الجريمة
جريمه
Crime - Crime
الجريمة
الجريمة
يرتبط تقدم المجتمعات ورقيها بوجود قوانين تحكم علاقة أفراد المجتمع بعضهم ببعض ومدى التزام الأفراد بتطبيق هذه القوانين. وقد بلغ المجتمع السوري في العصور القديمة درجة عظيمة في تحديد مفهوم الجريمة وإيجاد العقاب المناسب لها ضمن منظومة من القوانين كانت على درجة كبيرة من الوعي والنضج. حتى إنه كان هناك فهم واضح لعقوبة السجن (الحبس) الذي كان نتيجة لاقتراف ذنب؛ إذ يوجد وثيقة من أوغاريت تتناول هذا الموضوع بالتحديد وهي PRU.VI,35 – PRU.V1,36 تقول:
1 - اقتاد أخي
2 - إلى السجن
3 - حيث مات فيه
4 - اختطف أخي عنوة
5 - كي يدفع له الفدية
6 - ولم يطلق سراحه
7 - ومات أخي
وكانت الجريمة التي استحقت السجن هي عدم الالتزام بدفع الديون فقام شخص يحمل رتبة الساكينو (وهو منصب سياسي يتبع الملك) باعتقال المجرم وزجه في السجن. لكن السجين مات في السجن فقام أخوه برفع دعوى على الساكينو؛ مما يدل على أن جميع أبناء أوغاريت بلا استثناء ومهما كانت وظيفتهم هم تحت القانون. ولم يكن هذا فحسب فقد عرفت القوانين أيضاً القسم والاستئناف إذ طلب من المدعي أن يقسم على أن الساكينو هو من قتل أخاه لكنه رفض فصدر حكم ببراءة الساكينو، وصدر قرار مفاده عدم عودة المدعي إلى المطالبة بدم أخيه لأن هذا الحكم مبرم وغير قابل للاستئناف.
كما كان هناك التزام للاتفاق المعقود بين الدول في حل الدعاوى القضائية فكان نتيجة الاتفاق بين مدينتي أوغاريت وكركميش أن دفعت دية تاجر قتل في أوغاريت، وذلك وفق الوثيقة PRU,1Y,17,158 التي جاء فيها:
«تقاضى التاجر أريشيميغا، عبد ملك (بلاد) تارخوداشي مع الأوغاريتيين أمام أنيتيشوب ملك كركميش. لقد قال أريشيميغا إن تاجر ملك (بلاد) تارخوداشي قتله الأوغاريتيون، ولم يأخذ أريشيميغا شيئاً من أشيائه - من كل ما يعود إليه - إلى التاجر المقتول في أوغاريت وقضى الملك بينهم كما يلي فليقسم أريشيميغا تاجر ملك (بلاد) تارخوداشي وناس أوغاريت يدفعون له دية التاجر الذي قتل في أوغاريت».
وعرفت القوانين أيضاً تقسيم المهام والسلطات التي يتوجب عليها تحمل المسؤولية واتخاذ القرار، فمثلا كانت أمور البت في جرائم السرقة تقع على عاتق المشاعة الأوغاريتية، وليست من مهام ملك أوغاريت أو ممثلي السلطة الملكية. ففي الوثيقة PRU,1Y,17,319 التي وصلت من الأرشيفات الملكية الأوغاريتية؛ أن تجاراً من أور يعيشون الحياة اليومية للمدينة جرت سرقتهم وهم بيخاشيتو بن هاشاميلو وألاليمو بن تاكيشارو وشاوشكوفا بن ميرتا وكلهم عبيد شيتنا بوتو في مزرعة الزيتون العائدة إلى كليانو. ونتيجة لقرار المشاعة الأوغاريتية أعيدت المسروقات بكاملها إلى أصحابها، وإذا أرادوا أن يرفعوا في المستقبل دعوى بهذا الشأن فينبغي عليهم أن يدفعوا إلى الأوغاريتيين وزنة واحدة من الفضة، ثم ذيلت الوثيقة بتواقيع عدد من الشهود. وقد تم حل هذه القضية وفق المعايير التشريعية التي أقرها الاتفاق بين أوغاريت وكركميش.
ولكن كان هناك في بعض الأحيان جرائم عرفت ليس فقط على نطاق مدينة أو اتفاق بين مدينتين بل تعدّت ذلك إلى نطاق دولي حيث تدخل في هذه الجريمة الملك الحثي تودخاليا الرابع وقام بمعالجتها. ففي البداية حصلت فضيحة داخل العائلة المالكة للملك أميشتمرو الثاني ملك أوغاريت وهو خارج المدينة لسبب ما، وهذه الفضيحة سببتها زوجته ابنة ملك أمورو ولأسباب سياسية عفا الملك عن زوجته وأخبر والدته التي كانت تريد أن تضع المسألة أمام المدينة بذلك بعد أن قام يابنانو- وهو الرجل الذي أرسله أميشتمرو الثاني إلى أمورو- بمهمته خير قيام إذ عاد بنقود وملابس كانت ثمناً إضافياً لمصالحة الملك لزوجته.
ولكن بعد ذلك بادر أميشتمرو الثاني إلى الطلاق فطرد بت-رابيتي من بيته ومن بلاده وأعادها إلى بلاد أمورو، كما تبين الوثيقة RS 1957,175 أن معالجة المسألة انتقلت إلى أنيتيشوب ملك كركميش وشاوشكاموفا بن بنتيشينا ملك أمورو حيث قام أخوها بطردها من قصره وفرض عليها الإقامة في مدينة أخرى، ثم تعهد بأن يقطع كل علاقة بها وألا يعيدها إلى أوغاريت أو إلى قصره، وتنازل باسمه واسم أخته عن أي مطالب كانت تجاه أميشتمرو الثاني. ومع ذلك فقد بقيت مسألة حقوق ملكية بت-رابيتي وأولادها من دون حل في هذه الوثيقة.
أما الوثيقة PRU,1Y,17,159 فإنها تفيد بأن مسألة الطلاق هذه قد غدت موضوع بحث لدى تودخاليا الرابع ملك الحثيّين، والذي كان يتصرف كسلطة عليا بالنسبة إلى كل من أوغاريت وكركميش وأمورو، وخاصة بعد أن صمم على الطلاق، واتهم بت-رابيتي بأنها لم تتخل عن محاولتها في إيذائه وأنها اقترفت إثماً كبيراً بحقه.
والقرار الذي تتضمنه الوثيقة PRU,1Y,17,39b هو عقابٌ لبت-رابيتي على الإثم الذي اقترفته حيث كان مفاده أن كل ما ملكته بت-رابيتي في أوغاريت من فضة وذهب ونحاس وبرونز وأدوات وموجودات برونزية وهدايا وعبيد وإماء؛ يعود إلى أميشتمرو الثاني وأولاده وأحفاده. وذلك بعد أن كان المتعارف عليه أن للمرأة الحق في الاحتفاظ بمهرها حتى بعد طلاقها.
فجريمة الخيانة التي اقترفتها بت-رابيتي بحق أميشتمرو الثاني لم تكن لتنتهي عند هذا الحد فالوثيقة PRU,111,16,270 تبين أن الملك أميشتمرو الثاني قاد حملة على أمورو بهدف خطف بت-رابيتي لكنه لم ينجح واستطاع شاوشكاموفا أن يتصدى له لكن تدخل تودخاليا الرابع ملك الحثيّين وإلزام جنود شاوشكاموفا على ألّا يعترضوا سبيل جنود أميشتمرو الثاني عندما يأتون ليأخذوا بت-رابيتي سمح لأميشتمرو الثاني بأن يأخذ بت-رابيتي وأن يفعل بها ما يشاء يقتلها أو يرميها في البحر؛ لكن شريطة أن يدفع لأخيها ألف وزنة من الذهب ديتها.
ولم يكن أمام شاوشكاموفا إلا القبول وتسليم أخته إلى أميشتمرو الثاني ليقتلها كما تقول الوثيقة PRU,1Y,17,288 بعد أن دفع أميشتمرو الثاني ديتها. وبذلك هلكت بت-رابيتي وتخلى أخوها وكذلك أولادها عن مطالبة أميشتمرو الثاني بها.
رسم يمثل ارتكاب جريمة قتل |
وكذلك كان الحال في مملكة ماري من حيث وجود القوانين والعمل بها، وخاصة في فترة حكم الملك زمري ليم الذي اشتهر بتتبعه لكل قضايا رعاياه حتى أصغرها. فهذه رسالة موجهة من أدر-دوري - مسؤولة الخدم في القصر- إلى زمري ليم، تخبره فيها بهروب خدم عبر نفق تحت مكان عملهم فكان رد الملك:
«لقد قرأت الرسالة التي أرسلتها لي، والتي كتبت أن بعض الخدم شقوا طريقاً على شكل نفق إلى خارج الشغل في صبروم وهربوا ولكن تم الإمساك بهم ». وطلب منها الملك أن يكون ردها قاسياً حتى لا يصبح الهروب شائعاً.
ولم يكن زمري ليم وحده متتبعاً لكلِّ القضايا بل كانت زوجته شيبتو لها مكانتها ودورها الفعال في حل الأمور أيضاً حيث تشير الوثائق إلى أنه كانت تصلها شكاوى من مواطنين لإحقاق الحق. فهذه رسالة من صديقة تدعى طريش-حتو تطلب من الملكة شيبتو أن تقوم بما يلزم للتأكد من براءتها مما نسب إليها من اتهام باطل بسرقة الفتاة بلتاني إذ تقول في رسالتها:
«إلى شيبتو أقول ما يلي:
هذا ما تفيدك به طريش-حتو:
أشاعت الفتاة بلتاني في ماري وقالت أيضاً
لوالدها كيبري-دجن،
بأن طريش-حتو كتبت إلى شخص هنا
تطلب منه أن يسرق منها أقراطها وأساورها الفضية
وعندما سمعت تلك الإشاعة اضطربت دقات قلبي وأخذ مني الغضب.
أرجو إرسال من يلزم ليتثبت من صحة الختم على رسالتي المزعومة، وإذا كنت فعلاً قد أمرت بسرقة مجوهرات تلك الفتاة، باسم صداقتنا يا مولاتي، أرجو منك أن تحيطي الملك، مولاي بأمر هذا الافتراء، وبانتظار جوابك العاجل».
هيكل عظمي لرجل مات مقتولاً |
كما أن العلاقات والاتفاقات بين المدن السورية لم تكن تسير على منوال واحد فتارة تتسم بالصداقة الحميمة والأخوّة وتارة بالعداء؛ ففي وثيقة من وثائق ماري تذكر أنه تم منع رئيس الجوقة الموسيقية المارية الذي كان مع فرقته في حلب من متابعة سفره إلى ماري، وتم حجز المعدات والحاجيات العائدة إلى الجوقة في إيمار؛ وذلك بسبب أن لتجار إيمار ديوناً على تجار ماري لم تسدد وكان هذا القرار قد اتخذ عبر غرفة تجارة إيمار «كاروم»، مما اضطر زمري ليم إلى إرسال ممثليه لتسوية هذا الأمر.
مها الأحمر
مراجع للاستزادة: - أ.ش. شيفمان، مجتمع أوغاريت: العلاقات الاقتصادية والبنية الاجتماعية، ترجمة حسان ميخائيل إسحق (الأبجدية للنشر، دمشق 1988م). - بشار خليف، مملكة ماري 2900-1760 ق.م – وفق أحدث الكشوفات الآثارية (دار الرائي، دمشق 2005م). |
- التصنيف : العصور التاريخية - المجلد : المجلد الرابع مشاركة :