة التقديرية في هذه الحالة؛ لأنها توجد على نحو صارخ في نطاق اللحظة التي يجب فيها اتخاذ القرار، فما دامت الإدارة تملك سلطة تحديد اللحظة التي يجب ممارسة الاختصاص المقيد خلالها، فإن حقوق الإفراد الذين يمكن أن تمس هذه القرارات مركزهم القانوني، تظل بلا فعالية inefficace، إذا لم تتدخل الإدارة وتصدر ذلك القرار. ومما ينتج منه في النهاية حق في التصرف Droit à l’acte وفقاً لمقتضى القانون لمصلحة الأفراد، ولكن هذا الحق موقوف على تقدير الإدارة من ناحية اختيار اللحظة التي تتدخل فيها وتصدر القرار الذي يقيد القانون اختصاصها في إصداره، وبذلك فإن الإدارة تظل متمتعة بالسلطة التقديرية ضمن فرضيات الاختصاص المقيد. وهذه المشكلة هي التي دفعت المشرع الفرنسي إلى التدخل وإصدار قانون 8/2/1995، الذي وسع من صلاحيات القاضي الإداري إلى حد توجيه أوامر إلى الإدارة لإجبارها على اتخاذ موقف معين في حال كانت سلطتها مقيدة، ومن ثم فإنه إذا لم تقم الإدارة بإصدار القرار المنطوي على جوانب مقيدة بحسبان أنها تتمتع بسلطة تقديرية في إطار اختيار لحظة اتخاذ القرار، فإن القاضي الإداري يستطيع أن يأمر الإدارة باتخاذ القرار، ولا يوجد نظير لهذه السلطة عند ممارسة القاضي الإداري السوري لصلاحياته.

خامساً ـ الرقابة القضائية على نواحي السلطة التقديرية في القرارات الإدارية:

من المسلم به أن الرقابة التقليدية للقضاء الإداري على القرارات الإدارية تنصب على نواحي المشروعية فيها، أي على النواحي التي تكون سلطة الإدارة مقيدة فيها، ومن ثم إذا كان هناك أي عيب في مشروعية القرار يجب على القاضي إلغاؤه، وكانت القاعدة التقليدية المسيطرة حتى أوائل القرن العشرين أنه حيثما توجد سلطة تقديرية للإدارة فإن سلطة القاضي الإداري تنحسر في الإلغاء والتعويض، إلا أن هذه القاعدة لم تستمر، إذ تطورت رقابة القضاء الإداري على قرارات الإدارة حتى تغلغلت في صلب السلطة التقديرية للإدارة، وقد بدأ بذلك القضاء الإداري في كل من فرنسا ومصر، وتبعهما في ذلك مجلس الدولة السوري في سلسلة مهمة جداً من الاجتهادات، وقد تجلت نواحي الرقابة على السلطة التقديرية للإدارة فيما يلي:

1ـ الرقابة على الوجود المادي للوقائع التي يستند عليها القرار: وتقوم هذه الرقابة على أساس رقابة الوقائع التي تستند عليها الإدارة عند إصدارها لقرارها، ومن ثم فإنه إذا لم يحدد المشرع الوقائع التي يجب أن تستند عليها الإدارة عند إصدارها للقرار، فإن الإدارة تملك سلطة تقديرية في ذلك، إلا أن ذلك لا يعني أن تكون هذه الوقائع التي ينصب عليها التقدير غير موجودة أصلاً أو غير صحيحة؛ لأن عدم وجود هذه الوقائع من شأنه أن ينفي ممارسة التقدير من قبل الإدارة أصلاً، وقد مارس مجلس الدولة الفرنسي هذه الرقابة أول مرة سنة 1907 في قضية Monod (المجموعة لسنة 1907 ص616)، وفي هذا الحكم سجل المجلس المذكور تحولاً مهماً في نهجه الرقابي، وذلك ببسط رقابته على الوقائع التي تتبناها الإدارة، بمحض إرادتها واختيارها، وبمطلق حريتها في التقدير أساساً لقراراتها، واستقر في هذا الصدد على وجوب إلغاء القرار الإداري ـ بصرف النظر عن موضوعه ـ إذا ثبت أن الإدارة قد استندت في تبريره إلى وقائع غير صحيحة من الناحية المادية، يستوي في ذلك أن تكون الإدارة حسنة النية، أي اعتقدت خطأ قيام الوقائع التي تدعيها، أو كانت على العكس، سيئة النية، أي كانت عالمة بانعدام هذه الوقائع، ومع ذلك قامت باتخاذ القرار، ومن الملاحظ أن مجلس الدولة المصري قد اتبع خطا نظيره الفرنسي في سلسلة طويلة من الاجتهادات منذ نشأته سنة 1946 (على سبيل المثال حكم محكمة القضاء الإداري المصرية الصادر في 7/1/1948،ق 38، س1، مجموعة السنة الثانية، ص222).

أما الأساس الذي استند عليه مجلس الدولة الفرنسي في ممارسته لهذه الرقابة فقد تجسد في فكرة السبب القانوني، معتبراً أن الوقائع المدعاة من قبل الإدارة والتي يستند إليها القرار هي بمنزلة سبب قانوني له، فإذا لم تكن هذه الوقائع موجودة أصلاً أو موجودة ولكنها غير صحيحة، كان القرار مستنداً إلى سبب غير صحيح، ومن ثم يغدو واجب الإلغاء.

2ـ الرقابة على صحة التكييف القانوني للوقائع التي يستند عليها القرار:

ويعني هذا النوع من الرقابة أنه إذا وجدت الوقائع التي قام عليها القرار والتي كانت سبباً له، فإن الإدارة يجب أن تكيف هذه الوقائع تكييفاً قانونياً صحيحاً حتى تصلح سبباً للقرار، وتؤدي إلى الأثر القانوني الذي توخاه القرار، أما إذا لم تكيف الإدارة الوقائع التي يستند عليها القرار تكييفاً صحيحاً، فإن هذه الوقائع تكون غير صالحة لتبرير القرار، ويكون إلغاؤه واجباً، والمثال المتواتر على ذلك إنما يتمثل في حالة القرارات التأديبية بحق الموظفين العموميين، فإذا صدر قرار تأديبي بحق أحد الموظفين بسبب وجود وقائع مسلكية منسوبة إليه؛ فإن الإدارة هي التي تقدر أن هذه الوقائع تشكل فعلاً مخالفة مسلكية؛ وذلك لأن المشرع لم يبين الأفعال التي تشكل جرائم مسلكية على سبيل الحصر، ولكن إذا كيفت الإدارة واقعة معينة على أنها مخالفة مسلكية؛ فإن للقاضي الإداري ـ بناء على هذا الاتجاه في الرقابة على السلطة التقديرية ـ أن يعقب على الإدارة فيما إذا كان تكييفها صحيحاً للوقائع التي استند عليها القرار، أي إن الوقائع تكون في هذه الحالة موجودة، ولكن تكييفها القانوني غير صحيح، ومن ثم فإن هذه الرقابة تستهدف التأكد من حسن تطبيق القانون على الوقائع التي تشكل سبباً للقرار، حين تكون سلطة الإدارة تقديرية لأسباب القرار.

وقد كان أول حكم يقرر فيه مجلس الدولة الفرنسي هذا الاتجاه للرقابة على مناحي السلطة التقديرية في القرار هو حكم Gomel (الصادر في 4/4/1914، المجموعة ص488، والمنشور في سيري، القسم الثالث، ص 25، مع تعليق الأستاذ موريس هوريو). مع ملاحظة أن القضاء الإداري المصري قد اتبع خطا نظيره في فرنسا وأخذ بهذا النهج في فترة مبكرة من تاريخ إنشائه (مثلاً: حكم محكمة القضاء الإداري المصرية الصادر بتاريخ 13/2/1952، ق642، س4، ص455).

3ـ رقابة تناسب الوقائع التي تدعيها الإدارة لقرارتها مع محال هذه القرارات:

وتعني هذه الرقابة أن يتطرق القاضي إلى أهمية وخطورة السبب، وتقدير مدى التناسب بينه وبين الإجراء المتخذ على أساسه، أي محل هذا القرار الإداري ومضمونه، ومن ثم فإنه يجب على الإدارة عند اتخاذها لقراراتها أن تراعي التناسب بين الوقائع المبررة لاتخاذ القرار الإداري وبين محل هذا القرار، تأسيساً على أن مبدأ التناسب في هذه الحالات من المباديء القانونية العامة التي يتوجب على الإدارة الالتزام بها في تصرفاتها من دون حاجة إلى وجود نصوص صريحة تتضمنها، وبذلك يمتد عمل القاضي الإداري إلى الرقابة على مدى تحقيق هذا التناسب، ويقود، من حيث النتيجة، إلى إلغاء القرار في حال عدم تحققه.

وتجدر الإشارة إلى أن مجلس الدولة المصري كان له فضل السبق في ابتكار هذا النسق من الرقابة، وأطلق عليها رقابة (الغلو في استعمال السلطة)، إذ أصدرت المحكمة الإدارية العليا المصرية حكمها الشهير بتاريخ 11/11/1961 (قضية 563 السنة 7ق المجموعة للسنة 7 ص27)، والذي قررت فيه بوضوح: (إن المفارقة الصارخة أو عدم الملاءمة الظاهرة بين درجة الذنب الإداري وبين نوع الجزاء ومقداره وعدم تناسبهما يؤدي إلى عدم مشروعية القرار الصادر بالجزاء التأديبي، مما يوجب إلغاءه)، ولم يقم مجلس الدولة الفرنسي بتبني هذا النمط من الرقابة على السلطة التقديرية إلا في 9/6/1978 وذلك تحت ما أطلق عليه اصطلاحاً رقابـة الغلـط البيـن في التقدير L’erreur manifeste d’appréciation (حكمه الصادر في 9/6/1978، في قضية Lebon المنشور في A.J.D.A، ص573). ومن الواضح أن كلمة بيِّن manifeste التي ينعت بها التقدير في هذه الحالة إنما توحي بأن هذا الخطأ قد وصل إلى درجة من الوضوح تكفي لإقناع القاضي بوجوده أو تكفي لإزالة أي شك لديه حوله، ودرجة الوضوح هذه تتجسد كما يذهب جانب من الفقه الفرنسي في كون الخطأ بديهياً أو جسيماً أو صارخاً أو خطراً أو جلياً أو فاحشاً، ومن ثم إذا تحقق في خطأ ما أحد هذه الأوصاف أصبح بيِّناً، ومن ثم يكون القرار الإداري المشتمل عليه جديراً بالإلغاء.

4ـ رقابة الموازنة بين المنافع والأضرار Bilan coût-avantages:

ينصب تطبيق هذا النمط من الرقابة على محل القرار الإداري، أي على موضوع أو مضمون هذا القرار، وبمعنى أكثر دقة ينصب على الأثر القانوني الذي تتجه الإدارة إلى إحداثه، مع ملاحظة أن هذا النمط من الرقابة القضائية لا يكون إلا إذا كانت الإدارة تتمتع في هذا الخصوص بسلطة تقديرية، وفي هذه الحالة يقوم القاضي الإداري بالموازنة بين المزايا والأضرار المترتبة على القرارات الإدارية، بحيث تتعين المضاهاة الصريحة بينهما، فإذا انتهت الموازنة إلى ترجيح المزايا، أعلن القاضي مشروعية القرار، أما إذا كانت الأضرار هي المرجحة، تعين عليه الحكم بإلغاء هذا القرار لعدم مشروعيته. وبذلك يتطلب مبدأ الموازنة بين المنافع والمضار أن يضع القاضي الإداري الآثار الناجمة عن القرار الإداري في ميزان العدالة، مزاياه في كفة وأضراره في كفة أخرى، وذلك قبل أن يقرر أيهما أولى بالرعاية.

ومن الملاحظ أن الميدان الذي ولد فيه مبدأ الموازنة إنما يتمثل في نزع الملكية للمنفعة العامة، إذ لم يكن للقاضي الإداري أن يفحص الظروف المحيطة بنزع الملكية في كل حالة على حدة، وإنما يتأكد من هدف هذه العملية فقط، وهو بالطبع تحقيق المنفعة العامة، مثل بناء مشفى حكومي أو مدرسة، إلا أن تطوراً لاحقاً حدث في قضاء مجلس الدولة الفرنسي سنة 1971، بحيث أصبحت المنفعة العامة تقدر مع أخذ الظروف المحيطة به بالحسبان، إذ أصبح القاضي الإداري يقدر مدى تحقق هذه المنفعة العامة في ضوء الأضرار التي تلحق بالملكية الخاصة، علاوة على التكلفة المالية للمشروع، إضافة إلى المضار ذات الطابع الاجتماعي المحتمل وقوعها (حكم مجلس الدولة الفرنسي الصادر بتاريخ 28/5/1971، في قضية Ville Nouvelle Est والمنشور في A.J.D.A سنة 1971 ص 404 وص463، ومنشور في مجموعة الأحكام الكبرى للقضاء الإداري الفرنسي، الطبعة الثانية عشرة، داللوز، باريس، 1999، ص 638).

سادساً ـ الرقابة على نواحي السلطة التقديرية في اجتهاد القضاء الإداري السوري:

على الرغم من أن القضاء الإداري السوري قد أكد في مناسبات عدة أنه ليس للقضاء أن يحل محل الإدارة فيما هو متروك لتقديرها (مثلاً: قرار المحكمة الإدارية العليا السورية رقم 459 في الطعن رقم 486 لسنة 1990، مجموعة المبادئ لسنة 1990، ص393، وقرارها رقم 68 في الطعن 450 لسنة 1991، مجموعة المباديء لسنة 1991، ص315، وقرارها رقم 412 في الطعن رقم 1414 لسنة 1994، مجموعة المبادئ لسنة 1994، ص 449). إلا أن المحكمة الإدارية العليا قررت على نحو ثابت أنه لا بد أن يكون لكل قرار سبب، فقد قضت في مجال قرارات الحرمان من دخول مناقصات الدولة مثلاً أن الإدارة تتمتع بسلطة تقديرية في حرمان المتعهد من حق الدخول في المناقصة بسبب إخلاله بعقد سابق بشرط أن يكون قرارها مبنياً على سبب صحيح ومستخلصاً استخلاصاً سائغاً من أصول تنتجه (قرارها رقم 59 في الطعن 79 لسنة 1968، المجموعة لسنة 1968، ص103)، وهو ما قضت به أيضاً في نطاق القرارات التأديبية (قرارها رقم 14 لعام 1962 المجموعة لسنة 1960ـ 1964، ص 284)، وهذا يعني أن المحكمة الإدارية العليا تبسط رقابتها على الوجود المادي للوقائع التي تدعيها الإدارة سبباً لقراراتها، كما مارست المحكمة ذاتها الرقابة على التكييف القانوني للوقائع، ذلك لوضع الحدود بين مجالات السلطة التقديرية والسلطة المقيدة، وتحقق ذلك خصوصاً في مجال إنهاء خدمة العاملين في الدولة، إذ ركزت المحكمة الإدارية العليا على حدود السلطة المقيدة، وتطرقت إلى تكييف الوقائع التي تستند عليها الإدارة عند إصدار مثل هذه القرارات، من أجل نفي السلطة التقديرية عن الإدارة في نطاق تحديد أسباب انتهاء خدمة العامل في الدولة (قرارها رقم 797 لعام 1991، مجموعة المبادئ لسنة 1991، ص226، وقرارها رقم 544 في الطعن 1107 لسنة 1992، مجموعة المبادئ لسنة 1992، ص283، وقرارها رقم 562 في الطعن 2193 لسنة 1991، مجموعة المبادئ لسنة 1991، ص 228). كما أخذت المحكمة الإدارية العليا برقابة الغلط البيِّن في التقدير إذ قررت في مجال استبعاد المتعهدين من المناقصات: (تستقل الإدارات العامة بتقديرها لمن تريد التعاون معه من المتعهدين في خدمة هذه المرافق… ثم أنه لا معقب عليها في تقديرها إلا من زاوية نظر الملاءمة بين التدبير الذي تتخذه والفعل الذي صدر عن المتعهد… للكشف عما إذا كانت النسبة قائمة فعلاً بين الأمرين)، (قرارها رقم 143 في الطعن 103 لسنة 1977، المجموعة لسنة 1977، ص253). وقد طبقت ذلك أيضاً في مجال التأديب إذ قضت المحكمة نفسها: (إن فرض العقوبة قد توفر فيه عنصر العلاقة مع الفعل المسند لصاحب العلاقة. قرارها رقم 43/137 لعام 1973، مجموعة المبادئ لسنة 1973، ص 309).

وقد بلغت الرقابة على السلطة التقديرية ذروتها لدى القضاء الإداري السوري في إطار قضاء الاستملاك، حتى وصلت إلى درجة حلول القضاء محل الإدارة في اتخاذ القرار الاستملاكي، وقد تجلى ذلك حين تخطئ الإدارة في بيان الأساس القانوني للاستملاك فيقوم القاضي في هذه الحالة بإعلان انعدام القرار الاستملاكي الذي لم يقم على السند القانوني الصحيح، ومن ثم يحل الأساس القانوني الصحيح محله، وهذه العملية تمثل إعادة إصدار للقرار الاستملاكي؛ لأن القرار الذي أصدرته الإدارة أساساً أصبح معدوماً (حكم المحكمة الإدارية العليا، رقم 542 ـ1 في الطعن رقم 326 لسنة 2000، مجموعة الأستاذ المهايني، الجزء الأول، مكتبة النوري، دمشق، 2004، ص 118).

 

مراجع للاستزادة:

 

ـ محمد مرغني خيري، نظرية التعسف في استعمال الحقوق الإدارية، رسالة دكتوراه (جامعة عين شمس، 1972).

ـ رمضان محمد بطيخ، الاتجاهات المتطورة في قضاء مجلس الدولة الفرنسي للحد من سلطة الإدارة التقديرية وموقف مجلس الدولة المصري منها (دار النهضة العربية، القاهرة 1996).

ـ سامي جمال الدين، قضاء الملاءمة والسلطة التقديرية للإدارة (دار النهضة العربية، القاهرة 1992).

ـ محمد فؤاد عبد الباسط، القضاء الإداري (دار الجامعة الجديدة، الإسكندرية 2005).

ـ نبيلة عبد الحليم كامل، دور القاضي الإداري في الرقابة على شرط المنفعة العامة في حالة نزع الملكية للمنفعة العامة (دار النهضة العربية، القاهرة 1993).

ـ محمد سلامة جبر، نظرية الغلط البين في قضاء الإلغاء، رسالة دكتوراه (جامعة عين شمس، بلا تاريخ).

ـ فؤاد عبد الباسط، القرار الإداري (دار الفكر الجامعي، الإسكندرية 2000).

ـ مهند نوح، «القاضي الإداري، والأمر القضائي»، مجلة جامعة دمشق للعلوم القانونية والاقتصادية، 2004.

- P. Py, Le Rôle de la volonté dans les actes administratifs unilatéraux, (L.G.D.J, Paris, 1976).

- P. Py, Pouvoir discrétionnaire, compétence liée, pouvoir d injonction, D 2000, Chr. PS 67.

- R. CHAPUS, Droit administratif général, (Delta, Paris, 1995).


- التصنيف : القانون العام - النوع : القانون العام - المجلد : المجلد الرابع: الرضاع ــ الضمان المصرفي - رقم الصفحة ضمن المجلد : 183 مشاركة :

بحث ضمن الموسوعة

من نحن ؟

الموسوعة إحدى المنارات التي يستهدي بها الطامحون إلى تثقيف العقل، والراغبون في الخروج من ظلمات الجهل الموسوعة وسيلة لا غنى عنها لاستقصاء المعارف وتحصيلها، ولاستجلاء غوامض المصطلحات ودقائق العلوم وحقائق المسميات وموسوعتنا العربية تضع بين يديك المادة العلمية الوافية معزَّزة بالخرائط والجداول والبيانات والمعادلات والأشكال والرسوم والصور الملونة التي تم تنضيدها وإخراجها وطبعها بأحدث الوسائل والأجهزة. تصدرها: هيئة عامة ذات طابع علمي وثقافي، ترتبط بوزير الثقافة تأسست عام 1981 ومركزها دمشق