حارث (ملك)
Harith - Arétas

 ¢ الحارث

الحارث (الملك -)

 

الحارث (أو الحارثة) اسم عربي شاع عند الأنباط، وحمله أربعة من ملوكهم حتى إن بعض الباحثين رأى فيه لقباً ملكياً يشبه لقب فرعون عند المصريين أو قيصر عند الرومان.

وقد ورد في النصوص النبطية بصيغة (ح ر ت ت أي حارثة ) وفي المصادر الإغريقية بصيغة (Arethas أو Aretas). ويبدو أن الحارث (الأول) كان أول ملك نبطي وصلنا اسمه، لذلك دعاه الباحثون الأول، وأنه حكم نحو سنة ١٦٩ ق.م، ولعله الحارث نفسه الذي ورد في نقش وجد في منطقة النقب وهذا نصه: « هذا هو الموضع الذي أقامه عبد نثيرو لحياة حارثة ملك النبط (نبطو)»، والذي ذكره سفر المكابيِّين الثاني على أنه زعيم (Turannos) العرب. وفي مطلع القرن الأول قبل الميلاد يرد ذكر حارث آخر هو الحارث الثاني (إيروتيموسHerotimus أو Erotimus) بوصفه ملك الأنباط، وقد صدرت في عهده أولى النقود النبطية، وهي تحمل حرف A (الحرف الأول من اسمه) بالإغريقية . وقد عثر على كنز حديث يتكون من (٨٠٠) قطعة من العملة البرونزية تحمل بعض نماذجها حرف (ح) إشارة إلى اسمه بالآرامية.

استغل الحارث الثاني ضعف الملوك السلوقيِّين فهاجم بجنوده بلاد الشام، وعاد بغنائم كثيرة وخلفه على عرش الأنباط سنة ٩٥ ق.م ابنه عبادة الأول (٩٥-٨٨ ق.م) الذي يروى أنه ألحق بالملك السلوقي أنطيوخوس الثاني عشر هزيمة نكراء في معركة قانا.

عملة سكها الملك الحارث الثاني وتحمل صورة الإلهة أثينا على اليمين وإلهة النصر نيكى على اليسار

ثم تسلم العرش الحارث الثالث (٨٧-٦٢ ق.م) الذي قطف ثمار انتصار أخيه على الملك السلوقي. فوسع ممتلكاته ولبى استغاثة أهل دمشق الذين سئموا المنازعات على العرش السلوقي، كما أرادوا التخلص من تعديات العرب الأيطوريِّين في منطقة جبال لبنان الشرقية فدخلت جيوشه مدينة دمشق سنة ٨٥ ق.م التي ظلت تابعة للمملكة النبطية ما يقرب من ١٥ سنة.

وقد ضرب فيها الحارث سلسلة من النقود النبطية تخليداً لحكمه، وهي الأولى التي تحمل شعاراً سلوقياً، ولكن ليس بالآرامية وإنما بالإغريقية وعليها اسم الملك النبطي وصورته كما يظهر عليها شعار الحارث بعبارة: «محب الهيلينيين» أي الإغريق Philhellene التي استمرت بالصدور حتى عام ٧٠ ق.م حين اضطر الأنباط إلى الانسحاب من دمشق بعد سقوطها في يد الملك الأرمني تيغرانس [ر] Tigranes.

عملة سكها الملك الحارث االثالث بعد ضم دمشق (حكم ٨٤ - ٦٢ ق.م)

وتدخل الحارث في الصراع الدائر في البيت الحشموني بين هيركانوس وأخيه أرسطو بولس فزحف بجيشه وضرب حصاراً حول أورشليم – القدس، وتزامن ذلك مع وصول الجيوش الرومانية إلى سورية ودخولها دمشق وتهديدها له مما اضطره إلى الانسحاب .وتروي بعض المصادر التاريخية أن القائد الروماني بومبيوس ]ر[Pompeius شن حرباً على العرب الأنباط وملكهم الحارث، ولكن المؤرخ يوسيفوس لا يذكر شيئاً من ذلك، وإنما يروي أخبار حملة رومانية على البتراء بقيادة اسكاوروس Scaurus، وكيف أن الحارث وافق على دفع (٣٠٠) تالنته talent ثمناً للسلم مع الرومان (Jos.Ant.Jud. 14,5,1).

الحارث الرابع (٩ ق.م - ٤٠ م):

ثمة تضارب في الروايات التاريخية حول أصل الحارث الرابع وكيفية وصوله إلى العرش. ويشير أحد النقوش المكتشفة حديثاً إلى أنه كان ينتمي إلى العائلة الملكية. ويذكر المؤرخ يوسيفوس في تاريخ اليهود القديم غضب الامبراطور أغسطس [ر] لأن الملك الحارث لم يطلب الإذن منه لتولي العرش، ولكنه عاد بوساطة من المؤرخ نيقولاوس الدمشقي فصادق على تثبيت الحارث على عرشه.

ومن أهم الأحداث التي جرت في أواخر عهده صراعه مع هيروديس أنتيباسHerodes Antipas حاكم الجليل الذي طلق ابنة الحارث بعدما وقع في غرام ابنة أخيه هيروديا، فشن حرباً عليه وهزم جيشه فشكاه إلى الامبراطور الروماني تيبريوسTiberiusالذي أمر حاكم سورية بإرسال حملة حربية ضد الحارث، ولكن وفاة الامبراطور (٣٧ م) حالت دون القيام بذلك. ويبدو أن انتصار الحارث على هيروديس قد رافق عودة دمشق إلى حكم الأنباط كما يستدل من رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثة التي يقول فيها: «كان الحاكم بدمشق تحت إمرة أرتاس (الحارث) الملك يحرس مدينة الدمشقيين أمر بالقبض عليَ، فدليت من كوة في زنبيل من السور ونجوت من يديه» ومن المعروف أن زيارة بولس إلى دمشق كانت نحو عام ٤٠ م أي في العام الأخير من حكم الحارث الرابع. ولكن طبيعة وجود الأنباط والحاكم النبطي في دمشق ما تزال مثار جدل بين الباحثين ولعل عودة دمشق إلى الأنباط كانت بموافقة الرومان.

يتميز عهد الحارث الرابع بحركة عمرانية واسعة تركزت في المقام الأول حول القسم الجنوبي من المملكة. فقد أصبحت المستوطنة النبطية في مدائن صالح (هجرا أو إجرا Hegra) إحدى مدن الأنباط الكبرى، ويمكن مقارنة مدافنها الصخرية بمدافن البتراء. وهي تحمل نقوشاً تنتمي كلها إلى القرن الأول الميلادي وغالبيتها تعود إلى النصف الأول من ذلك القرن. ويبدو أن الحارث قام بإرسال مستوطنين إلى هناك لإنشاء قاعدة في الحجاز يمكن التقهقر إليها إذا ما ازدادت الضغوط الرومانية، ويؤكد ذلك أن عدداً كبيراً من النقوش يعود إلى ضباط يحملون ألقاباً عسكرية إغريقية ورومانية (مثل Strategos القائد،Hipparchos الفارس،Centurion قائد المئة).

كما وجدت نقوش في واحة الجوف (على الحافة الجنوبية لوادي السرحان) تدل على وجود معسكر نبطي هناك، وترتبط بجهود الحارث لتوطيد مركز الأنباط خارج منطقة شرقي الأردن.

تظهر آثار مدائن صالح والجوف إنجازات الحارث الحضارية، كما تقدم مدن النقب دلائل على كثرة المستوطنات النبطية، وعلى وجود نظام دقيق لحفظ مياه الأمطار وتوزيعها في قنوات مغطاة لزراعة الحقول. وظهرت في بصرى أيضاً حركة إنشاء المدن بدءاً من حصن الأنباط في الجوف باتجاه دمشق عبر وادي السرحان.

كما نالت البتراء نصيباً من المنشآت في عهد الحارث الذي ينسب إليه اثنان من آثارها الضخمة وهما: المسرح الذي قطع في الصخر الكائن في الطرف الداخلي للسِّيق (المضيق الجبلي الذي يؤدي إلى البتراء)، والمعبد القائم في وسط المدينة والمشهور باسم قصر البنت. وقد ثبتت نسبة هذين الأثرين إلى الحارث بعد أن كان يظن أنهما يعودان إلى زمن الولاية العربية.

كما يمكن أن تعد «الخزنة» - وهي أشهر آثار البتراء - من إنجازات عهده. لقد عمل الحارث على تحويل الأنباط إلى شعب مستقر يعتمد على اقتصاد زراعي بعد أن تراجعت أهمية التجارة البرية بسبب استخدام البحر الأحمر لنقل الطيوب والتوابل من اليمن والهند.

تذكر بعض النقوش أسماء أبناء الحارث وبناته إضافة إلى زوجاته اللاتي حملن لقب ملكة، وجرت العادة على تسمية هؤلاء الملكات بأخوات الملك، مثلما كان يطلق على وزراء الملك لقب إخوته.

كان الحارث سخياً في إصدار النقود طوال سنوات حكمه، وله أشهر صورة وجه على العملة في تاريخ المملكة فمن بين عشر قطع من العملة النبطية يوجد بينها في المتوسط ثماني قطع خاصة بهذا الملك العظيم.

العملة التي سكها الملك الحارث الرابع وتحمل صورته وصورة الملكة شقيلات مما يدل على مدى التطور الحضاري الذي وصل إليه الأنباط

وهكذا فإن الحارث الرابع كان بلا شك واحداً من كبار الشخصيات في تاريخ العرب قبل الإسلام، وقد بلغت المملكة النبطية في عهده الذي دام ما يقرب من نصف قرن أزهى عصورها، فلا عجب إن كان اسمه يتردد باستمرار على العملة والنقوش النبطية مصحوباً بعبارة «المحب لشعبه» بالآرامية (rhm amh = راحم عمهو).

محمد الزين

مراجع للاستزادة:

- جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، الجزء الثالث (١٩٧٨).

- إحسان عباس، تاريخ دولة الأنباط، بحوث في تاريخ بلاد الشام (دار الشرق، عمان ١٩٨٧).

- ج . و. باورسوك، الولاية العربية الرومانية «الأنباط» ترجمة آمال الروبي (القاهرة ٢٠٠٦).

 


- التصنيف : آثار كلاسيكية - المجلد : المجلد الخامس مشاركة :

بحث ضمن الموسوعة

من نحن ؟

الموسوعة إحدى المنارات التي يستهدي بها الطامحون إلى تثقيف العقل، والراغبون في الخروج من ظلمات الجهل الموسوعة وسيلة لا غنى عنها لاستقصاء المعارف وتحصيلها، ولاستجلاء غوامض المصطلحات ودقائق العلوم وحقائق المسميات وموسوعتنا العربية تضع بين يديك المادة العلمية الوافية معزَّزة بالخرائط والجداول والبيانات والمعادلات والأشكال والرسوم والصور الملونة التي تم تنضيدها وإخراجها وطبعها بأحدث الوسائل والأجهزة. تصدرها: هيئة عامة ذات طابع علمي وثقافي، ترتبط بوزير الثقافة تأسست عام 1981 ومركزها دمشق