الهه ام في عصور تاريخيه

-

الإلهة الأم

الإلهة الأم في العصور التاريخية

نائل حنون

هناك أهمية خاصة لعقيدة الإلهة الأم في معظم ديانات الحضارات القديمة ومعتقداتها. ذلك أن الإلهة الأم جسدت قوى طبيعية معينة كانت أكثر تأثيراً من غيرها في حياة الأقوام القديمة، وهذا ما جعلهم يقرنون بها مقدرات وقابليات متميزة عن تلك التي اقترنت بسواها من الإلهات. وأوضح ما يدل على هذه الأهمية قدم ظهور عبادة الإلهة الأم منذ عصور ما قبل التاريخ واستمرارها في العصور التاريخية التي تلت ابتكار الكتابة. وإذا كانت المعلومات عن هذه العبادة في عصور ما قبل التاريخ تعتمد على الدليل الأثري المادي فإن معلومات أكثر دقة وتفصيلاً توافرت عنها في العصور التاريخية من خلال النصوص المدونة، وهي معلومات تمكِّن من تكوين فكرة واضحة عن شخصية الإلهة الأم وأسمائها وتفاصيل عبادتها ووظائفها.

تقوم عقيدة الإلهة الأم على أساس تفريد إلهة أنثى أو تمييزها لتكون في مصاف الآلهة الرئيسة أو الخالقة بحسب المعتقدات القديمة. وتقترن بهذه الإلهة المقدرة على أحد أمرين أو كليهما معاً، وهما الخلق والإنجاب. وكان يعتقد أن الإلهة الأم تقوم بدور أو أكثر من الأدوار الثلاثة الآتية:

أولاً- كونها الأصل في الكون أو المظهر الأول فيه، وما المظاهر الكونية الأخرى سوى تفرعات عنه.

ثانياً- سيطرتها على العامل المؤثر في إدامة حيوية الآلهة الأخرى والتحكم بها، وحفظ حياة البشر وسائر المخلوقات بكل الطرائق مثل التأثير في خصب الطبيعة وزيادة القدرة على التكاثر والمساعدة على نمو الأطفال وإرضاعهم.

ثالثاً- أنها زوجة الإله الرئيس المعبود وشريكته في بعض وظائفه.

عرفت الإلهة الأم في نصوص حضارة بلاد الرافدين بعدة أسما وألقاب تختص بها من دون الإلهات الأخريات. ولا يمكن، في ضو المعلومات المتوافرة حتى الآن تحديد الاسم الأصلي لها. غير أن أكثر هذه الأسما تواتراً في النصوص هو ننخرساج Ninkhursag الذي يعني "سيدة الجبل الأول". ويلاحظ في الأسما والألقاب الأخرى لهذه الإلهة أنها تدل على معانٍ متصلة بوظائف الإلهة الأم أو مكانتها، ومنها "ننتو" Nintu (السيدة الولود)، "ماخ" Makh (السامية)، "نِنماخ" Ninmakh (السيدة السامية)، "مامي" Mami أو "ماما" Mama (الأم)، "بيليت- إلي" Belet- ili (سيدة الآلهة) وأرورو Aruru.

كانت ننخرساج في معتقدات بلاد الرافدين القديمة تشترك مع الإله إنكي Enki، أو أيا Ea في أعمال خلق الآلهة والبشر. وكلاهما يأتي ضمن الآلهة الخالقة الأربعة مع الإلهين آنو  Anu وإنليل  Enlil. ونسبت إليها أدوار خلق الإنسان في الأساطير القديمة، ومنها أسطورة أترا- خاسيس، وفي ملحمة جلجامش هي التي خلقت أنكيدو من الطين لينافس جلجامش. ويشار إلى هذه الإلهة في ملحمة جلجامش باسم أرورو. وتجدر الإشارة إلى أن دور ننخرساج كان في الأساطير القديمة أكبر مما هو عليه في العبادة اليومية، إذ لم يكن لها معابد كثيرة مثلما هو الحال فيما يخص إلهات أقل شأناً مثل جولا Gula أو عشتار. وأشهر معابدها كان في المدن القديمة: بابل ، كَش Kesh، أدب Adab، جِرسو Girsu، ملجيئوم Malgium وأور في العراق. وكشفت التنقيبات الأثرية في موقع مدينة ماري [ر] (تل الحريري في سورية) عن معبد للإلهة ننخرساج في الجهة الجنوبية- الشرقية من الزقورة. وقد مرت بناية هذا المعبد بمرحلتين عدت أقدمهما معاصرة للدولة الأكادية في الألف الثالث قبل الميلاد، وفي المرحلة الثانية وسعت البناية ووضعت في زواياها الأربع ودائع أسس منقوشة بنص مسماري

يرد فيه أن "نِوار- مير Niwar- Mer، حاكم (شَكُّناك (Shakkunak   ماري، باني معبد ننخرساج". وكان هذا الحاكم - بحسب قائمة بالسلالات الحاكمة نشرت حديثاً- معاصراً لجوديا Gudea حاكم لجش.

وفي سورية قامت بدور الإلهة الأم أثيرة التي عرفت باسم أشرَة Ashratu في نصوص بلاد الرافدين، وأشيرة في النصوص التوراتية. وعدت هذه الإلهة بحسب الأساطير الأوغاريتية زوجة للإله الرئيس إيل. وهي أم جميع الآلهة التي تشارك زوجها في تسلم القرابين. وكانت تدعى أحياناً إيلة، الصيغة المؤنثة من اسم إيل، ومعناه "الإلهة". قرنت هذه الإلهة بالخصوبة ووصفت على أنها مرضعة الملك. ومن ألقابها "سيدة البحر"، وهو لقب ينم على صلتها بالبحر ويفسر أهمية عبادتها للمدن الساحلية مثل أوغاريت وصور وصيدا.