حكومه
government - gouvernement

 الحكومة

الحكومة

نجم الأحمد

 الحكومات غير الديمقراطية

الديمقراطية

   

كان الاستيلاء على السلطة أثراً شائعاً في النظم السياسية القديمة، إلاّ أنه - ومع نشوء نظريات السيادة الشعبية - انتشرت فكرة «حق الشعوب في اختيار حكامها».

والحكومات في معرض ممارستها للسلطة قد تركّزها بيد شخص واحد، وقد يعهد بممارستها إلى هيئة تتكون من عدد محدود من الأفراد، أو إلى مجلس يضم عدداً كبيراً من الأشخاص.

وقد اشتق مصطلح «الحكومة» من كلمة «حكم»، وهي تعني أسلوب ممارسة السلطة من قبل المؤسسات التي تنهض بها، وهو معنىً يثير اختلافاتٍ عدة حول دلالات المعنى، وإن كان المفهوم في جوهره إنما يستند إلى معانٍ ثلاثة، وهي:

- المعنى الشائع، ويقصد به «الوزارة»، وهو أكثر المعاني شيوعاً، ولاسيما بين العامة، ومن قبل وسائل الإعلام، فيقال مثلاً: اتخذت الحكومة قراراً مؤداه... ويقصد بذلك الوزارة. ويكون المعنىً أكثر قرباً في الدول التي تتشكّل حكوماتها عن طريق المجالس النيابية.

- وقد يشمل مصطلح الحكومة مجمل السلطة التنفيذية (رئيس الدولة مجلس الوزراء - كبار الموظفين - رجال الحكم المحلي، وكل من له علاقة باتخاذ القرار أو تنفيذه)، وهذا ما يسود في الدول التي تنهج منهج الحكم الرئاسي، أو شبه الرئاسي، كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية، وفرنسا.

- ومن الممكن أن يشمل المصطلح جميع الهيئات الحاكمة في الدولة، أي سلطات الدولة التشريعية، والتنفيذية، والقضائية. وفي هذه الحالة تعد الحكومة أداةً لا تنهض الدولة من دونها، وهي تتولّى ممارسة السلطة بجميع صورها.

وسوف تُدرس الوسائل غير الديمقراطية في إسناد السلطة، سواءً بالاستيلاء أم الوراثة أم العهد أم الوسائل المختلطة، ثم تُدرس الحكومات الديمقراطية.

أولاً- الحكومات غير الديمقراطية:

خلع الحكام على أنفسهم - ولفترة زمنية طويلة - صفات القدسية، لا بل إن بعضهم أضفى على ذاته طبيعة إلهية، وراح يطلب من رعاياه تقديسه، وتعظيمه. فكان «الاستيلاء» على السلطة طريقة شائعة في الوصول إليها، وكانت الوراثة أسلوباً عادياً في تولي مقاليد الحكم.

وكان طبيعياً أيضاً أن يعهد السلف إلى الخلف بتولي السلطة، أو أن يكون هناك أكثر من أسلوب من الأساليب المتقدمة في الوقت ذاته.

1- الحكومة الفردية:

وهي التي تنحصر فيها السلطة بيد شخص واحد، سواءً كان هذا الشخص ملكاً، أم أميراً، أم إمبراطوراً، أم قيصراً، أم ديكتاتوراً. وسواءً أوحى هذا الشخص إلى الشعب أن سلطته مستمدة من السماء، أم لم يوحِ لهم ذلك.

وفيما يلي أهم صور الحكومة الفردية:

أ- الملكية المطلقة Monarchie absolue l’autocratie: هنا يكون الملك وحده مصدر السيادة، يدير البلاد كما يشاء من دون الرجوع إلى الشعب.

أما السلطة فإنه يتولاها بالوراثة أباً عن جد. هذه الصورة من صور الحكم الفردي هي أقدم الصور التي عرفتها البشرية، وقد نجمت عن النظرية «التيوقراطية» التي قامت على أساس عدم جواز محاسبة من اختاره الله للحكم على نحو مباشر، أو غير مباشر.

لكن هذه الصورة من صور الحكومات الفردية قد أخذت بالاندثار إثر تقدم الحضارة الإنسانية. وكانت إنكلترا أول دولة تخلصت منها، عندما قضى الشعب البريطاني على حكم «آل ستيوارت» سنة 1688، ليقيموا بدلاً عن هذا الحكم نظام الحكومة الملكية المقيدة.

ويذهب جانب من الفقه إلى التمييز بين «الملكية المطلقة» La monarchie absolue و«الملكية الاستبدادية» la tyrannie ou le despotisme. فالملك المطلق يتقيد بالقانون الذي يضعه. فهو وإن كان حراً في وضع القوانين وتعديلها، وفقاً لما يشاء، ووفقاً لأهوائه الخاصة، إلاّ أنه يتقيد بها، ولا يخرج عليها. أما الملك المستبد فإنه لا يتقيد بأي قيد، ولا يحترم القوانين، ويتصرف في أي موضوع يعرض عليه كما يشاء.

ب - الحكومة الديكتاتورية: يعد الحكم الديكتاتوري من أبرز صور الحكم الفردي، وفيه تتركّز السلطة بيد شخص واحد هو «الديكتاتور»، وغالباً ما يتولى مقاليد الحكم بسبب شخصيته القوية، أو كفاءته الخاصة.

كما أنه غالباً ما تؤازره فئة معينة أو حزب معين في الوصول إلى الحكم.

ويلاحظ أن الحكم الديكتاتوري ليس حديث العهد، فقد سجل التاريخ هذا النظام في مختلف العصور. وغالباً ما تظهر هذه الصورة من صور الحكم الفردي بعد أن تمر البلاد باضطرابات داخلية، أو أزمة سياسية، أو اقتصادية، أو هزيمة حربية.

ويمكن الإشارة هنا إلى حالة الفوضى والفساد التي سبقت حكم «نابليون» في فرنسا.

وفي ألمانيا، وبعد أن هزمت في الحرب العالمية الأولى، فتقيدت بموجب معاهدة «فرساي» التي حطمت معنويات الشـعب الألماني واقتصاده، تهيأت الظروف لاستيلاء «هتلر» على الحكم الذي وحّد ألمانيا، وتخلص من معاهدة فرساي.

وفيما يلي أهم نقاط الاختلاف بين الملكية المطلقة والديكتاتورية:

- من حيث مصدر السلطة: فالملك يتولى الحكم عن طريق الوراثة، في حين يتولاه الديكتاتور بفضل كفاءته، وقوة شخصيته.

- من حيث أساس السلطة: فأساس الحكم الملكي المطلق هو النظريات الدينية، كنظرية التفويض الإلهي. أما الديكتاتور فإنه يعتمد على حزبه، وأنصاره، وكفاحه.

- من حيث الهدف: فالملوك يهدفون إلى تحقيق مآربهم الشخصية. أما الديكتاتور فإنه يستخدم سلطته للنهوض بشأن الأمة، ورفع مستواها.

2- حكومة الأقلية:

تتركّز السلطة في هذه الحكومة بيد أقلية من أفراد الشعب، فالسيادة هنا لا تتركّز بيد فرد واحد، ولكن يعترف بها في الوقت نفسه لمجموع أفراد الشعب. تتولى حكومة الأقلية تسيير الأمور على النحو الذي يحقق أهدافها، أما أهداف الشعب فإنها تجيء في المرحلة التالية.

وفيما يلي أهم الصور التي تتخذها «حكومة الأقلية»:

أ- الحكومة الأرستقراطية Aristocratie: تتولى السلطة هنا إحدى طبقات المجتمع المتميزة، بسبب الأصل، أو العرق، أو المركز الاجتماعي. ولعل إنكلترا هي أبرز الدول التي شهدت هذه الصورة من صور الحكومات. فمنذ عام 1689 تم القضاء على الملكية المطلقة، وإقامة الملكية المقيّدة. فالبرلمان الذي أخذ يشارك الملك في الحكم كان «برلماناً أرستقراطياً» لا تدخله إلاّ طائفة محدودة من ذوي الأصول المتميزة. كما أن التمتع بحق الانتخاب كان مقصوراً على الفئات المتميزة في المجتمع. ويقترب من هذا النظام جميع صور الحكم التي تأخذ بحق «الانتخاب المقيّد» لجهة توافر درجة علمية، أو ثقافية معينة، أو بالانتماء إلى طبقة اجتماعية متميزة.

ب- الحكومة الأوليغارشية L’oligarchie: في هذه الحكومة تتولى الطبقة الغنية مقاليد الحكم. فقد كانت الثروة على مر التاريخ أهم مصدر لجلب الاحترام، كما أنها كانت مسوّغاً كافياً ليشارك أصحابها في حكم الشعوب. ذلك أن تركّز الثروات الضخمة في أيدي قلة من المواطنين يؤدي حتماً إلى وجود نفوذ كبير لهؤلاء الأشخاص في شؤون الحكم، مما يؤدي إلى الإخلال بمبدأ المساواة بين المواطنين، وإلى الإضرار بالمصلحة العامة.

ج- الحكومة التيوقراطية La thécratie: تتولى الحكم في هذه الحكومة أقلية من رجال الدين. هذه الصورة من صور الحكم نادرة الوجود في النظم السياسية المعاصرة، إلاّ أنها كانت مألوفة في النظم القديمة. فقد كان لرجال الدين والسحرة نفوذ كبير في مصر الفرعونية. وقد كانت هناك مشاركة إيجابية للكنيسة الكاثوليكية في معظم الدول الأوربية خلال القرون الوسطى، حيث لعبت الكنيسة دوراً مهماً في تقويض النظام الماركسي في بولندا، وفي دول أوربا الشرقية. وفي الوقت الراهن لا يمكن إنكار نفوذ رجال الدين في إيران وبعض الدول العربية.

د- الحكومة العسكرية: انتشرت هذه الصورة من صور الحكم في العصر الحديث، وخصوصاً في دول العالم الثالث، وبموجبها يتولى سدة الحكم رجال القوات المسلحة.

3- الحكومات الفاشية Fascisme:

أطلق اصطلاح «الفاشية» على النظام الذي قام في إيطاليا بعد الحرب العالمية الأولى حتى سنة 1943. وقد أخذت بعض الدول بتقليد النظام الإيطالي ممثلاً بحزب «موسوليني»، فقد اتبع الحزب الوطني الاشتراكي في ألمانيا المبادئ ذاتها من سنة 1933 حتى سنة 1945، كما ساد هذا النظام في إسبانيا والبرتغال.

يقصد بالفاشية مجموعة النظم السياسية الديكتاتورية المعادية للمبادئ الديمقراطية. هذا ويقوم النظام الفاشي على أساس الحزب الواحد، أما السلطة فإنها تكون مركّزة إلى درجة بعيدة، وفي هذا النظام تتقدم مصلحة المجموع على مصلحة الفرد.

وفيما يلي أهم خصائص المذهب الفاشي، وأهم السمات التي تتسم بها النظم السياسية الفاشية:

أ- خصائص المذهب الفاشي:

- قامت الفاشية في بدايتها على أساس عدم أهمية العقل، فالأهمية هي لإحياء أمجاد الأمة والسمو بها إلى الكمال.

- تؤمن الفاشية بمبدأ عدم المساواة الطبيعية بين الأفراد، فهناك من الأفراد من يملك مواهب توجب وضعه في الصدارة، وتوليه زمام الأمور، وسلطة الحكم في الدولة.

- السيادة ليست للشعب، وإنما للطبقة الممتازة منه، فهي التي تعمل لخير الشعب.

- يعتمد النظام الفاشي على فكرة التفاوت بين الأجناس، فهناك أجناس خلقت لكي تسود، وأجناس أخرى خلقت لكي تساد.

- يقوم النظام الفاشي على أساس وجوب تضحية الفرد من أجل المجموع، والدولة هي التي تمثل المجموع، ومن حقها تبعاً لذلك التدخل في جميع مناحي الحياة. وبناءً عليه فإن الفاشية لا تبحث عن الحرية من زاوية الفرد، أو الطبقة، وإنما تنظر إليها من ناحية الجماعة.

- الإيمان بالقوة، واستخدام العنف، فخير للمرء أن يحيا يوماً واحداً مرفوع الرأس من أن يعيش حياة طويلة فيها ذل وهوان.

- الإيمان بالمجتمع وحدةً، وإنكار الاتجاهات المتعارضة.

ب- سمات النظم السياسية الفاشية:

تتسم النظم السياسية الفاشية بالآتي:

- السلطة المطلقة للزعيم L’absolutisme du chef: فالنظام الفاشي هو صورة من صور أنظمة الحكم الفردية. ففي إيطاليا كانت السـلطة مركّزة بيد «موسوليني»، وفي ألمانيا كانت مركزة بيد «هتلر».

- نظام الحزب الواحد: نقلت الفاشية فكرة الحزب الواحد عن الأنظمة الشيوعية،

إلاّ أن الأحزاب السياسية الفاشية تقوم على أساس الطابع العسكري، إذ يكون لأعضائها ملابس خاصة، وشعارات معينة، كما أن أعضاء الحزب يتوزعون على مجموعات متدرجة، تبدأ صغيرة من القاعدة، ثم تتسع وتتكتل في النهاية في مجموعة واحدة كبيرة هي الحزب.

- الاستفتاء الشعبي: إذ يطلب من الشعب من حين لآخر إبداء رأيه في مسألة معينة.

وكان القصد من هذا هو إيهام الغير بأن الشعب إنما يستشار في المسائل المهمة، وأن الشعب ملتف حول زعيمه، ومتكتل معه، ومؤيد لسياسته.

ثانياً- الديمقراطية La démocratie:

1- نشأة الديمقراطية ومفهومها:

الديمقراطية كلمة يونانية الأصل مكونة من لفظين demos أي الشعب، وkrats أي السلطة، وبالتالي فإن معنى الكلمة هو «حكم الشعب»، أو «سلطة الشعب». وهكذا فإنه يراد بها أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، فتكون السيادة له، وليست محصورة بيد أقلية من البشر. لقد سادت الديمقراطية اليوم في معظم دول العالم المتحضر بوسائل مختلفة، ومنها وسائل غير سلمية، كالثورات مثلاً، ومنها ما هو سلمي، وذلك بالاتفاق مع الحكام.

والديمقراطية التي كتب لها الانتشار على نحو واسع في العصر الحديث ليست فكرة حديثة. فقد ذكرت في مؤلفات فلاسفة الإغريق القدامى، فأفلاطون يذكر أن: «مصدر السيادة هو الإرادة المتحدة للمدنية». كما أن أرسطو قسم الحكومات إلى ثلاثة أقسام: ملكية، وأرستقراطية، وجمهورية. والمقصود بالحكومات الجمهورية تلك التي يتولى السلطةَ فيها أبناء الشعب.

وقد عرفت روما القديمة فكرة الديموقراطية من خلال لجانها ومجالسها الشعبية، وذلك إلى أن جاء القياصرة الذين استأثروا بالسلطة، فكان الحكم فردياً مطلقاً.

وفيما يلي موقف الإسلام من الديمقراطية، وكذلك موقف الثورتين الأمريكية والفرنسية منها.

أ- موقف الإسلام من الديمقراطية: انطلاقاً من القواعد السامية التي أرساها الإسلام كانت الدعوة إلى نظام حكم يقوم على أصول واجبة الاتباع في قواعد مجملة لكي تناسب كل زمان ومكان. هذه القواعد هي في حقيقتها قواعد ديمقراطية على درجة عالية من الرقي. ولعلّ هذه القواعد تتضح بشدة في الكيفية التي يتم من خلالها اختيار رئيس الدولة أو الخليفة، ذلك أن الخليفة إنما يختار بوساطة البيعة، وعند اختياره فإنه يدير أمور البلاد استناداً إلى مبدأ «الشورى» إعمالاً لقوله تعالى: ]وَشَاوِرْهُم فِي الأَمْرِ[ [آل عمران 159].

لقد سادت المبادئ الديمقراطية على نحو صحيح في عهد الخلفاء الراشدين، الذين عملوا على تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية بدقة متناهية، وعلى نحوٍ يحقق ما تصبو إليه نفوس البشر من حرية ومساواة وكرامة. وفي هذا السياق يروى عن الخليفة الأول أبي بكر الصديق y قوله حينما آلت إليه الخلافة: «لقد وليت عليكم ولست بخيركم. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم». وفي الإطار نفسه يروى عن الخليفة العادل عمر بن الخطاب y قوله: «من رأى منكم فيّ اعوجاجاً فليقومـه» قال رجل من العامــة: «والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بحد سيوفنا». فقال عمر: «الحمد لله الذي أوجد من يقوّم اعوجاج عمر بحد السيف».

لكن هذه الصورة لم تدم طويلاً، إذ إنها أهملت بعد العصر الراشدي، ولم تطبَّق بعد هذا العصر على النحو الذي كان معمولاً به في عهد الخلافة الراشدية، إلا في حالات محدودة. وقد عبر عن ذلك محمد كامل ليلة بقوله: «وبذلك قصرت الأجيال المتلاحقة في المحافظة على حقها، وغفلت أو تغافلت عن واجبها نحو نفسـها، ومضت ذاهلة فلم تحاول التوفيق بين الأصول العامة واحتياجات كل عصر وكل شعب، ونجم عن ذلك الإهمال اندثار الأصول الديمقراطية من أذهان الشعوب ووجدانها، بعد أن شوه المغرضون معانيها... بحيث أصبحت مطية ذلولاً لبغي الطغاة، وأداة للقضاء على الحريات».

ب- موقف الثورة الأمريكية من الديمقراطية: لم تأتِ الثورة الأمريكية لسنة 1776 نتيجة لإيديولوجية معينة، وإنما نتيجة لصراع تجاري بين المؤسسات البريطانية والمستعمرتين في العالم الجديد. إلاّ أنه - ومع بداية الصراع - كان من المتعين إيجاد أهـداف إيديولوجية تسهم في توحيد جميع المواطنين ودفعهم للمشاركة في المعركة. وقد وجد رجال الثورة في أفكار مونتسكيو وروسو البرنامج السياسي والإيديولوجي الذي يتطابق مع البنى الاجتماعية للعالم الجديد ومعتقداته، ولاسيما ما يتعلق بالمساواة بين البشر. وهكذا تحول الصراع من أجل الاستقلال إلى صراع بين المجتمع الليبرالي والمجتمع الأرستقراطي القديم. وقد كان لانتصار الثورة وإقامة النظام الجمهوري أثره البالغ لدى الشعوب الأوربية، إذ كانت تنظر إلى هذا النظام على أنه النظام الأمثل لتحرر الشعوب ورقيها.

ج - موقف الثورة الفرنسية من الديمقراطية: كان للفلسفة السياسية التي جاء منها فلاسفة القرنين السابع عشر والثامن عشر أثرها البالغ في تكوين عقلية رجال الثورة الفرنسية، وخصوصاً الأفكار التي قال بها الفيلسوف روسو. لهذا ما إن انفجرت الثورة الفرنسية سنة 1789 حتى نقلت المبدأ الديمقراطي من الفلسفة النظرية إلى الواقع العملي، فأعلنت هذه الفلسفة على العالم من خلال ميثاق حقوق الإنسان، كما جسدته الدساتير الفرنسية المتعاقبة. ومنذ الثورة الفرنسية أصبحت الديمقراطية مبدأ قانونياً، على نحو شكلت معه هذه الثورة انتصاراً كاملاً للإيديولوجية الليبرالية، وقاعدة للنظم الديمقراطية المعاصرة، ليعم النموذج الديمقراطي معظم أنحاء العالم في القرن العشرين.

وهكذا جاء النص في المادة الثالثة من إعلان حقوق الإنسان الفرنسي لسنة 1789 على أن: «الأمة هي مصدر السيادة ومستودعها. وكل هيئة أو شخص يتولى الحكم إنما يستمد سلطته في النهاية منها». كما أن الدستور الفرنسي لسنة 1791 قد أكّد أن السيادة للشعب وهي لا تقبل التجزئة أو التنازل، كما أنها لا تمتلك بالتقادم.

وقد استمدت الدساتير في مختلف دول العالم المبدأ الديمقراطي بمفهومه المتقدم من الدساتير الفرنسية، وإعلانات حقوق الإنسان المرافقة لها، فأصبح المبدأ قاعدة قانونية مقررة في جميع الدساتير الديمقراطية الحديثة.

2- سمات الديمقراطية:

السمة الأساسية للديمقراطية هي أن الشعب هو صاحب السيادة، وقد يمارس هذه السيادة مباشرة فتكون ديمقراطية مباشرة، وقد يمارسها من ممثليه أو نوابه، فنكون بصدد ما يسمى بالديمقراطية النيابية. وقد يمزج الشعب بين كلتا الطريقتين فنكون بصدد ديمقراطية شبه مباشرة. إلاّ أنه يضاف إلى هذه السمة سمات أخرى هي:

أ- الديمقراطية مذهب سياسي: ذلك أنها ترمي إلى تحقيق الحرية والمساواة السياسية، فهي ليست مذهباً اجتماعياً اقتصادياً يرمي إلى إصلاح المجتمع من الناحية المادية دون سواها. وبهذا تختلف الديمقراطية بمعناها التقليدي عن الديمقراطية الاجتماعية التي ظهرت خلال القرن العشرين خلال فترة المد الشيوعي، والتي تهدف إلى تحقيق السعادة المادية للأفراد. كما أنها لا تؤمن بوجود الحريات في المجتمعات الرأسمالية، وترى أنها مجرد حريات صورية بمنزلة امتيازات للأقلية الرأسمالية.

ب - الديمقراطية مذهب روحاني: فهي فكرة معنوية بعيدة عن الماديات، إذ إنها تتعلق بكيفية ممارسة الحكم، كما أنها تهدف إلى مشاركة أكبر عدد ممكن من الأفراد في إدارة الشؤون العامة للدولة، مع وجوب مراعاة مبدأ المساواة بين هؤلاء الأفراد.

ج - قيام الديمقراطية على أساس تحقيق الحرية السياسية: يراد بالحرية السياسية أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، وأن يختار حكامه بنفسه. فقد قامت الديمقراطية على أساس احترام الحقوق والحريات الشخصية وكفالتها. ومما لا شك فيه أن هذا الأمر يعد هدفاً من أهم أهداف الديمقراطية التي قامت لمحاربة استبداد الملوك وطغيانهم، ومنعهم من الاعتداء على حقوق الأفراد وحرياتهم. فالنظام الديمقراطي السليم لا يوجد ما لم يكن الشعب حراً على أن تفهم الحرية فهماً صحيحاً، فلا تكون حرية مطلقة من دون ضوابط أو قيود تعمل على تنظيمها من أجل  تحقيق المصلحة العامة.

د - الديمقراطية مذهب فردي: فهي تعمل على مساهمة الأفراد في الحكم، وممارستهم للسيادة بوصفهم أفراداً مواطنين في المجتمع، من دون النظر إلى أي افتراض آخر.

3- أسانيد الديمقراطية:

أ- مبدأ سيادة الأمة: يرجع هذا المبدأ إلى نظرية العقد الاجتماعي التي مؤداها أن العقد الذي أبرمته الجماعة هو الذي أنشأ السيادة، وجعلها للأمة بوصفها شخصاً معنوياً له إرادة تتكون من مجموع إرادات الأفراد. وقد بيّن جان جاك روسو خصائص هذه السيادة مقرراً أنها وحدة لا تقبل التجزئة، كما أنه لا يجوز التنازل عنها، إذ يجب أن تظل دائماً بيد الأمة، كما أنه لا يمكن اكتساب السيادة بالتقادم.

لكن نظرية العقد الاجتماعي كانت قد جوبهت بنقد شديد، ولعل أبرز نقد وجه إليها هو قيامها على أساس وهمي. لذلك تعين البحث عن أسانيد أخرى للديمقراطية.

ب- أولوية الفرد: لعل نقطة الانطلاق بالنسبة للديمقراطية الليبرالية هي أن الفرد غاية. فالمجتمعات تتكون من أفراد، وغاية وجودها إسعاد الفرد وتحقيق أمانيه. فكل فرد يمتلك هوية مستقلة عن هوية الآخرين، لذا تعين الاعتراف بها وحمايتها.

كما أن إعطاء الحرية للفرد للدفاع عن مصالحه ليس من شأنه التعارض مع مصلحة الجماعة. فمن واجب الدولة تأمين الشروط التي تمكن الفرد من تحقيق طموحاته، لذا فإن دور الدولة يجب أن يقتصر على الحدود الدنيا المتمثلة في الأمن -بمفهوميه الداخلي والخارجي- وإقامة العدالة بين المواطنين.

لكن هذا الأساس لم يسلم أيضاً من النقد، لأنه يركز على الفرد ويهمل الجماعة، وقد تعرض لهزة قوية إثر انتقال الدولة من دولة حارسة إلى دولة متدخلة في مختلف ميادين الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

ج- السند المنطقي: مؤدى هذا السند أن السيادة وجدت لتحقيق المصلحة العامة للجماعة، ويترتب على ذلك من الناحية المنطقية أن كل ما أنشئ لمصلحة الجميع يجب أن يشترك في تنظيمه الجميع بوساطة الإرادة العامة للأمة، وهذا يتطلب ضرورة اشتراك جميع أفراد الأمة في الحكم. ذلك أن إشراك الجماعة في الحكم إنما يعد من أفضل الوسائل العملية التي تساهم في تحقيق رغبات الشعب وتطلعاته.

4- تقييم الديمقراطية:

إن الديمقراطيـة بوصفها وسيلة للحكم هي أكثر الوسائل من ناحية المزايا التي يمكن أن تترتب عليها، وأقلها عيوباً.

وفيما يلي أهم الانتقادات التي وجهت إلى الديمقراطية، والرد على هذه الانتقادات:

أ- الانتقادات الموجهة للديمقراطية:

- الديمقراطية في حقيقتها هي حكم الأقلية، لأنها تحولت إلى ديمقراطية نيابية، إذ تصدر القوانين والقرارات من البرلمان بالأغلبية المطلقة في أغلب الأحيان. لذلك فإن القول بأن الديمقراطية هي أن يحكم الشعب نفسه بوساطة ممثليه ليس إلاّ خداعاً يتغنى به أنصار الديمقراطية.

- لا تهتم الديمقراطية بالكفاءات، إذ إنها تفضل الحكم على حساب المجموع. فهي تستند إلى أساس باطل، وهو أن الأفراد على قدم المساواة في الكفاءة والفهم، وغالباً ما ينيب الشعب عنه أشخاصاً ليست لديهم كفاءة أو دراية بشؤون الحكم، في الوقت الذي يوجد فيه أشخاص آخرون هم أقدر الناس وأكثرهم كفاءة.

- لا تهتم الديمقراطية بفكرة التخصص، فلا يشترط في الوزراء مثلاً التخصص الفني المطلوب، وهذا من شأنه إضعاف رقابة الرؤساء على المرؤوسين.

- تقوم الديمقراطية على أساس توزيع السلطات بين عدة هيئات، وهذا يؤدي بدوره إلى توزيع المسؤولية، ومن ثم عدم إمكانية معرفة المسؤول فعلاً عن إدارة شؤون البلاد.

- تؤدي الديمقراطية إلى تعدد الأحزاب، وهذا من شأنه كثرة المشاحنات بين الأحزاب، وبالتالي تعطيل أعمال الدولة، وإضعاف وحدة الأمة.

- تؤدي الديمقراطية إلى عدم المساواة الفعلية بين الأفراد، لأنهم يختلفون من حيث الكفاءة والمقدرة والمركز الاجتماعي، ولا يصح تبعاً لذلك أن يتساووا في الحقوق السياسية ولاسيما حق الانتخاب.

- يترتب على الديمقراطية استبداد المجالس النيابية، وبذلك يحل استبداد البرلمانات محل استبداد الملوك.

- تبدو الديمقراطية عاجزة في فترات الأزمات التي تكون فيها الأمة بحاجة إلى حاكم حازم قادر على إنقاذها بالسرعة المطلوبة.

ب- الرد على الانتقادات الموجهة للديمقراطية:

- يرد على القول إن الديمقراطية هي حكم الأقلية بأن الذي يهم في الديمقراطيات الحديثة هو الرأي العام ورقابته للحكام. ومن المعروف أن الديمقراطية إنما تقوم على كفالة حقوق الأفراد وحرياتهم على نحو يساعد على قيام رأي عام قوي يعد بمنزلة المظهر الحقيقي لاشتراك جميع أفراد الشعب في الحكم، وعلى نحو تستوي فيه الأغلبية والأقلية.

- أما ما قيل عن الديمقراطية بأنها تفضل الحكم على حساب النوع فيرد عليه بأن هذا الوضع لا يمس النظام في ذاته، وإنما سببه تأخر الشعوب. هذا التأخر من الممكن التغلب عليه بوساطة نشر العلم. فمساهمة الأفراد في الحكم إنما هي بمنزلة وسيلة يتعلمون فيها حقائق السياسة وشؤون الحكم السليم، وعن طريقها يصل بهم التطور إلى مدارج الكمال.

- أما فيما يتعلق بعدم التخصص فمن الممكن التغلب عليه من خلال تكوين اللجان البرلمانية المتخصصة، وإنشاء مجالس حرفية، وهيئات فنية استشارية لبحث مختلف الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. كما لا يقلل من مسألة عدم تخصص الوزراء، لأن مهمتهم ذات طبيعة سياسية إشرافية.

- إن توزيع السلطة أفضل من تركيزها بيد شخص مستبد ليس بالإمكان مساءلته إزاء تصرفاته الخاطئة. ومما لاشك فيه أن نمو الروح الديمقراطية كفيل بزيادة الشعور بالمسؤولية لدى الحكام، وتقوية ضمائرهم.

- أما القول إن الديمقراطية تؤدي إلى تعدد الأحزاب وانقسامها فإنه قول لا يصح إلاّ في الدول المتخلفة، حيث تتعدد الأحزاب وتتناحر، ومع نمو الدول وتقدمها فإن الشعور بالمسؤولية يزداد تأصلاً وتقل مخاطر التعددية الحزبية.

- أما القول إن من مساوئ الديمقراطية تقرير المساواة السياسية والأخذ بمبدأ الاقتراع العام فإنه قول غير سليم، فمبدأ الاقتراع العام يتيح للشعب فرصة تعرف شؤون بلاده، والوقوف على أحوالها وتطوراتها، إنه مدرسة تؤدي إلى رفع مستوى الشعب وتحقيق نضجه السياسي.

- وفيما يتعلق باستبداد البرلمانات باسم السيادة الشعبية فإن هذا الوضع يمكن التغلب عليه بإحكام التوازن بين مختلف السلطات، كي لا تطغى إحداها على الأخرى. كما أن البرلمانات تنتخب فترة زمنية محددة. لذا فإن البرلمان يخشى موقف هيئة الناخبين في الانتخابات المقبلة فيما لو تعسف في ممارسته لاختصاصاته، أو أهمل في أدائه لواجباته.

- ولا يمكن الاستناد إلى القول إن الديمقراطية غير صالحة في أوقات الأزمات، لأن الديمقراطية نظام مرن من شأنه التكيف مع مختلف الظروف.

ج- مسوّغات الديمقراطية:

- إن الديمقراطية خير وسيلة للحكم، لأن عدم الأخذ بها يعني إما الأخذ بنظام الحكم الفردي، وإما بحكومة الأقلية، وكلاهما غير مرغوب به من قبل الشعوب.

- إن الديمقراطية هي أقرب النظم إلى تحقيق العدالة بين الأفراد، ولأن البرلمان منتخب من قبل أغلبية الشعب، فإنه من البديهي أن يعمل البرلمان لتحقيق مصلحة الشعب أو غالبية أفراده.

- يؤدي النظام الديمقراطي إلى شعور الشعب بأن الحكومة التي تتولى زمام السلطة إنما هي حكومته التي اختارها بملء حريته وإرادته، وأن القوانين التي يخضع لها إنما ساهم في وضعها، وذلك من خلال اختيار البرلمان الذي قام بسنها.

- يجب أن تستند الحكومات إلى رضا الشعب لكي تتمكن من الثبات والاستقرار.

- تؤدي الديمقراطية إلى تحقيق السلم داخلياً وخارجياً. ففي الداخل تحول الديمقراطية دون نشوء الثورات والانقلابات. وفي الخارج تعادي الديمقراطية فكرة الحرب، وتدعو دائماً إلى السلام العالمي.

يتضح مما سبق أن الديمقراطية هي أفضل وسائل الحكم لدى الشعوب المتحضرة، وأن مزاياها تفوق بكثير العيوب التي قال بها خصومها.

5- أنواع الحكومات الديمقراطية Gouvernements Démocratiques:

تقوم الديمقراطية - كما أسلف - على فكرة مؤداها أن السيادة للشعب. وقد أدت هذه الرؤية إلى طرح صور متعددة يمكن من خلالها أن تتجسد الديمقراطية، ولعل أبرز هذه الصور هي الديمقراطية المباشرة، والتمثيلية، والديمقراطية شبه المباشرة.

وسيتم الحديث تباعاً عن كل صورة من هذه الصور.

أ- الحكومة في الديمقراطية المباشرة La démocratie directe: ويقصد بها أن يحكم الشعب نفسه بنفسه مباشرة من دون أي وساطة بما في ذلك وساطة البرلمان. ومما لا شك فيه أن الديمقراطية المباشرة تشكل النظام الأمثل الذي من شأنه تلبية طموحات الشعوب وتطلعاتها، إذ يصبح المحكومون هم الحكام أنفسهم. فهذا النظام هو أكثر أنظمة الحكم ديمقراطية، وهو نتيجة طبيعية لمبدأ سيادة الأمة، فإذا كان الشعب هو مصدر السيادة وصاحبها فإن عليه أن يمارسها بنفسـه، أو على الأقـل يتعين أن يمارس الجزء المهم منها وهو «سلطة التشريع». وهكذا فإن الشعب بأكمله هو الذي يسن القوانين، كما أنه هو الذي يتخذ القرارات الحكومية (كتعيين الموظفين، تحديد الضرائب، إبرام المعاهدات …)، وفضلاً عن كل ذلك فإن الشعب هو الذي يمارس بنفسه مهمة القضاء.

لقد دافع جان جاك روسو عن الديمقراطية المباشرة في كتابه «العقد الاجتماعي» منتقداً الديمقراطية النيابية في إنكلترا. وقد رأى روسو في الديمقراطية المباشرة الصورة الحقيقية لمبدأ السيادة الشعبية، فحيث إن السيادة لا تقبل التجزئة ولا التنازل فإن الإرادة العامة للشعب لا تقبل الإنابة أو التمثيل. ويرى كذلك أن أعضاء البرلمانات ليسوا إلاّ وكلاء ينفذون إرادة الشعب، فالمرء لا يمكن أن يريد إلاّ بنفسه ولنفسه فقط، ولا يمكن أن ينيب عنه غيره في الإرادة.

وتطبيقات النظام الديمقراطي المباشر ليست بالحديثة، إذ طبق هذا في المدن الإغريقية القديمة، وإن كان هذا التطبيق صورياً. أما اليوم فلا وجود للديمقراطية المباشرة إلاّ في بعض المقاطعات السويسرية محدودة المساحة.

إن تطبيق الديمقراطية المباشرة يطرح العديد من المشكلات المادية التي تجعل منه أمراً مستحيلاً إلاّ داخل مجتمعات صغيرة جداً وليس على مستوى الدولة. ذلك أن تطبيقها يفترض اجتماع المواطنين في مكان واحد، وأن يكون هؤلاء المواطنون مطلعين بدقة على جميع المسائل المعروضة، وأن تكون القضايا المطروحة محددة … لذا فإن تطبيق الديمقراطية المباشرة في دول العالم المعاصر يبدو أمراً مستحيلاً.

ب - الحكومة في الديمقراطية شبه المباشرة La démocratie semi-directe:

(1) مفهوم الديمقراطية شبه المباشرة:

تقوم الديمقراطية المباشرة على أساس الجمع بين خصائص الديمقراطية المباشرة والديمقراطية التمثيلية. فإذا كان من المستحيل جمع الشعب في مكان واحد لممارسة الديمقراطية المباشرة فإنه من الممكن إعطاؤه بعض الوسائل التي تمكنه من التدخل المباشر في بعض القضايا المهمة، أما القضايا الأخرى فإنها تظل من صلاحيات المؤسسات الأخرى للدولة، ولاسيما البرلمان والحكومة اللذين يخضعان في الوقت نفسه لرقابة شبه دائمة من خلال وسائل التدخل الشعبي. وفي هذه الحالة يفقد النواب حريتهم المطلقة، لأن صلاحية اتخاذ القرار تغدو موزعة بين البرلمان والحكومة من جهة، والشعب من جهة ثانية.

فالديمقراطية شبه المباشرة تقوم على وجود برلمان منتخب يتولى سن القوانين، ولكن للشعب الحق في الاعتراض على القوانين التي يسنها البرلمان، كما أن له الحق في اقتراح القوانين، وللشعب أيضاً الحق في مراقبة النواب والبرلمان، وله الحق تبعاً لذلك في إقالة النواب قبل انتهاء مدة نيابتهم، لا بل إن من حقه الاقتراع على حل البرلمان كله قبل انتهاء الدور التشريعي. هذا وتنص بعض الدساتير التي تتبنى الديمقراطية شبه المباشرة على حق الشعب في عزل رئيس الدولة المنتخب. وهكذا يبدو الشعب سلطة رابعة إلى جوار السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية.

ومن الناحية التاريخية يمكن القول إن الديمقراطية شبه المباشرة لم تجد لها تطبيقاً في المجتمعات القديمة. فقد طبقت حديثاً ومن قبل دول قليلة كسويسرا وبعض دول الولايات المتحدة الأمريكية. لكنها في طريقها إلى الانتشار، وقد غدت المشاركة الشعبية المباشرة مبدأ دستورياً في العديد من الدول كفرنسا، النمسا، ألمانيا، إيطاليا. حتى إن إنكلترا التي تعد نموذجاً للديمقراطية التمثيلية لجأت إلى الاستفتاء سنة 1975.

(2) وسائل الديمقراطية شبه المباشرة:

هناك وسائل متعددة لممارسة الديمقراطية شبه المباشرة:

- الاستفتاء الشعبي:

وهو يعني استشارة الناخبين في أمر من الأمور، بحيث لا يصبح هذا الأمر نافذاً إلاّ بعد موافقة الشعب. وقد يكون الاستفتاء بشأن مشروع قانون دستوري، وهنا يسمى الاستفتاء استفتاءً دستورياً، وقد يكون بشأن قانون عادي، وهنا يسمى استفتاءً تشريعياً، وقد يكون الاستفتاء بخصوص إقرار خطة معينة، أو اتباع سياسة جديدة، وهذا استفتاء سياسي.

وقد يكون الاستفتاء إلزامياً، كوجوب إخضاع التعديلات الدستورية التي يقرها البرلمان للاستفتاء الشعبي، وهو ما يأخذ به الدستور السويسري، وما أخذ به الدستور الفرنسي لسنة 1946، و دستور الجمهورية الخامسة لسنة 1958. وقد يكون اختيارياً، بحيث تترك المبادرة فيه لبعض أجهزة الدولة، كرئيس الجمهورية، أو الحكومة، أو البرلمان، ومثال ذلك ما نصت عليه المادة (11) من الدستور الفرنسي لسنة 1958 التي أجازت لرئيس الجمهورية - بناءً على طلب الحكومة أو البرلمان - تنظيم استفتاء حول القوانين المتعلقة بتنظيم المصلحة العامة.

- الاعتراض الشعبي:

الاعتراض الشعبي هو وسيلة يراد بها السماح للشعب بالتقدم بعريضة تستوجب عدداً معيناً من التواقيع، ومدة زمنية محددة، وذلك لمعارضة قانون أو قرار متخذ من قبل السلطة التشريعية أو التنفيذية. ولا يترتب على مجرد الاعتراض سقوط القرار أو القانون، وإنما توقف تنفيذه إلى أن يعرض الأمر على الشـعب لاستفتائه فيه، بحيث يتوقف مصير القرار أو القانون على نتيجة الاستفتاء.

ولعل نقطة الاختلاف بين الاستفتاء الشعبي والاعتراض الشعبي هي أن القانون في حالة الاستفتاء لا يصبح كامل التكوين وواجب النفاذ إلاّ بعد عرضه على الشعب وموافقته عليه، أما في حالة الاعتراض فإن القانون يكون كامل التكوين وواجب النفاذ، لكن اعتراض الشعب عليه يوقف تنفيذه إلى أن يطرح الموضوع على الشعب لاستفتائه فيه.

- الإقالة الشعبية:

وهي أسلوب يسمح للناخبين بإقامة استفتاء لعزل نائبهم قبل انتهاء مدة نيابته. وقد طبقت هذه الوسيلة تطبيقاً واسعاً في الديمقراطيات الاشتراكية، كما أنها تنتشر في الولايات المتحدة الأمريكية، ومما تجب الإشارة إليه أن حق الإقالة الشعبية قد لا يقتصر على إقالة النواب، وإنما تشمل كذلك الموظفين والقضاة المنتخبين. ولهذه الوسيلة إجراءات خاصة تبينها الدساتير التي تأخذ بها.

- المبادرة الشعبية أو الاقتراح الشعبي:

وفقاً لهذه الوسيلة يسهم الشعب مساهمة فعلية في العمل التشريعي، إذ يستطيع عدد معين من الناخبين اقتراح قانون دستوري أو تشريعي بوساطة عريضة تعرض على البرلمان، فإن رفض البرلمان التعديل المطلوب فإن الأمر يعرض على الاستفتاء الشعبي، فإن كانت نتيجة الاستفتاء إيجابية فإن التعديل يقر من قبل البرلمان. تطبق هذه الطريقة في كل من سويسرا وإيطاليا.

- الحل الشعبي:

في هذه الحالة يكون من حق الناخبين حل البرلمان وعزل أعضائه بوصفه وحدة مجتمعة، إذ يكون لعدد معين من الناخبين الحق في طلب حل المجلس النيابي، وفي هذه الحالة يعرض الأمر على الشعب لاستفتائه فيه، فإن كانت نتيجة الاستفتاء إيجابية ترتب على ذلك حل المجلس ووجوب إجراء انتخابات جديدة.

(3) تقدير الديمقراطية شبه المباشرة:

هناك بعض المسوّغات التي قيل بها للأخذ بالديمقراطية شبه المباشرة، كما أن هناك انتقادات وجهت إليها:

- مبررات الديمقراطية شبه المباشرة:

Ÿ إن الديمقراطية شبه المباشرة هي أقرب إلى تحقيق المثل الأعلى للديمقراطية.

Ÿ تؤدي الديمقراطية شبه المباشرة إلى محاربة استبداد المجالس النيابية المنتخبة.

Ÿ من شأن الديمقراطية شبه المباشرة إضعاف سيطرة الأحزاب السياسية على الناخبين.

Ÿ تؤدي الديمقراطية شبه المباشرة إلى تحقيق الانسجام بين البرلمان والشعب.

Ÿ وفقاً للديمقراطية شبه المباشرة فإن الشعب يحقق رغباته بطريق سلمي يترتب عليه استقرار الحكومة.

Ÿ تؤدي الديمقراطية شبه المباشرة إلى تحرير النواب من ضغط الناخبين، لأن الكلمة النهائية ستكون للشعب.

- نقد الديمقراطية شبه المباشرة:

لعل أهم الانتقادات التي وجهت إلى الديمقراطية شبه المباشرة تتمثل بما يلي:

¦ لا تستطيع الشعوب مشاركة البرلمانات في الحكم مشاركة جدية وفعالة، وذلك لعدم كفاءتها وقدرتها على القيام بهذه المهمة المعقدة.

¦ كما أن الاستفتاءات الشعبية لا تكون مسبوقة بمناقشات كافية.

¦ يضاف إلى ذلك أن اشتراك الشعب في الحكم سيكون مسألة صورية، إذ من السهل التأثير فيه بوساطة رجال الدين والرأسماليين.

¦ يتطلب هذا النظام نفقات باهظة الثمن من شأنها إرهاق ميزانية الدولة.

¦ ومن شأن الديمقراطية شبه المباشرة إضاعة وقت الناخبين وتعطيل أعمالهم على نحو يؤدي إلى الإضرار بالدولة.

والحقيقة أن الديمقراطية شبه المباشرة إنما تتطلب مستوىً رفيعاً من الثقافة والمدنية كي تؤتي ثمارها، فهي لن تحقق الغرض المنشود منها إلاّ مع الشعوب الراقية التي قطعت شوطاً في ركب الحضارة.

ج- الحكومة في الديمقراطية التمثيلية:

(1) مفهوم الديمقراطية التمثيلية:

وفقاً للنظام الديمقراطي التمثيلي فإن السيادة لا تمارس من قبل الشعب مباشرة، وإنما يعهد بها إلى ممثلين منتخبين، لكنه يظل في الوقت نفسه مالكاً للسيادة ولا يفقد حقه في التمتع بها. وهكذا فإن التمثيل يكون بمنزلة صلة وصل بين المواطن والسلطة. هذه الصورة من صور الديمقراطية هي السـائدة اليوم في معظم دول العالم، وقد ظهرت أول مرة في إنكلترا خلال القرن الثامن عشر. ولعل السبب في انتشار الديمقراطية التمثيلية هو استحالة الأخذ بالديمقراطية المباشرة.

وثمة صورتان أساسيتان للديمقراطية التمثيلية: الصورة المتطرفة، وفيها ينتخب المواطنون بوساطة الاقتراع العام النواب فقط، ليتولى هؤلاء بعد ذلك تعيين الأجهزة التنفيذية المراقبة من قبلهم على نحو مباشر أو غير مباشر. هذا يعني أن السلطة التنفيذية ستكون منبثقة عن السلطة التشريعية، مما يبعدها بذلك عن الأصول الشعبية، ونظراً لأن النواب هم وحدهم من يستطيع الادعاء بالصفة التمثيلية، فإن هذا يعني أنهم سيكتسبون نفوذاً لا تستفيد منه بالدرجة نفسها الأجهزة التنفيذية، مما يعني أن سلطة البرلمان ستكون هي الأقوى. أما الصورة الثانية، فإنه يتم بموجبها انتخاب النواب ورئيس الدولة مباشرة من قبل الشعب بوساطة الاقتراع. في هذه الحالة يحدث نوع من توازن السلطتين التشريعية والتنفيذية، لا بل قد تكون سلطة رئيس الدولة هي الأقوى، لأنه منتخب من الشعب بأكمله، أما النائب فإنه غالباً ما ينتخب من قبل دائرة محددة.

(2) أركان الديمقراطية التمثيلية:

تقوم الديمقراطية التمثيلية على أركان أربعة هي: وجود برلمان منتخب، تمثيل عضو البرلمان للأمة بأسرها، استقلال البرلمان خلال فترة النيابة عن هيئة الناخبين، وتمثيل البرلمان للأمة فترة زمنية محددة.

- وجود برلمان منتخب:

لعل الدعامة الأساسية في النظام النيابي هي وجود برلمان منتخب من قبل الشعب، على أن يتمتع هذا البرلمان بسلطات حقيقية، وأن يشترك فعلياً في إدارة شؤون الدولة، ولاسيما ما تعلق بالوظيفة التشريعية. أما إذا كان دور البرلمان استشارياً فإن وجود النظام النيابي ينعدم تبعاً لذلك.

- تمثيل عضو البرلمان للأمة بأسرها:

يجب ألا يمثل عضو البرلمان دائرته وحدها، وإنما عليه أن يمثل الأمة بأسرها. لقد سادت هذه القاعدة في التنظيم الدستوري الحديث للدول الديمقراطية. وفيما مضى كان النائب يعد وكيلاً عن دائرته، وهكذا كان نواب المقاطعات والمدن في إنكلترا يحصلون على تفويض من ناخبيهم، أو توكيل مكتوب يعملون على أساسه. كما أن النواب كانوا ملزمين في نهاية الدورة البرلمانية بتقديم حساب إلى ناخبيهم. لكن فكرة الوكالة بين النائب والناخبين كانت قد اختفت في إنكلترا منذ القرن الثامن عشر، وأصبح المبدأ السائد أن النائب يمثل الأمة كلها. وهكذا بات من حق النائب أن يبدي آراءه كيفما يشاء، مادامت تهدف إلى تحقيق المصلحة العامة.

لقد سرى مبدأ «تمثيل البرلمان للأمة بأسرها» في دساتير العالم المعاصر. ولضمان استقلال النواب فإن الدساتير تقرر بطلان كل وكالة إلزامية وإن تمت برضا النائب. كما تنص بعض الدـساتير على عدم الاعتراف بما يسمى «الاستقالة على بياض» Démission en blanc، أو الاستقالة من دون تاريخ، إذ إن من شأن هذه الوسائل أن تجعل النائب تحت السيطرة الفعلية للناخبين.

- استقلال البرلمان خلال فترة النيابة عن هيئة الناخبين:

ما إن تنتهي عملية الانتخاب حتى يصبح البرلمان صاحب السيادة القانونية، بحيث لا يستطيع الشعب التدخل في أعماله. فمظهر اشتراك الشعب في الحكم يكون مقصوراً على عملية انتخاب أعضاء البرلمان.

وهكذا تتركز السلطة بيد البرلمان وحده، أو بالمشاركة مع السلطة التنفيذية، وذلك كله وفقاً للنظام الدستوري الذي يسود في كل دولة.

- تمثيل البرلمان للأمة فترة زمنية محددة:

يهدف النظام النيابي إلى حمل النواب على العمل لمصلحة الأمة، لذا تعين أن يكون عملهم فترة زمنية محددة، لأنهم لو ظلوا نواباً عن الشعب مدى الحياة فإن ذلك قد يؤدي إلى استبدادهم، الأمر الذي يوجب تأقيت مدة النيابة فترة زمنية معينة، وهذه المدة قد تختلف من دولة لأخرى، وإن كانت تراوح في أغلب الأحيان بين 4 - 5 سنوات.

والخلاصة أن النظام النيابي قد يفضل على غيره من صور الديمقراطية، وذلك لصعوبة الأخذ بالديمقراطية المباشرة، وإخفاق تطبيق الديمقراطية شبه المباشرة لأسباب كثيرة لعل أهمها عدم كفاءة الشعوب. كما أن النظام النيابي لا يتعارض مع مبدأ سيادة الشعب، لأن البرلمان المنتخب يباشر سلطته تحت رقابة الرأي العام.

مراجع للاستزادة:

- محمد مرغني خيري، النظم السياسية (منشورات جامعة عين شمس، القاهرة 1995).

- فيصل كلثوم، دراسات في القانون الدستوري والنظم السياسية (منشورات جامعة دمشق، دمشق 2006).

- محمد كامل ليلة، النظم السياسية (دار الفكر العربي، القاهرة 1971).

 


- التصنيف : القانون العام - النوع : القانون العام - المجلد : المجلد الثالث: الجرف القاري ــ الرسم والنماذج الصناعية - رقم الصفحة ضمن المجلد : 326 مشاركة :

بحث ضمن الموسوعة

من نحن ؟

الموسوعة إحدى المنارات التي يستهدي بها الطامحون إلى تثقيف العقل، والراغبون في الخروج من ظلمات الجهل الموسوعة وسيلة لا غنى عنها لاستقصاء المعارف وتحصيلها، ولاستجلاء غوامض المصطلحات ودقائق العلوم وحقائق المسميات وموسوعتنا العربية تضع بين يديك المادة العلمية الوافية معزَّزة بالخرائط والجداول والبيانات والمعادلات والأشكال والرسوم والصور الملونة التي تم تنضيدها وإخراجها وطبعها بأحدث الوسائل والأجهزة. تصدرها: هيئة عامة ذات طابع علمي وثقافي، ترتبط بوزير الثقافة تأسست عام 1981 ومركزها دمشق