حلب في العصور الكلاسيكية
حلب في العصور كلاسيكيه
-
حلب
حلب
حلب في العصور الكلاسيكية
لا يعرف شيء عن تاريخ حلب في الفترة الأخمينية التي سبقت الاحتلال المقدوني لسورية في المصادر الكلاسيكية؛ إلا ما ورد لدى المؤرخ إكسنوفون Xenophon في أخبار حملة قورش الأصغر ضد أخيه الملك الفارسي (المسماة الصعود Anabasis) التي شارك فيها مع عشرة آلاف من المرتزقة الإغريق وانطلقت من آسيا الصغرى سنة٤٠١ق.م عبر البوابات السورية ومناطق الإسكندرون وحلب سالكة أقصر الطرق بين البحر المتوسط ونهر الفرات بهدف الوصول إلى بابل، وقد مرت في طريقها بنهر خالوس Xalos «المليء بالأسماك الكبيرة والأليفة التي يقدسها السوريون»، والذي لم يكن سوى نهر حلب المعروف بنهر قويق. ومن الغريب أن إكسنوفون لا يأتي على ذكر المدينة مع أنه عدد أماكن كثيرة مرت بها الحملة، وقد يعود ذلك إلى أن الحملة تجنبت المرور بمدينة حلب لوجود حامية فارسية قوية فيها.
حلب القديمة - منظر من القلعة |
كانت معركة إيسوس[ر] Issos - التي جرت على خليج إسكندرون في الشمال الغربي من حلب سنة ٣٣٣ق.م وانتهت بانتصار الإسكندر المقدوني على الجيوش الفارسية- من الأحداث المصيرية في تاريخ المشرق العربي القديم وإيذاناً ببداية عصر جديد في تاريخ سورية وحلب؛ ألا وهو العصر الهلنستي الذي كان من أبرز سماته الالتقاء والتفاعل والتأثير المتبادل بين الحضارة الإغريقية الوافدة وحضارات الشرق القديم العريقة. وبعد موت الإسكندر سنة ٣٢٣ق.م انهارت امبراطوريته واقتسمها كبار قادته بعد ربع قرن من الصراع، وهكذا نشأت الممالك السلوقية والبطلمية والمقدونية.
كانت سورية من نصيب سلوقس نيكاتور Seleukos Nikator الذي جعل منها المركز الرئيسي لامبراطوريته التي امتدت من البحر المتوسط غرباً حتى الهند شرقاً، وكان من أعظم مآثره إنشاؤه عدداً كبيراً من المدن الجديدة في سورية على غرار الطراز الإغريقي وعلى رأسها المدن الأربع الشقيقة: سلوقية وأنطاكية واللاذقية وأفامية التي حملت أسماء الأسرة الملكية السلوقية.
حظيت حلب باهتمام سلوقس بسبب أهميتها الاقتصادية ولموقعها الاستراتيجي نقطة التقاء طريقين تجاريين كبيرين يربطان جنوب سورية بالأناضول وبلاد الرافدين والشرق بالبحر المتوسط ولاسيما أنها تقع في منتصف المسافة بين نهر الفرات وعاصمة الامبراطورية أنطاكية. وهكذا اختارها لتكون إحدى المدن القديمة التي أعاد تأسيسها وهذا يعني تحويلها إلى مدينة بالمعنى الإغريقي للكلمة؛ أي بوليسPolis ، ولكن عراقة المدينة واستمرار سكناها عبر العصور جعله يكتفي بإنشاء حي جديد أو مدينة حديثة إلى جانب المدينة القديمة (مثلما جرى لاحقاً أيضاً في دمشق وحماة) وأطلق عليها اسم عاصمة مقدونيا القديمة بيروياBeroia ، وهو الاسم الذي حملته حلب طوال العصور الكلاسيكية، ولعل في هذا الاسم دلالة على أن معظم المستوطنين الجدد كانوا من المقدونيين.وتجمع المصادر الإغريقية والعربية على نسبة تأسيس المدينة إلى سلوقس؛ إذ يؤكد المؤرخ أبيانوس[ر]Appianos أن بيرويا كانت بين المدن الجديدة الإغريقية التي أقامها سلوقس في سورية App.Syr 298)). كما يذكر ياقوت الحموي في «معجم البلدان» في حديثه عن حلب أن سلوقس بنى اللاذقية وسلوقية وأفامية وبارّوا وهي حلب في السنة الثالثة عشرة من مملكته؛ أي إن تأسيس بيرويا- بحسب التقويم السلوقي–جرى مع باقي المدن الأخرى في عام ٣٠٠ق.م.
وتشير الأبحاث الميدانية التي قام بها جان سوڤاجيه J.Sauvaget في حلب إلى أن بيرويا تأسست وفق المخطط الهيبودامي الشبكي بشوارعه المستقيمة المتوازية التي تتقاطع مع بعضها في زوايا قائمة مؤلفة وحدات سكنية تتوزع على امتدادها عرفت باسم جُزر Insulae، ويذكر سوڤاجيه أن أبعاد هذه الجُزر بلغت في حلب ١٠٠×٤٦م، وقد بنيت الأحياء الجديدة شمال المدينة القديمة على خط يمتد مابين تل العقبة المطل على نهر قويق غرباً وتل القلعة شرقاً؛ أي في منطقة الأسواق القديمة الحالية (المسماة المدينة) التي تنتهي في باب أنطاكية، وكان هذا الخط الشارعَ الرئيس الذي تحف به الأروقة على الجانبين؛ وينتهي في وسطه بساحة عامة عرفت بالأغورا Agora وشغلت مساحة ثلاث جزر سكنية؛ وتتجمع فيها وحولها الأبنية البلدية والأماكن المقدسة التي يقوم عليها حالياً الجامع الأموي الكبير.
ويذكر سوڤاجيه نقلاً عن المؤرخ ابن شداد في كتابه «الأعلاق الخطيرة» أن سلوقس جلب إلى بيرويا المياه العذبة من ضواحيها، وأوصلها إلى مركز المدينة عبر قناة باطنية من ينابيع حيلان على بعد ١٣ كم عن المدينة.
أما أكروبول Akropolis المدينة وقلعتها العسكرية فقد أقيمت على الهضبة الطبيعية المشرفة على المدينة، وكانت من عمل سلوقس نيكاتور وفقاً للمصادر العربية.
كما فرضت ضرورات الدفاع فيما بعد بناء سور يحيط بالأحياء الحديثة موازٍ لشوارعها والذي تنسبه المصادر العربية خطأً إلى الروم أيضاً (أي إلى الإغريق)، وقد أجريت على هذا السور السلوقي ترميمات وتعديلات في العهدين الروماني والبيزنطي (وكذلك فيما بعد في العهود الإسلامية) حتى صار مضرب المثل في المنعة والتحصين، ويقول عنه كامل الغزي في كتابه «نهر الذهب في تاريخ حلب»: «كان يضرب المثل بحصانة سور حلب ومنعته وكان قديماً مؤلفاً من ثلاثة أسوار مبنية بالحجارة من بناء الروم، كما تشعث بمحاصرة كسرى بعد استيلائه عليها، رُمّ (أي رُمّم) ما تشعث من أسوارها وبني ما انهدم منها بالآجر الفارسي، وذلك فيما بين باب الجنان وباب أنطاكية وبقيت هكذا إلى أن ملكها المسلمون».
وهكذا اتخذت حلب/بيرويا طابع مدينة هيلينية تتمتع بالحكم الذاتي، لها قوانينها ومؤسساتها وحكامها المنتخبون ومجالسها البلدية ومنشآتها المختلفة كالأسوار والمعابد والساحة العامة والأكروبول..إلخ.
ومع كل تأسيس جديد كانت تجري عملية مسح للأراضي يتم من خلالها تخصيص كل مستوطن بقطعة أرض في المدينة لبناء منزله أو حصة Kleros من الأراضي الصالحة للزراعة التي كان كثير من المستوطنين يستخدمون لاستثمارها فلاحين محليين، وفي كل الأحوال فإن أعداد المستوطنين في بيرويا وغيرها من المدن الوطنية قديمة العهد لم تكن كبيرة –كما كانت الحال في المدن الجديدة مثل أنطاكية وأخواتها – وبالتالي فإن عمليات المساحة وتوزيع الأراضي في حلب كانت محدودة ولم تغير كثيراً من الواقع السائد آنذاك كما أظهرت بعض عمليات المساحة حول حلب (وكان الأمر كذلك بالنسبة إلى دمشق).
سرت في العصر السلوقي حياة جديدة في أوصال المدينة التي استعادت أهميتها التجارية والاقتصادية في الشمال السوري؛ ولا سيما أن سورية أضحت قلب الامبراطورية السلوقية ومركزها السياسي والعسكري والاقتصادي؛ واستأثرت باهتمام ملوكها وجهودهم العمرانية ولاسيما في طور قوتهم. وإلى هذا العصر يعود إدخال شجرة الفستق- وهي فارسية الأصل كما يشير اسمها- إلى سورية، وقد اشتهرت مدينة حلب بزراعتها منذ ذلك الوقت حتى صارت تعرف عالمياً باسم الفستق الحلبي.
حلب القديمة |
مما لاشك فيه أن حلب عانت مثل بقية المدن السورية الصراعات والحروب الطويلة بين السلوقيين والبطالمة المعروفة باسم الحروب السورية (٢٧٤-١٦٧ق.م) وكذلك الحروب السلوقية الرومانية التي انتهت بهزيمة أنطوخيوس الثالث وخسارته آسيا الصغرى. يضاف إلى ذلك أن سورية قد تأثرت بالحروب السلوقية الفرثية التي انتهت باستيلاء الفرثيين على الجناح الشرقي للمملكة السلوقية وصولاً إلى بلاد الرافدين، وهكذا بدأت الامبراطورية السلوقية تتقلص شيئاً فشيئاً لتقتصر آخر الأمر على مناطق سورية الطبيعية، ثم جاءت الصراعات على العرش السلوقي بين أفراد الأسرة المالكة لتؤدي إلى انهيار السلطة المركزية وتعاظم الأخطار الخارجية والداخلية، وسعت كثير من المدن السورية في تلك الظروف-ومنها بيرويا- إلى المساومة على ولائها وتأييدها لهذا الملك أو ذاك مقابل الحصول على مزيد من الامتيازات والاستقلال الاسمي والفعلي، كما ظهرت فيها زعامات محلية.
ويروى عن أحداث هذه الفترة المضطربة أن الوزير الأكبر في بلاط الملك أنطوخيوس الثامن المدعو هراكليون Heraklion- وكان من مدينة بيرويا– استغل ضعف السلطة السلوقية وأقدم على اغتيال سيده سنة ٩٦ ق.م، مما أثار نقمة أهالي أنطاكية فاضطر إلى الفرار إلى مسقط رأسه حلب التي أسس فيها إمارة مستقلة ضمت كلاً من هيرابوليسHierapolis (منبج) وهرقلية Herakleia على الفرات (الرقة) وحكمها ابناه من بعده. ويروي المؤرخ يوسفيوس أنه خلال حكم ابنه استراتون Straton عانت حلب الحصار الذي فرضه عليها في سنة ٨٧ ق.م الملك السلوقي ديمتريوس الثالث Demetrios III الذي اتخذ دمشق عاصمة له وجاء لمهاجمة أخيه فيليب الذي كان قد التجأ إلى صديقه استراتون، فاستنجدت حلب بأحد شيوخ القبائل العربية القريبة منها المدعو عزيز Azizos وكذلك بحاكم بلاد الرافدين الفرثي فأنجداها وتمكنا من فك الحصار عنها وأسر ديمتريوس واقتياده إلى البلاط الفارسي.
ويذكر استرابون في جغرافيته نقلاً عن المؤرخ بوسيدونيوس Poseidonios الأفاميأن حاكم إمارة حلب في الفترة التي سبقت وصول بومبيوس Pompeius إلى سورية (٦٤ق.م) كان يدعى ديونيسيوس Dionysios بن هراكليون، ويقول عنه إنه كان طاغية (وهي تسمية أطلقها الإغريق على أي حاكم خارج نطاق الأطر الدستورية المعتادة) يحكم في بيرويا ومنبج وهرقلية على الفرات، وهذا يدل على قوته واتساع سلطانه واستمرار حكم سلالة هراكليون.
حلب: طبقة أثرية من العصر الهلنستي |
ومع دخول القائد الروماني بومبيوس مدينة أنطاكية عام ٦٤ق.م وقضائه على المملكة السلوقية المنهارة وإعلانه سورية ولاية رومانية؛ بدأ فصل جديد في تاريخ حلب/بيرويا. كانت السنون الأولى من الاحتلال الروماني في غاية القسوة على سورية وأبنائها؛ إذ قام القادة الرومان بنهب خيراتها وسلب أموالها وفرض الأتاوى الباهظة على مدنها لتمويل حروبهم التوسعية وصراعاتهم على السلطة، فعندما تولى كراسوس Crassus أمور الولاية عام ٥٤ ق.م - وكان مشهوراً بجشعه وحبه للمال مع ثرائه الفاحش- وضع يده على كنوز المعابد السورية وعلى رأسها معبد هيرابوليس/ منبج الشهير في منطقة حلب؛ ولكنه لقي حتفه في معركة حران في شمالي سورية .
وقد استغل الفرثيون الحروب الأهلية الرومانية للهجوم على سورية واجتياح مدنها ونهبها (٤٠-٣٨ق.م)، وعانى سكان حلب ويلات تلك الحروب ولاسيما أن معظم الجيوش الرومانية كانت ترابط في شمالي سورية التي كانت ساحة الصراع والمعارك الرئيسية بين الرومان والفرس. ولم تهدأ الأوضاع في الشرق إلا بعد عقد معاهدة صلح بين الدولتين في عهد الامبراطور أغسطس[ر] Augustusسنة ٢١ ق.م، ونعمت سورية بفترة من الهدوء والسلام دامت عشرات السنين، ولكن الامبراطور ترايانوس[ر] Trajanus شنَّ حرباً شاملة على الفرثيين (١١٥-١١٧م) وقد مر خلال حملاته العسكرية بمدينة حلب وأمر بضرب النقود في دار سكتها، فصدرت عملة تحمل على أحد وجهيها صورة الامبراطور واسمه؛ وعلى الوجه الآخر اسم بيروياBeroiawn باللغة الإغريقية ضمن إكليل من الغار(أي: نقود البيرويانين). ومن الجدير بالذكر أن بيرويا استمرت في إصدار سلسلة من النقود البرونزية التي تحمل اسمها حتى عهد الامبراطور أنطونينوس بيوس Antoninus Pius (١٣٨-١٦١م )، ثم استأنفت سك النقود؛ لكن هذه المرة من معدن الفضة من وحدة التترادراخما التي حملت رسم النسر السوري في عهد الامبراطور كركلا [ر] Caracalla (٢١١-٢١٧م) وارتبط إصدارها بالحرب ضد الفرثيين.
وكانت آخر إصداراتها المؤرخة من البرونز في عهد الامبراطور إيلاجبال[ر] Elagabalus (٢١٨-٢٢٢م)، وأخيراً سكت نقوداً برونزية صغيرة غير محددة التاريخ. وقد حظيت سورية ومدنها بعناية خاصة، ونالت كثيراً من الامتيازات مع وصول سبتيميوس سـڤيروس[ر] Septimius Severus وزوجته الأميرة الحمصية جوليا دومنا[ر] Julia Domna إلى عرش الامبراطورية وتأسيس حكم الأسرة الليبية – السورية (١٩٣-٢٣٥م)، وعندما أصدر ابنهما الامبراطور كركلا مرسومه الشهير عام٢١٢م بمنح حقوق المواطنة الرومانية لجميع السكان الأحرار في الامبراطورية- التي تحولت بذلك إلى امبراطورية عالمية- صار أهالي حلب وسورية مواطنين روماناً. بيد أن سياسة الرومان التوسعية وقيام الامبراطورية الساسانية (٢٢٦م) أدى إلى اشتعال الحروب من جديد وكانت ساحتها الرئيسة دائماً سورية.
وهكذا قام الملك شابور Sapor بحملة كبيرة على سورية عام٢٥٦م فاحتل معظم مدنها بما في ذلك هيرابوليس وبيرويا والعاصمة أنطاكية، ودمر مدينة دورا أوروبوس[ر] Dura Europsوتمكن بعد ذلك من أسر الامبراطور الروماني ڤـالريانوس Valerianus سنة ٢٦٠م بعد هزيمته في معركة الرها (إديسا)، وكان ذلك من الأحداث الشهيرة في الشرق.
في تلك السنوات العصيبة برز أمير تدمر أذينة الثاني الذي تصدى للفرس وأحرز عدة انتصارات عليهم واستخلص كثيراً من الغنائم التي نهبوها، فكافأه الرومان بلقب قائد الشرق Dux Orientis؛ ولكنه اغتيل بعد ذلك في ظروف غامضة وتسلَّمت زوجته زنوبيا[ر] زمام الأمور وصية على ابنها وهب اللات فأعلنت استقلالها وحررت سورية ومصر من السيطرة الرومانية، وأسست مملكة كبيرة امتدت من الأناضول إلى النيل ولكن لم يكتب لها البقاء طويلاً؛ إذ سقطت سنة ٢٧٢م على يد الامبراطور أورليان Aurelianus.
كانت حلب بحكم موقعها الجغرافي المتميز عقدة مواصلات مهمة منذ أقدم العصور، وقد زادت أهميتها في العصور الكلاسيكية بعد تأسيس السلوقيين ذلك العدد الكبير من المدن في شمالي سورية جاعلين منها العمود الفقري لامبراطوريتهم، ثم جاء الرومان وجعلوا من سورية محور شبكة الطرق الرومانية في الشرق بسبب مكانتها وأهميتها الاستراتيجية؛ فقد أصبحت معبراً عسكرياً وتجارياً إلى بلاد الرافدين والأناضول ومصر وشبه الجزيرة العربية. ويمكن حتى اليوم مشاهدة مقطع من الطريق الرئيسي الذي يصل بين أنطاكية وكل من حلب وقنسرين بطول ١٢٠٠م وعرض ٥.٦م قرب قرية كفر كرمين في الجنوب الغربي من حلب، وهو مثال جميل لطريق يقوم على أساس متين مرصوف بكامله من الحجارة المشذبة التي تم خربشة القسم العلوي منها كيلا تنزلق عليها الخيول، وهو يعدّ أساس الطريق الحالي الواصل بين المدينتين، وقد عثر على أحد أحجار المسافات (الأميال) الذي يشير إلى ترميم هذا الطريق في عهد الامبراطور ماركوس أوريليوس[ر] Marcus Aurelius (١٦١-١٨٠م). وهناك الطريق الرئيسي الشمالي الشرقي الذي تشير إليه لوحة بوتنجر[ر]Peutinger ويربط حلب بنهر الفرات عبر منبج (هيرابوليس) وجرابلس (كركميش القديمة وزوغما Zeugma السلوقية – الرومانية)، وكانت تسلكه الجيوش الرومانية في حروبها مع الفرثيين، وقد عمل الامبراطور سبتيميوس سفيروس على تحسين هذا الطريق وزرعه بأحجار المسافات التي عثر على بعضها في الشمال الشرقي من حلب (شيخ نجار) وفي موقع عريمة بين مدينتي الباب ومنبج.
باب أنطاكية |
وثمة طريق آخر ينطلق شرقاً عبر بلدة السفيرة وبمحاذاة بحيرة الجبول وصولاً إلى مسكنة على الفرات وكان صلة الوصل الرئيسية بين حلب ودورا أوربوس، كانت هذه الطرق عظيمة الأهمية لتحركات الجيوش في زمن الحرب وشرايين الحياة التجارية في أيام السلم.
بيد أن مكانة حلب الدينية المعروفة منذ الألف الثالث قبل الميلاد بوصفها أكبر مراكز عبادة الإله أدد/ بعل الذي عبد في العصر الهلنستي باسم زيوس[ر]Zeus وفي العصر الروماني باسم جوبيتر[ر] Jupite ، لم تلق الاهتمام الكبير في الحديث عنها في المصادر الإغريقية والرومانية التي اهتمت بثلاثة مراكز كبرى لعبادته اشتهرت في العصر الروماني وهي دمشق وهليوبوليسHeliopolis (بعلبك) وهيرابوليس (منبج) Hierapolis أي المدينة المقدسة التي يبدو أنها صارت المحجة الأولى في الشمال السوري لعبادة الإله حدد بسبب اقترانه بالإلهة أترغاتيسAtargatis (عشتار) التي اشتهرت باسم «الإلهة السورية» Dea Syria وانتشرت عبادتها في الامبراطورية الرومانية، ولكن منبج كانت على الدوام تابعة لحلب وتدور في فلكها، ويصف الكاتب السوري القديم لوقيانوس Lucianus السميساطي في بحثه عن الإلهة السورية معبد أترغاتيس بأنه من أكبر المعابد وأضخمها في الشرق؛ وكان إلى جواره بحيرة مقدسة تسبح فيها الأسماك المقدسة الخاصة بالإلهة والمزينة بالحلي الذهبية، وهذا يذكر بالأسماك المقدسة المكرسة للإلهة عشتار والتي رأها إكسنوفون في نهر حلب المقدس خالوس(قويق) قبل خمسة قرون.
ومع هذا فإن عبادة الإله أدد الحلبي بقيت مستمرة وتحظى بمكانة مرموقة حتى في القرن الرابع الميلادي، وهنا ينيغي التذكير بتلك الزيارة التاريخية التي قام بها الامبراطور يوليان المرتد Iulianus- الذي حاول إحياء العبادات الوثنية- إلى حلب /بيرويا في عام ٣٦٣م وهو في طريقه إلى حرب الفرس؛ إذ يقول في رسالة بعث بها إلى صديقه الحميم خطيب أنطاكية الشهير ليبانيوس Libanios: «هنا أقمت يوماً واحداً وزرت الأكروبول، وقدمت ثوراً أبيض أضحية للإله زيوس (أي أدد) كما هي عادة القياصرة، وأجريت محادثة قصيرة عن عبادة الآلهة مع مجلس المدينة....» ويظهر جلياً من هذه الرسالة أن عبادة إله الطقس الحلبي المتمثلة آنذاك بالإله زيوس كانت لاتزال قائمة؛ وأن القياصرة اعتادوا تقديم الأضاحي له؛ وأن معبده الرئيسي كان في قلعة حلب مثل ماكانت عليه الحال أيام الحثيين في الألف الثاني قبل الميلاد.
وقد أظهرت حفريات جرت في صحن الجامع الكبير دلائل على وجود معبد كبير آخر للإله أدد في ساحة المدينة القديمة؛ وعلى استمرار المعتقدات الوثنية في حلب حتى بعد نصف قرن من الاعتراف بالديانة المسيحية رسمياً.
وهذا يفسر تأخر المدينة في اعتناق النصرانية واهتمام الملكة هيلانة Helena أم الامبراطور قسطنطين Konstantinos الكبير بنصارى بيرويا، فأقامت لهم في وسط مدينتهم كنيسة سميت باسمها وأصبحت كتدرائية حلب العظمى، وكان بناؤها (٣١٣-٣٢٤م) في غاية الروعة بهندستها وجمال تيجانها وأعمدتها الفخمة، وقد هدمت على يد كسرى أنوشروان سنة ٥٤٠م ثم جددت في عهد الامبراطور جستينيانوس Justinianus (٥٢٧-٥٦٥م)، ثم حولت إلى مدرسة إسلامية في زمن الحروب الصليبية ١١٤٧م عندما حاصر الفرنجة حلب، وهي معروفة اليوم باسم المدرسة الحلاوية (الحلوية). وتقول الروايات إنه بعد أن أتمت الملكة عمارة الكنيسة طلبت من ابنها قسطنطين أن يرسل إليها أسقفاً؛ فأرسل إليها الأسقف أوسطاطس Eusthatios؛ ثم أرسل بعده مطرانين تولى أحدهما (وهو ملاكس) فيما بعد الكرسي الرسولي في أنطاكية.
وأخيراً تكلل انتصار المسيحية نهائياً فصارت الديانة الرسمية الوحيدة منذ ٣٩٥م، وتم القضاء على جميع مظاهر الحياة الوثنية، وبدأ العصر المسيحي في تاريخ سورية الذي تبوأت فيه حلب مركزاً فكرياً ودينياً كبيراً، فصارت أبرشية ضخمة، وشغل أبناؤها مناصب كهنوتية مرموقة في المجامع الدينية ٠
وفي سنة ٣٨١م دعي أسقفها أكاليوس إلى مجمع القسطنطنية للمشاركة في إصلاح كنيسة المشرق بعد أن ذاع صيته بوصفه أحد أباء الكنيسة.
وقد اشتهرت مجادلاته مع يوحنا الأنطاكي «الذهبي الفم» ومع بطريرك الإسكندرية كيريليس دفاعاً عن الطبيعة الواحدة للسيد المسيح.
وفي سنة ٤٣٢م عقد في حلب/بيرويا مجمع من الأساقفة الشرقيين، ممايدل على سمو مكانتها الكنسية آنذاك ولا سيما أنها كانت تقوم بين مركزين كنسيين كبيرين هما: أنطاكية ذات التقاليد الكنسية الإغريقية في غربها، والرها (إديسا Edessa) بتقاليدها الآرامية في شمالها الشرقي.
ومن المعروف أن السمة الدينية طغت على حياة الناس في العصر البيزنطي، فبنيت الكنائس والصوامع والأديرة في كل مكان، ونشطت زيارة الأماكن المقدسة، وانتشرت ظاهرة الرهبنة في شمالي سورية انتشاراً واسعاً، وكان مار أفرام (المتوفى نحو ٣٧٣م) أحد مؤسيسها ومن أعظم أدباء اللغة السريانية الآرامية التي مثل إحياؤها مظهراً من مظاهر اليقظة القومية وردة فعل على هيمنة اللغة والفلسفة الإغريقية على المعتقدات البيزنطية الملكانية.
كما ظهر القديس سمعان العمودي نحو٣٨٦-٤٥٩م الذي نذر نفسه للنسك والتعبد، وأمضى نحو خمسين سنة من حياته يصلي، ويتعبد، ويعظ الناس من عموده الشهير على الطريق الواصل بين حلب وأنطاكية والذي أصبح محجة يقصدها المتعبدون من كل مكان٠ وخير شاهد على انتشار ظاهرة الحياة الديرية وفن العمارة المسيحية السورية يتمثل بأطلال المدن المنسية (أو الميتة كما دعيت سابقاً) المنتشرة في منطقة جبل سمعان إلى الغرب والجنوب الغربي من حلب والماثلة بكنائس البارة وبراد وقلب لوزة وسرجيلا وغيرها، كما تظهر في شرقي حلب في الأندرين وخناصر وسواها والتي تعبر هي أيضاً عن ازدهار هذه المنطقة وثرائها في تلك الفترة.
ولكن سورية بدأت تعاني في القرن السادس تجدد الحروب بين الروم والفرس، فقد استغل كسرى أنوشروان انشغال الجيوش الرومانية بحرب القوط والفاندال في الغرب ليهاجم سورية عام ٥٤٠م على رأس جيش كبير اجتاح مدنها الواحدة تلو الأخرى، فاحتل منبج، وحاصر مدينة حلب، وطالبها بدفع جزية، وقيمتها أربعة آلاف ليرة فضية، (وهو مبلغ كبير يدل على غناها فيما فرض على أفامية جزية مقدارها ألف ليرة)، ولم يفلح مطران المدينة والوفد المرافق له في استرضاء كسرى بدفع نصف الجزية المفروضة، فدخل المدينة وقام بنهبها وإحراقها، وبعدها تابع زحفه إلى أنطاكية التي دخلها عنوة واستباحها لجنوده فنهبوها وأحرقوها وأسروا من وقع بأيديهم من سكانها، وتابع زحفه وأخذ فدية من المدن السورية المحصنة، وقد سبب هذا الاجتياح الفارسي الخراب والدمار في كثير من المناطق٠
وفي مطلع القرن السابع جدد الفرس هجماتهم بقيادة كسرى الثاني أبرويز الذي احتل مدينة دارا الحصينة وهدم أسوراها ثم احتل إديسا واجتاح معظم مدن سورية وصولاً إلى أورشليم القدس التي سقطت في أيدي الفرس الذين نهبوها ودمروا مقدساتها، واستنهض الروم قواهم بقيادة الامبراطور هرقل Heraklesالذي غزا بلاد فارس وحاصر عاصمتها طيسفون وهزم الجيوش الساسانية.
ويروى أن وفداً فارسياً جاءه إلى حلب /بيرويا وعقد معه معاهدة سلم دائم، وقدم له خشبة الصليب التي نهبت عام ٦١٤م من القدس على إثر استيلائهم عليها، لكن هذا السلم لم يدم طويلاً؛ إذ جاء العرب الفاتحون بعد وقت قصير، وحرروا سورية من الحكم البيزنطي، وخلصوها من غزوات الفرس التي كانت تهددها، وهكذا انتهت العصور الكلاسيكية وبدأ عصر جديد في تاريخ حلب هو العصر العربي الإسلامي الذي استعادت فيه المدينة اسمها وهويتها العربية.
محمد الزين
- التصنيف : آثار كلاسيكية - المجلد : المجلد الخامس مشاركة :