logo

logo

logo

logo

logo

البابليون

بابليون

Babylonian - Babylonien

البابليون

نائل حنون

الدولة البابلية

 

يطلق العلماء المحدثون اسم البابليين Babylonians على سكان جنوبي بلاد الرافدين خلال الألفين الثاني والأول قبل الميلاد، وذلك في مقابل اسم الآشوريين الخاص بسكان الشمال. وكلا الاسمين مشتق من اسم العاصمة السياسية بابل في الجنوب وآشور في الشمال، أي إن لكل من هذين الاسمين دلالته السياسية منذ أن صارت مدينتا بابل وآشور عاصمتين للكيانين السياسيين اللذين قاما في الجنوب والشمال منذ النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد. ولما كان قيام هذين الكيانين مترافقاً مع تفرع اللغة الأكادية إلى لهجتين رئيستين في جنوبي بلاد الرافدين وشماليها استعمل المختصون التسمية نفسها لهاتين اللهجتين، فسميت لهجة الجنوب «البابلية» ولهجة الشمال «الآشورية». وفيما يخص البابليين وبلاد بابل فإن التسمية لا تتعدى الاستعمال المجازي في دلالتها؛ إذ كان القوم مزيجاً من أكاديين وأموريين، ثم كاشيين وآراميين في أوقات لاحقة وأقوام أخرى استعملت جميعها اللغة الأكادية بلهجتها البابلية في التدوين. ومن الناحية السياسية لم تكن مدينة بابل العاصمة الوحيدة للبلاد طوال الألفين الثاني والأول قبل الميلاد؛ على الرغم من أهميتها الكبيرة ودورها في التاريخ القديم، كما أن النصوص المسمارية القديمة لم تستعمل مصطلح «بلاد بابل» للدلالة على البلاد. ومن المعروف أن الملوك كانوا ينسبون إلى المدن التي يحكمون منها، لذلك كان الملك ينعت بأنه «ملك بابل» مثلما ينعت «ملك أوروك» أو «ملك كيش» أو ملك أي مدينة أخرى. أما المصطلح الذي كانت تلك النصوص تستعمله للدلالة على البلاد فلم يكن سوى المصطلح ذاته الذي ظهر في الألف الثالث قبل الميلاد؛ أي «بلاد سومر وأكاد»، وهو المصطلح الذي لم يكن له مغزى جغرافي أو قومي وإنما سياسي فقط، وكان يستعمل من قبل ملوك بابل وآشور أيضاً.

المملكة البابلية القديمة

في المجال اللغوي لم يطلق سكان بلاد بابل على لهجتهم المصطلح الذي أطلقه العلماء المحدثون عليها؛ أي البابلية، وإنما سموها باسم اللغة الأم التي تفرعت منها وهو «الأكادية»، وبالتالي كانوا يسمون أنفسهم الأكاديين. ومما لاشك فيه أن هذه التسمية هي الأقرب إلى الصواب. ومن المثير للاهتمام أن الملوك الكاشيين- الذين حكموا بلاد بابل في النصف الثاني من الألف الثاني قبل الميلاد- كانوا يصفون أنفسهم بأنهم ملوك «الكاشيين والأكاديين». والسبب وراء تفضيل العلماء المحدثين لاستعمال تسمية البابليين- حتى وإن لم تكن قد استعملت قديماً- هو لتمييز مستعملي اللهجة البابلية من سكان جنوبي بلاد الرافدين من مستعملي اللهجة الآشورية من سكان شمالي البلاد من جهة، ولتمييز كلتا المجموعتين من الأكاديين من مستعملي اللغة الأكادية الأم في الألف الثالث قبل الميلاد قبل تفرعها إلى اللهجتين البابلية والآشورية في مطلع الألف الثاني قبل الميلاد.

تشمل المنطقة التي يسميها المختصون «بلاد بابل» Babylonia القسم الجنوبي من العراق- أي السهل الرسوبي جنوب مدينة تكريت- ووادي نهر الفرات في العراق ووادي نهر ديالى ابتداءً من حوض حمرين حتى مصب النهر في نهر دجلة. يشغل السهل الرسوبي حالياً زهاء ربع مساحة العراق، ويبلغ طوله زهاء 700كم ويراوح عرضه ما بين 45 و140كم. أرض هذا السهل منخفضة ولا يزيد ارتفاعها في منطقة بغداد على 32م فوق مستوى سطح البحر، وهذا ما أدى إلى أن يجري نهرا دجلة والفرات فيه بهيئة متعرجة. ويتصف مجرى النهرين في السهل الرسوبي بظاهرة الفيضانات وبتغير مساره على مر العصور الماضية. معدل هطل الأمطار السنوي في المنطقة يراوح فيما بين 20 و 50ملم، وهو معدل غير كافٍ للزراعة، ولذلك اعتمدت الزراعة في السهل الرسوبي منذ أقدم الأزمان على الري باستعمال مياه نهري دجلة والفرات.

يتميز القسم الجنوبي من السهل الرسوبي بوجود الأهوار، وهي البرك والبحيرات الهائلة التي كانت موجودة خلال عصور الحضارة القديمة. وتزخر هذه الأهوار بالحياة البرية التي تشمل أجمات القصب والبردي الواسعة وأنواعاً كثيرة من الحيوانات والأسماك والطيور، وتغطي الأهوار مساحة تصل إلى 1500كم2. وفيما يخص المواد الأولية مثل المعادن والأخشاب فإنها غير متوفرة في منطقة السهل الرسوبي التي تفتقر أيضاً إلى الأحجار الصالحة للبناء والنحت وكذلك الأحجار الكريمة وشبه الكريمة، وكانت هذه المواد تجلب من الخارج لتستعمل إلى جانب المواد المتوفرة التي أحسن السكان القدماء استغلالها؛ مثلما برعوا في تصنيع المواد الأولية المستوردة.

اتسم تاريخ بلاد بابل طوال عصوره بتغلغل تدريجي ومتقطع لمجموعات عرقية جديدة- تكون غالباً بدوية الأصل- واندماجها في الآخر كليّاً مع البابليين. وفي أحيان متكررة كان المتحدرون من تلك الجماعات يصلون إلى حكم البلاد، وهذا ما حدث فيما يخص الأموريين[ر] والآراميين [ر] وكذلك الكاشيين [ر]. وطوال هذا التاريخ كانت المجموعات الوافدة تتبنى حضارة البلاد ولغتها الأكادية – بلهجتها البابلية- وتنقل إليها عناصر وتأثيرات من مهاراتها وتراثها الثقافي واللغوي، ولكن حتى مع تزايد استعمال اللغة الآرامية- في النصف الثاني من الألف الأول قبل الميلاد- بقيت اللغة الأكادية البابلية لغة رئيسية في البلاد- خصوصاً في الكتابات الرسمية والأدب- إلى أن توقف استعمالها في القرن الأول الميلادي وحلت الآرامية محلها.

كان الأموريون- الذين يسميهم المختصون الكنعانيين الشرقيين- يعيشون مع الأكاديين منذ الألف الثالث قبل الميلاد على أقل تقدير، وقد وصل عدد منهم إلى حكم البلاد. وكان الحكام- سواء من الأكاديين أم الأموريين- يقاومون التدفق الجماعي للقبائل الأمورية ليس على أساس عرقي وإنما على قدر تهديد هذا التدفق لنظام الدولة والحياة المدنية في البلاد. وفي المدن لم تعرف حضارة بلاد الرافدين خلافاً عرقياً بين سكانها من أكاديين وأموريين. وفي عهد سلالة أور الثالثة (2111- 2004ق.م) والعقود التي تلت سقوطها تحدّرت قبائل أمورية إلى بلاد بابل من جهات الفرات الأوسط، وأسس شيوخ قبائل أمورية مشيخات أو إمارات فضلاً عن سلالات حاكمة كان قد أقامها بعضهم تحت حكم سلالة أور الثالثة؛ مثلما فعل إشبي- إيّرا (2017- 1794ق.م) في مدينة إيسن.

يقسم التاريخ السياسي البابلي إلى ثلاثة عصور هي: العصر البابلي القديم (2004- 1595ق.م)، العصر البابلي الوسيط (1595- 626ق.م)، والعصر البابلي الحديث (626- 539ق.م). وقد قامت خلال هذه العصور الثلاثة إحدى عشرة سلالة حاكمة بابلية. ومن الناحية الحضارية يطابق العصر الأول العصر البرونزي الوسيط، ويطابق العصر الثاني العصر البرونزي الحديث والعصر الحديدي الأول والثاني، في حين يدخل العصر الثالث في العصر الحديدي الثالث. أما من الناحية اللغوية فتقترن اللهجة البابلية القديمة بالعصر البابلي القديم، واللهجة البابلية الوسيطة بالعصر البابلي الوسيط حتى نحو 1000ق.م، وتؤرخ اللهجة البابلية الحديثة من 1000ق.م حتى نهاية العصر البابلي الحديث، ثم ظهرت اللهجة البابلية المتأخرة في الاستعمال من نهاية العصر البابلي الحديث إلى أواخر القرن الأول الميلادي.

ما إن انتهى قرن واحد بعد سقوط سلالة أور الثالثة حتى كانت جميع السلالات الحاكمة في بلاد الرافدين - وبضمنها بلاد بابل- أمورية، وكذلك الحال في سورية. أي إن السلالات الحاكمة في المراكز السياسية من ساحل البحر المتوسط إلى جبال زاغروس- حيث الحدود العراقية – الإيرانية الحالية- كانت أمورية. وكان المكون الرئيسي للمجتمع البابلي مزيجاً من الأكاديين والأموريين، وكان لكلٍ منهم دور فعال في إطار حضارة البلاد ذات الجذور العريقة، ويستعملون اللغة الأكادية باللهجة البابلية القديمة في التدوين. وحملت نسبة كبيرة من السكان أسماء أعلام أمورية بحيث أصبح من المتعذر تشخيص الوافدين الجدد، ولم يعد مهماً تعريف حملة هذه الأسماء بصفتهم أموريين وذلك بسبب الانتشار الواسع للأموريين على ما يفترض بعض المختصين. وقد بات مألوفاً أن يحمل أشخاص أكاديون أسماءً أمورية أو العكس. وتفصح المصطلحات العسكرية في النصوص البابلية القديمة عن ازدياد التأثير الأموري في الشؤون العسكرية، فقد ظهر في تلك النصوص المصطلح «أوجولامارتوم» (ugulamartum) بمعنى «الآمر»، ومعناه الحرفي «صاحب الأمر الأموري». ويدعى القائد العسكري المسؤول عن السجلات في البابلية القديمة «دوبسارمارتوم» dubsarmartum، والمعنى الحرفي لهذا المصطلح «الكاتب الأموري».

هناك رسالة بابلية قديمة عثر عليها في تل أسمر في منطقة ديالى شرقي العراق (وهو موقع مدينة أشنونّا[ر] القديمة) تلقي ضوءاً على طبيعة العلاقة فيما بين الأموريين والحكام البابليين خلال العقود القليلة الأولى بعد سقوط سلالة أور الثالثة، فقد كان بيلالاما Bilalama- حاكم مدينة أشنونا في ذلك الوقت- متزوجاً من ابنة شيخ أموري (ولقبه بالبابلية القديمة رَبيان أمورِم Rabian amurrim) يدعى عبدَ- إيل Abda- El، وتزوج أوشاشُم Ushashum ابن عبدَ- إيل من ابنة عم بيلالاما، وحينما مات عبدَ- إيل بعث أوشاشُم الأموري تلك الرسالة إلى بيلالاما، ويرد فيها: «أنا أخوك من لحمك ودمك. قد يكون الغريب عدواً، لكنني أبقى عند أمرك. لذلك ينبغي أن تستمع إلي وتشرفني في عيون الأموريين، أرسل لي بدون تأخير الهدايا (الجنائزية) المتوقعة من أجل عبدَ- إيل... هناك مبعوثون من كل البلاد قادمون إلى هنا لحضور جنازة عبدَ- إيل، وكل الأموريين متجمعون. أرسل كل ما تنوي إرساله لجنازة عبدَ- إيل، أبيك، منفصلاً (عن ما ترسله إليّ)....».

وكان الملوك البابليون المتحدِّرون من أصول أمورية في العصر البابلي القديم على وعي بانتمائهم القبلي الأموري، ففي الوقت الذي يحمل الملك اسم عاصمته في لقبه بحسب ما هو معتاد في حضارة وادي الرافدين؛ يظهر أحياناً اسم القبيلة التي تحدَّر منها في لقبه أيضاً. وهكذا فإن لقب «ملك أمنان Amnan (قبيلة) يرد مع لقب «ملك أوروك». وفي رسالة بعثها أنام Anam -ملك أوروك- إلى سين- مُبَلَّط Sin- muballit- ملك بابل ووالد حمورابي- يذكره بأن تحدرهما معاً من قبيلة «أمنان يخرورُم Amnan Yakhrurum» يمثل قاعدة ملائمة لترسيخ التعاون فيما بينهما. ولكن على الرغم من التوثيق الرسمي الواسع في العصر البابلي القديم وصدور أهم الشرائع القانونية لا يزال بعض الغموض يكتنف جوانب مهمة متعلقة بالمجتمع البابلي وتكوينه وعلاقة عناصره وطبقاته ببعضها. وإذا كانت شريعة حمورابي [ر] قد ميزت في أحكامها بين ثلاث طبقات رئيسية في المجتمع البابلي- وهي: طبقات «أويلُم awilum، مُشكينُم mushkenum، وَردُم wardum» - فإن معنى الطبقتين الأولى والثانية وعلاقتهما ببعضهما لم يزل غامضاً، وليس واضحاً حالياً سوى مفهوم الطبقة الثالثة؛ وهي طبقة العبيد.

ابتدأ العصر البابلي الوسيط بحكم الكاشيين لبلاد بابل، وقد تميز عهدهم بقلة ما حدث في أثنائه من صدامات حربية مهمة سواء في بلاد الرافدين نفسها أم مع الدول الأخرى المعاصرة مثل دولة ميتاني في سورية ومصر القديمة وغيرهما. وفي هذا العصر انتشرت اللهجة البابلية الوسيطة من اللغة الأكادية بخطها المسماري انتشاراً واسعاً لم تشهده العصور السابقة، وقد اتخذت هذه اللهجة وسيلة للاتصال اللغوي والمراسلات الدولية فيما بين ملوك الشرق الأدنى القديم وحكامه، وهذا ما تدل عليه رسائل العمارنة المكتشفة في مصر. ومع اللهجة البابلية الوسيطة والخط المسماري الخاص بها انتشر الأدب البابلي، وترجمت قطع أدبية مشهورة من ذلك العصر إلى اللغتين الحثية والحورية، ومن هذه القطع «ملحمة جلجامش» بنسختها البابلية الوسيطة.

في القرن التاسع قبل الميلاد أخذت النصوص المسمارية تذكر إقليماً باسم «كلد» Kaldu وسكانه الكلدانيين، وقد عاش الكلدانيون في أقصى جنوبي بلاد بابل؛ حيث الأهوار ومناطق النخيل، وكان هذا الإقليم مقسماً إلى مناطق قبلية يطلق اسم «بيت» bitu على كل منها، وهذه هي التسمية المعروفة في سورية مثل «بيت عدينِ»، وفي النصوص المسمارية «بيت أدينِ» Bit Adini، وهذه القبيلة وجدت حينذاك في بلاد بابل وفي شمالي سورية. وإذا كانت النصوص المسمارية تميز- لأسباب غير معروفة- فيما بين الكلدانيين والقبائل الآرامية المستقرة في الحوض الأعلى للفرات وفي حوض نهر دجلة؛ فإنه من الواضح أن الكلدانيين كانوا يتكلمون الآرامية، لأن القبائل الآرامية قد انتشرت في أرجاء بلاد بابل وأصبحت العنصر الرئيسي في التكوين السكاني البابلي خلال الألف الأول قبل الميلاد، وهذا ما حدث في سورية حينذاك. ومن القبائل الآرامية التي عاشت في بلاد بابل «بيت- داكورِ» Bit- Dakuri في وسط البلاد، وإلى الجنوب منها قبيلة «بيت- ياكين» Bit- Yakin الكبيرة والمهمة، وهناك قبائل آرامية صغيرة مثل «بيت- شئالَّ» Bit- Sha’alli و «بيت- شيلانِ» Bit- Shilani. وكان هؤلاء الآراميون قد اندمجوا في مكونات المجتمع البابلي البشرية الأخرى من أكاديين وأموريين وتبنوا مقومات حضارة وادي الرافدين ولغتها الأكادية بلهجتها البابلية الحديثة آنذاك. ومثلما حدث مع الأموريين في العصور السابقة تولى ملوك آراميون الحكم في بلاد بابل خلال العصر البابلي الحديث، وكانت منهم السلالة البابلية الأخيرة التي قامت في مدينة بابل واشتهر من ملوكها نبوخذ نصر [ر] الثاني (604- 562ق.م)، وهي السلالة الكلدانية التي عدّت سلالة بابل الحادية عشرة.

الدولة البابلية:

اتسم التاريخ السياسي البابلي في مساره العام بقيامه على أساس دولة- المدينة التي ترتكز فيها السلطة على دعامتين راسختين متمثلتين بالقصر والمعبد. وكان عدد من دول- المدن -وأحياناً جميعها- تتوحد في كيان سياسي تمثله دولة كبرى تقوم في عصور محددة. ويأتي نشوء مثل هذه الدولة عادة نتيجة لتطور مدينة معينة توسع سلطتها لتشمل مدناً أخرى مكونة بذلك دولة إقليمية تحكم جزءاً من بلاد بابل أو البلاد كلها، وتتوسع في بعض الأحيان إلى ما وراء ذلك. وهذا ما حدث في زمن سلالة بابل الأولى (الأمورية) في العصر البابلي القديم وسلالة بابل الثالثة (الكاشية) في العصر البابلي الوسيط، وأخيراً سلالة بابل الحادية عشرة (الكلدانية) في العصر البابلي الحديث.

قامت سلالة بابل الأولى (1894-1595ق.م) في منتصف العصر البابلي القديم ودامت حتى نهايته، وكانت واحدة من عدة سلالات قامت في دول المدن التي ظهرت في بلاد بابل منذ مطلع الألف الثاني قبل الميلاد. قامت هذه السلالة في مدينة بابل وحكم منها أحد عشر ملكاً أشهرهم الملك السادس حمورابي (1792-1750ق.م). ورث حمورابي مملكة صغيرة تغطي مساحة لا يتجاوز طولها 128كم وعرضها نحو 40كم، واستطاع ضم الدويلات المنافسة إلى مملكته تباعاً مبتدءاً بدولة- مدينة لارسا في الجنوب، واستمر حمورابي بتنفيذ مشروعه لتوحيد البلاد وإقامة الدولة الموسعة عاماً بعد عام. ومن اللافت أن حركة ضم دويلات- المدن الأخرى كانت تتم بشكل دائري بعكس دوران عقارب الساعة؛ إذ إن حمورابي ابتدأ بالجنوب ثم الشرق وبعده الشمال وانتهى بالغرب حين أنهى حكم ماري [ر] في عام حكمه الثاني والثلاثين، ولم تتوسع الدولة البابلية إلى الغرب من ماري وإنما حرص حمورابي على تجنب الصراع مع المملكتين الأموريتين الأخريين القويتين في سورية؛ وهما يمخد وقطنا، وكانت له علاقة جيدة مع حمورابي الأول ملك يمخد. كذلك تشير النصوص القديمة إلى صلات طيبة حينذاك فيما بين الدولة البابلية ومملكة قطنة؛ إذ إن بعض سكان هذه المملكة رافقوا تجاراً بابليين لحراستهم في طريق عودتهم إلى بابل عبر ماري. وكانت نهاية حكم سلالة بابل الأولى- الذي دام ثلاثة قرون- على أثر الهجوم الحثي في 1595/ 1594ق.م.

في عهد سمسو- إيلونا (1749- 1712ق.م)- ابن حمورابي وخليفته على العرش البابلي- قامت في جنوبي بلاد بابل سلالة مستقلة دعيت سلالة القطر البحري، وعدّت سلالة بابل الثانية (1740- 1500ق.م). حكم من هذه السلالة أحد عشر ملكاً، ودخلت في صراع مع سلالة بابل الأولى، وأُنهي استقلالها في مطلع حكم سلالة بابل الثالثة. أما سلالة بابل الرابعة فقد قامت في مدينة إيس، وحكم منها ستة ملوك دام حكمهم زهاء القرن الواحد (1162- 1041ق.م) وكان من بين ملوكها نبوخذ نصر الأول. تلت سلالة بابل الرابعة السلالات الخامسة والسادسة والسابعة ويعود تاريخهن جميعاً إلى ما بين عام 1038 و 991ق.م، وحكم منهن سبعة ملوك. السلالة الثامنة (990- 747ق.م) تألفت من ثمانية ملوك، وأعقبتها سلالة بابل التاسعة التي حكم منها ملك واحد اسمه نبو- ناصر (746- 734ق.م). وبعد فترة من السيطرة الآشورية على بلاد بابل قامت السلالة العاشرة الآرامية (732- 711 ق.م)، وضمت هذه السلالة الملكين أوكين- زير و مردوخ- أبلا- إدِنّا، الذي تسميه التوراة مردوخ- بلادان، وقد عادت السيطرة الآشورية بعدئذ على بلاد بابل حتى قيام حكم سلالة بابل الحادية عشرة.

أسس سلالة بابل الحادية عشرة الزعيم الكلداني نبو- بلاصر ليستمر حكمها ما يقرب من القرن الواحد (626- 539ق.م)، ويسمى عهد هذه الدولة الكلدانية العصر البابلي الحديث. وقد شهد هذا العصر أوسع امتداد للدولة البابلية، وكان آخر عهود استقلال بلاد بابل؛ إذ تلته عهود الحكم الأجنبي ابتداءً من حكم الامبراطورية الفارسية الأخمينية (539- 331ق.م). استطاع مؤسس هذه السلالة- بالتعاون مع حلفائه الميديين- إسقاط الدولة الآشورية في عام 612ق.م، وبعد ذلك بعث نبو- بلاصر ابنه وولي عهده نبوخذ نصر ليصد الجيش المصري في سورية ويوطد سلطة الدولة البابلية الناشئة هناك، وعندما كان نبوخذ نصر في سورية بلغته الأخبار عن موت أبيه، فعاد إلى بابل ليتوج ملكاً فيها. وتوجه نبوخذ نصر الثاني في العام الأول من حكمه إلى سورية مرة أخرى ليثبت نفوذ دولته في بلاد الشام، وسيَّر عدة حملات عسكرية للسيطرة على القبائل في بادية الشام. وهكذا استقر حكم الدولة البابلية الحديثة في كل من بلاد الرافدين وبلاد الشام لعدة سنوات، وامتد حكمها في الجزيرة العربية خصوصاً حينما سيطر الملك البابلي الأخير نبونائيد [ر] (555- 539ق.م) على تيماء [ر] وواحات أخرى حتى وصل يثرب.

استعملت اللهجة البابلية القديمة في مناطق واسعة امتدت من الخليج العربي وغربي إيران إلى البحر المتوسط، بما في ذلك حوضا نهري دجلة والفرات وروافدهما في سورية والعراق. وجاء أكبر عدد من النصوص المسمارية المدونة بهذه اللهجة من مدينة ماري (تل الحريري) في سورية، واكتشفت نصوص أخرى بابلية قديمة يصل عددها إلى مئة في موقع شغار بازار في منطقة الخابور في سورية. وفي تل ليلان (موقع مدينة شوبات- أنليل القديمة)- في منطقة الخابور أيضاً- عثر على نحو 650 رقيماً مسمارياً مدوناً باللهجة البابلية القديمة. وكشفت التنقيبات الأثرية في تل عطشانة (موقع مدينة ألالاخ القديمة في سهل العمق) عن 175 رقيماً طينياً مدوناً باللهجة البابلية القديمة، كان أغلبها في غرفة صغيرة في قصر يارِم- لِم في الطبقة السابعة. وأنتجت الطبقة الرابعة في الموقع نفسه ما مجموعه 460 رقيماً طينياً تحمل نصوصاً مسمارية مدونة باللهجة البابلية الوسيطة. ومن المواقع الأثرية الأخرى التي اكتشفت فيها نصوص بابلية وسيطة في سورية رأس شمرا (أوغاريت)، مسكنه (إيمار) وتل حديدي (أزو القديمة)، وقد بلغ مجموع هذه النصوص- من المواقع الثلاثة- أكثر من 2500 نص. وفي فلسطين عثر على 12 رقيماً طينياً بنصوص بابلية وسيطة في تل تعنك (موقع مدينة تَئنَك Ta’nak القديمة) على بعد 8 كم جنوب- شرق مجدّو، ومن الجدير بالذكر أنه عثر في هذا الموقع على رقيم طيني مدون بالأبجدية الأوغاريتية يعود تاريخه إلى القرن الثاني عشر قبل الميلاد. وجاءت النصوص المسمارية باللهجة البابلية الحديثة من موقعين في سورية هما: نيراب (موقع مدينة نيرَب القديمة) في جنوب- شرقي مدينة حلب؛ ومجموع ما اكتشف فيه 25 رقيماً تحمل مواضيع اقتصادية وقضائية، وتل الشيخ حمد (موقع مدينة دور- كتليمو القديمة في منطقة الخابور الأوسط) حيث عثر فيه على مجموعة النصوص المؤرخة من السنوات الأولى من عهد نبوخذ نصر الثاني.

مراجع للاستزادة:

- A. LEO OPPENHEIM, Ancient Mesopotamia: A Portrait of a Dead Civilization, (Chicago, 1977).

- H. W. F. SAGGS, Babylonians, (London 1995).

- R. M. WHITING, “Amorite Tribes and Nations of Second-Millennium Western Asia”, Jack M. Sasson (ed.), Civilizations of the Ancient Near East 2, (New York, 2000).


التصنيف : العصور التاريخية
المجلد: المجلد الثالث
رقم الصفحة ضمن المجلد : 0
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 1050
الكل : 58492537
اليوم : 65051