حميرة (تل-)
حميره (تل)
-
حميرة
حميرة (تل -)
يقع تل حميرة Humaira في منطقة القلمون بريف دمشق، ويبعد ١٣كم عن مدينة دير عطية باتجاه الشمال الشرقي- وسط بلدة أخذ اسمها منها- على مجرى مسيل مائي، فيما حفرت قناة رومانية لجر المياه من الجهة الشرقية للموقع. شكل التل شبه مربع طول ضلعه نحو٧٥ متراً، ارتفاعه عن السهل المحيط ٨ م؛ وعن سطح البحر نحو١٢٠٠م، إحداثياته ٦٣o ٩٤َ شرقاً، و ٤٣o ٨٥َ شمالاً.
تعرض الموقع لأعمال التخريب والحفر التي أزالت الكثير من معالمه وقلصت حجمه إلى الحد الذي هو عليه الآن. زاره وصفي زكريا منتصف القرن الماضي، وأشار إليه في كتابه الريف السوري، واكتشفته بعثة المسح الأثري في ريف دمشق- برئاسة محمود حمود عام ٢٠٠٩م- التي بدأت أعمال التنقيب فيه عام ٢٠١٠م واستمرت حتى عام٢٠١٢م حيث توقفت بعد إنجاز ثلاثة مواسم تنقيب، تم خلالها إجراء رفع طبوغرافي للموقع وفتح بعض الأسبار التي لم تصل إلى الأرض البكر، وقد أظهرت حتى الآن وجود ثلاث طبقات أثرية تعود أقدمها إلى نهاية عصر البرونز المتأخر وبداية عصر الحديد؛ فيما تعود الطبقتان الثانية والأولى إلى عصر الحديد الثاني والثالث (بين القرنين الحادي عشر والسابع ق.م).
مخطط طبوغرافي لتل حميرة |
ظهرت في الطبقة الأولى (H1) العائدة إلى العصر الآرامي- وتحديداً إلى القرن التاسع والسابع ق.م- بقايا بناء كبير له جدران عريضة مبنية من اللبن على أساسات حجرية، بقي محفوظاً من ارتفاعه نحو ٢م، كشف في زاويته الجنوبية الغربية عن غرفة صغيرة في وسطها موقد، لكن لم يتم معرفة المخطط الدقيق للمبنى نظراً لتعرضه للتخريب والحاجة إلى مزيد من التحري الأثري فيه. عثر في هذه الطبقة على فخار متوسط الصنع ورديئه، أغلبه يعود إلى جرار تخزين، وجد على كسرة إحدى الجرار نص كتابي قصير مؤلف من بضعة أحرف آرامية هي «د ر ر ح م ن»، بمعنى دار الرحمن، وهذا ما قد يدل على وجود معبد في الموقع. أما الكتابة المنقوشة هنا فلها شبيه في تل أفس حيث عثر على كسرة آنية فخارية تحمل عدداً من الأحرف الآرامية التي ربما كانت تشير إلى اسم الإله الآرامي «إيل – وير» Ilu-Wēr الذي جاء ذكره في منحوتة زكير ملك حماة ولـُعش التي اكتشفت في تل أفس، وقد كان هذا الإله حامياً لهذا الملك من هجوم التحالف الذي قاده ضده ملك دمشق بر – أدد بن حزائيل، وتكريماً لهذا الصمود أشاد زكير معبداً له في عاصمته أفس التي عرفت أيضاً باسم حزرك.
تل حميرة |
كما جاءت من هذه الطبقة بعض الأواني الفخارية التي حمل بعضها طبعات أختام مسطحة نفذت على شفاه الجرار أو على الكتف، وهي تشير إلى وجود تجارة ناشطة في الموقع؛ لأنها تدل على اسم التاجر أو مالك البضاعة. كما عثر على الكثير من الثقالات الحجرية المثقوبة التي تستخدم في الأنوال الخاصة بصناعة المنسوجات.
الطبقة الثانية (H2): تعود إلى عصر الحديد الأول (١٠٥٠- ٩٠٠ ق.م) عثر فيها على بقايا عدد من المباني ذات الطابع السكني والصناعي بنيت جدرانها من اللبن على أساسات حجرية، في الوقت الذي بنيت فيه بعض الجدران من الطين المدكوك. وقد وجدت في أبنية هذه السوية غرفة مؤونة، فيها جرار وأوانٍ طينية للتخزين حوى بعضها بقايا مواد غذائية مثل البقول والحبوب وغيرها، كما عثر فيها على العديد من أدوات هرس الحبوب والأجران البازلتية والكلسية، وبقربها فرن وموقد للنار. كما عثر في هذه الطبقة على عدد كبير من الثقالات الحجرية المستخدمة في صناعة المنسوجات؛ علاوة على بعض الوزنات الحجرية، وهناك عدد من الأواني الفخارية من بينها عدد من المكاييل وجرار التخزين. وعثر على ختم دائري كبير الحجم له مقبض نُحت عليه مشهد طقسي يتضمن صوراً لأشخاص يرقصون أمام شخص جالس على الكرسي مع بعض المشاهد النباتية والحيوانية المحيطة، وعلى السطح الأعلى لمقبض الختم مشهد على شكل صليب رمز شجرة الحياة والخصب والديمومة ومعرفة البشر للإله ومعرفتهم للوجود والطبيعة.
مشهد عام للموقع |
أما الفخار فكان من النوع العادي حمل أحياناً بعض الزخارف التي نفذت بطريقة الحز أو الرسم باللون الأحمر المائل إلى السواد، وهناك كسرة عليها وجه نافر لثور نفذ بطريقة اللصق، كما عثر على عدد من الكسر الفخارية التي تحمل طبعات أختام مسطحة على الشفاه أو العرى تحمل أشكالاً بشرية ونباتية وحيوانية ظهرت أحياناً بشكل مختزل.
الطبقة الثالثة (H3): وهي تعود إلى نهاية العصر البرونزي المتأخر وبداية عصر الحديد (١٣٠٠-١١٠٠ق.م)، ظهر فيها بعض الأرضيات السكنية وأساس حجري لجدار يبلغ عرضه (١٢٠سم)؛ علاوة على بعض الجدران الصغيرة المبنية من اللبن والقائمة على أساسات من الحجر الكلسي القاسي، ويلاحظ وجود رماد سميك على أرضيات هذه الطبقة مما يشير إلى حريق ودمار كبير تعرض له الموقع نهاية هذه المرحلة. وقد عثر على العديد من الأفران والأجران وأدوات جرش الحبوب والعديد من الأواني الحجرية المصنوعة من الحجارة البازلتية غير المتوفرة في المنطقة؛ مما يعني أنها قد استوردت من أماكن أخرى. وهناك كمية كبيرة من الثقالات الطينية وبعض فلك مغازل النسيج الطينية والحجرية، وأدوات عظمية تستخدم في صناعة النسيج. واستمر وجود طبعات الأختام مختلفة الأحجام على شفاه الأواني الفخارية وعراها؛ وهي تحمل أشكالاً حيوانية ونباتية.
بناء من اللبن - الطبقة ١ | بقايا منشأة سكنية - الطبقة ٢ | بقايا منشأة - الطبقة ٢ |
تأتي أهمية تل حميرة من كونه محطة مهمة تقع بمنتصف المسافة بين حمص ودمشق الواقعتين على أهم طرق التجارة وأنشطها في تاريخ الشرق القديم، والذي كان يمتد من بلاد الرافدين ثم شمال سورية ووسطها إلى جنوبها وصولاً إلى فلسطين ومصر. يعدّ الموقع مركزاً إدارياً ودينياً وتجارياً مهماً على تخوم البادية السورية، ومركز تسوق وتبادل للسلع بين قاطني هذه البادية وبين تجار الموقع والتجار العابرين ولاسيما خلال الألفين الثاني والأول ق.م. واللافت للنظر هو العدد الكبير من الثقالات الحجرية المستخدمة في صناعة النسيج التي يعتقد أن ورشها كانت تعمل في كنف المعبد، ويدل وجودها في جميع الطبقات الأثرية على عراقة هذه الصناعة والدور الكبير الذي حققته في اقتصاد الموقع وكل المنطقة حيث كانت المادة الخام (وأكثرها من الصوف) توفر عن طريق سكان البادية المجاورة، فيجري تصنيعها لتصدر إليهم وإلى بقية الأسواق قطعاً من النسيج والقماش المزركش الذي طالما جاء ذكره في قوائم الغنائم التي حصل عليها ملوك الدولة الآشورية الحديثة الذين لاشك في أن العديد منهم مرَّ بهذا الموقع في أثناء قيادة حملاتهم العسكرية الموجهة نحو دمشق وجنوب سورية، ومن هؤلاء شلمنصر الثالث[ر] الذي التقى في سنة حكمه الثامنة عشرة(٨٤١ق.م) جيش حزائيل ملك دمشق المتحصن في قمة جبل سانيرو- الواقع قبل جبال لبنان- فقاتله وهزمه وقتل ستة عشر ألفاً من رجاله المقاتلين، ثم طارده وحاصره في دمشق- مدينته الملكية- وقطع بساتينها. وأعاد شلمنصر مهاجمة دمشق أكثر من مرة عابراً (على الأرجح) الطريق نفسه، وهذا ما فعله بعده أدد - نراري [ر] الثالث، وكذلك الملك تيجلات - بلاصر [ر] الثالث الذي سلك الدرب نفسه أكثر من مرة بين عامي ٧٣٧ ـ ٧٣٥ق.م، وقام بتخريب معظم المدن التابعة لدمشق وقطع أشجار الغوطة وتخريب بساتينها، وذكر سيطرته على مدينة خضرا Ha-a- da- ra التي رجح بعض الباحثين أنها عدرا الحالية أو القطيفة المجاورة لها (أدرين Addrin في الفترة الكلاسيكية)، والتي كانت أحد منتجعات الملك رصين آخر ملوك دمشق الآرامية. وقد استطاع تيجلات – بلاصر في آخر حملة له احتلال دمشق عام ٧٣٢ق. م ثم قام بتقسيمها إدارياً إلى ست عشرة ولاية، منها صوبيتي (صوبا) الواقعة في سلسلة جبال لبنان الشرقية والتي يتبع لها جبل سانيرو الوارد ذكره أكثر من مرة في الحوليات الآشورية، وهو على الأرجح جبال القلمون الحالية حيث تتوضع بلدة الحميرة في وسطها. ومن الممكن أن يكون الموقع الذي تحشد فيه ملك دمشق في جبال سانيرو لمواجهة الجيش الآشوري قبل أن ينسحب (تكتيكياً) إلى داخل أسواره هو نفسه تل حميرة، هذا إن لم يكن هو موقع خضرا الذي أشير إليه مقراً صيفياً لملك دمشق، ولا سيما أن المسوحات الأثرية التي تمت في عدرا ومحيطها لم تكشف حتى الآن عن أي موقع يعود إلى هذه المرحلة التاريخية.
كتابة آرامية من تل حميرة | مسقط بناء مبني من اللبن - الطبقة ١ | ختم مسطح |
ويشار إلى وجود أكثر من تل أثري حول البلدة يدعى أحدها تل الفاخورية، يقع إلى الشمال الشرقي من تل حميرة بمسافة لا تزيد على ٣٠٠م، وهو تل مخرب بفعل تجريف تربته ونقل حجارته. وهناك تل الحمام الواقع غرب تل حميرة بمسافة ٧٠٠ م، أبعاده نحو ١٠٠×٨٠ م، ارتفاعه نحو١٠م عن السهل المحيط به، تعرض التل لبعض أعمال التنقيب غير الشرعي مما أظهر على سطحه بقايا سكنية وأرضية مرصوفة بحجارة منحوتة تعود إلى العصر الروماني، كما تدل الكسر الفخارية المنتشرة في الموقع على وجود طبقة أثرية تعود إلى العصر البرونزي القديم (الألف الثالث ق.م)، فيما تعود أقدم الطبقات في التل إلى العصر الحجري الحديث (النيوليت) على نحو معاصر إلى تل الرماد وتل أسود في ريف دمشق (الألف السابع ق.م).
تل الحمام الواقع غرب تل حميرة |
محمود حمود
مراجع للاستزادة:
ـ محمود حمود، وجهاد أبو كحلة، « تل حميرة (دير عطية)»، الوقائع الأثرية في سورية، العدد ٦، دمشق ٢٠١٢، ص ٧٧-٩٢.
- Grayson A. Kirk, Assyrian Rulers of the Early First Millennium B.C, II, (858 -745 B.C), Toronto, 1996.
- Sebastiano Soldi, Aramaeans and Assyrians in North Syria: Material Evidence from Tell Afis, (syria,Tome 86, 2009), P. 97-118.
- المجلد : المجلد السادس مشاركة :