دفني (مدينة-)
دفني (مدينه)
- Daphné
دافني (مدينة -)
دافني Daphne هي ضاحية أنطاكية الشهيرة الواقعة في لواء إسكندرون في الشمال الغربي من سورية، وهي تعرف اليوم باسم الحربيات، وتقع على بعد نحو ٨كم إلى الجنوب من أنطاكية، وتجثم على أحد مرتفعات جبل سلبيوس Silpius المطلة على نهر العاصي.
كانت من أجمل المتنزهات في العالم القديم، وبلغ من شهرتها أن درّة الشرق أنطاكية كانت تنسب إليها تمييزاً لها من المدن الأخرى التي حملت اسمها؛ فيقال: أنطاكية عند دافني Antiocheia epi Daphnae.
أثار جمال دافني الطبيعي الخيال لعدد من الأساطير التي ارتبطت بها منذ تأسيسها عام ٣٠٠ق.م؛ ففي هذا المكان تحوّلت الحورية العذراء دافني إلى شجرة غار (وهو مدلول اسمها باللغة الإغريقية) لكي تنقذ نفسها من مطاردة الإله أبولون ]ر[ Apollon الذي هام بها حباً.
وقد وُجدت هذه الأسطورة ممثَّلة في لوحة فسيفسائية عثر عليها في أحد بيوت دافني، وهي تعود إلى القرن الثالث الميلادي، كما عثر على لوحة أخرى تصور شخصية والدها لادون Ladon الذي أطلق اسمه على أحد جداول الماء في دافني. وثمة أسطورة أخرى تجعل من هذه البقعة مسرحاً لمباراة الجمال التي حكم فيها الأمير باريس لأفروديت [ر] بأنها أجمل الآلهات.
ويذكر الخطيب الشهير ليبانيوس [ر] Libanios كيف أن العناية الإلهية هي التي قادت الملك سلوقس [ر] Seleukos مؤسس أنطاكية إلى جعل أبولون إلهاً لدافني، ذلك أنه عندما كان خارجاً للصيد في هذا المكان وجد أحد سهام الإله أبولون فقرر أن يقيم له معبداً كبيراً وحرماً مقدساً غُرِست فيه أشجار الغار والأرز والسرو التي ذاعت شهرتها في العالم القديم.
وقد أقيم المعبد في أجمل مكان في دافني حيث تتدفق الينابيع بمائها العذب النقي، ومن أشهرها نبع كستاليا Castalia الذي أصبح مهبط وحي الإله ونبوءته.
وكان ينتصب في هذا المعبد تمثال أبولون الشهير (من صنع النحات الأثيني برياكسيس Bryaxis) حاملاً قيثارته في يد وقوسه وسهامه في اليد الأخرى، ويقال إنه كان يضارع في حجمه وفخامته تمثال كبير الآلهة زيوس [ر] الأولمبي للفنان فيدياس، وقد أصبحت صور هذا التمثال شعاراً مميزاً للنقود السلوقية.
موقع دافني |
وفيما بعد أضيفت إلى أبولون عبادة شقيقته التوءم أرتميس [ر] Artemis التي ورد اسمها في مرسوم للملك السلوقي أنطيوخوس [ر] الثالث لعام ١٨٩ق.م بمناسبة تسمية رئيس كهنة أبولون؛ الإله الحامي للسلالة السلوقية.
ومن الأحداث المشهورة في تاريخ دافني زيارة البطل القرطاجي الكبير هانيبال في عام ١٩٥ق.م حيث شهد ألعاباً فخمة أقامها ولي العهد السلوقي آنذاك أنطيوخوس الرابع.
وفيها جرت الاحتفالات الشهيرة التي أقامها الملك أنطيوخوس الرابع سنة ١٦٧ق.م بمناسبة انتصاراته على البطالمة والتي دامت ثلاثين يوماً، وقد وصفها المؤرخ بوليبيوس Polybios بأنها كانت في منتهى الروعة والأبهة وذاع صيتها آنذاك في العالم الإغريقي.
ومن الأحداث التي جرت فيها في العصر الروماني وفاة الأمير جرمانيكوس ابن أخ الامبراطور تيبريوس وولي عهده سنة ١٩م في أثناء جولته التفقدية في الشرق، فشُيِّع في جنازة مهيبة وأُحرِق جثمانه وأُرسِل رماده إلى روما وأقيم له تمثال كبير في الموقع ذاته.
وفي أثناء وجود الامبراطور ترايانوس [ر] Trajanus في أنطاكية سنة ١١٥م حدث زلزال كبير ألحق دماراً مريعاً بأنطاكية وضاحيتها دافني التي أقيم فيها على إثره معبد لزيوس سوتير (المنقذ)، وكانت دافني في عهد الامبراطور ماركوس أوريليوس مرتعاً لمباهج زميله لوكيوس فيروس Lucius Verus (١٦١-١٦٩م) الذي انصرف إلى حياة اللهو والمسرات فيها بدلاً من قيادة الحرب ضد البارثيين.
كما رابطت عند دافني وحدة عسكرية تدمرية كانت مكلفة تغطية انسحاب الملكة زنوبيا عام ٢٧٢م من أنطاكية إلى حمص في حربها مع الامبراطور أورليان.
وتعدّ زيارة الامبراطور جوليانوس [ر] Julianus (المرتد) لأنطاكية وإقامته فيها سنة ٣٦٢م من أهم الأحداث في تاريخها، وكان قبل وصوله إليها كلَّف والي الشرق إعادة ترميم معبد أبولون في دافني، وعندما أراد استشارة نبوءة هذا الإله أخبره كهنة المعبد أن وحي الإله قد صمت منذ أن دُفن بالقرب من ينبوع كستاليا جثمان القديس بابولاس Babylas سنة ٣٥١م وذلك من أجل الحد من نفوذ الوثنية وإسكات أشهر معابدها في المنطقة، فأمر جوليانوس بإعادة الجثمان إلى أنطاكية التي كان قد نقل منها. وفي ٢٢ تشرين أول/أكتوبر سنة ٣٦٢م شبّت النيران في معبد أبولون وتحطم تمثاله الشهير المصنوع من الذهب والفضة والعاج، وقد اتُّهم المسيحيون بتدبير الحادثة وبدأت ملاحقتهم وأُغلقت كنيستهم الكبرى في أنطاكية، وكان ذلك نهاية الوثنية في دافني ومعالمها الشهيرة ليبدأ بعد ذلك تشييد الكنائس والأديرة بدلاً منها.
كانت دافني تفيض بالجداول والينابيع الثرة التي توفر المياه النقية الصافية ليس فقط لقصورها وحماماتها وحدائقها؛ وإنما كانت تزوّد كبرى مدن الشرق أنطاكية بقسم كبير من المياه العذبة التي تحتاج إليها عبر قنوات للمياه aquaductus تسير بمحاذاة سفوح جبل سلبيوس، لتتوزع بعدها في أنحاء المدينة، ولاتزال آثار قناة المياه من دافني إلى أنطاكية باقية حتى اليوم.
رسم تخيلي لآثار دافني |
كان هذا الغنى بموارد المياه من دوافع سلوقس لتأسيس أنطاكية في هذا الموقع، وتذكر الروايات أنه قام بجر أول قناة للمياه ثم تبعتها قنوات أخرى في زمن الرومان. وقد أنشأ الامبراطور هادريانوس [ر] Hadrianus خزاناً كبيراً لحفظ مياه الينابيع الشهيرة والتحكم فيها، وأقام إلى جانبه معبداً لحوريات الماء يزينه تمثال ضخم للامبراطور على هيئة الإله زيوس حاملاً الكرة السماوية، وتم الاحتفال بتدشين هذه المنشآت عام ١٢٩م في أثناء زيارة الامبراطور لسورية. وأظهرت الأبحاث الأثرية أن نظام تزويد أنطاكية بالمياه من ينابيع دافني بقنواتها وخزاناتها كان أفضل نظام معروف من العصور القديمة.
بدأت التنقيبات الأثرية لجامعة برنستون الأمريكية في أنطاكية وضواحيها سنة ١٩٣٢م واستمرت حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية سنة ١٩٣٩م، ولم يكن من الممكن القيام بكشف نظامي شامل عن دافني القديمة؛ لأن اهتمام المنقبين انصب على الكشف عن الفسيفساء التي اكتشفها السكان مصادفة وإنقاذها من الدمار.
والبناء الكبير الوحيد الذي تم الكشف عنه هو المسرح المعروف من المصادر التاريخية والذي لم يكن موقعه مؤكداً، وقد تبين أنه كان مسرحاً من النمط الكلاسيكي، ويمكن تأريخه تبعاً للشواهد الأثرية والمعمارية في الربع الأخير من القرن الأول الميلادي. وهذا يؤكد الرواية التاريخية القائلة: إن تيتوس ابن الامبراطور فسباسيان هو الذي أقامه بعد انتصاراته في فلسطين في موقع كنيس يهودي تمت إزالته من أجل المسرح الذي حمل نقشاً يتضمن عبارة «من أسلاب اليهود» كما أقام تمثالين له ولأبيه تم العثور على حطامهما.
وكان في دافني أيضاً ميدان لسباق الخيل stadium يعود إلى أيام السلوقيين، أصبح فيما بعد جزءاً من الألعاب الأولمبية في أنطاكية التي أنشئت في عهد الامبراطور أغسطس [ر] وصارت من أشهر الاحتفالات في العالم القديم. وقد أعاد الامبراطور ديوقليسيانوس [ر] تجديد هذا الميدان وتزيينه وأقام فيه معبدين أحدهما للإله زيوس الأولمبي الذي كان يرعى الامبراطور وأسرته.
ويمكن تعرِّف الكثير من معالم دافني القديمة من لوحة الفسيفساء الشهيرة المسماة يكتو Yakto (باسم المكان التي وُجدت فيها) والتي تعود إلى أواسط القرن الخامس الميلادي وموضوعها عظمة الروح Megalopsychia، وتُعدّ من أدق اللوحات تصويراً للأبنية ومشاهد الحياة اليومية في أنطاكية، ويوجد فيها الطريق الواصل إلى دافني بمنشآته الفخمة وقصوره الريفية والذي يصفه الخطيب ليبانيوس في خطبته الشهيرة عن أنطاكية بأبدع الأوصاف.
كما عثر في دافني على عدد كبير من لوحات الفسيفساء ذات المواضيع المثيولوجية والطبيعية والدينية؛ تصور إحداها (فيليا Philia) وصفاً للعصر الذهبي حيث يوجد الذئب إلى جانب الحمل والفهد يستلقي إلى جانب العنزة في وئام وانسجام، وتعدّ هذه اللوحات من أروع ما يضمه متحف الفسيفساء في أنطاكية.
عانت دافني مثل أنطاكية الحروب التي قامت بين الفرس والروم في القرن السادس الميلادي والزلازل والهزات الأرضية التي ضربتها سنة ٥٢٦م، ويذكر المؤرخ الأنطاكي مالالاس أن الدمار امتد إلى المنطقة المحيطة بدافني بمساحة ٢٠ ميلاً وتلتها هزة أرضية ثانية سنة ٥٢٨م؛ وثالثة سنة ٥٤٠م، ونجم عن هذه الزلازل دمار هائل. وفي عام ٥٧٧م حدث زلزال شديد دمّر دافني بأكملها وأدى إلى نزوح أعداد كبيرة من السكان، ويغيب ذكر دافني بعد هذه النكبات ويطويها النسيان زمناً طويلا ً.
محمد الزين
مراجع للاستزادة: - G. Downey, A History of Antioch on the Orontes from Seleucus to the Arab Conquest (Princeton 1961). - D.N.Wilber, The Theatre at Daphne in Antioch –on-the Orontes II (Princeton 1938). |
- التصنيف : آثار كلاسيكية - المجلد : المجلد السابع مشاركة :