دمشق في عصور كلاسيكيه
-

 دمشق في العصور الكلاسيكية

 

تعود أولى الأخبار التاريخية الموثوقة التي تتحدث عن دمشق في العصور الكلاسيكية إلى زمن الإسكندر الكبير المقدوني الذي أرسل بعد انتصاره في معركة إيسوس [ر] Issos سنة ٣٣٣ق.م قائده بارمنيون [ر] Parmenion على رأس فرقة من الخيالة التساليين للاستيلاء على الخزينة الحربية التي أودعها الملك الفارسي داريوس الثالث في دمشق. وهذا يؤكد أهميتها الكبيرة في ذلك الوقت.

وثمة رواية عربية متأخرة تتحدث عن مرور الإسكندر بها وهو في طريقه إلى نهر الفرات وبلاد الرافدين ليتابع غزو الامبراطورية الفارسية. ومن المؤكد أن دمشق شهدت وصول موكب جثمان الإسكندر إليها في ربيع عام ٣٢١ ق.م قادماً من بابل حيث استقبله الملك بطلميوس وتوجه به إلى الإسكندرية ليدفن بها.

يعود إلى الإسكندر افتتاح أول دار لسك النقود في دمشق التي أصدرت نقداً فضياً يحمل الرمز D A (وهما الحرفان الأوليان من اسمها Damaskos)، وكان ذلك بلا شك على يد بارمنيون بعد الاستيلاء على خزينة الملك الفارسي، ولعله سك فيها نقوداً ذهبية أيضاً تحمل صورة الإسكندر.

تناوب على حكم دمشق في العصر الهلنستي كبار قادة الإسكندر، وعلى رأسهم أنتيغونوس الأعور [ر] وابنه دمتريوس [ر]، حتى تمكن الملك بطلميوس من الاستيلاء عليها بعد معركة إبسوس سنة ٣٠١ق.م، وبسط سيطرته على جنوبي سورية والساحل السوري حتى نهر الكبير الجنوبي.

وقد استمر الحكم البطلمي على هذه المناطق طوال القرن الثالث قبل الميلاد على الرغم من محاولة الملوك السلوقيين في الحروب السورية المتتالية استخلاصها من أيديهم، ويبدو أنهم نجحوا في السيطرة على دمشق في السنوات ٢٧٤ حتى ٢٦٠ق.م، ولكنها عادت إلى الحكم البطلمي مجدداً عندما زارتها البعثة المالية البطلمية برئاسة زينون [ر] التي قامت بجولة في جنوبي سورية عام ٢٥٨ق.م، وأخيراً تمكن الملك أنطيوخوس الثالث الكبير من حسم النزاع مع البطالمة على سورية المجوفة Koile Syria بعد انتصاره في معركة بانيون Panion (بانياس الجولان) عام ١٩٨ق.م، وهكذا خضعت دمشق وسورية بأكملها للحكم السلوقي حتى الاحتلال الروماني.

مخطط مدينة دمشق في أثناء العصر الروماني

ورث السلوقيون دار السكة الملكية البطلمية في دمشق واستخدموها في سك نقودهم. ومنذ عهد أنطيوخوس الرابع (١٧٥-١٦٤ق.م) بدأت دمشق– مثل باقي المدن المهمة في المملكة– تسك نقوداً باسمها؛ فأصدرت في الفترة الممتدة من عام ٩٦ حتى عام ٨٨ ق.م نقوداً برونزية تظهر الامتيازات التي حصلت عليها؛ وهي القدسية وحق اللجوء hiera kai asylos، كما أصدرت نقوداً فضية عام ٧٠ق.م؛ مما يدل على ازدياد ثرائها.

ومع اشتداد الصراع على عرش المملكة بين أفراد البيت السلوقي تمكن دمتريوس الثالث بن أنطيوخوس الثامن من تثبيت مركزه في جنوبي سورية واتخذ من دمشق عاصمة له (٩٥-٨٨ق.م) ومنحها اسمه فصارت تعرف منذ عام ٩٠ق.م باسم دمترياس Demetrias. وبعد أسره من قبل البارثيين خلفه أخوه أنطيوخوس الثاني عشر، ولكن حكمه لم يدم طويلاً؛ إذ سرعان ما لقي حتفه في الحملة التي قادها ضد الأنباط. أما أهالي دمشق فقد سئموا النزاعات على العرش السلوقي وانعدام الأمن فاستنجدوا بالأنباط لإنقاذهم من تعديات الإيتوريين ]ر[ في سهل البقاع.

وهكذا بدأ حكم الأنباط لدمشق في عهد ملكهم حارثة الثالث (٨٧-٦٢ق.م) الذي لبى نداء الدمشقيين فأطلقوا عليه لقب «محب الهيلينيين» Hellenophilos؛ وقد سك فيها نقوداً يظهر عليها صورته واسمه ولقبه باللغة الإغريقية خلال حكمه لها الذي دام خمس عشرة سنة.

وفي عام ٧٢ق.م سقطت دمشق في يد الملك الأرمني تيغرانيس (دكران) Tigranes الذي أصدر فيها نقوداً تحمل اسمه، ولكنه سرعان ما اضطر إلى الانسحاب من سورية تحت تهديد الرومان.

وفي عام ٦٥ق.م وصلت طلائع الجيش الروماني إلى دمشق تمهيداً لوصول القائد الروماني بومبيوس [ر] Pompeius إلى المدينة عام ٦٣ق.م الذي رتب أوضاع المنطقة ثم انطلق منها لقمع التمرد اليهودي في أورشليم، وهكذا بدأ العصر الروماني في تاريخ دمشق.

أصبحت دمشق بعد ذلك عضواً في اتحاد الديكابوليس [ر] الذي يعود تأسيسه إلى بومبيوس؛ بل يرى بعض المؤرخين أنها كانت زعيمة هذا الاتحاد وأهم مدنه. خضعت دمشق لفترة قصيرة (٣٨-٣٠ق.م) لحكم ملكة مصر كليوباترة السابعة قدمت لها هدية من زوجها القائد الروماني ماركوس أنطونيوس الذي كان يحكم الشرق (٤٢-٣٠ق.م)، وأصدرت فيها نقوداً تحمل صورتها.

ويستدل من رسالة القديس بولس الثانية إلى أهل كورنثة - التي جاء فيها: كان الحاكم (إتنارخ Ethnarchos) بدمشق تحت إمرة حارثة الملك (أي حارثة الرابع ٩-٤٠م) يحرس مدينة الدمشقيين- أن دمشق التي التجأ إليها نحو سنة ٤٠م كانت تابعة للأنباط. لكن لا يُعرف متى عادت المدينة إلى حكم الأنباط بعد استيلاء الرومان عليها، فهل تم ذلك بموافقة الرومان؟ هنا تصمت المصادر التاريخية.

مخطط إفتراضي لمدينة دمشق في أثناء العصور الكلاسيكية

يرى كثير من الباحثين أن دمشق خضعت للأنباط بين الأعوام ٣٣-٣٤ و٦٥-٦٦م، ويؤيد هذا الرأي النقش النبطي المكتشف في بلدة الضمير؛ على الطريق الذي يربط دمشق بتدمر، وكذلك وجود الحي النبطي فيها المعروف تاريخياً.

ازدادت أهمية دمشق بعد إنشاء الولاية العربية في عهد ترايانوس (١٠٦م) وإقامة طريق روماني يصلها بالبحر الأحمر عن طريق بصرى. وفي عهد الامبراطور هادريانوس (١١٧-١٣٨م) نالت دمشق لقب ميتروبوليس Metropolis؛ وهو لقب يُمنَح لأمهات المدن.

وحظيت باهتمام أباطرة الأسرة السيفيرية، ونال مواطنوها في أثناء حكم الامبراطور كركلا (٢١١-٢١٧م) حقوق المواطنة الرومانية، ثم حازت في عهد الامبراطور فيليب العربي (٢٤٤-٢٤٩م) لقب «مستعمرة» Colonia الذي يعفيها من الالتزامات المفروضة على المدن الأخرى. وفي عهد الملكة زنوبيا [ر] (٢٦٨-٢٧٢م) أصبحت دمشق تابعة لمملكة تدمر حيث انطلقت منها الجيوش التدمرية للسيطرة على مصر.

وقد صارت عاصمة لولاية فينيقيا التي أحدثها الامبراطور ديوقليتيانوس [ر] (٢٨٤-٣٠٥م) الذي أنشأ فيها داراً لصنع الأسلحة في إطار تقويته للجبهة الشرقية ضد المملكة الساسانية، وقد أسَّس هذا المصنع شهرة المدينة بسيوفها الدمشقية.

ازدادات أهمية دمشق بعد تأسيس مدينة القسطنطينية (٣٣٠م) وانتشار الديانة المسيحية وانتقال مركز الثقل السياسي والعسكري والاقتصادي إلى شرقي الامبراطورية الرومانية؛ ولا سيما بعد ازياد حدة الصراع بين الفرس والروم الذي بلغ أوجه في عهد الملك كسرى أنوشروان (٥٣١-٥٧٩م)، ثم خلال حكم كسرى الثاني أبرويز الذي غزا بلاد الشام واجتاح مدنها ووصلت جيوشه إلى مصر التي ضمها مع سورية إلى الامبراطورية الساسانية (٦٠٣-٦٢٨م)، إلى أن تمكن الامبراطور هرقل من التغلب على الفرس وإعادة الحكم الروماني إلى سورية. ولكن ذلك لم يدم طويلاً؛ إذ جاءت الجيوش العربية وتمكنت بعد معركة اليرموك (٦٣٥م) من تحرير دمشق وباقي مدن بلاد الشام من حكم الرومان ليبدأ العصر العربي الإسلامي في تاريخها المجيد.

عناصر معمارية عليها زخارف من العصر الروماني كانت جزءاً من معبد جوبيتير الجامع الأموي 

أما الآثار المتبقية من العصر الهلنستي في دمشق فليس هناك سوى القليل من المعطيات، وهناك بعض الفرضيات، ومنها ما يورده جان سوفاجيه J.Sauvaget أن الحي الإغريقي الجديد كان يقع شرق المستوطنة الآرامية المؤلفة من المعبد وحصن البريص؛ والواقعة في ثنايا تل السماكة. كما تعتقد دوروتيه زاك أن المستوطنة الإغريقية محصورة بين نهر بردى وشارع القيمرية الحالي، وأن الآغورا (السوق) واقعة شرق المعبد؛ إضافة إلى وجود حي ثالث لهم كان يقع شرق الآغورا في فترة السيطرة النبطية على المدينة سنة ٨٥ق.م؛ معتمدين على الروايات المنقولة حتى القرون الوسطى عن تسمية الحي الشمالي الشرقي من باب توما باسم حي النبطيين.

      تنقيبات جنوبي الجامع الأموي وتظهر في الصورة أرضية معبد حوريات الماء  

تأثرت دمشق بالمدن الرومانية شطرنجية المخطط، وساد فيها الطابع الروماني المتمثل بالعمارة خاصة، حيث أجريت فيها تغييرات أساسية، وما يزال الشارع الرئيس (المستقيم)- الذي يسمى حالياً شارع مدحت باشا- عنصراً مهماً في تنظيم المدينة، ويعود تاريخه إلى فترة حكم الامبراطور كلاوديوس Claudius (٤١-٥٤م)، ومن الآثار المتميزة للمدينة القديمة بقايا معبد الإله جوبيتير الذي يعود تاريخه إلى النصف الثاني من القرن الأول الميلادي. أما السور فليس ثمة أي معلومات واضحة عنه؛ إذ هُدِم في القرن الثامن الميلادي، وأعيد بناؤه في القرن العاشر الميلادي للمرة الأولى؛ ومن ثم في القرن الثاني عشر. وافترض العلماء أن السور الحالي لا يحتفظ بكثير من عناصر الجدار الذي كان مبنياً سابقاً؛ ولكن المواد الأولية المتعددة القديمة الموجودة فيه أعيد استعمالها، والأثر الوحيد الذي بقي في مكانه هو الباب الشرقي.

وعن الفرضيات المطروحة من قبل الباحثين حول السور فإن السور القائم حالياً يعود في معظم أجزائه إلى القرون الوسطى؛ إذ أُعيد استخدام أحجاره القديمة في أجزاء عديدة منه. ومن خلال قيامهم بدراسات طبوغرافية عن شكل السور خلال العصور القديمة والسابقة للإسلام، وانطلاقاً من نقطتين محددتين هما: الباب الشرقي والباب الغربي وربطه بالطريق المستقيم أو المحوري بينهما، ومن خلال مد خطوط مستقيمة بين نقاط عديدة؛ افترضوا أن مخطط المدينة خلال العصر الروماني كان مستطيلاً، ولا تزال هذه الفرضية غير مؤكدة؛ إذ لم يتم التأكد حتى اليوم من شكل السور في العصر الروماني وقبله العصر الهلنستي. كما افترض أيضاً أن شكل السور خلال العصور الإسلامية لم يأتِ مطابقاً للتخطيط القديم العائد إلى ما قبل الفتح الإسلامي؛ إذ ظهرت حالة ميلان في بعض الاتجاهات في مخططها القديم. وأما أبواب السور القديمة فمنها: الباب الشرقي وهو باب روماني، أجريت عليه الترميمات الأثرية مؤخراً، وينسب بناء هذا الباب- مع مجموعة أعمال توسيع أخرى في المدينة- إلى الامبراطور سبتيميوس سيفيروس. وأما باب العمارة الذي يعود تاريخ بنائه إلى القرون الوسطى؛ فمازال اسمه الآخر هو باب الفراديس يحمل في طياته اسم الباب الروماني القديم. أما بقية أبواب السور فقد جاءت المعلومات عنها من خلال الكتب التاريخية فقط؛ بسبب إنشاء الأبواب الجديدة مكانها، وكانت تحمل أسماء الأبراج الفلكية، وهي: باب الجابية في الغرب، وباب الجنيق وباب توما في الشمال، وباب بولص (كيسان) والباب الصغير في الجنوب. وافترضت الباحثة دوروتيه زاك أنه أجريت تعديلات وأعمال توسيع في الشارع المستقيم؛ بيد أن مساره اتبع مسار شارع أقدم عهداً، فالأول يتبع مسار الشارع المستقيم عند الكنيسة المريمية الحالية حيث يوجد باب أثري حالياً (قوس الخراب)، ويُعتقد أنه كان جزءاً من نصب لتقاطع الشوارع (تترابيل). أما الانحراف الثاني فقد جرى في الجانب الغربي لتل السماكة (تل النجارين). وإن هذين التعديلين قد أفسحا المجال لإعمار الجزء الجنوبي من المدينة وتخطيطه.

بقايا معمارية من معبد جوبيتير أمام الباب الغربي للجامع الاموي

أما معبد جوبيتير الروماني فما تزال أجزاء منه في أحد جدران الجامع الأموي، وقد جرت عليه تغيّرات، فكان معبداً آرامياً للإله هدد، وافترض باحثون أنه كان يتمتع بصفات مخططات المعابد الآرامية المؤلفة من حرم مقدس تحيط به باحة مكشوفة، ثم أُنشئ فوقه في عصور لاحقة معبد آخر خُصِّص للإله زيوس في العصر الهلنستي؛ ثم للإله جوبيتير في العصر الروماني حيث عُرف هذان الإلهان بديلين من الإله هدد. ثم تم تحويل الهيكل الوثني إلى كنيسة في العصر البيزنطي، وأخيراً إلى مسجد جامع في العصر الأموي الإسلامي.

أما المسرح الذي ورد ذكره ضمن الأعمال التأسيسية التي قام بها الملك هيرودوس الثاني في دمشق؛ فقد افترضت زاك أن مكانه في الجزء الجنوبي الغربي للمدينة، وأما الملعب (جمنازيوم) والذي أسسه هيرودوس أيضاً فإن مكانه غير معروف.

محمد الزين، مأمون عبد الكريم

 


- التصنيف : آثار كلاسيكية - المجلد : المجلد السابع مشاركة :

بحث ضمن الموسوعة

من نحن ؟

الموسوعة إحدى المنارات التي يستهدي بها الطامحون إلى تثقيف العقل، والراغبون في الخروج من ظلمات الجهل الموسوعة وسيلة لا غنى عنها لاستقصاء المعارف وتحصيلها، ولاستجلاء غوامض المصطلحات ودقائق العلوم وحقائق المسميات وموسوعتنا العربية تضع بين يديك المادة العلمية الوافية معزَّزة بالخرائط والجداول والبيانات والمعادلات والأشكال والرسوم والصور الملونة التي تم تنضيدها وإخراجها وطبعها بأحدث الوسائل والأجهزة. تصدرها: هيئة عامة ذات طابع علمي وثقافي، ترتبط بوزير الثقافة تأسست عام 1981 ومركزها دمشق