الحسبة في الإسلام
حسبه في اسلام
-
¢ الحسبة
الحسبة
الحسبة وظيفة دينية مدنية، أُحدثت في الدولة العربية الإسلامية، وظهرت نواتها في عهد الرسول ﷺ وبما أنّها- كما عرّفها الفقهاء- أمرٌ بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله؛ فهي مبنية على القاعدة القرآنية التي وردت في قوله تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [آل عمران: ١١٠] وفي قوله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَر﴾ [التوبة: ٧١].
إنّ هذا التعريف الفقهي يجعل منصب الحسبة من أخطر المناصب وأوسعها نظراً، ولو قُدِّر أن يكون للمحتسب الفقهي شبيه في الوقت الحاضر، لأمكن القول: إنّ صلاحياته تشبه صلاحيات رئيس البلدية ومدير الصحة ومدير الإعاشة ورئيس الشرطة الأخلاقية ومدير الشؤون الاجتماعية، كل هؤلاء وأكثر.
لقد أُحدث هذا المنصب المهم لدفع الناس للسير في طريق الحق والالتزام بسلوكية أخلاقية دينية تمنع إيقاع الأذى من أي إنسان بالمجتمع الذي يعيش فيه؛ أي إنّ الشريعة الإسلامية نظرت إلى مصالح الخلق في دنياهم، كما أرشدتهم إلى هداهم في آخرتهم، فنظرت إلى أمورهم اليومية والمعيشية والسكنية والمدنية على نحو ضمنت فيه الراحة والصفاء لجميع السكان من غير تمييز بين أوضاعهم وأحوالهم، ونظراً لأهمية هذا المنصب فإنه استمرّ حتى أوائل القرن ١٤هـ/٢٠م. وقد عرّف الغزالي (ت٥٠٥هـ/١١١١م) الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر- الذي تعد الحسبة جزءاً لا يتجزأ منه- بأنه القطب الأعظم في الدين والمهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، لو طُوي بساطه وأهمل علمه وعمله، لفشت الضلالة وشاعت الجهالة وخربت البلاد وهلك العباد.
كان للحسبة دور فعال في التنظيم العمراني للمدينة الإسلامية، والمؤلفات التي تناولت الحسبة تناولت التركيب الداخلي للمدن؛ من تقسيم للشوارع؛ وتوزيع المنشآت عليها؛ والعلاقة بين هذه المنشآت بعضها ببعض؛ والشروط الواجب توفرها فيها؛ وضرورة الحفاظ على حق الطريق؛ والحسبة على الأسواق من خلال مراقبة التوزيع المكاني للأسواق والتخصص وتطبيق قواعد التجاور، فلا يتجاور العطارون مع قلائي السمك مثلاً؛ لأنه لا يجوز إنشاء المحلات التي تسبب الدخان والروائح في أمكنة ومواضع يمكن معها تجنب ما قد ينشأ من أضرار. كما يدخل في مجال المحتسب ما يتعلق بالتعرض للخصوصية وكشف المحرمات في إطار الضرر الذي يتولى المحتسب منع وقوعه، كما يتولّى مراقبة مواصفات المحال التجارية وتوافق أوصافها مع طبيعة وظيفتها، وكذلك منع تجاوزها على الطريق أو إلحاق الأذى بالمارّة. وكان من مهامه الحكم على أهل المباني الآيلة إلى السقوط بهدمها وإزالة ما يتوقع من ضررها على السابلة، كما خضعت الحمامات ومواد البناء وكذلك العاملون فيها لمراقبة المحتسب.
من الثابت أنّ وظيفة العامل على السوق قد وجدت في صدر الإسلام (الفترة الراشدية) واستمرت طوال العصر الأموي، وهي التي مهّدت لظهور وظيفة المحتسب؛ إذ بدأ استعمال هذه التسمية في الشرق منذ بداية العصر العباسي، فابن سعد في ترجمته لعاصم بن سليمان أبي عبد الرحمن (ت١٤٢هـ/٧٥٩م) يذكر أنه كان بالكوفة متولياً الحسبة في المكاييل والأوزان، وأنّ يحيى بن زكريا تولّى الحسبة في بغداد سنة ١٥٧هـ/٧٧٣م؛ غير أنه استغوى العامة فقتله أبو جعفر المنصور (١٣٦-١٥٨هـ/٧٥٣-٧٧٤م).
كان من أهم واجبات المحتسب- سواء في صدر الإسلام أم في العصر الأموي أم العباسي- تفقد أحوال السوق وكل ما له صلة به؛ كالتأكد من صحة المكاييل والمقاييس والأوزان المستعملة في السوق، كما كان عليه أن يتفقد عيار المثاقيل والصنج والحبات على حين غفلة من أصحابها. وفي الفترة العباسية كان المحتسب يُلزم التجار أن يتخذوا الأرطال من الحديد أو المعادن بعد أن يثبِّت عليها ختم المحتسب لكي يجري التعامل بها على الوجه الشرعي، كما كان عليه أن يتدخّل لمنع الارتفاع الفاحش في أسعار البضائع التي كان يحتاج إليها الناس، كذلك كان يشرف على كل الحرف والأصناف، وأرباب الصناعات في المدينة الذين لهم أعوان يقومون بمعاونتهم في كل صنعة من الصنائع، وأفردت كتب الحسبة أبواباً خاصة في بيان كيفيتها مع وصف دقيق لأعمال كل صنف من أصناف الصناع وتدليسهم وغشوشهم.
فالشيزري (ت٧٧٤هـ/١٣٧٢م) في كتابه «نهاية الرتبة في طلب الحسبة» وضح مثلاً في الباب السادس الأمور التي يجب على الخَبَّازين تطبيقها، فكان على الخبازين رفع سقائف حوانيتهم، وأن يجعلوا في سقوف الأفران منافس واسعة ليخرج منها الدخان، وعلى الخبّاز أن يغسل المعاجن ويُعنى بنظافتها وما يغطى به الخبز، ولا يجوز له أن يعجن إلا إذا كان ملثماً لأنه ربما عطس أو تكلم فيقطر شيء من بصاقه في العجين، وكان المحتسب يكتب في دفتره أسماء الخبازين ومواضع حوانيتهم لأن الحاجة تدعوه إلى معرفتهم.
وفي الباب الثاني عشر يتحدّث الشيزري عن قلائي السمك فيذكر أنهم كانوا يؤمرون بغسل قفافهم كل يوم، وكذلك أطباقهم التي يحملون فيها السمك، وأن ينثروا فيها الملح كل ليلة بعد الغسيل، وكذلك يفعلون بموازينهم، وعليهم أن يبالغوا في غسل السمك بعد شقِّه وتنظيفه، ثمّ ينثرون عليه الملح والدقيق (لكل عشرة أرطال سمك رطل دقيق) ثم يقلونه، وينبغي للعريف أن يتفقّد المقلي كل ساعة عند غيبة المحتسب لئلا يقلوه بدهن الشحم المستخرج من بطون السمك المخلوط بالزيت عند قليه، ولا يجوز أن يقلوا السمك بالزيت المعاد إذا كان متغير الرائحة، ولا يخرجوا السمك المقلي حتى ينتهي نضجه.
ويفرد الشيزري باباً خاصاً (الباب السابع والثلاثين) في الحسبة للأطباء والكحّالين والمُجبّرين والجرّاحين، فيشير إلى الأمور التي يجب أن يتقنها الطبيب. وكان للمحتسب أن يمتحن الأطباء بما ذكر حنين بن إسحاق في كتابه المعروف «محنة الطبيب»، فأما الكحّالون فيمتحنهم بكتاب حنين بن إسحاق في المقالات العشر في العين، وأما المجبّرون فلا يحلُّ لأحدهم أن يتصدّى للجبر إلا بعد أن يحكم معرفة المقالة السادسة من كناش «بولص بالجبر» وأن يعلم عدد عظام الإنسان (٢٤٨عظمة) وصورة كل عظم فيها وشكله وقدره.
ويُحذّر المحتسب الناس من كحّالي الطرق؛ إذ لا دين لهم يصدهم عن التهجّم على أعين الناس بغير علم أو خبرة بالأمراض والعلل الحادثة.
وكان على الجرَّاحين معرفة كتاب جالينوس في الجراحات والمراهم؛ وكتاب الزهراوي الأندلسي (ت٤٠٦هـ/١٠١٣م) في الجراح (وهو أول من أسس علم الجراحة في العالم)، وكان عليهم أن يمتلكوا كل الأدوات والمراهم التي يحتاجون إليها في أثناء إجراء عملياتهم الجراحية، كذلك كان الكتاب يشير إلى غشوشهم.
وفي الباب السابع عشر يتحدث عن الصيادلة وغشوشهم التي لا يمكن حصرها كليّاً؛ والتي تضر بالمريض لا محالة، ولذلك كان على المحتسب أن يخوفهم ويعظهم وينذرهم العقوبة، ويفحص عقاقيرهم كل أسبوع.
إضافة إلى واجبات المحتسب الآنفة الذكر كان على المحتسب أن يقوم بواجبات في مجال الخدمة الاجتماعية والصحية، فكان يُطلَب منه مراقبة نظافة الأسواق والطرق والمساجد، ومنع كل مامن شأنه مضايقة المارة؛ كأن يمنع أحمال الحطب وأعدال التبن وأحمال الشوك والرماد من الدخول إلى الأسواق.
وفي مجال المحافظة على الأخلاق والآداب العامة كان على المحتسب أن يمنع الناس من مواقف الريب ومظنّات التهم، وأن يتفقد المواضع التي تجتمع فيها النساء كالأسواق وشواطئ الأنهار وأبواب حمامات النساء، وأن يتفقّد الحمام في كل يوم مراراً، وأن يأمر صاحب الحمام بمنع دخول أي شخص من دون مئزر.
لم تعد أعمال المحتسب تقتصر على ما تقدّم ذكره من الإشراف على الأسواق وأرباب الحرف وبيوتهم ومعاملاتهم مع الناس وملاحظة الآداب الإسلامية العامة ومراقبة الأخلاق وتنفيذ الحدود الشرعية بحق من يخرقها؛ بل شملت الحسبة الأمراء والولاة والقضاة خلال النصف الثاني من القرن ٣هـ/٩م، فكان على المحتسب أن يقصد مجالس الأمراء والولاة والقضاة ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويعظهم ويذكِّر بالشفقة على الرعية والإحسان إليهم.
كان تعيين المحتسب يعود إلى الخليفة أو الوالي في المدينة أو الأمير في مقرِّ ولايته، وقد تسند ولاية الحسبة إلى القاضي، فقد ولّى عمر بن هبيرة القاضي إياس بن معاوية سوق واسط، وكان من أشهر قضاة العصر الأموي، وبما أنه لم يكن في مقدور المحتسب الإحاطة بكل ما تقدّم من الأعمال وحده؛ فإنه كان يتخذ من أهل كل صنعة عريفاً من صالح أهلها خبيراً بصناعتهم، بصيراً بغشوشهم وتدليسهم، مشهوراً بالثقة والأمانة، يكون مشرفاً على أحوالهم وما يجلب إلى السوق من السلع والبضائع وما تستقر عليه الأسعار، ويقوم أمير الولاية أو الوزير في العاصمة بتعيين هؤلاء العرفاء بعد أن يرشّحهم المحتسب.
وكان للمحتسب عدّة يُعرف بها ويستعملها في إيقاع العقوبات على المخالفين، وهي السوط والدرِّة والطرطور، وقد جَرت العادة أن يتخذ السوط وسطاً لا بالغليظ ولا بالرقيق، وتكون الدرة من جلد البقر أو الجمل محشوة بنوى التمر، أما الطرطور فيكون قلنسوة من اللبَّاد منقوشة مكللة بالخرق الملونة، محاطة بأنواع الخرز والودع والأجراس وأذناب الثعالب والنسانيس. تُعلَّق هذه الآلات على دكَّة المحتسب- التي تكون عادة عالية بارزة في السوق- لكي يشاهدها الناس، فترتعب منها قلوب المعتدين ويُزجر بها أهل التدليس.
الحسبة في الفترة الفاطمية: كان لولاية الحسبة أهميتها في العصر الفاطمي، فكانت لا تُسند إلا إلى من كان من وجوه المسلمين وأعيان المعدِّلين. وله استخدام النوّاب عنه في القاهرة ومصر (الفسطاط) وجميع أعمال الدولة كنواب الحكم، ويطوف نوابه على أرباب الحرف والمعايش، ويتتبعون الطرقات ويمنعون من المضايقة فيها، ويلزمون رؤساء المراكب ألا يحملوا أكثر من وسق السلامة، وكذلك الأمر مع الحمالين على البهائم. ويأمرون السقائين بتغطية الروايا بالأكسية، وينذرون معلمي المكاتب بألا يضربوا الصبيان ضرباً مبرحاً، وكذلك معلِّمي القوم بتحذيرهم من التغرير بأولاد الناس، ويقفون على من يكون سيئ السيرة فينهونه بالردع والأدب.
وكان للعيّار مكان يعرف بـ «دار العيّار» تُعيّر فيه الموازين بأسرها وجميع الصنج، وكان ينفق على هذه الدار من الديوان السلطاني فيما يحتاج إليه من الأصناف كالنحاس والحديد والخشب والزجاج، وغير ذلك من الآلات وأُجور الصناع والمشرفين ونحوهم.
ويحضر المحتسب أو نائبه إلى هذه الدار ليعير المعمول فيها بحضوره، فإن صحّ ذلك أمضاه، وإلا أمر بإعادة عمله حتى يصح. ويذكر القلقشندي أنه وجد في عصر الدولة الأيوبية محتسبان أحدهما بالقاهرة وهو أعظمهما قدراً، وله التصرف بالحكم والتولية بالوجه البحري كله خلا الإسكندرية فإنّ لها محتسباً يخصها، والثاني بالفسطاط وله التحدث والتولية بالوجه القبلي كله، كما وجد محتسب في دمشق وإليه ولاية نواب الحسبة بجميع أعمال دمشق، وآخر بحلب يولي نواب الحسبة بسائر الأعمال الحلبية.
كان للحسبة أثر عظيم في عهد الظاهر بيبرس البندقداري (٦٥٨-٦٧٦هـ/١٢٥٩-١٢٧٧م)، ففي سنة ٦٦٥هـ أمر الظاهر بيبرس بإراقة الخمور ومنع البغاء في مصر والقاهرة، فأُغلقت الحانات وأمر بنفي القائمين عليها، وكتب إلى جميع البلاد بمثل ذلك ولابن دانيال رسالة يصف فيها ما رآه، فيقول: «قدمت من الموصل إلى الديار المصرية في عهد الدولة الظاهرة، فوجدت مواطئ الفجور دارسة، وأرباب اللهو والخلاعة غير آنسة ومن لذة العيش آيسة، وهزم أمر السلطان جيش الشيطان».
وقد وُجد في عهد بيبرس حسبتان: حسبة القاهرة وحسبة مصر (الفسطاط)، وحسبة القاهرة أعلاها قدراً، ولصاحبها مجلس بدار العدل مع القضاة الأربعة وقضاة العسكر ومفتي ديار العدل، وهو مسؤول عن الوجه البحري في ولاية النواب وعزلهم، وربما أُسندت حسبة القاهرة إلى والي القاهرة وحسبة مصر إلى والي مصر.
في نهاية عصر المماليك ازداد التنافس على وظائف الدولة بصورة عامة ووظيفة المحتسب بصورة خاصة؛ وذلك باللجوء إلى الرشوة والنفوذ، فقد تولّى شمس الدين محمد بن الخالق المناوي الحسبة ووكالة بيت المال ونظر الكسوة ونظر الأوقاف مع أنه كان في غاية الجهل كما يصفه المقريزي.
وفي سنة ٨١٦هـ/١٤١٣م خلع السلطان المؤيد سيف الدين شيخ علي الأمير منكلي بغا العجمي أحد صغار دوادارية الملك الظاهر برقوق، واستقر حاجباً ومحتسباً للقاهرة عوضاً من القاضي صدر الدين بن الآدمي، ولم يعهد قبل أن تولّى الحسبة تركي.
وقد أبقى الصليبيون في أثناء احتلالهم الأراضي المقدسة وإقامتهم المملكة اللاتينية في فلسطين وما جاورها منصب المحتسب، وتبيّن أن عمل المحتسب في المملكة اللاتينية كان شبيهاً بوظيفة عامل السوق؛ أي بوظائف المحتسب المتعلقة بالسوق.
استمرت تسمية الحسبة بصاحب السوق أو العامل على السوق في الأندلس والشمال الإفريقي حتى حقبة متأخرة، فابن بشكوال في كتابه «الصلة» يذكر عند ترجمته لابن المشّاط الرعيني (ت٣٩٧هـ/١٠٠٦م) أنه تولّى الحسبة المدعوة عندنا بولاية السوق، وأنّ خلف بن بَقِيّ من أهل طليطلة تولّى أحكام السوق في بلده، وكان يجلس لها بالجامع، وكان صليباً في الحق.
ويذكر المقّرّي (ت١٠٤١هـ/١٦٣١م) في «نفح الطيب»: «وأما خطة الاحتساب فإنها عندهم موضوعة في أهل العلم والفِطَن، وكأن صاحبها قاض، ولهم في أوضاع الاحتساب قوانين يتداولونها كما تتدارس أحكام الفقه».
ويذكر المجيلدي أحمد بن سعيد (ت١٠٩٤هـ/١٦٨٢م) في كتاب «التيسير في أحكام التسعير» أنّ الحسبة بلغ من أهميتها في عصر أحد سلاطين الأسرة العلوية أن انتدب المحتسب في مكناس- حاضرة الأسرة منذ عهد مولاي إسماعيل- للإشراف على أخطر صناعة في الدولة الشريفية وهي صناعة البارود.
ولأهمية الحسبة ذكر ليفي بروفنسال Levi Provencal في كتابه «تاريخ إسبانيا المسلمة» أن ملوك الإسبان المسيحيين كانوا كلما استردوا من المسلمين إقليماً أقروا المحتسب في عمله وأطلقوا عليه اسم Al-motocen، وهو الوالي الذي يُعهد إليه بالإشراف على السوق والمكاييل والموازين والمقاييس.
طُبقت وظيفة المحتسب في الدولة العثمانية وعرف المحتسب باصطلاح «احتساب أغاسي» Ihtisab Aghasi، وهذا شبيه بما كان يعرف عن المحتسب بأنه مفتش السوق.
أُلغي نظام الاحتساب سنة 1242هـ/1826م، واستعيض عنه بإدارة يديرها موظف حكومي يُعرف باسم احتساب ناظري Ihtisab Nazari، ولكن يبدو أن هذا لم يُطبّق في مكة؛ لأن الشيخ أحمد بن إبراهيم الغزاوي ذكر أن الحسبة كانت من الوظائف الراتبة الدائمة «وقد أدركتها في العصر العثماني بمكة، وكان آخر من رأيته قائماً مابين 1325 - 1330هـ/1907 - 1911م شخصاً هرماً أحسبه تركي الأصل يدعى القيصرلي (أي قبل إنشاء أول بلدية بمكة) «ولاأزال أتمثل أمامي ماكان له من رهبة وتأثير في الأسواق حتى ليتوارى منه الكثيرون ممن يخافون كشف الغش فيما يعرضونه من الألبان واللحوم والخضراوات والذين يخرجون بالدكاكين إلى عرض الشارع، وكان له صلاحيات في الحبس والجلد».
الحسبة في فارس: استمر المحتسب ومنصب الحسبة مع العديد من الوظائف الدينية الأخرى في مختلف الدول والممالك التي تكونت في فارس حتى بعد سقوط الخلافة العباسية سنة 656هـ/1258م، ولم تختفِ إلا في نهاية القرن 13هـ/19م.
وكان نظام المُلك - وزير السلطان السلجوقي ألب أرسلان (455-465هـ/ 1063-1072م) - يؤكد وجوب تعيين محتسب في كل مدينة من مدن المملكة السلجوقية لمراقبة الأوزان والأسعار والمبادلات التجارية لكي يمنع الغش في البضائع وليأمر بالمعروف وينهي عن المنكر. وعلى السلطان والموظفين دعم المحتسب وإلا اضطربت الأمور في السوق، وانتشر الفساد، ولا يعود للشريعة الإسلامية ميزة.
بعد اعتناق الإيلخانيين (654/ 744هـ-1256/ 1344م) الإسلام أعيدت وظيفة الحسبة، وفي عهد التيموريين (771/ 907هـ-1370/ 1502م) كانت وظائف المحتسب والصفات التي يجب أن يتحلّى بها مشابهة إلى حدٍّ بعيد لما كانت عليه في عصر السلاجقة، وقد وُجد محتسب في معظم المدن في عصر الصفويين (907/ 1148هـ-1502/ 1736م) وأسندت إليه كل المهام المتعارف عليها؛ بيد أنه وجب عليه أن يكون شيعياً اثني عشري المذهب.
تراجع منصب الحسبة في نهاية حكم الصفويين، ولم يبقَ من أمور الحسبة في عهد رضا شاه بهلوي الذي تولى حكم إيران سنة 1345هـ/1926م إلا جباية الزكاة والخُمس، أما التركات والوصيات وتعيين أوصياء على القاصرين فقد انتقل النظر فيها إلى المحاكم.
أما في البلاد العربية فقد ألغي الجانب الديني في بعضها في القرن العشرين بعد سقوط الدولة العثمانية، وتولت الجانب المدني من الحسبة وزارة التموين ومجالس البلدية ومديرية الأوزان والمكاييل ومكافحة الغش والشرطة الأخلاقية.
نجدة خماش
مراجع للاستزادة: - عبد الرحمن بن نصر الشيزري، نهاية الرتبة في طلب الحسبة (القاهرة 1946م). - محمد بن محمد بن أحمد القرشي ابن الإخوة، معالم القربة في أحكام الحسبة (لندن 1938م). - نجدة خماش، نظام الحسبة في الإسلام (دار الفكر، دمشق 2011م).
|
- التصنيف : آثار إسلامية - المجلد : المجلد الخامس مشاركة :