الخصوبة في العصور الكلاسيكية
خصوبه في عصور كلاسيكيه
-
الخصوبة
الخصوبة (عقائد -)
الخصوبة في العصور الكلاسيكية
عرف الإغريق ومن بعدهم الرومان منذ بدايات تاريخهم عقيدة الخصوبة بمظاهرها المختلفة التي يعكسها كثير من أساطيرهم وعباداتهم وطقوسهم الدينية والاحتفالية. وعقيدة الخصوبة تضرب جذورها في أعماق تاريخ بلاد اليونان التي شهدت مع الحضارة المينوية ولادة أول حضارة مزدهرة فيها. كانت الديانة الكريتية مزيجاً من العقائد التي تقدس قوى الطبيعة بمختلف أشكالها وكل ما يتعلق بمظاهر الأمومة التي رأى فيها الكريتيون سر الطبيعة. وهكذا عبدوا إلهة أنثى كبرى تصوروها أماً لجميع الآلهة والبشر، وأطلقوا عليها اسم ريا Rhea التي انتشرت عبادتها في حوض بحر إيجة وآسيا الصغرى والتي تظهر في العصور التالية باسم الأم الكونية تيراماتر Terra Mater .
كان ثمة اعتقاد عند الإغريق أن الأرض الأم قادرة على الإنجاب بمفردها، ويذكر الشاعر هسيود Hesiodos في ديوانه «أنساب الآلهة« أن إلهة الأرض غايا Gaia (أو Ge) ولدت من ذاتها أورانوس Ouranos إله السماء كائناً مساوياً لها قادراً على تغطيتها كلها؛ وفي هذا تعبير ميثولوجي عن الاكتفاء الذاتي والخصوبة التي اتصفت بها الأرض الأم التي تهب الحياة مثلما تحتضن الكائنات بعد موتها. وبعد ذلك حدث الزواج المقدس Hieros Gamos الكوني بين إله السماء وإلهة الأرض اللذين أنجبا كرونوس وريا. كانت آلهة الأمومة –على خلاف آلهة السماء المذكرة- تُعدّ تجسيداً وتشخيصاً للأرض الخصبة؛ الأرض الأم التي تحمل مظاهر متعددة تمثلها مجموعة من الآلهة الإغريقية مثل: غايا وريا وديميتر وبرسيفوني وأرتميس وأفروديت ونظائرها الرومانية. ولكن تبقى الإلهة ديميتر Demeter إلهة الخصوبة الأولى بلا منازع. وهي من أكثر آلهة الإغريق تقديساً بوصفها إلهة الخصوبة والإنبات والزراعة والحبوب؛ كما كانت الإلهة الأم بين كبرى الإلهات وتحظى بتقديس النساء.
أوزيريس وأيزيس |
كانت ديميتر (والتي قد يعني اسمها :أم الأرض Ge=De) ابنة كرونوس وريا، وقد أنجبت من شقيقها الإله زيوس Zeus ابنتها برسيفوني Persephone. وتقول الأسطورة: إنه بينما كانت تلعب برسيفوني مع أترابها وتقطف الأزهار؛ فاجأها الإله هادس Hades الذي ظهر من أعماق الأرض، واختطفها، وجعل منها زوجته في العالم السفلي. وهامت أمها الحزينة على وجهها تبحث عنها في كل مكان إلى أن أخبرها إله الشمس هليوس Helios بحادثة الاختطاف، فاعتكفت ديميتر عن العالم حزناً على ابنتها، وتوقفت البذور عن الإنبات والنمو، وساد القحط والجدب في الكون؛ مما جعل رئيس الآلهة زيوس يتدخل ويأمر هرمس Hermes بإحضار برسيفوني من العالم السفلي. ولكن عند خروجها أعطاها زوجها هادس رمانة لتأكلها؛ مما جعلها ترتبط بالعالم السفلي إلى الأبد. وعبر وساطة أبيها جرى الاتفاق على أن تمضي برسيفوني ثلث السنة – أي فصل الصيف- في العالم السفلي مع زوجها بوصفها ملكة الأموات وإلهة العالم السفلي. أما بقية السنة فتمضيها مع أمها على جبل الأولمب. وفي خلال بحثها عن ابنتها وصلت ديميتر إلى مدينة إلوسيس Eleusis، فأكرمها ملكها، وبنى لها معبداً، فمنحت ابنه تريبتوليموس Triptolemos بذور القمح، وأمرته أن ينشر زراعته في كلّ البلاد وكذلك عبادتها التي وصلت إلى سورية بتجلّيات مختلفة.
تمثال برونزي روماني صغير لإيروس (المتحف الوطني بدمشق) |
تصور قصة اختطاف الفتاة برسيفوني (التي كانت تدعى في الطقوس Kore أي الصبية) وعودتها إلى العالم العلوي استيقاظ الطبيعة بعد موتها وعودة الخصوبة. وتكريماً لديميتر وابنتها كانت تقام احتفالات في بلاد الإغريق تدعى تسموفوريا Thesmophoria؛ وهو عيد خاص بالنساء في زمن الحصاد.
كانت إلوسيس أهم أماكن عبادتها، واشتهرت بطقوس الأسرار Mystery التي تستمر تسعة أيام يتخللها موكب ينطلق من مدينة أثينا المجاورة معلناً عودة الفتاة إلى أمها واتحاد الإلهتين. كانت هذه الطقوس في غاية السرية وكان على المشاركين الذين يتم تعميدهم أن يلتزموا الصمت ولا يبوحوا بما يجري فيها يحدوهم الأمل في التحرر من الذنوب وحياة سعيدة في الآخرة.
يقابل الإلهة ديميتر الإغريقية نظيرتها عند الرومان الإلهة سيريس Ceres إلهة الزراعة؛ هي ابنة الإله ساتورنوس Saturnus (نظير كرونوس) وأم الإلهة بروسربينا Proserpina (نظيرة برسيفوني)، كانت مثل الأرض الأم ينبت من حضنها كل ما هو حي؛ لتضمه من جديد في أعماقها. وكانت عبادتها في روما تشمل الإله ليبر Liber (الذي يقابل ديونيسوس) والإلهة ليبرا Libera (التي تقابل برسيفوني)، وكان الثلاثة يشكلون ثالوثاً إلهياً ضارباً في القدم يحتفل بأعيادها المسماة ليبراليا Liberalia في شهر نيسان.
كذلك كانت الربة أرتميس Artemis ابنة زيوس من آلهة الخصوبة عند الإغريق، توحدت في شخصها تصورات آلهة مختلفة بعضها ما قبل إغريقي؛ فكانت إلهة للصيد والحياة الطبيعية والخصوبة والخضرة والعذرية، ويظهرها تمثالها الشهير في مدينة إفسوس Ephesos في آسيا الصغرى بأثداء كبيرة تملأ صدرها، وقد اقترنت بالإلهة الرومانية ديانا Diana التي وصل عنها تماثيل كثيرة مشهورة.
تمثال برونزي روماني صغير لفينوس (المتحف الوطني بدمشق) |
ويُعدّ الإله ديونيسوس Dionysus ابن زيوس من الحسناء سيميلي Semele ابنة قدموس من آلهة الخصوبة أيضا؛ً إضافة إلى شهرته كإله الخمرة. وتتحدث الأساطير عن موته وبعثه من جديد. وكان من طقوس عبادته حمل تمثال فالوس Phallus (العضو الذكري) في مواكب الأعياد الديونيسية التي تقام على شرفه كل عام في أثينا، وقد عرف عند الرومان باسم الإله باخوس Bacchus.
كما انتشرت طقوسه عند الأنباط عندما تحولوا إلى حياة الترف وشاع فيهم شرب الخمور، فصار كبير آلهتهم ذو الشرى نظيراً لديونيسوس إله الخصب والخمر، وعرف باسم Dusares في النقوش الإغريقية، وكانت تقام له احتفالات شبيهة بأعياد ديونيسوس الماجنة.
وينبغي الإشارة في هذا المجال إلى الإله أدونيس[ر] Adonis، وهو أحد تجليات الإله بعل الكنعاني (-الفينيقي) الذي دخل باكراً في عالم الآلهة الإغريقية –الرومانية كأحد آلهة الطبيعة والخصب، وتقول الأسطورة: إنه كان شاباً جميلاً عشقته الإلهة أفروديت Aphrodite ، وقتله خنزير بري في أثناء الصيد، فحزنت عليه أفروديت، وندبته بمرارة جعلت الآلهة ترأف بها، وتسمح له بأن يمضي معها ستة أشهر في السنة.
كان مركز عبادته في مدينة جبيل (بيبلوس) التي شهدت جبالها ولادته قرب ينبوع أفقا، وتلون نهرها بدمائه؛ فدعي بنهر أدونيس (إبراهيم حالياً).
تمثال فينوس بوضعية الوقوف مع قاعدة تضع وشاحاً لستر العورة. عند جانبها الأيسر جرة أسفل التمثال (المتحف الوطني بدمشق) |
ويصف الأديب السوري لوقيان السميساطي في بحثه عن الإلهة السورية (Dea Syriae) الاحتفالات السنوية بموت أدونيس وبعثه من جديد حيث تقام له جنازة يحمل فيها تمثال من الخشب، وتجتمع النساء حوله نادبات باكيات وقد وضعن شقائق النعمان في زهريات وأوانٍ فخارية عرفت باسم حدائق أدونيس التي تُعدّ رمزاً لذبول الطبيعة في فصل الصيف الحار، وكان يُعلَن في اليوم التالي أنه عاد إلى الحياة من جديد.
كانت أعياد أدونيس المعروفة باسم أدونيا (Adonia) تجري في أنحاء العالم الإغريقي –الروماني. وقد تحدث الأدباء عن أعياده في مدينة أثينا التي توثقها أيضاً الرسوم على الزهريات الأثينية. كما تغنى الشاعر الهلنستي تيوكريت (Theokrites) باحتفالات أدونيس الرائعة في الإسكندرية في القرن الثالث قبل الميلاد. وثمة تماثيل كثيرة ورسوم رائعة تصوره برفقة إلهة الحب أفروديت (فينوس). وقد استمر الاحتفال بهذه الأعياد حتى القرن الرابع الميلادي؛ إذ يذكر المؤرخ أميانوس مركلينوس أن يوم وصول الامبراطور يوليان (Julianus المعروف بالمرتد) إلى أنطاكية في ١٨ تموز/يوليو سنة ٣٦٢م صادف اليوم الثاني للاحتفال السنوي بأعياد أدونيس حيث كان يجري البكاء والنواح على موته.
لقد وجدت آلهة الخصوبة الكلاسيكية تمثيلاً متنوعاً لها في عدد كبير من لوحات الفسيفساء التي عثر عليها في مناطق مختلفة من سورية (شهبا وأفامية وأنطاكية ومعرة النعمان وغيرها)؛ إذ مثلت إلهة الأرض غايا/غي مع الفصول الأربعة في عدد من اللوحات العائدة إلى العصرين الروماني والبيزنطي في شهبا حيث تظهر مع الإله الروماني بلوتوس رب الثروة الزراعية وكذلك الإله ديونيسوس برفقة أريادنى؛ وهما من آلهة الخصوبة. وفي لوحة ثانية تظهر غايا بهيئة امرأة شابة تمسك بقرن الوفرة(الخصب) وإلى جانبها جورجيا إلهة الزراعة وتريبتوليموس الذي ينشر زراعة الحبوب بتكليف من الإلهة ديميتر.
وهناك لوحة الفصول الأربعة مع غايا من أفامية, ولوحة أخرى تمثلها أيضاً من بيت الوعل. إن تمثيل ربة الأرض مع آلهة الخصوبة الأخرى المتكرر كان من أجل جلب مباركة هذه القوى الإلهية الحامية للخصوبة للمكان الذي مثلت فيه.
وثمة لوحتان تمثلان تمجيداً لإلهة الأرض: إحداهما محفوظة في المتحف الوطني بدمشق؛ والأخرى في متحف السويداء حيث تظهر غايا شبه عارية يحيط برأسها هالة القداسة، وتحمل بيدها قرن خصب تدلت منه عناقيد العنب وحولها أربعة أطفال يمثلون أبناء الأرض تكلل رؤوسهم منتجات الأرض وخيراتها.
كما ينبغي الإشارة إلى الإلهة توخي/تيكه Tyche حامية المدن السورية وربة السعادة والثروة والخصب وتمثالها الشهير الذي يجسد مدينة أنطاكية ونهر العاصي ورموز الخصب والتي تُلفى رسومها على كثير من قطع النقود التي سكت في سورية في العصور الكلاسيكية.
من خلال ما تقدم يمكن استخلاص المقارنات الآتية:
١- يلاحظ أن آلهة الخصوبة في الشرق القديم تتمثل في المقام الأول بآلهة مذكرة طقسية (تخصب الأراضي العطشى) مثل دوموزي في بلاد الرافدين وبعل/أدونيس في سورية وأوزيريس في مصر؛ والتي تقترن بآلهات الخصب عشتار وأترغايتس وإيزيس؛ في حين هي عند الإغريق والرومان تتمثل بصورة رئيسية بآلهة أنثى مثل إلهة الأرض غايا وإلهة الزراعة ديميتر وابنتها برسيفوني. أما آلهة الخصوبة المذكرة فظهرت في وقت متأخر، وهي آلهة وافدة مثل ديونيسوس الذي جاءت عبادته من تراقيا والإله أدونيس السوري الأصل.
٢- تشبه الأساطير الإغريقية الكلاسيكية مثيلاتها في الشرق من حيث اختفاء الإله /الإلهة في العالم السفلي فترة محدودة من السنة ثم عودتها إلى العالم العلوي في بقية فصول السنة. وفي الحالتين فإن اختفاء الإله أو موته يرمز إلى تعاقب فصول السنة ودورة الطبيعة، فهو يغيب في فصل الحر، ويعود إلى الحياة مع فصل الربيع.
٣- يلاحظ أن الإلهة عشتار تجسد الخصوبة وتجدد الطبيعة مثلما تجسد الحب الجنسي؛ فهي إلهة الخصب والحب وحتى الحرب. أما الإلهة ديميتر فتختص فقط بالزراعة والخصوبة. والإلهة الوحيدة التي جمعت عند الإغريق بين الخصوبة والحب إنما هي الإلهة أفروديت (فينوس)؛ ولكن عبادتها اقتبست من سورية كإحدى تجليات الإلهة عشتار.
تمثال فينوس من المرمر بوضعية الوقوف بكامل لباسها، على كتفها الأيسر إيروس..تحمل بيدها اليمنى عنقود عنب وباليد اليسرى شيئاً كروي اً(المتحف الوطني بدمشق) |
٤- فيما يخص الزواج المقدس واحتفالاته التي تقام في الربيع للتعبير عن زواج عشتار بالإله دوموزي ومحاكاته واقعياً بدخول ملك البلاد برئيسة كاهناتها–وفي هذا رمز إلى التزاوج بين السلطتين الملكية والدينية في الشرق القديم –فإن طقوس الأسرار واحتفالات أعياد ديونيسوس الماجنة التي يتوحد فيها الرجال والنساء كانت تعبيراً عن زواج كوني عام حيث لا وجود لسلطة ملكية أو دينية عليا تنوب عن الناس في تحقيق طقس الخصوبة وتجدد حياة الطبيعة.
لقد انعكست عقيدة الخصوبة وآلهتها وأساطيرها عند الإغريق والرومان في كثير من الأعمال الفنية في القديم والحديث؛ فظهرت الرسوم والمنحوتات والمشاهد التي تصور آلهة الخصب والرموز المتعلقة بالأرض والخصوبة في كثير من التماثيل والرسوم الرائعة؛ ولاسيما في عصر النهضة الأوربية.
محمد الزين
- التصنيف : آثار كلاسيكية - المجلد : المجلد السادس مشاركة :