جعده مغاره (تل)
Jadat al- maghara - Jadat al-Maghara

 جَعْدَة المُغارة

جَعْدَة المُغارة

 

 

كانت ضفاف نهر الفرات مراكز استيطان مهمة لقرى المزارعين الأوائل خلال العصر الحجري الحديث. ويعد تل جعدة المغارة أحد هذه المواقع، وهو ليس ببعيد عن المواقع الأخرى مثل جرف الأحمر[ر] ، والمريبط[ر] ، وحالولة[ر]، فهو يقع إلى الشرق من مدينة منبج بـنحو ٣٠ كم ،وشمال شرقي جسر قره قوزاق بـنحو ١ كم. ويبلغ ارتفاع التل ٣٠٠م عن سطح البحر، وإحداثياته عند خط العرض ٣٦ درجة و٣٧ دقيقة شمالاً، وخط الطول ٣٨ درجة و١٣ درجة شرقاً. ويتوضع التل على المصطبة العليا لوادي النهر، ويبلغ طوله٣٣٠ م ويرتفع ٥ أمتار عن الأرض المحيطة به.

كشف الموقع خلال أعمال مسح أثري في منطقة الفرات عام ١٩٨٩م قام به ميغيل موليست M. Molist وماري- كلير كوفان M. C. Cauvin، ولاحقاً قامت بعثة أثرية فرنسية بإدارة إيريك كوكينيو Eric Coqueugniot بأعمال التنقيب الأثري في الموقع منذ عام 1991م وظلت مستمرة حتى 2010م.

 

وقد تبين من خلال أسبار في السفح الجنوبي الغربي من التل (A-E) وفي مواضع متفرقة منه (SF, SB, ST)، أن جعدة المغارة يعاصر ثلاثة عصور رئيسة، يعود أقدمها إلى العصر الحجري الحديث ما قبل الفخار أ PPNA(الألف العاشر قبل الميلاد)، وب PPNB (الألف التاسع قبل الميلاد). أما الثاني فيعود إلى مرحلة ما قبل حلف (النصف الثاني من الألف السابع قبل الميلاد)؛ في حين أرّخ العصر الثالث والأحدث إلى العصر البرونزي القديم الثالث والرابع.

ضمت طبقة الاستيطان العائدة إلى العصر الحجري الحديث ما قبل الفخار أ PPNA، مجموعة من البيوت شبه دائرية الشكل، وقد استخدم في بنائها أحجار كلسية كبيرة جداً. وأكثر ما يميز هذه البيوت بناء يبدو أنه مستخدم من قبل مجموعة من الأشخاص، وهو بناء دائري الشكل قطره ٥,٧ م، نصفه محفور في الأرض، أما النصف الآخر فهو فوق الأرض.يتألف هذا البناء من حجيرات صغيرة مربعة أو دائرية موزعة بشكل غير منتظم أبعاد كل منها نحو ١.٥م، وله عمود مركزي تستند إليه قطع خشبية وأغصان تكوّن السقف.

وأبرز ما يميز هذا البناء الرسومات الهندسية على جدرانه، إذ كشف عن رسومات لأشكال هندسية (مربعات ومستطيلات) على ثلاثة جدران يصل ارتفاعها حتى ٢م، وقد استخدم في رسمها اللونان الأحمر والأسود على خلفية بيضاء. كما عثر على جدار غرفة أخرى من البيت نفسه على لوحة ملونة باللونين الأسود والأحمر أو الأحمر والأبيض تضم مجموعة من الأشكال الهندسية (مثلثات ودوائر). وتعد هذه الرسوم من أقدم الرسوم الجدارية الملونة المرسومة على جدار بنته يد الإنسان، وقد أطلق على هذا البيت تسمية (بيت الرسومات).ومما يؤكد خصوصية هذا البناء الدينية العثور على هياكل عظمية تحت الأرضيات وهي لرجلين بوضعية القرفصاء.وقد عثر على أبنية مماثلة وصفت على أنها بيوت ذات استخدام جماعي في مواقع المريبط وجرف الأحمر وتل العبر. ونظراً لأهمية هذه الرسومات وقيمتها العلمية يتم التحضير لنقلها إلى متحف حلب على قاعدة كبيرة.

التنقيبات الأثرية في الموقع

وهناك لقى أخرى ذات دلائل رمزية مثل لوحة حجرية عليها خطوط شبيهة بلوحات من موقع جرف الأحمر. كما تم تجسيد تماثيل إنسانية على عظم مأخوذ من فقرات حصان بري.

وقد دلت البقايا العظمية في الموقع على ممارسة الصيد لأنواع محددة من الحيوانات مثل الجاموس المحلي، ومن الغريب أنه لم يعتمد في طعامه على السمك نهائياً على الرغم من توفره في نهر الفرات. ولم تقتصر الوجبة الغذائية لإنسان هذا الموقع على اللحم فقط، بل أشارت مجارش حجرية إلى اعتماد الإنسان على القمح البري الملتقط من السهول الشرقية المجاورة.

أما الطبقة الثانية من العصر الحجري الحديث (النيوليتي) فتعود إلى النيوليت ما قبل الفخار ب PPNB، وتعد هذه الطبقة مرحلة الاستيطان الرئيس في الموقع وهي تعاصر الطبقة الرابعة من موقع المريبط ضمت هذه الطبقة بيوتاً صغيرة مستطيلة الشكل مشيدة بجدران من اللبن مع دعامات من الحجارة. وهذه البيوت منفصلة عن بعضها بمساحات مكشوفة تتوزع فيها بقايا مواقد وثقوب تدل على وجود أعمدة من مواد قابلة للتلف كانت تسند سقوفاً خشبية على الأرجح. كما أشارت بقايا معمارية قليلة الارتفاع - ربما كانت تحدد مصاطب - إلى نشاطات اقتصادية لحفظ الحبوب. ويشير النمط العام لهذه الأبنية إلى أنها تنتمي إلى النمط الشبكي grill، وهذا النمط معروف من عمارة مواقع في بلاد الأناضول مثل تشايونو. كما تجدر الإشارة إلى وجود عمارة بيوت مستطيلة ولكن ذات مساحات أكبر من سابقتها، لكنها أقل عدداً.

أحد الهياكل العظمية المكتشفة في الموقع

وكشف في هذه الطبقة نمط من تقاليد الدفن موجود في مواقع أخرى تنتمي إلى PPNB ولكنها أكثر وضوحاً وكثافة في هذاالموقع. فقد كشف العديد من المدافن التي تضم جماجم مفصولة، علاوة على بيوت تضم العديد من الجثث.أطلق على أحدها اسم «بيت الأموات»، نظراً لوجود العديد من جثث الأطفال والشباب، بعضهم جثة كاملة وبعضهم الآخر كان جماجم فقط،. ومن بينها جثة رجل دفن بوضعية نصف مثنية يضم إلى صدره طفلاً، ويضع يده على جمجمة طفل آخر. وهناك جمجمة شخص يافع وعظام أطراف لثلاثة أشخاص. وقد وصل عدد الجثث المدفونة في هذا البيت وعلى نحو متتابع زمنيا؛ً إلى ثلاث وستين جثة. ويدل هذا الاكتشاف على وجود شعائر دينية وممارسات رمزية حكمت معتقدات سكان الموقع.

كما كُشف عن لقى صغيرة تدل على ممارسات يومية كانت معروفة خلال هذه الفترة مثل النصال المصنعة من السَّبَج (الأوبسيديان obsidian) الذي تم جلبه من بلاد الأناضول، ورؤوس سهام من نموذج جبيل (من أجل الصيد)، وقلائد مصنوعة من حجارة خضراء ومصقولة. وقد عُثر على دمى أنثوية مصنعة من العظم وهي نادرة من ناحية مادة التصنيع، وهي تمثل الإلهة الأم[ر]. كما عثر على دمى أخرى مصنعة من الطين، ومن بينها دمية ذكرية.

وأشارت الدراسات البيئية إلى مناخ دافئ مناسب للزراعة، ففي الوسط المحيط بموقع جعدة المغارة نمت الأشجار والحبوب والثمار كاللوز والفستق والعدس والقمح والشعير، علاوة على وجود أنواع كثيرة من الحيوانات والطيور مثل القط البري وقط المستنقعات والايل والخنزير والثور. هجر موقع جعدة المغارة في نهاية العصر الحجري الحديث قبل الفخاري «ب»، ثم أعيد استيطانه في عصر ما قبل حلف في الربع الأول من الألف السادس قبل الميلاد.

أما عصر ما قبل عصر حلف في جعدة المغارة فيتألف من ثلاث أدوار ضمت كمية من القطع الفخارية. و كشفت في الدور الأخير قبور فردية ضمت تجهيزات جنائزية فخارية ومعدنية متنوعة. ويظهر على هذه المواد طابع الصناعة التقليدية المحلية لمواد أولية، مثل النحاس المستورد من الأناضول.

أما استيطان العصر البرونزي فقد اقتصر على قبور فقيرة ضمت كسراً فخارية.

عمار عبد الرحمن

 

مراجع للاستزادة:

- ماري كلير كوفان، و ميغيل موليست، «البحث عن العصر الحجري الحديث في حوض الفرات الأعلى السوري ». تعريب بشير زهدي، الحوليات الأثرية العربية السورية المجلد 38-39 : (1988-1989) ص ص. 173-176. دمشق.

- إريك كوكينيو، «جعدة المغارة عناصر جديدة متعلقة بانتشار النيوليث ما قبل الفخار في الشمال»، الحوليات الأثرية العربية السورية مجلد ٤٣ (١٩٩٩): ص ص.٢٤٩-٢٥٣. دمشق.

- E. Coqueugniot “Fouille néolithique de Dj’ada el Mughara (Euphrate, barrage de Tichrine) Campagne de fouille 2005 : 6 Septembre- 15 Octobre”. Rapport Submit to Directorate General of Antiquities and Museums (2006).


- التصنيف : عصور ما قبل التاريخ - المجلد : المجلد الرابع مشاركة :

بحث ضمن الموسوعة

من نحن ؟

الموسوعة إحدى المنارات التي يستهدي بها الطامحون إلى تثقيف العقل، والراغبون في الخروج من ظلمات الجهل الموسوعة وسيلة لا غنى عنها لاستقصاء المعارف وتحصيلها، ولاستجلاء غوامض المصطلحات ودقائق العلوم وحقائق المسميات وموسوعتنا العربية تضع بين يديك المادة العلمية الوافية معزَّزة بالخرائط والجداول والبيانات والمعادلات والأشكال والرسوم والصور الملونة التي تم تنضيدها وإخراجها وطبعها بأحدث الوسائل والأجهزة. تصدرها: هيئة عامة ذات طابع علمي وثقافي، ترتبط بوزير الثقافة تأسست عام 1981 ومركزها دمشق