حركه دفاع اجتماعي
social defense movement - mouvement de défense sociale

 حركة الدفاع الاجتماعي

حركة الدفاع الاجتماعي

مصطفى بيطار

 نظرية جراماتيكا الإيطالي (حركة الدفاع الاجتماعي القديمة)

نظرية مارك أنسل الفرنسي (نظرية الدفاع الاجتماعي الحديث)

   

استعمل تعبير الدفاع الاجتماعي Défense sociale منذ القدم. وكان يقصد به حماية المجتمع من العناصر الضارة به، ومن ثم كان يوجه ضد المجرم فيضحى به في سبيل المصلحة العامة من دون أي محاولة لمساعدته في العودة إلى المجتمع. كما أن التشريعات السابقة على الثورة الفرنسية كانت تبرر قسوة العقوبة بهدف حماية المجتمع. كما استند بعض أنصار المدرسة التقليدية في تبرير العقوبة إلى حق المجتمع في الدفاع ضد الجريمة. كذلك فإن التدابير التي نادت بها المدرسة الوضعية كانت وسيلة لإزالة خطورة الجاني الإجرامية ووقاية المجتمع من الإجرام. أما حديثاً فقد استعمل بعض الفقهاء تعبير الدفاع الاجتماعي في معنى أكثر اتساعاً وشمولاً مما كان يُراد به قديماً. ففي حين كان يراد بالدفاع الاجتماعي قديماً حماية المجتمع من الإجرام أصبح في مفهومه الحديث ينطوي على معان أكثر إنسانية، ويرمي إلى حماية المجرم والمجتمع من ظاهرة الإجرام.

ويعد العالم الإيطالي فيليبو جراماتيكا Filippo Gramatica، أستاذ القانون الجزائي في جامعة جنوة بإيطاليا، أول من وضع أفكاراً محددة حول الدفاع الاجتماعي، وتبعه العالم الفرنسي مارك أنسل Marc Ancel وهو أحد كبار القضاة في فرنسا، والذي يعود إليه الفضل في تصحيح مسار هذه الحركة، وسيعرض البحث لآراء كل من هذين العالمين.

أولاً- نظرية جراماتيكا الإيطالي (حركة الدفاع الاجتماعي القديمة):

انطلق جراماتيكا من فكرة تحقيق الدفاع الاجتماعي عن طريق التزام الدولة بتأهيل المنحرفين، وأساس هذا الالتزام أن الشخص المنحرف يكون ضحية ظروف اجتماعية معينة دفعت به إلى طريق الانحراف. وقد رسم جراماتيكا السبيل الذي يتحقق به الدفاع الاجتماعي، وذلك من خلال إعطائه مفهوماً شاملاً للدفاع الاجتماعي ومستقلاً عن المفاهيم السابقة. فقرر إلغاء القانون الجزائي، والتمرد على سائر أفكاره المعروفة في الجريمة والمجرم والمسؤولية الجزائية والجزاء الجنائي والحكم الجزائي وغيرها، ليحل محلها بدائل يستخلصها من فكرة الدفاع الاجتماعي، وهي على الترتيب نفسه: قانون الدفاع الاجتماعي، السلوك المنحرف، الشخص المنحرف، المسؤولية الاجتماعية، تدابير الأمن الاجتماعي، حكم الدفاع الاجتماعي. وأهم المبادئ التي أقام عليها جراماتيكا نظريته هي الآتية:

1- يرى جراماتيكا أن السلوك المنحرف إنما هو نتيجة لعوامل الاضطراب وعدم الاستقرار في المجتمع، لذلك فإن المسؤولية عن هذا السلوك تقع على عاتق الدولة. ويترتب على مسؤوليتها عن هذا السلوك التزام بتأهيل الشخص المنحرف حتى يعود شخصاً اجتماعياً.

2- السلوك المنحرف عند جراماتيكا لا يقف عند الحدود الحالية للقانون الجزائي، بل يتعداها إلى مجابهة كل سلوك «لا اجتماعي». فما يعتبره القانون جريمة ليس في نظر الدفاع الاجتماعي إلا صورة من صور السلوك المنحرف، والسلوك المنحرف هو كل فعل يشكل خطراً على المجتمع، سواء جرمه القانون أم لم يجرمه.

3- رفض فكرة المسؤولية بمعناها التقليدي المرتبط بالواقعة المسندة إلى الفاعل، وبما نجم عنه من ضرر. وتستمد مسؤولية الشخص وجودها من التقدير الشخصي والنفسي للفاعل. فالجريمة ليس لها أهمية في ذاتها، وإنما باعتبارها عنصراً من عناصر تقدير شخصية الجاني.

4- لا مكان للعقوبة بصفتها صورة تقليدية للجزاء، في تشريع الدفاع الاجتماعي، وإنما ينبغي أن يحل محلها تدابير الدفاع الاجتماعي. وتختلف هذه التدابير عن العقوبة من نواحٍ عدة منها:

أ- هذه التدابير ينبغي أن تتناسب مع شخصية الفرد الجانح، لا مع مسؤوليته عن الضرر الذي أحدثته الجريمة.

ب- هذه التدابير أكثر شمولية من العقوبة، لأنها تنسحب على الأشخاص المسؤولين جزائياً انسحابها على الأشخاص الذين يخضعون في التشريع الحالي للتدابير الاحترازية بصفتهم غير مسؤولين جزائياً.

ج- التدابير الاجتماعية غير محددة المدة، إذ إنها مرتبطة بمدى صلاح الجانح ومن ثم فإنها تنتهي بتحقق هذا الإصلاح أو بزوال الحاجة إليها.

د- يجوز إيقاع هذه التدابير سواء بعد ارتكاب الفعل الذي يدل على الشخصية المنحرفة أو قبل ارتكابه، لمجرد اتصاف شخص ما بعدم التكيف الاجتماعي.

هـ- للتدابير غرض واحد تسعى إليه هو تأهيل المجرم وإصلاحه، لا تحقيق العدالة أو الردع العام. فمعاملة المجرم تقتضي مساعدة المجرم في أن لا يعود إلى ارتكاب الجريمة. ومع ذلك فإن حركة الدفاع الاجتماعي لا تفرض على القاضي اتباع طريقة معينة للمعاملة التي ينبغي تطبيقها لتأهيل الجانح، بل إن للقاضي أن يختار التدبير الذي يراه ملائماً لكل محكوم عليه، بالنظر إلى شخصيته، سواء أكان لهذا التدبير طابع العقوبة كما هي في مفهومها التقليدي أم كان تدبيراً احترازياً.

5- وكضمانة قانونية تحيط بتدابير الدفاع الاجتماعي، طالب جراماتيكا بأن تكون هذه التدابير قضائية، سواء في مرحلة الحكم أم في مرحلة تنفيذ التدبير، وذلك حتى لا يساء استخدام هذا التدبير، فيؤدي إلى المساس بحرية الأفراد.

تقدير نظرية جراماتيكا: يعود الفضل لهذا العالم في الاهتمام بشخصية المنحرف، توصلاً إلى معرفة العوامل البيولوجية والنفسية والاجتماعية التي دفعته إلى الانحراف، وذلك حتى يتسنى للقاضي أن يفرد له التدبير الاجتماعي الملائم. وترتيباً على ذلك فقد طالب جراماتيكا بأن يوضع بين يدي القضاء ملف، يتضمن الجانب الاجتماعي والشخصي للمنحرف، حتى يكون على بينة بما أحاط به من ظروف، وذلك من أجل تقرير التدبير الاجتماعي الأكثر ملاءمة لشخصه. وكذلك يحمد لهذه الحركة حرصها على أن يتولى القضاء النظر في دعوى التدبير الاجتماعي، بل يتولى الإشراف على تنفيذه، بعد صدور الحكم به. ومع ذلك أخذ على أفكار هذه الحركة العديد من العيوب، منها إهدارها لمبدأ الشرعية، ذلك أن جراماتيكا طالب بإلغاء قانون العقوبات، وما يتفرع عنه من مبادئ وأحكام، ومن شأن ذلك هدم مبدأ الشرعية، الذي يعتبر من أهم ضمانات الحرية الفردية. وكذلك يؤخذ على هذه الحركة إغفال تحقيق العدالة والردع العام في التدابير الاجتماعية، وقصر هدفها على التأهيل.

ثانياً- نظرية مارك أنسل الفرنسي (نظرية الدفاع الاجتماعي الحديث):

يعد مارك أنسل زعيم الجانب المعقول من حركة الدفاع الاجتماعي، إذا ما قورنت آراؤه بالمبادئ التي نادى بها جراماتيكا والتي تعدّ متطرفة في نظر كثير من المفكرين. وقد سميت الحركة التي قادها أنسل «بالدفاع الاجتماعي الحديث» La Défense Sociale Nouvelle تمييزاً لها من آراء جراماتيكا في الدفاع الاجتماعي.

وتقوم أفكار الدفاع الاجتماعي الحديث على أساس أفكار إنسانية للسياسة الجنائية، في محاولة لتجديد النظم العقابية بهدف تنظيم الكفاح ضد الجريمة بطريقة علمية وعقلية، أي بالاستفادة من تقدم العلوم الإنسانية. فالدفاع الاجتماعي الحديث ربط بين القانون الجزائي بمفهومه التقليدي بوصفه نظاماً مبنياً على قواعد معينة وبين علم الإجرام الذي يتضمن في ذاته اجتماع عدة علوم إنسانية، كالطب وعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم العقاب..الخ.

ومع أن مارك أنسل استفاد كثيراً من أفكار المدارس السابقة له، إلا أنه لم يتبعها وعارضها في كثير من المواضيع، ويتجلى ذلك في الآتي:

1- يلتقي مارك أنسل مع جراماتيكا في تحديد الهدف من الدفاع الاجتماعي، وهو حماية المجتمع من ظاهرة الإجرام، من خلال مكافحة الظروف التي تؤدي إلى ارتكاب الجرائم. وكذلك حماية المجرم من ظاهرة الإجرام، من خلال إصلاحه وتأهيله حتى لا يعود إلى ارتكاب الجريمة.

بيد أن مارك انسل حاول تجاوز الانتقادات التي تعرض لها جراماتيكا وغيره ممن سبقوه، فقد اعترف مارك أنسل بوجود قانون العقوبات والقضاء الجزائي ولم يوافق على إلغائهما.

2- وقد أخذ مارك أنسل من المبادئ التقليدية مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات وحرية الاختيار أساساً للمساءلة الجزائية، واعتبار الخطأ ركناً في الجريمة واعترافه بالمسؤولية الجزائية، بيد أنه لا يتفق مع المدرسة التقليدية الجديدة فيما تقره من افتراضات قانونية عامة، كمبدأ استعارة الشريك إجرامه من الفاعل، ونظرية الجريمة المستحيلة وتقسيمها إلى استحالة مطلقة واستحالة نسبية، وعدم الاعتداد بالباعث على ارتكاب الجريمة، والأخذ بقاعدة لا جهل بالقانون.

3- رفض مارك أنسل مبدأ الحتمية الذي أخذت به المدرسة الوضعية، سواء بنيت الحتمية على أسس بيولوجية، كما ذهب لمبروزو، أم على أسباب اجتماعية، كما يرى فيري.

4- دعا مارك أنسل إلى ضرورة دراسة شخصية الجاني من جميع جوانبها، البيولوجية والاجتماعية، ووضع هذه الدراسة بين يدي القاضي قبل المحاكمة، حتى يتمكن من اختيار التدابير المناسبة لشخصية الجاني، من أجل تأهيله وإصلاحه، مع الحرص الكامل على حماية كرامته وإنسانيته. لذا فهو يتطلب دوماً إيجاد ملف الشخصية الذي يحوي البحوث العلمية عن شخص المتهم عن طريق مجموعة من الفنيين، من أطباء وعلماء نفس وعلماء اجتماع وعلماء إجرام.. الخ.

5- رفض مارك أنسل فكرة ازدواج الجزاء: العقوبة والتدبير، التي طالب بها الاتحاد الدولي لقانون العقوبات، ودعا إلى توحيد العقوبات والتدابير الاحترازية في نظام واحد، أطلق عليه اسم التدابير الاجتماعية، يطبق القاضي ما يراه منها ملائماً لشخصية الجاني بما يحقق إصلاحه وتأهيله.

6- لتدابير الدفاع الاجتماعي غرض وحيد يتمثل في تأهيل المحكوم عليه وإصلاحه، أي الردع الخاص. ويعني ذلك أن هذه الحركة قد أغفلت أن يكون من أغراض التدابير تحقيق العدالة والردع العام.

تقدير أفكار مارك أنسل: تتصف حركة الدفاع الاجتماعي عند مارك أنسل بطابعها الإنساني والاجتماعي، ذلك أن هدف التدبير الذي يتخذ في مواجهة المجرم هو إصلاح المجرم وإعادته سوياً إلى المجتمع، من خلال إصلاحه وتأهيله وحماية المجتمع من الإجرام. كذلك فإن من مزايا هذه الحركة حرصها على تأكيد احترام الكرامة الإنسانية للمحكوم عليه، وحماية الحريات الفردية عن طريق إقرار مبدأ الشرعية.

ومع ذلك يؤخذ على هذه الحركة خلطها بين نظامي العقوبة والتدابير الاحترازية، على الرغم من الفوارق الكبيرة بينهما. كما يؤخذ عليها قصر أغراض التدابير على الردع الخاص، وإغفالها لغرضين مهمين هما تحقيق العدالة والردع العام على الرغم مما لهذين الغرضين من أهمية.

وقد كان للدفاع الاجتماعي صدى في كثير من التشريعات، ولاسيما في بداية القرن الحالي، فوجه الاهتمام نحو المجرمين ذوي الحالات الخطرة، وتقررت حيالهم إجراءات أمن كجزاء مستقل عن العقوبة. كما حظيت حركة الدفاع الاجتماعي بتأييد من هيئة الأمم المتحدة التي قررت أن تسير مع حركة منع الجريمة وإصلاح المجرمين، فباشرت اللجنة الاجتماعية التابعة للمجلس الاجتماعي والاقتصادي نشاطاً منذ عام 1964 تحت اسم برنامج الدفاع الاجتماعي، وسمي الجهاز الخاص به قسم الدفاع الاجتماعي. وهو يعمل على تطوير سياسة جنائية دولية ذات أهداف اجتماعية وبرنامج عملي، وتنظيم النشاط الضروري لتحقيق هذه السياسة على المستوى الدولي، وتقديم المساعدة الفنية الضرورية لكي يمكن أن تكون هذه السياسة ذات فعالية، ونشر المعلومات عن الدفاع الاجتماعي وتحديد وتحريك التنظيم الفني والإداري المناسب لتحقيق هذه الأهداف.

وفي نطاق الدول العربية، أنشئت «المنظمة الدولية العربية للدفاع الاجتماعي ضد الجريمة» بموجب اتفاقية أقرها مجلس جامعة الدول العربية في 10/4/1960. والغرض من إنشاء هذه المنظمة هو العمل على دراسة أسباب الجريمة ومكافحتها، وتأهيل المجرمين وتأمين التعاون المتبادل بين الشرطة الجنائية في الدول العربية وأجهزة مكافحة المخدرات. وتتولى أجهزتها اتخاذ كل ما يلزم لتحقيق مستوى متطور من الدفاع الاجتماعي في الدول الأعضاء. وللمنظمة جمعية عمومية، تتألف من مندوبي الدول الأعضاء فيها، ولها مكاتب ثلاثة دائمة هي المكتب الدائم لمكافحة الجريمة ومقره بغداد، والمكتب الدائم للشرطة الجنائية العربية ومقره في دمشق والمكتب الدائم لشؤون المخدرات ومقره عمان.

مراجع للاستزادة:

- عبود السراج، الوجيز في علم الإجرام وعلم العقاب (مطبعة جامعة دمشق 1989).

- محمد الفاضل، المبادئ العامة في التشريع الجزائي (مديرية الكتب والمطبوعات الجامعية 1984- 1985).

- عوض محمد ومحمد زكي أبو عامر، مبادئ علم الإجرام والعقاب (الدار الجامعية 1989).

- محمود نجيب حسني، دروس في علم الإجرام وعلم العقاب (دار النهضة العربية، القاهرة 1982).

- حسن صادق المرصفاوي، «الدفاع الاجتماعي ضد الجريمة ووضعه في المجتمع العربي» (عالم الفكر، المجلد الرابع، العدد الثالث 1973).

- مصطفى محمد بيطار، مبادئ علم الإجرام والعقاب (مديرية الكتب والمطبوعات الجامعية 2008).

 


- التصنيف : القانون الجزائي - النوع : القانون الجزائي - المجلد : المجلد الثالث: الجرف القاري ــ الرسم والنماذج الصناعية - رقم الصفحة ضمن المجلد : 126 مشاركة :

بحث ضمن الموسوعة

من نحن ؟

الموسوعة إحدى المنارات التي يستهدي بها الطامحون إلى تثقيف العقل، والراغبون في الخروج من ظلمات الجهل الموسوعة وسيلة لا غنى عنها لاستقصاء المعارف وتحصيلها، ولاستجلاء غوامض المصطلحات ودقائق العلوم وحقائق المسميات وموسوعتنا العربية تضع بين يديك المادة العلمية الوافية معزَّزة بالخرائط والجداول والبيانات والمعادلات والأشكال والرسوم والصور الملونة التي تم تنضيدها وإخراجها وطبعها بأحدث الوسائل والأجهزة. تصدرها: هيئة عامة ذات طابع علمي وثقافي، ترتبط بوزير الثقافة تأسست عام 1981 ومركزها دمشق